ولتكن قصة اليوم مثلا يوضح هذه الفلسفة وهذا المذهب في التمثيل، فأنت إذا قرأت هذه القصة لم تستطع أن تدفع عن نفسك ألما شديدا وحزنا عنيفا ولوعة تعبث بالقلب، ولكنك في الوقت نفسه تحس راحة واطمئنانا وشيئا من الرضا غير قليل. تجد الحياة كما هي: مزيجا من الخير والشر، لا يستطيع الإنسان أن يصورها كما يحب، ولا أن يغيرها كما يشتهي، وإنما هو مضطر إلى أن يحياها ويخضع لقوانينها. تجد فيها الابتسام والاكتئاب. وما مصدر هذا الابتسام؟ وما مصدر هذا الاكتئاب؟ وفيم يسعد هذا الشخص ويشقى هذا الشخص من أشخاص القصة؟ مصدر هذا كله قوى قاهرة ليس لنا سبيل إلى أن نفر من سلطانها ولا إلى أن نتحلل من قيودها، وليست هذه القوى في السماء، بل ليست هذه القوى بعيدة عنا، وإنما هي قوى أنفسنا التي بها نحيا ولها نعيش.
ليست القصة التي نحن بإزائها اليوم إلا جهادا عنيفا بين الأثرة والإيثار، أو بين الحب وعاطفة الأمومة من جهة، وبين الحب والسلطان وعاطفة البنوة من جهة أخرى، فأنت ترى أن كل هذه العواطف والقوى التي يجاهد بعضها بعضا وينتصر بعضها على بعض، ويكون جهادها وانتصارها حياتنا وصلاتنا وما فيها من ابتئاس وابتهاج؛ ليست قوى أجنبية، وإنما هي عواطفنا وأهواؤنا التي تكون نفوسنا وشعورنا، والتي نستطيع أن نفهمها ولا نستطيع أن نخضعها.
انظر إلى هذه المرأة قد كادت تفارق شبابها، ولكنها مع ذلك محتفظة منه ببقية لا بأس بها، ولها حظ موفور من الجمال والروعة، ولها حظ موفور من القوة، ولها حظ موفور من الخيال الذي يحيي في نفسها آمالا غريبة. أحبت زوجها ووفت له، وأحبت ابنتها وعطفت عليها، ولكنها لقيت في طريقها شابا جميلا قويا خلابا، مال إليها فمالت إليه، وكلف بها فكلفت به، وإذا هي مضطربة بين الوفاء لزوجها وابنتها، والاندفاع مع هذا الحب الآثم الذي أيقظ في قلبها أدنأ العواطف الحيوانية وأشدها قبحا وانحطاطا. هي مضطربة بين الطهر والدنس، بين البر والغدر، وهي لا تستطيع أن تخلص لإحدى هاتين العاطفتين؛ لأن في طبيعتها خيرا كثيرا، ولكن في طبيعتها شرا أيضا، فهي شقية بهذا الاضطراب، والناس حولها أشقياء بهذا الاضطراب أيضا. هي معرضة عن زوجها مشفقة منه، تستحييه وتخافه وتخاف عليه أيضا، وزوجها شقي بهذا الإعراض، يعني نفسه ويكلفها المشقة في البحث عن أسبابه ومصادره. يحس أن امرأته لا تحبه ثم يفرض أنها مريضة، وكل ذلك يشقيه ويحزنه، وهي منصرفة عن ابنتها؛ لاضطرابها بين هذين الرجلين: زوجها وحبيبها؛ ولاضطرابها بين هاتين العاطفتين: عاطفة الوفاء وعاطفة الخيانة، وهي تزدري نفسها أحيانا، وتحس شيئا من الخجل أمام ابنتها فتزداد إعراضا عنها وتنكرا لها، حتى لا تكشف الفتاة شيئا تكرهه من أمها، والفتاة شقية بانصراف أمها عنها وتنكرها لها. تعودت من أمها عطفا ومودة وحنانا، وهي الآن شديدة الحاجة إلى عطف أمها؛ فهي تحب، وهي تريد أن تبسط هذا الحب لأمها، وهي تريد أن تستعين بأمها على هذا الحب أيضا، ولكنها لا تجد من أمها إلا إعراضا وازورارا.
