القيثارة والجازباند
قصة تمثيلية للكاتبين الفرنسيين «هنري دوفرنوا» و«روبير ديودوني»
وربما كان لنا أن نضع لهذه القصة عنوانا آخر لا يترجم عنوانها الفرنسي ولكنه يوضحه ويجلي معناه؛ وهو «القديم والحديث»، بل ربما كان لنا أن نضع لهذه القصة عنوانا ثالثا يزيد عنوانها الفرنسي وضوحا وجلاء؛ وهو «ابنة باريس وابنة الأقاليم»، فكلا هذين العنوانين صادق، وكلاهما يعطيك فكرة موجزة ولكنها صحيحة من هذه القصة الجيدة قبل أن تقرأها وقبل أن تعبث بنفسك وتأخذ عليك هواك مواقفها المختلفة، ولكني لا يمكنني أن أدخل في تحليل هذه القصة قبل أن أقدم بين يديك مقدمة موجزة لا أرى منها بدا.
لم يضع الكاتبان الفرنسيان هذه القصة التمثيلية مباشرة، وإنما اتخذاها من قصة صغيرة كتبها أولهما على أنها أحدوثة فظفرت بفوز عظيم، كما ظفرت بهذا الفوز أحاديث أخرى لهذا الكاتب نفسه. فقد اختص هذا الكاتب أو كاد يختص بكتابة هذه الأحاديث القصار، يصف فيها الحياة الباريسية وصفا صادقا، ولكنه على صدقه خلاب، مؤثر، يستهويك ويملك عليك نفسك، حتى تنسى أنك تقرأ أحدوثة وتستيقن أنك تشهد الحياة. وقد اشتد الإعجاب بهذه الأحاديث القصار حتى وصفها النقاد بأنها آيات أدبية، وحتى أحس الكتاب والممثلون أن هذه الأحاديث القصصية التي ترسم الحياة رسما قويا صادقا شديد التأثير؛ خليقة أن تستحيل إلى حياة واقعة؛ أي خليقة أن تدخل ملاعب التمثيل، وأن تشهدها جماهير النظارة حية تتحرك وتنطق في الملعب، فأقبلوا على الكاتب يعرضون عليه معونتهم، ولم يكد الكاتب يقبل هذه المعونة ويرضى أن تحول أحاديثه إلى قصص تمثيلية حتى كان فوز هذه القصص التمثيلية عظيما، باهرا، ليس أقل خطرا من فوز تلك الأحاديث القصصية. ولن تكون هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم آخر ما سأذكره لهذا الكاتب وأعوانه، بل سأحدثك بعد حين عن قصة أخرى أعانه على تحويلها إلى التمثيل الكاتب الفرنسي الكبير «موريس دونيه»، وهي القصة التي أستطيع أن أسميها «المثل» والتي تعنى بها باريس الآن عناية كبيرة.
إذن ففي الإمكان تحويل الأحاديث القصصية إلى قصص تمثيلية، وقد قام الدليل على ذلك فلم يصبح موضعا للشك، قام الدليل على ذلك، فحولت قصص مختلفة لكبار الكتاب الفرنسيين إلى التمثيل، وظفرت بالفوز الذي لا يقل عما لغيرها من القصص التمثيلية التي وضعت للتمثيل مباشرة. ونحن نشهد الآن انتشار هذه الظاهرة وقوتها، واشتداد الاتصال بين القصص والتمثيل، بل نشهد شيئا آخر أيسر من هذا وأهون، ولكن يعين عليه ويدني منه، وهو هذا التوسط الذي تقوم به السينما بين القصص والتمثيل، فكثير جدا من القصص النابهة وغير النابهة استطاع أن يدخل ملاعب السينما؛ أي إنه استطاع أن يقطع نصف المسافة التي تقع بين القصص والتمثيل، وهي تتألف من شيئين: أولهما الحركة، والآخر الحوار. وظاهر أن تحقيق الحركة الصامتة أيسر من تحقيق الحركة الناطقة، فإذا كان من اليسير أن تصبح القصة تمثيلا متكلما، وإذا كان التمثيل الصامت من ملاعب السينما لا يحتاج إلا إلى مهارة الممثلين، فإن التمثيل المتكلم يحتاج إلى شيء آخر؛ هو قدرة الكتاب الممثلين على أن يضعوا الحوار ويلائموا بينه وبين موضوع القصة من جهة، وبينه وبين التمثيل ومزاج النظارة من جهة أخرى.
مهما يكن من شيء فقد أصبح تحول القصص إلى التمثيل شيئا عاديا مألوفا. بل ماذا أقول؟ ليس في هذا شيء من الجدة؛ فالتمثيل ابن القصص منذ نشأته الأولى، وقد استطاع أن يستقل استقلالا قويا، ولكنه لن يستطيع في يوم من الأيام أن يبلغ الاستقلال المطلق.
