نحن في صلواتنا نضع نصب أعيننا أننا بين يدي الخالق عز وجل، فنراعي السكون ونلازم جانب الهدوء. أما هم فقد أرادوا تقوية أسس الدين بأصوات «الأورغ» وبذلك مزجوا الروحانيات بالضجيج والضوضاء.
ابتدأنا في التأخر والتقهقر منذ اليوم الذي أهملنا فيه أوامر ديننا الحنيف. فلو كنا انقدنا إليه تماما فأتمرنا بأوامره واجتنبنا نواهيه من يدري في أي ذروة عليا من درجات السعادة كنا الآن؟
أراد أصحاب الأديان الأخرى الوصول إلى ما يؤثر فيهم فاجتهدوا وجدوا في إصلاح معتقداتهم غير المنطقية بتلك المراسم والحفلات، أما نحن المسلمين فقد أهملنا في المحافظة على عقائدنا الدينية المبنية على أساسات منطقية معقولة، ولذلك أخذنا في طريق التقهقر وسبيل الاندحار.
هم قلبوا الباطل وألبسوه صورة الصحيح فاستفادوا دنيويا، أما نحن فقد تركنا مناهج الحق وسرنا في طرق معوجة لم توصلنا إلى الغاية المنشودة وهي السعادة. قد هجر الغرب المتمدن ذلك الطريق المزخرف في الاعتقاد فوضحت أمامه سبل الحياة، أما نحن فابتعدنا عن أنوار ديننا الحنيف وسرنا نتخبط على غير هدى، ونتسكع في دياجير الجهل إلى أن وقعنا في هوة التأخر.
وصلنا إلى حالة نكاد نفقد فيها بهاءنا وبريقنا، نظير اللآلئ التي يطول عليها القدم من غير أن تستعمل. فإذا رغبنا في الحياة وأردنا ألا نندثر كالأمم التي بادت لجهلها ولم يبق لها سوى اسمها في صفحات التاريخ، وجب علينا أن نحيد عن طريق الضلال لنسلك مناهج الحق والاستقامة.
كنت مطرقة أتأمل فيما حولي من السكون فمر من أمامي رجلان واتجها نحو الباب، ثم فتحا إحدى نوافذ الإيوان وأطلا منها على الخارج حيث الزقاق القديم الملتوي التواء الثعبان. رفعت نظري نحوهما وهما يتحادثان فطرقت أذني كلمة صغيرة استرعت كل انتباهي إذ كان أحدهما يقول: «لما شيد «السلطان الغوري» هذا المسجد أمر أيضا ببناء مقبرته أمامه.» هذا كل ما سمعته لأنني عدت ثانية إلى الغوص في لجج التفكير. كنت أفكر في اسم السلطان الغوري، ذلك الاسم المحفوف بالخواطر الموجعة والتذكارات المؤلمة فقلت في نفسي: إذن أنا الآن في نفس الجامع الذي بناه السلطان الغوري! ما أغرب هذه الصدفة!
حلقت ثانية في جو التأملات فطار بي الفكر إلى الماضي البعيد، إلى الوقائع الدموية التي شهدتها أرض الشام بين جيوش السلطان سليم المنتصرة على جند «الشاه إسماعيل» وجيوش السلطان الغوري صاحب هذا المسجد.
تصادم الجيشان في (مرج دابق) فاشتبكا مع بعضهما في قتال عنيف، ورأى الغوري أن جيشه آخذ في الهزيمة والإدبار فلم ير بدا من الفرار. ابتعد عن ميدان المعركة وفي صحبته أحد الجنود من أتباعه ووقف بالقرب من أحد الأنهار بحجة الوضوء، حيث فرش له الجندي سجادة الصلاة، وما كاد يرتمي عليها متمددا حتى فاضت روحه.
وعندما خمدت نيران المعركة، لاحظ السلطان سليم أن الغوري لم يكن بين القتلى أو الأسرى فأمر بالبحث عنه في كل جهة. فتقدم إليه أحد جنوده وأخبره بأنه رأى جثة الغوري على مقربة من شاطئ النهر، إلا أن سليما داخله الشك في صدق الخبر فأرسل معه «جنديا» ليأتيه بالخبر اليقين.
ظن ذلك «الشاويش» الأبله أنه إذا أحضر رأس الغوري لمولاه ينال استحسانه ورضاه، فما كاد يصل إلى مكان الجثة حتى فصل الرأس عنها وحمله مفتخرا إلى المعسكر. إلا أن السلطان سليم احتدم غيظا لرؤية هذا المنظر البشع وهاله أن يرى الحاكم المغلوب مهانا بعد مماته ومقطوع الرأس كمجرم عادي، فأمر بإعدام ذلك الجندي الأحمق.
ناپیژندل شوی مخ