وانظر إلى هذا الفتى قد لقي هذه المرأة خالي القلب حرا من كل صلة، فما هي إلا أن مال إليها وكلف بها واندفع في حبها، ونسي في سبيل هذا الحب واجباته كلها؛ نسي أنه صديق لزوج هذه المرأة، ونسي أن عليه لأبيه ولبلاده حقوقا عظيمة الخطر. نسي هذا كله، وأخذ يلح على هذه المرأة، والمرأة تدافعه عن نفسها حتى اعترفت له بالحب، وظلت مع ذلك ممتنعة؛ فهو سعيد لأنه يشعر بحبها، وهو شقي لأنه لا يظفر بثمرة هذا الحب. ثم انظر إلى الحوادث قد أقبلت فمست كل هذه القوى المختلفة المضطربة فإذا هي نار متأججة، وإذا هي قد انتهت إلى نتائجها الطبيعية؛ فانتصر منها ما انتصر، وانهزم منها ما انهزم، واحتمل أشخاص القصة كارهين أو راضين أثقال هذا الجهاد وما انتهى إليه من انتصار وانهزام، كل ذلك والحياة العامة للناس والأشياء مطردة في سبيلها لم تحس من هذا كله شيئا. •••
نحن في باريس، في قصر فخم تسكنه أسرة نبيلة ضخمة الثروة رفيعة المنزلة، تتألف من أشخاص أربعة: أولهم صاحب القصر «راوول دي مجيه»، وهو رجل طيب القلب، طاهر النفس، مطمئن إلى الحياة، لا يحس فيها شقاء ولا شرا، يحب الناس ويحبه الناس، شديد العطف على أسرته عظيم الحب لها؛ ثم أم هذا الرجل وهي امرأة شيخة، خبيرة بالدهر، بصيرة بأهله، شديدة الحب لابنها، ولكنها مفتونة بالشخص الثالث من أشخاص هذه الأسرة؛ وهي «روز» حفيدتها، فتاة ناشئة حلوة، لا تعرف من الحياة إلا ما عودها أهلها من رضا ودعة وآمال كلها محققة، هي فتاة منعمة حقا؛ وأما الشخص الرابع فهي «تريز»، أم الفتاة وصاحبة القصر، وقد قدمت لك تشخيصها آنفا.
فإذا رفع الستار رأينا رجلا وامرأته يتحدثان وهما يستعدان للانصراف، وفهمنا أن أصحاب القصر يستقبلون زوارهم اليوم، وفهمنا أيضا أن لهذين المتحدثين ابنا شابا قد أحبته فتاة هذا القصر وأحبها، وهما يريدان الخطبة والزواج، وكل شيء يجعل هذا الزواج حسنا ملائما للشابين وأسرتيهما، لولا أن شكوكا تحوم حول أم الفتاة، وهذه الشكوك تكفي لتصرف الفتى عن هذه الخطبة وعن هذا الزواج. وقد اعتزم الرجل وامرأته خنق هذا الحب الناشئ قبل أن ينمو، وهما يتهيئان للانصراف، وإذا الفتاة قد أقبلت ومعها جدتها، وإذا هي تتثبت من موعد كان بين الأسرتين غدا للنزهة ثم تستشير أم الفتى في زيها وشكلها، فإذا أحست أم الفتى أن مصدر هذا كله إنما هو أن الفتاة تريد أن تعجب خطيبها، أعلنت إليها