ولئن ضعفت هذه الصديقة عن أن تقف في وجه الحب الآثم وتحتمل ثقل الدفاع عن الواجب، فلن يضعف عن هذا صديقها «دوراي»، فقد أقبل ومعه أخته. فما هي إلا أن يخلو إلى صاحبته ويتبين ما عزمت عليه حتى ينفجر انفجارا: يلوم صاحبته لوما عنيفا؛ لأنها تضحي بزوجها، ولأنها تضحي به هو، ولأنها تندفع مع الأثرة إلى غير حد، وهو يرعد حينا ويستعطف حينا آخر، ويستسلم مرة أخرى إلى البكاء.
ولكن الانتصار على هذا الرجل يسير، فهو متهم في غضبه للواجب ودفاعه عنه، هو لا يدافع عن الزوج ولا عن الزواج، وإنما يدافع عن نفسه لأن صاحبته انصرفت عنه، وستدعه وتنصرف إلى حيث تستثمر الحب في دعة وأمن، في حين يشقى هو بالوحدة والأسى والحرمان.
هو يدافع عن نفسه، وإذن هو أثر، وإذن فليس هو بالصديق حقا. ولو كان صديقا حقا لقبل التضحية في ألم طبعا، ولكن في رضا وإذعان، وما أسرع ما تنتصر عليه وتلزمه الحجة، وقد تقدم إليها وانصرف الزائرون، وأقبل حبيبها فاتفقا على أن يفرا بعد حين قصير، ينتهزان غيبة زوجها في لندرة ويمضي بهما الأتومبيل إلى حيث يركبان السفينة إلى أمريكا. ويدعها صاحبها على أن ينتظرها أمام القصر، وهي تدعو خادمتها فتصدر إليها أوامر قصيرة تتصل بهذا السفر وتصرفها.
وانظر إليها قد نهضت وتهيأت للخروج إلى حيث ينتظرها صاحبها وهي تلقي بنظرة وداع على الحجرة وما فيها. وإذن فسيظل الواجب مهيضا وسينتصر عليه الحب الآثم! وستمضي هذه المرأة مع رفيقها وسيعود الزوج فيرى نفسه في هذا القصر وبين هذا الترف وحيدا. يتقوض من حوله كل شيء؟ ... كلا! وما الذي يمنع الصداقة أن تدافع عن هذا الواجب؟ انظر إلى صاحبتنا تخطو لتخرج من الحجرة، ولكنها تصيح وتتراجع مذعورة، لأنها رأت رجلا وهذا الرجل هو زوجها، وقد أقبل من لندرة قبل ميعاد العودة.
ولكن انظر إليه إنه مضطرب قد انهدت قواه وفقد ما كان يمتاز به من شدة وصلابة وثقة بنفسه وبالدهر، وامرأته تسأله: فيم عجل هذه العودة؟ وهو يتردد في إجابتها، حتى إذا وجد القوة على الكلام أخبر امرأته بأنه في ضيق مالي منكر؛ لأن شركاءه قد أسلموه وأجمعوا على خيانته. وكان زعيم هذه الخيانة «جاماني» الذي رأيناه في الفصل الأول يريد أنتوانيت على السوء وينصرف محنقا لأنها امتنعت عليه. والرجل لا يتبين سبب هذه الخيانة، أما نحن فنعرفه حق المعرفة. ومهما يكن من شيء فإن صاحبنا مضطر إلى نصف مليون من الفرنكات يجب أن يؤديه بعد ثمانية أيام، وقد سلك إلى هذا المقدار كل سبيل فلم يظفر به. وهو إن لم يؤده مفلس ثم مقبوض عليه ثم ملقى في غيابات السجن.
يقص هذا كله على امرأته وهي تسمعه في شيء يشبه الهدوء، ولكنه يدل على ثورة عنيفة داخلية. وانظر إليها وقد تغيرت تغيرا تاما، فهي تشجع زوجها وتنصح له بالجلد والمضي في الجهاد، وتعلن إليه أن ثمانية أيام ليست بالشيء القليل، وأنه واجد فيها مخرجا من هذا الضيق. ويقع هذا الكلام من قلب الرجل موقعا حسنا، ويمنحه قوة وجلدا فيعد باستئناف الجهاد. وانظر إليه وقد نهض قويا مستعدا للحرب، وانصرف إلى باريس وترك زوجه في شيء يشبه الذهول. ينصرف الرجل وتغلق الباب من ورائه، وإذا صديقها قد أقبل يتعجلها، فتعلن إليه أنها لن تسافر الآن، ويكون بينهما حوار عنيف، نفهم منه أن هذه المرأة كانت تظن أنها ستدع زوجها غنيا قويا يستطيع أن يتعزى عن الحب بالثروة والقوة. فأما الآن وقد أعدم وضعف فلا تستطيع أن تدعه. وهي تحب صاحبها، ولكنها تطلب إلى هذا الحب أن يمهلها حتى يسترد زوجها قوته وثروته. ولكن الحب عجل لا يمهل، وصاحبها يعلن إليها في عنف أنه منصرف عنها إلى حيث لن تراه، وأنها لم تحبه كما يحبها. وانظر إليه وقد ولى منصرفا، واستولى الجزع على هذه المرأة، فهي لعبة بين الحب وشهوته، وبين الواجب وأمره الذي لا يرد. إنها تدعو صاحبها ملحة عليه، فإذا أقبل عليها تضرعت إليه في أن يبقى فيأبى، وإذا هي قد غيرت من خطتها فجأة وضحت بالأمانة الزوجية في سبيل الحب من ناحية وفي سبيل الوفاء لزوجها والإشفاق عليه من ناحية أخرى، وإذا هي تلقي بنفسها بين ذراعي صاحبها وقد استسلمت للإثم. •••
