============================================================
قديه يختلف أسلوب عتار البدليسي في كتابيه، عن غيره ممن سبقه في الكتابة عن التصوف، بأنه يتوجه إلى الخيال الصوفي المتمكن لدى مريديه، لكي يحفزهم إلى دراسة التصوف ممارسة وتطبيقا (= على الحقيقة)، وليس فلسفيا وذهنيا فقط. ومع أنه لا يضيف حقائق جديدة إلى ما جاء به الأوائل من الصوفية المحققين، إلا أنه يسكب تلك الأفكار في قوالب مرصعة أحيانا بالسجع والكلمات المتشعبة المعاني، لكي يثير في نفوس مريديه حمية التأثل والتفكر والذكر، في الخلوة وخارجها. وفي أسلوبه هذا، يعطي عمار القاري الانطباع بأنه يتكلم عن معان يصعب سبر غورها إلا بالذوق 9 والمشاهدة، لأنه يغترفها من بثر أسرار عميقة. ويبدو أن بعض هذه السوانح كانت تجيئه بغتة أثناء الكلام، وأحيانا بعد ذكر بعض الكلمات التي تذكره فجأة بمعان جديدة فيلحقها بجملته السابقة، مما يجعل فهم بعض نصوصه صعب المنال: ثم إن كون عمار شيخ تربية في الأساس، جعله يتوجه إلى قلوب مريديه وخيالهم، ملمتحا لهم عما قد يذوق بعضهم من الأحوال، وما قد 15 يصل إليه بعضهم من المقامات، إن هم ساروا على الطريقة التي يدربهم على ممارستها، وإن هم نجحوا في التخلص من علاثق الدنيا بكاملها، وواصلوا ترويض النفس الأمارة بالسوء إلى أن تصبح راضية مرضية، وإن هم انتصروا 18 على وساوس العدو (- الشيطان) التي تأتيهم أحيانا من حيث لا يتوقعون، وذلك بالاستقامة الحقة ودوام ذكر القلب.
لا يسهل لنا مثل هذا الأسلوب، الموجه في الأساس إلى مريديه 21
مخ ۳
============================================================
تقديم الممارسين المتمرسين، أن نستنتج نظاما متشعبا حسن الحبك يلتقي في التهاية في نقطة واحدة واضحة المعالم. بل إتنا نجد مفعول أفكاره وتأثيرها 3 منحصرا في الثخبة القليلة المتمثلة في دائرة مريديه ومريدي مريديه. ويبدو أن صعوية فهم ما يرمي اليه عمار في كتابيه، بسبب إكثاره من استعمال الجدل البلاغي المرتبط بالنص إلى درجة يصعب معها اسخلاص فحوى أقواله بكلمات أخرى - اللهم إلا لمن اخذها عن عمار مباشرة، مرفقة بالإيضاحات التطبيقية، وربما التعليقات اللفظية أيضا، في حلقات الذكر، وحتى في الخلوة، حيث يكون المريد تحت إشراف شيخه عمار، شيخ التربية، الذي قال لنجم الدين الكبرى، مؤسس الطريقة الكبروية، حين لقيه لأول مرة، وقد جاءه طالبا مريدا: "لنا في التريية ثلاث طرق، العبارة والإشارة والغيب! العبارة للضعفاء والإشارة للمتوسطين والغيب للأقوياء"(1) .
12 وها نحن نلحق هذين الكتابين بأسلوب الإشارة والغيب اكثر من أسلوب العبارة.
مخ ۴
============================================================
صوم القلب صوم القلب ي (21) من تأليف الإمام المحقق أبي ياسر عمار بن محمد البدليسي(1) نفعنا الله به آمين (2) .
اللهم صل على سيدنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين بعدد كل حرف وسطر في هذا الكتاب وما سطر ويشطر فيه وفي غيره إلى يوم الدين والحساب امين (3) .
قرأ هذا الكتاب المرحوم الشيخ أمين بن الشيخ خليل الفنان(4) على طلبة العلم في دمشق الشام سنة 51226).
(1 ب) بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام المحقق أبو ياسر عمار بن محمد البذليسي: الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم.