التمثيل ابن القصص منذ نشأ في القرن السادس قبل المسيح، حين كان الشعراء الممثلون يلعبون فصولا يستمدونها من الشعر القصصي. ثم أخذ التمثيل يستقل، فجعل الشعراء الممثلون يأخذون معانيهم من الشعر القصصي وينظمونها في شعر يحدثونه، وتظهر فيه شخصيتهم القوية النابهة ويلائمون بينه وبين عصورهم ومعاصريهم. والتمثيل ابن القصص من القرن السابع عشر بعد المسيح، حين كان الشعراء الممثلون من الفرنسيين يستمدون موضوعاتهم من القصص أو التاريخ. والتمثيل ابن القصص من هذا العصر الحديث؛ لأن الكاتب الممثل قصاص قبل كل شيء، ولكنه يتخذ الحركة والحوار وسيلة إلى القصص. كل هذا واضح بين، ولكن شيئا آخر لا يزال غامضا عسيرا؛ لأنه يخالف طبيعة الأشياء؛ وهو تحويل التمثيل إلى القصص. على أني لا أريد أن أمضي في هذا البحث الفني، وإنما عرضت له مضطرا لألفتك إلى أصل هذه القصة التي اتخذتها موضوعا لحديث اليوم.
قلت إننا نستطيع أن نسمي هذه القصة «الحديث والقديم»، أو «ابنة باريس وابنة الأقاليم»، وإن هذين العنوانين إذا لم يترجما العنوان الفرنسي فهما يوضحانه توضيحا قويا، ومن الحق أن القصة كلها جهاد بين القديم والحديث، وجهاد بين ابنة باريس وابنة الأقاليم، ولكن موضوع هذا الجهاد ليس هو ما تعودناه من مظاهر الحياة الاجتماعية وفروعها المختلفة، يتنازعها القديم والحديث أو تتنازعها العاصمة التي هي مأوى الحديث، والأقاليم التي هي ملجأ القديم، وإنما موضوع هذا الجهاد هو الشعور الإنساني، أو قل - بعبارة جلية واضحة - موضوع هذا الجهاد هو قلب رجل تتنازعه امرأتان: إحداهما باريسية تمثل هذه الحياة الباريسية الحديثة وما تمتاز به من الضجيج والحركة العنيفة، ومن الاضطراب الشديد، والميل إلى كل جديد غير مألوف، والنفور من كل قديم غير مألوف؛ والأخرى فتاة من أهل الأقاليم ألفت هذه الحياة الهادئة المطمئنة، العاملة المنتجة في غير جلبة ولا ضجيج ولا عنف ولا اضطراب، ساذجة كالطبيعة التي نشأت فيها، صادقة كهذه الطبيعة أيضا، ولكنها كالطبيعة التي نشأت فيها قوية، صلبة، قادرة على المقاومة.
القصة جهاد بين هاتين المرأتين، وأظنك تشعر منذ الآن بأنها قيمة ممتعة، وذلك حق، ولكن شيئا آخر لا تستطيع أن تشعر به إلا إذا قرأت القصة في أصلها الفرنسي، وهو جمالها الفني الذي ليس إلى ترجمته من سبيل، فالقصة حلوة خلابة، خفيفة الروح، مبتسمة اللفظ والمعنى حتى في أشد الأوقات عبوسا وأعظم المواقف حرجا. تقرؤها فإذا أنت هادئ مطمئن، لا يزعجك من هذا الهدوء والاطمئنان إلا جمل تسمعها من حين إلى حين، فتستخفك حينا إلى الضحك، وتستخفك حينا آخر إلى الغضب والإشفاق، ولكنك لا تتجاوز الحد المعقول في الرضا والسخط، وإنما أنت مبتسم طول القراءة، وربما سقطت من عينيك دمعة في بعض المواقف، ولكنها لا تعقبك هذا الحزن العميق الذي تحدثه القصص العنيفة، فإذا فرغت من قراءة القصة لم تكن شديد الحزن ولا شديد السرور، وإنما أنت مطمئن ترى أن القصة جيدة وأنها لذيذة تمتاز خاصة بشيء من الدقة كثير.
أستطيع أن أجد لفظا يصف هذا النوع من القصص وصفا صادقا صحيحا؛ وهو أنه قصص صريح لا يشق عليك بالحزن ولا بالسرور، ولا يثقل عليك بالرضا ولا بالسخط. ويرى النقاد الفرنسيون أن لهذه القصة خطرا عظيما؛ لأنها تظهر الأجانب الذين يختلفون إلى باريس على أن فرنسا شيء آخر غير باريس التي يراها الأجانب ويكلفون بها كلفا شديدا، على أن الثروة الحقيقية لفرنسا من هذه الوجهة الخلقية والاجتماعية، بل المميزات الحقيقية لفرنسا من هذه الوجهة، ليس فيما يختلف إليه الأجانب من المراقص والحانات والملاعب وأندية اللهو، وإنما هي في باريس الهادئة، وفي أعماق هذه الأقاليم المطمئنة المنصرفة إلى هذه الحياة العاملة المنتجة، تلطفها من حين إلى حين بشيء من اللهو البريء.
ناپیژندل شوی مخ