وتمضي من الأيام الثمانية سبعة ولم يجد الرجل لنفسه مخرجا من ضيقه. ونحن الآن في مصرفه وقد أقبل يائسا مستسلما مستعدا للإفلاس والمحاكمة والسجن، وأقبل عليه صديقه «دوراي» ينبئه بأنه قد سعى عند كثير من الماليين فلم يوفق لشيء، ولكنه وفق أخيرا لرجل لا يعمل في المال ولا في البورصة، ولكنه مستعد لتقديم هذا المقدار، وسيأتي بعد حين ليعرض المال على صديقه. وهذا الرجل هو «رينيه دانجين»، فإذا سمع صاحبنا اسم هذا الرجل أخذه غضب شديد وأعلن أنه لن يقبل منه هذه المعونة، فإذا دهش صديقه لذلك أعلن إليه بعد تردد أن هذا الرجل قد أكثر التردد على قصره والتقرب من زوجه وقد عرف الناس ذلك وتحدثوا به، فإذا عرف الناس أنه قد أعانه فسيتحدثون أنه قبل هذه المعونة ثمنا لما بين الحبيبين من صلة. وهنا يغضب «دوراي» ويقف موقفا بديعا في الدفاع عن «أنتوانيت»، فهو مؤمن بطهارتها، مؤمن بأنها لم تخن زوجها وما كانت لتخونه حتى تفارقه، وهو يمضي في هذا الدفاع إلى أبعد حد ممكن، فيعلن إلى صديقه أنه إن كان قد وصل إلى هذا الحد من الضيق فذلك لأن امرأته امتنعت على «جاماني»، ويعلن إلى صديقه أنه هو قد حاول أعواما أن يصل إلى «أنتوانيت» فلم يظفر منها بشيء. وقد كاد يقنع صديقه ببراءة زوجه وطهارتها، وكاد يقنعه بأنه يستطع أن يقبل هذه المعونة، وقد دعا الخادم وأمره أن يتحدث إلى زوجه في التليفون يطلب إليها أن تحضر. وأقبل الرجل يعرض معونته، فإذا خلا إلى صاحبنا طلب إليه هذا: أتستطيع أن تقسم لي بشرفك أني أستطيع أن أقبل هذه المعونة منك دون غضاضة أو تعرض للدنية؟ فيقسم له ويهيئ «الشيك» ويهيئ هو صكا بهذا المقدار.
وتقبل «أنتوانيت» فينبئها بأنه قد أخفق في سعيه كله، ولكن هذا الرجل يعرض عليه ما هو في حاجة إليه، فتحاول أن تشكر الرجل مضطربة وقد تم كل شيء، ولم يبق إلا أن يمضي صاحبنا الصك. ولكنه يتجه إلى امرأته وصاحبه قبل أن يمضي ويسألهما في قوة وإلحاح: أيمضي هذا الصك؟ فأما الرجل فيجيبه: نعم، وأما المرأة فيأخذها الإغماء، وأما صاحبنا فقد فهم كل شيء. وانظر إليه محنقا قد ألقى ما في يده وأخذ ينتهر الآثمين بشدة وعنف، وما زال بالرجل حتى أخرجه، وهو الآن أمام امرأته وحدها يأمرها أن تنصرف فتستعطف، فلا يزيده استعطافها إلا سخطا وحنقا. ومع ذلك فالرجل في محنة منكرة، وقد جاهد أسابيع وضعف عن المقاومة، وهو في حاجة إلى من يؤيده ويشد أزره ويعينه على هذه الأيام المرة التي يستقبلها. فانظر إليه وقد عفا أو كاد يعفو عن امرأته، ولكنه يريد منها أن تنصرف عن هذا الرجل وتنساه وتبقى له هو وحده ويسألها أتستطيع ذلك؟ فلا تجد إلى جوابه سبيلا، فإذا ألح عليها في السؤال عرف منها أنها لا تستطيع ... فانظر إليه ضعيفا مستسلما مغضبا مع ذلك شريفا، يطرد زوجته وهي تأبى عليه، وتعرض عليه ما تستطيع من أن تعيش معه حليفة معينة ولكن في غير حب، لأنها لا تملك هذا الحب ولا تستطيع إخضاعه لإرادتها، وهو يأبى عليها ويلح في طردها، فتنصرف معلنة إليه أنها ستنتظره في البيت، فإذا تركته نهض إلى أبواب الغرفة فغلقها، ثم يعود إلى مكتبه ويخرج منه مسدسا ويرتب طائفة من الأوراق وقد طرق الباب، فكان جوابه طلقة المسدس الذي تختم به مثل هذه القصص.
يناير سنة 1927
الشاب الجميل
ناپیژندل شوی مخ