مخ ۵
============================================================
عمار البدليسي فصل 3 1 : في صوم القلب واقطاره اعلم، وفقك الله لطاعته، ومعرفة(1) أحوال باطنك، والوقوف على 3 معرفة سرك وفترتك(1) ونقصانك وزيادتك، أن علامة من استعمله الله تعالى في العبودية، بشرائط آداب أعمال القلب، حصول حسن التفقد لأحوال باطنه. ولا يصح التفقد إلا بعد وجود اليقظة - ومعناها: معرفة سوانح ما يتجدد من الغيوب في القلوب من صنوف الكشوف. ولهذه اليقظة عند أربابها لفظان، هما أعم للفائدة، وأقرب إلى (2) المشاهدة، وهما التبصرة والذكرى. كما قال تعالى: تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} (القرآن الكريم 8/509). وقال تعالى: وما يتذكر إلا من ينيب} (القرآن الكريم 13/40)(4). ولانفكاكها عن مراتب العلوم، وإعزازها عن ذكر غير أهل الفهوم للعلوم الفيضية الحقيقية، التي قرن الله سبحانه وجودها بوجود 12 القلب، فقال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} (القرآن الكريم 37/50). فلا تحصل إلا بعد أن لا يبقى في العبد تفرقة. فبعدم التفرقة وجود الجمعية، وذهاب علة التعلل من الباطن فيما شاء وسبر. كما قال الله 15 عز وجل: لكيلا تأسؤا على ما فاتكم* (القرآن الكريم 23/57) . لأن الباطن يعتل ويسقم بهذه المذمومات، ويعتل الجسم بالمضر من المأكولات، ويصيرة القلب تعمى كما تعمى (12) بصيرة الجسم. قال الله 18 تعالى: ولكن تغمى القلوب التي في الصدور} (القرآن الكريم 46/22) .
وكل ذلك من وقوع القلب في أودية التفرقة، فمنها يحصل الشك والشرك،
مخ ۶
============================================================
صوم القلب ولا تخلص(1) منها إلا بالجمعية. لأن منها تحصيل اليقين والتوحيد والتفويض فمن أراد الله أن يهديه، يشرح صدره بنور عالم التفرقة بصده(2) عالم التفرقة وحصول الجمعية.
فإذا حصلت جمعية من مقام عين الجمع، اجتمع لله تعالى بالكلية، واستقام مع الله بمعاملته وإرادته. فوقف لدى الله متبريا عن حوله وقوته، مستسلما في تصحيح عبوديته، بحمل ما يرذ عليه، مكتفيا بعلم الله فيه، في كل ما يوجه إليه. فمن تجرد في العبودية، وأفرد التوحيد للربوبية، ووحد الرب بلسان القلب، فهو الموحد على الحقيقة.
وصفة توحيد الحقيقة، ذكر الحقيقة، أن من وحد ومن ذكر على 9 الحقيقة، ذكر، وهذه علامة نقلية، ذكرها الله سبحانه، فقال: فاذكروني أذكزكم* (القرآن الكريم 152/2)(3). وقال: ( واذكر ربك إذا نسيت} (القرآن الكريم 24/18). كأنه قال: إذا ذكرتني فاذكز ذكر شهود، ولا ذكر وجود. فذكر الشهود، ذكر العيان. وفي ذكر الشهود نسيان الوجود. فليس في الوجود إلا أنا وذكري، التي هي صفتي. فصفتي هي ) ذكري(4) على لسان عبدي وقلبه. والعبد فيه تائه واله فإن لان القلب إذا ذكر، 15 شرب، فطاب وقرب، فغاب فشهد، وسمع ففقد. وعند فقدانه وجد. فلما وجد، خرج من كونه ذاكرا، فصار مذكورا. وذكر اللسان منفك عن مصاحبة الأجزاء(5) والأركان. فلأجله صار بصفة اللسان لا يتخلى من (6) مقام (2 ب) 18
مخ ۷
============================================================
عمار البدليسي عالم الأجساد إلى عالم القلب والإلهام. وهذه صفة ذكر الوجود، لأن ذكر الوجود تكليف، وذكر القلب تشريف. فثمرة ذكر التكليف الثواب، وثمرة 3 ذكر التشريف الاقتراب. قال الله تعالى: فاشجذ واقترت} (القرآن الكريم 19/96)، معناه: اسجد بقالبك، وأنب واشهذ بقلبك، واقترب.
والذكر ذكران، والعبادة عبادتان. فذكر اللسان وذكر القلب، وأعمال 6 الجوارح وأعمال القلوب. وأشرف الأعمال عمل السر، ثم عمل القلب، ثم عمل الأبدان إذا قيدها الإخلاص، وكان على وفق للأمر والنهي والتقوى، لا على وفق الطبع ومتابعة الهوى. وعمل القلب أشرف، لأن القلب أشرف.