أن الفتى لن يشترك في هذه النزهة! ثم أعلنت إليها أنه لن يحضر المائدة! ثم أعلنت إليها أن الفتى قد يسافر سفرا طويلا! ثم انصرف الزوجان، وإذا الفتاة محزونة مكتئبة، وإذا جدتها تسليها وتلح عليها في أن تنبئ أمها بهذا الحب، والفتاة مترددة؛ لأنها تحس من أمها انصرافا عنها وإعراضا. وقد خيل إلى الفتاة أن أمها قد استكشفت هذا الحب، فهي منكرة له ساخطة عليه، تكره من ابنتها أن تحب أحدا غير أبويها، والفتاة خجلة محزونة، وجدتها تشجعها على أن تنبئ أمها وتلتمس عندها المعونة. وقد انصرفت الفتاة وأقبل أبوها، فأمه تنبئه بهذا الحب، وهو مرتاح له مستعد لتأييده، ولكن هذا فتى قد أقبل ينبئ الشيخة أنها منتظرة على الشاي في غرفة الاستقبال فتنصرف، ويتحدث الرجلان، فنفهم أن هذا الفتى هو الأمير «جان» من أسرة ملكية قد أقصيت عن ملكها واضطرتها الثورات المتصلة إلى المهاجرة، فالفتى في باريس، وأبوه مرابط على حدود مملكته يراقب الحوادث ويأتمر بالنظام الجديد ويستعد لاسترداد الملك، وقد فهمنا أيضا أن هذا الأمير الشيخ قد وصل اليوم إلى باريس في بعض أعماله، وهو مقبل إلى هذا القصر بعد حين ليزور هذه الشيخة التي رأيناها آنفا، فالصداقة بينهما قديمة، وصاحب القصر يعتذر إلى الفتى؛ لأنه مضطر إلى الانصراف، وهو يكلفه أن يعتذر إلى أبيه. وقد فهمنا بنوع خاص أن الصداقة متينة بين هذين الرجلين، فهما صديقا طفولة.
لا يكاد صاحب القصر ينصرف ويخلو الفتى إلى نفسه حتى تأتي «تريز»، فإذا تحدثا عرفنا كل ما قدمت لك من هذا الحب الآثم بين هذه المرأة وهذا الفتى، وعرفنا أن هذه المرأة ما زالت متمنعة تجاهد صاحبها وتأبى عليه؛ لأنها لا تريد أن تخون زوجها ، ولا تريد أن تخون ابنتها، والفتى يلح ويسرف في الإلحاح، ثم يترك التضرع إلى المحاجة. أليست قد تركته يقبلها؟ أليست قد قبلته أيضا؟ وإذن فقد أذنت بهذا الحب وأخذت بحظها منه، وإذن فليس لها الحق بعد أن أضرمت هذه النار أن تنكل أو تفر أو تكون مصدر شقائه أو شقائها، وهي تعترف بأنها قد رضيت قبلته وأنها قد قبلته، وأن غرائزها الحيوانية المنحطة هي التي ورطتها في ذلك، ولكن فيها عواطف أخرى راقية ستعصمها من الإثم؛ تلك عواطف الزوجية والأمومة. ولكن الفتى بعيد من اليأس، فهو يضمها مرة أخرى، ويصف لها بيتا يملكه في أقصى باريس قريبا من الغابة، يدعوها إلى أن تزوره فيه غدا، فتأبى إباء شديدا.