9 وكذلك عمل كل من له قلب د شرف ) على عمل من لا قلب له. وقد مدح الله المؤمنين بصلاة قلوبهم، فقال: قذ أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} (القرآن الكريم 1/23 - 2)(1). والخشوع في القلب، 12 ركوع للقلب. وكما أن للقلب صلاة، وصلاته أفضل الصلوات، فكذلك له صوم، وصومه أفضل الصيام. وكما أن بين القلب والقالب تباين في الصورة والمعنى، كذلك لعمل القلب تباين عن عمل البدن في الصورة، لا في 15 المعنى. لأن صلاة البدن ركوع وسجود وقيام وتشهد، وصلاة القلب خضوع وشهود واستسلام وتجرد. وكما أن صوم البدن هو الكفة عن المأكول والمشروب، كذلك صوم القلب كفة عن كل فضول أو ما يوقع في فضول.
18 ثم إن(2) أرباب صوم القلب طوائف: طائفة صوم قلوبهم ترك المحظورات قولا وسماعا، وهو لأهل البدايات. وطائفة صوم قلوبهم حفظ القلوب، كيلا يوسوس فيها(3) العدؤ (13) بذكر، صغيرة وكبيرة من الذكر؛
مخ ۸
============================================================
صوم القلب وهؤلاء أهل التربية والتصفية. فهم بالتربية والتصفية في حفظ وحراسة وحماية عن إلقاء العدو. لأن القلب إذا صفا، وحصل الصفاء صفة له [ققد أن] لا يبقى عليه لغير الله حكم ولا للعدو إليه طريق. بل ربما في بعض 3 الأوقات يوقع في القلب شيئا بطريق التسلط، وذلك من أجل التنبيه، كما وقع في قلب الرسول، عليه السلام، وبعد ذلك غصم. قال الله تعالى: ووما أزسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته 6 (القرآن الكريم 52/22)، فصار ذلك قاعدة في حق أهل التربية والصفاء.
فإذا تفرد الصفاء بصفته صار لا يقبل إلا أجناس الصفاء. وكما أن الخبث لا يقبل إلا أجناس الخبث، لأن الصفاء نوعان: نوع من صفاء 9 الملائكة(1)، ونوع من صفاء الحق. فمن كان صفاء قلبه من صفاء صفات الحق فهو الذي لا سبيل عليه للشيطان، وهو الرباني. ومن كان صفاء قلبه من صفاء صفات(4) الملائكة فهو صاحب المحمودات، غلبت محموداته 12 على مذموماته. فله جنس وضد: فإلى جنسه يميل، ومن ضده يستقيل (3).
وانما يدخل الضد على ضده بالقهر والغلبة. فما دام حفاظ رقباء الصفات يحرسون ويحفظون الصفاء عن دخول الكدورة عليه، فقد استقام الصفاء في 15 كماله. فإن العبد في تلك الحالة محفوظ بحفظ الربوبية. كما قال الله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (القرآن الكريم 42/15) . والله يتولى صفاء أهل الصفاء بحفظه وحفظ أدلائه وملائكته وكلامه. من ذلك ما قال 18 عليه السلام: "إنه ليغان على قلبي"(4) الحديث. (3 ب) قال الله تعالى:
مخ ۹
============================================================
عمار البدليسي (وإذا قرأت القران جعلنا بينك ويين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مشتورا} (القرآن الكريم 45/17) .
وطائفة صوم قلوبهم من كل داخل من الخطرات الحميدة الجيدة المأمورة بالخير، المقبولة في الطريقة والشريعة، إلا أنها لما كان (1) موردهن ومصدرهن من عند غير الله، وجب عليهم حفظ القلوب منهن. لأن قلوبهم الفت واعتادت الشرب من الخواطر الربانية، والكلمات الإلهامية، والنفحات الرحمانية، والواردات الإلهية، والإشارات الغيبية، وجب عليهم الصوم من خواطر الملك، والطبع المستسلم بحكم القلب، والنفس المطمئنة الراضية المسلمة. لأن كل قلب ألف السماع من الله، والقول مع الله، والنظر إلى الله، فإنه إذا أحيل إلى واسطة كأنه نقل من الزلال العذب إلى شرب الكدر المالح. وكيفية هذا الصيام هو التحفظ من هذه الخواطر، حيث 12 لا تدخل القلب. فإن دخول تلك الخواطر يفطر القلب من صومه. وصومه دوام النظر إلى الله، ودوام الوقوف مع الله، ودوام الاستسلام لدى الله.
وكيفية التحفظ في هذا المقام هو الوصول إلى مقام المراقبة فمن 15 لا مراقبة له، لا تحفظ له. ومن لا تحفظ له، لا صوم قلب(2) له. فصوم قلوب هذه الطائفة الثالثة بشهود الله، وفطرهم عند أوان الإفطار على أنواع كشوف الله- وهو سر معنى الخبر: اللصائم فرحتان (3): فرحة عند إفطاره، 211:4 والمعجم المفهرس 28 تحت: غان. وانظر بهجة فصل30، ص15/118 وصوم ص 19/9.
مخ ۱۰
============================================================
صوم القلب وفرحة عند لقاء ربه". ولهذه الطائفة، كلتا الفرحتين موجودة، لأنهم يشهدون الحق ويجدون الفطور (24) من عند الحق، فإذا صام القلب في مقام المراقبة، فله المشاهدة ، وهو في جميع اليوم مستغرق هائم حاضر 3 ذاكو، بل مذكور، وذكره ذكر مذكوره إياه. فلأجله يكون غائبا عنه، حاضرا مع ما غيبه. وصوم هذا القلب: صوم شهود الله. كما ورد في الخبر: "أنا الله الذي اقتربت من قلبك، وبالغيب رأيت نوري".
ودون هذا الصوم، يختمل في حقه معنى الفزحة عند إفطاره، التحفظ من خواطر إلقاء العدو، ووساوس النفس الأمارة. فإذا انقضى صومه بسلامة عن دخول ما يفسد صومه ويفطره عن فضيلة صومه، فلأجله فرح عند إتمام 9 صومه له فهذه مجاهدة عظيمة، وصاحب هذه المجاهدة مقامه التفر الدائم. لأن التفكر، بوجود الذوق، في آلاء الله، بذوق العبد المتفكر لذة وحلاوة، يمتلى صدر العبد من لذة التفكر بمعرفة حقيقة ما فيه نظر وتفكر. 12 وذلك يمنع وساوس الشيطان وإلقاء العدو بنزول معرفة أسرار المصنوعات في القلب.
وفطور هؤلاء الطائفة الثانية على أسرار المصنوعات بواسطة التفكر. 15 فلذة كلمة حكمة أشهى للقلب من حلاوة الدنيا وما فيها. وصوم هذا القلب عن المذام وإفطاره بالمحامد. ومعنى هذا الصوم يكون من أجل الله تصحيحا للعبودية، وتطهيرا للقلب مما سوى الرب جل وعز. ويقال لهذا الصوم: 18 صوم الإرادة(1) والذوق، ولما هو أعلى من هذا: صوم الدنو والقرب والمعرفة.
والفرحة الثانية تكون عند لقاء ربه. ويحتمل لقاء الرب لأهل صوم 21
مخ ۱۱
============================================================
عمار البدليسي الارادة عند نهاية (4 ب) مجاهداتهم، وتتمة مقاماتهم. وهو قلب صام لأجل الله، معناه: حتى يشهده، والى على نفسه(1) أن لا يقطر إلا بلقاء الله، معناه: مشاهدة الله، فلما شاهده أفطر به، لا بغيره.
ونهاية مقام هذا في الفطور، عند نهاية مقام قلبه في الصوم، مثل كل فطور كل يوم، كل ليلة من صوم قلب أهل الدنو، إذ له الفرحتان في كل ليلة. وهذا له فرحة واحدة: وهو وجدان لذة التفكر، أو وجدان سر ما فيه تفكر.
والطائفة الأولى(2) من أرباب صوم القلوب هم أهل الطلب والعلم والشوق، أوجب عليهم ذكر الله نزاهة الصوم عن اختيار المفطرات. وقد ورد: "خمسن يقطزن الصائم"، فالذاكر الصادق المشتاق، لما ذاق ثمرة الذوق، عرفه (3) الذكر، وكشف له عن حقيقة صوم القلب، لأنه بعزلته في 12 الخلوة عن الناس، حصل له(4) صوم القلب، كما حصل له ذكر القلب. ولا يحصل ذلك إلا بترك المحظورات قولا وسماعا ونظرا. ولا يحصل ذلك - خصوصا للمبتدئ - إلا بالعزلة.
15 ومعنى العزلة، أي: في العزلة عز له. فإذا حصل هذا، فصوم قلوبهم حفظ القلب على الذكر، ونفي ما سوى الذكر عن القلب. وترك الكلام من شرط هذا الصوم، إلا مع دليله، أو ربه. وترك الكلام من شرائط صوم 18 القلب. وإن اضطر: تكلم بالرفز، كما أمر الله سبحانه وتعالى لزكريا، عليه السلام، وقال: ايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} (القرآن الكريم
مخ ۱۲
============================================================
صوم القلب 41/3) . وقول مريم: ل إني ندزث للرخمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) (القرآن الكريم 26/19). وإنما فائدة صوم القلب أن لا يكلم إنسيا بلسانه .