وهما في ذلك وإذا الأمير الشيخ قد أقبل، فلا يكاد يستقر حتى يرسل ابنه في حاجة له، وحتى تأتي صديقته الشيخة، ويخلوان فيتحدثان، وإذا نحن نفهم من حديثهما أن مودتهما هذه إنما هي بقية حب قديم كان قويا ولكنه كان عنيفا بريئا، وما هي إلا أن نسمع هذه تشكو إلى صديقها من ابنه الفتى، وتنبئه أنه يتبع بحبه صاحبة القصر، وهي امرأة متزوجة وأم معا، وتطلب إليه أن يصرف هذا الفتي عن صاحبته، وأن يجتهد في إبعاده عن باريس حتى لا تتورط صاحبته في الإثم، وحتى لا يتعرض ابنها وحفيدتها للشقاء، ولا يكاد الشيخ يسمع هذا حتى يأخذه غضب شديد على ابنه الذي بلغ به الفساد الخلقي أن يخون صديق صباه في امرأته، وقد أقبلت الفتاة، فيلقاها الشيخ لقاء حسنا مؤثرا ويقبلها قبلة عطف وأبوة، وقد تمنى لها السعادة، ويقبل الفتى، فلا يكاد يخلو إلى أبيه حتى ينبئه أبوه بأنه يريد أن يصطحبه في سفره؛ لأنه قد دبر ثورة يوشك أن يفلح فيها وأن يسترد العرش، وهو لا يسترد العرش لنفسه؛ فالناس لا يحبونه ولا يميلون إليه؛ لأنه كان قاسيا سفاكا، وإنما يسترد العرش لابنه؛ وإذن فسيعلن نزوله لابنه عن العرش، ولا بد أن يترك الفتى باريس ويذهب إلى مملكة آبائه ليقود جنود الثورة الذين ينتظرونه. يسمع الفتى ذلك فيرفض العرش في ازدراء، فإذا اشتد عليه أبوه ألح في الرفض، حتى يعلن إليه أبوه أنه إنما يرفض العرش لأنه يحب امرأة متزوجة في باريس! وتشتد الخصومة بين الأب وابنه حتى ينتهيا إلى تبادل القول الغليظ، ثم ينهض الشيخ مغضبا وقد أعلن إلى ابنه أنه يمهله يومين ليجيب جوابه الأخير.
وما يكاد ينصرف الشيخ حتى تقبل «تريز»، وقد كانت تكتب من وراء أحد الأبواب فسمعت حديث الرجلين، فلما أحست انصراف الشيخ أقبلت مرتاعة ملتاعة، وهي تلح على الفتى ألا يقبل السفر وأن يستمر في رفض العرش؛ لأن هذه الأسرة قد قضي على ملوكها جميعا أن يقتلوا غدرا، وهي تخشى على صاحبها أهوال الثورة وأهوال الملك، وإذا الفتى ينتهز هذه الفرصة لتأييد حبه فيعلن إلى صاحبته أن الحياة هينة عليه، وأنه إذا لم يثق منها بالحب والمودة والرضا فسيقبل العرش ويمضي مع أبيه لقيادة الثورة واستقبال الموت، والمرأة مضطربة مرتاعة قد تغير في نفسها كل شيء، فنسيت زوجها والوفاء له، ونسيت ابنتها والبر بها، ولم تفكر إلا في حبيبها وإنقاذ حياته، فهي تقبل ما يعرض عليها، وهي تعطيه موعدا أن تلقاه غدا في ذلك البيت الذي يقوم في طرف من أطراف باريس قريبا من الغابة.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في هذا البيت المعتزل القديم، نرى خادما عجوزا ترتب غرفة الاستقبال وتهيئ فيها ألوانا من الورد والزهر، وإذا الأمير الشيخ قد أقبل، فترتاع الخادم، والشيخ مغضب لما يرى من الزهر، وهو يلوم الخادم وينذرها؛ فقد كان اشترى هذا البيت حين كان يريد أن يقيم في باريس، وأقر فيه هذه الخادم لتلاحظه لا ليتخذه موردا للتجارة، ولكن الخادم تنبئه بأن ابنه هو الذي أمرها أن تهيئه على هذه الحال، وأن تستخفي إذا كانت الساعة الرابعة، وقد فهم الشيخ أن ابنه على موعد مع صاحبته، فأمر الخادم أن تنصرف وأن تنبئه بمقدم ابنه متى أقبل.
ناپیژندل شوی مخ