و ح لأن اللسان ترجمان القلب، بل باب القلب، وجب في صوم القلب غلقه واستكانه في عالم الأجساد، إذ الكلام مع الإنس ينافي صوم القلب، إذ القلب من(1) عالم الأمر، وإنما صام في عالم الأجسام (25) عن الكلام مع غير جسه، لحصول الكلام مع آبناء جنسه من الروحانيين، والملائكة وذكر الامتناع عن الضد إباحاة المباسطة مع الجنس، إذ لا يتأتى بين 9 الجنسين مسافة للعبادة كما يتأتى بين القلب والملائكة - هذا إذا كان القلب في مقام العزلة عن الناس. إذ الناس أضداد عند القلب بالإضافة إلى الملائكة. فأما إذا كان القلب في قطع عالم الوجود، فإن صومه العزلة عن الناس، وترك الكلام معهم. فإذا قطع مسافة عالم الإنسان، فإن المصاحبة مع أجناس العلى، وذلك من أجناس ما هو بصدده من مطلوبه. وصوم قلبه حتى ينتهي أيضا سيره في عالم العلى. فإذا قطع عالم الأرواح والملائكة، فهناك تعين له وعليه العزلة عما سوى الله . فيكون صوم القلب فيه صوما عما سوى الله، لشهود الله. ورؤية(1) ما سوى الله يقدح في صومه في هذا المقام، إلى أن ينتهي حاله (3)، فيكون لله بالله، أي مع الخلق بالله، ومع الحق لله .
فحييذ صوم قلبه لا نقص يتطرق إليه، لاستيلاء حكم قلبه على جميع حواسه: من عقله وعمله وطبعه ونفسه وشهوته، وحكم الله مستول على
مخ ۱۳
============================================================
عمار البدليسي قالبه، والقلب في حكم قبضة وقدرته. والمقدورات في حكم تصرف قلبه، وقلبه لوخ محفوظ: علم الله وعرش تجليه، يراه في مشاهدته ويخبر عنه 3 بمحدثيته. كما ورد في الخبر عن موسى، عليه السلام، قال: "إلهي آين أبغيك؟ فقال: يا موسى، (ه ب) وأي بيت يسعني، وأي مكان يحملني فإن أردت أن تعرف أين أنا، فأنا في قلب الوادع التارك العفيف"(1). وهذه الثلاثة صفة صوم القلب.
فصوم القلب دأب الأنبياء والمرسلين والأولياء الصديقين. ولذلك جعل الله عز وجل آية زكريا، عليه السلام، عند إعطاء الولد صوم ثلاثة أيام، ثم أعطاه الولد، لأن للصيام دعوة مستجابة. ومتى صح صوم القلب، صح صوم البدن. ومتى صح صوم البدن، يستجاب ذعاء العبد. وما(2) لم يصح والإصغاء إلى اللهو واللعب. وكل هذا يقدح في الصوم ويذهب بفضله.
وإذا ذهب فضل الصيام، لم يرتق إلى صوم القلب أبدا: 1 وانما أول شرط صوم القلب هو الدخول في صوم الفرض بموجب الشرائط الشرعية، ثم بالتحفظ من حيث الجوارح والأقوال والخواطر. فإنهم كانوا يكرهون فضول النظر، كما كانوا يكرهون فضول الكلام. وفضول النظر 18 من جملة العفطرات، كذلك فضول الكلام: وهو النظر بشهوة، والكلام في غير طاعة، ويعتزلون من الهموم والخواطر، كما يعتزلون بالظواهر
مخ ۱۴
============================================================
صوم القلب والنواظر. وإذا اجتمع للعبد فضائل صوم البدن، ترقى منه إلى صوم القلب.
وفي الأول حصول صوم القلب، ثم حصول فضيلة صوم القلب. ومعنى صوم القلب: الكفة عن معاصي القلوب بالاشتغال بطاعات القلوب. وكما 3 أن لصوم البدن فضيلة، كذلك لصوم القلب (6 2) فضيلة.
ومن فضائل صوم القلب ظهور اية الصوم في الحال أو بعد ثلاثة أيام * (1)، كحالة مريم، أو كحالة زكريا، عليهما السلام، وإنهما يرزقان 6 من الأنعم الباطنية في قلويهم على سبيل إظهار الكرامة والعطاء، لو] من الأنعم الظاهرة عند الافطار مع استجابة الدعاء.
أو كحالة نبينا، عليه السلام، حيث كان يقول: "إني أبيت عند ربي 9 يطعمني ويسقيني"(2). وهذا أعلى رتبة صوم القلب. وقد أغطي هذا الصوم محمد =ا، وامته، لأن عبادة هذه الأمة في مقام المشاهدة، وذلك لكون معراجه، عليه السلام، أعلى معاريج الأنبياء. وإنما 12 صار معراجه أعلى لأن مشاهدته أوضح وأكشف: لأن قربه من الذنو في حضرة العزة كان أقرب مقامات الأنبياء. فلأجل ذلك ظهر فضل درجات أمته على سائر الأمم لعلو أحوالهم من الله ومع الله. ولهذا قال، عليه السلام: "اعلماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، يعني: العلماء بالله في أمتي بفضل الأحوال، وظهور الآيات والعلامات من خلع الولايات، أقاموا بعد انقطاع النبوة على منهج النبي، عليه السلام، يدعون الخلق إلى الحق، إلى يوم 18
مخ ۱۵
============================================================
عمار البدليسي موجودة باقية، والنبوة منقطعة عاطلة. وهؤلاء في هذا الزمان، في الأجر والدرجات، بإحياء سنة نبيهم بعده، كأولائك الأنبياء في زمانهم. إذ فعلهم هح 3 في الدعوة كفعلهم فأشبهوا الأنبياء بأفعالهم ودعوتهم وحسن سيرتهم وطريقتهم وسمعتهم وهذيهم. كما شبه علي، عليه السلام، بنوح النبي، عليه السلام. وشبة بعضهم بالخليل. (6 ب) وكل ذلك الشرف لأمته على سائر الأمم لوجود(1) شرفه، عليه السلام، أعظم وأشرف وأجل عند الله من الأولين والآخرين، ولأن حالته عند الله بمقام الإخلاص من المشاهدة: لم يعادله مثله لا ملك مقرت ولا نبي مرسل. كذلك أهل الأحوال من أمته: 9 أحوالهم خير أحوال الأمم، لأتهم خير الأمم عند الله.
فصل - 2: في فتوح السالك قيل للجنيد: هل في القرآن (2) شيء يدل على فتوح السالك4(3) 12 فقال: نعم. ثم قرأ: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} (القرآن الكريم 120/11) .
ففي الفؤاد خزانة سر الكشف والإشهاد، والمحبة والوداد، وسر ما 15 ظهر من العدم إلى الإيجاد، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو ح عظيم (القرآن الكريم 35/41)، هم الذين رزقهم الله التبصرة في قلوبهم، على نفوسهم، فلا يتحركون في حركة إلا ببرهان بصيرة. * و ح 18 لم يزالوا في طلب الأدلة فيما يستح لهم ويحدث فيهم، حتى وقفوا على
مخ ۱۶
============================================================
صوم القلب معرفة كل شيء وضده . وبذلك تكلموا في علوم المعاملات، وحلوا منها عقد المشكلات، ويينوا فيها عن كيفية مواطن الافات. وذلك بحصول نور الله في القلب، فكانوا بذلك على بينة من ريهم. والبينة من الله هي صفتهم، بها يعرفون الافات، ويفرقون بها بين الخيالات والمشاهدات، ويبينون عما يلقى إلى الباطن من إلقاء العدو والنفس من النزعات، وما يكون من إملاء القلب، أو الملك، أو الطبع، أو الحق جل وعلا من الإشارات والخطرات. وهذا هو معنى الدليل، 12ح لموصوف به كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (القرآن الكريم 50/ 37) .
فصاحب القلب هو المحدث من قبل قلبه عن ريه، ويلقي "السمع": هو 9 المصغي إلى قلبه وقلبه المصغي إلى الغيب.
فصل - 3: في حقيقة الصوم ك (27) وإنما صير القلوب، مجال توازل الغيوب، حسن التصفية، 12 والتطهير، والتريية والتنوير. وكيفية تلك التصفية والتطهير للقلوب هي حقيقة الصوم في ذوق الحقيقة عن أستاذ التربية، وهو الصوم عن الاثام، ثم عما لا يعنيه من الكلام، ثم عن (1) مخالطة من (2) لا يأمن منه السلامة من الأنام .
فتصويم جميع الجسد، هو بداية تصويم القلب، وهو الصوم على الحقيقة.
و) بذلك وصلوا إلى الصوم عن كل محظور، ثم إلى الصوم عن كل نظرة بغفلة، أو إرادة بشهوة، أو حركة في غير طاعة، ثم إلى الصوم له به، وهو صوم الحالة: صومهم الوقت الغالب عليهم عن رؤية ما سواه، أو النظر الى ما عداه. وهذا هو صوم قلب، هو في تصرف الحال، غلب عليه ذكر
مخ ۱۷
============================================================
عمار البدليسي المذكور، حتى سلب شعوره بكل موجود سواه، جميع نهاره، فلما آن أوان انقضاء صوم العموم شرعا، ورد إليه وعليه من ملاحظة نظر العناية، سر(1)، 3 تبدى(2) له من ثمرة الصوم: إما علما من علوم حاله، أو كشفا من مشاهدة سر حاله، - أو شيئا من غرائب أجناس العلى. وذلك فطور جسمه من الأنعم الظاهرة.
فمن خسم عنه مواد الحواس، ولزم العزلة عن الناس، ونزه صومه عن الأدناس، والأنجاس، وصل إلى رتبة الاستثناس. ففي الصوم مجاهدات عظيمة، وفيه أيضا مشاهدات جسيمة . قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر 9 والصلاة (القرآن الكريم 45/2 و153)(3)، يعني به الصوم والصلاة.
فالاستعانة بالصوم لما فيه من المنافع والفوائد والثمرات. ولهذا ورد في الخبر: اصوموا تصحوا"، يعني من علل الباطن. لأن صوم البدن إنما زاد 12 في الغفلة (7 ب) علة من حيث الحرارة واليبوسة. وإنما أراد به العلل الباطنة. وإنما يزيل العلل من الباطن إذا كان صوما قلبيا. فصوم القلب شرطه الصحة، والصحة شرطها(4) صوم القلب. ومعنى الصحة من سقم 15 الذنوب، وقساوة القلوب. لأن مرض () القلوب يمنع القلب من وجدان فائدة الصوم وثمرته، كما يمنع المرض المريض من وجدان لذة الطعام الذي هو عذته وقوته. وكذلك للقلب من الصوم قوة وطهارة وتصفية.
مخ ۱۸
============================================================
صوم القلب فصل - 4: في أن الصيام ثلاثة أنواع ك والصيام ثلاثة أنواع: نوع للبدن، ونوعان للقلب.
فالأول من صيام القلب خص بالثمرات واللذات، ترد إليه من دوام 3 الذكر والفكر، من الله، في مقام المحاسبة. وفطور هذا الصوم على الإنعام.
ومعنى الإنعام: وجدان اللذات والمؤاتسات. وصاحبه من خواص العبيد.
فصومه صوم الخصوص: الثاني من صوم القلب خص بالمشاهدات والواردات. ففطوره على الإلهام، لأنه في مشاهدة الحالات، في مقام الاقتراب. وقد قال الله تعالى: "الصوم لي، وأنا أجزي به"(1). وكل الصيام له، كما أن كل العبيد له. بل له 9 عبيد على التخصيص والاقتناء، هم آقرب إليه، وأرفع عنده من سواهم.
كذلك له من الصيام صوم هو منحة من متحه وهدية من هداياه، إلى الأخص من عبيده. وصاحب هذا الصوم من أخص العبيد، فصومه صوم خصوص 12 الخصوص فمن عبد صومه الله بهذا الصوم، فقد أدخله في حقيقة العبودية، وارتضاه عبدا، واقتناه حرا، وتولاه خلا، وخلع عليه بخلعة أهل المزيد والإلهام. لأن سر قوله عز وجل: "الصوم لي" يقتضي فيه سرا خفيا، كأنه يقول: إن في الصوم (18) سرا هو لي، لا يطلع عليه غيري؛ من رزق ذلك الصوم، جازيته بالقرب. "وأنا أجزي به" معناه: كما أفرد لي سره، وأخلى لأجلي قلبه، وجعلني قصده، فإن جزاءه: بأن أقربه، وأقترب منه، وأسر في 18
مخ ۱۹
============================================================
عمار البدليسي سره، وأبث في قلبه. وقد قال الله تعالى: "أنا الله الذي اقتربت من قلبك، وبالغيب رآيت نوري".
وأما صوم البدن ف خص بالثواب من الله تعالى، وفطوره على الطعام، ولا فطور لقلبه فكما لم يكن له صوم، لم يكن له إفطار. وظاهر الصوم ما سترك وحماك من (1) الذتوب. وسر الصوم ما سيرك ورقاك إلى 6 مشاهدة القلوب من الغيوب. وقد قال، عليه السلام، بمقتضى ما ذكرناه: "الصوم جنة"(2)، وظاهرها ما حفظك على الطاعة من المعصية، وباطنها ما حفظ القلب كيلا يطلع على سره غير الرب.
فمتى حفظ القلب، حفظ سر القلب. فمن لم يتحفظ لا بظاهره ولا بباطنه، فلا فائدة لجتته. فكأته لم يستتر بالجنة بموجب الاستتار. وكذلك من يصوم بغير موجب الصيام، لم يخظ (3) لا بالإنعام ولا بالإلهام(4)، ولا 12 بالثواب ولا بالاقتراب.
قصل - 5: في موجيات الصيام وموجبات الصيام نوعان: نقلي وذوقي: 1 فظاهر الجنة(5) هو واجبات النقل. فمن لم يلتزم ذلك فقد خرق جنة
مخ ۲۰
============================================================
صوم القلب صومه، وهيهات آن يصل إلى وقاية جتة صوم قلبه. قال عليه السلام: ارغم أنف من أدرك شهر رمضان ولم يدخل الجنة".
فحظ الذوق من أسرار الخبر = ف ح كما أن للبدن من شرائط 3 الصوم جنة كذلك للقلب من حقيقة الصوم في كل يوم وساعة من الله سبحانه وتعالى حضور وشهوذ وجنة. لأن لذة ثمرة حقيقة الصوم في ذوق القلب عند (8 ب) مشاهدة غيب صخو الحالة أطيب عند الصائم لله بقلبه وكليته من جنة 6 عذن. فمن لم يدخل في جنة جنة حقيقة صومه، رغم أنفه. إذ فائدة جنة الصائم لحاظ(1) للقرب من الرب. إذ صوم القلب إذا كان لشهود الله، ففطوره وإفطاره عند لقاء الله على شهود شاهد الله أو شواهد الله. وكما أن أوان إفطار الأبدان، ورود الأذان إلى الاذان، كذلك أوان إفطار القلوب، عند ورود الأمر والإذن من عند الملك الديان. وكان بعضهم يقول: أقوم ولا إله إلا الله، وأقعد ولا إله إلا الله، واكل ولا إله إلا الله. معناه في الحقيقة 12 عند أريابها، أي: بالله أقوم، وبالله أقعد، وبالله اكل. ومعنى هذا: الإذن والأمر على الخصوص، لا تصرف القدرة على العموم. وفي معناه ورد في الخبر: "فبي يسمع، وبي يبصره، أي: بالأمر والإذن من الله لأنبيائه 15 وأوليائه.
فإذن الأنبياء بالوحي الظاهر والوحي الباطن. وإذن الأولياء بالقذف والإلهام.
فالقذف قد يكون من داخل، وقد يكون من خارج. ومنه الهاتف الذي يسمع صوتا ويشهذ شخصا.
مخ ۲۱
============================================================
عمار اليدليسي وقد ورد في الخبر: "للجتة باب يقال لها الريان(1)، لا يدخل فيه إلا الصائمون". وعند أهل الذوق والحقيقة والكشف والمشاهدة مثل ذلك الباب 3 من الغيب إلى القلب، منه يتزل للقلب من الرب النظر إليه، والسماع منه .
ال والدليل القاطع على أن ثمرة الصوم القلبي هي المشاهدة، أن الله تعالى أمر لموسى، عليه السلام، بالصيام، ثم لما انتهت (2) مدة صومه، دعاه إلى الكلام، فخلع عليه بالمكالمة (9ا) وذلك لتخصيص الصوم بالمشاهدة، دون غيره من العبادات. وقد كان رسول الله، ي، يصوم ويواصل في صومه، فاستن به جماعة من الصحابة، وكانوا يستضرون من ذلك. ففطن لذلك رسول الله، فنهاهم. فقالوا: يا رسول د الله ، نراك تواصل.
فقال: "لست كأحدكم، إني أبيت عند ريي فيطعمني ويسقيني"(2). معناه: إن للقلب من الرب قرزبا وشزبا، ورؤحا وذؤقا، ليست لقلوبكم. فلم يتركهم 12 يتحملون(4) من المجاهدات إلا بقدر شرب قلوبهم من الصوم.
فصل - 6: في نهاية صوم القلب ي فأما نهاية صوم القلب أنه إذا صام، استغرق وهام، واستوى عند 15 الراحات والالام، وانقطع لساته عن الكلام، وشغله وجدان اللذة عن أن يخطر() بباله الطعام، وذلك لاستطعام القلب من طعام الإلهام. فلا يجذ القلب الذوق في الصوم إلا بعد إفناء الحظوظ وإبقاء الحقوق. ولا يصير
مخ ۲۲