تقديم
ملامح من قصص القرآن
الهيكل الفني في قصة يوسف
جاذبية التشويق في قصة الخليل
دقة التبسيط في قصة موسى
فن الجاذبية في قصة سليمان
الإعجاز في قصة مريم
الثواب والعقاب في قصة آدم
الإعجاز الفني في قصة يونس
السمو الفني في قصة لوط
ناپیژندل شوی مخ
تقديم
ملامح من قصص القرآن
الهيكل الفني في قصة يوسف
جاذبية التشويق في قصة الخليل
دقة التبسيط في قصة موسى
فن الجاذبية في قصة سليمان
الإعجاز في قصة مريم
الثواب والعقاب في قصة آدم
الإعجاز الفني في قصة يونس
السمو الفني في قصة لوط
ناپیژندل شوی مخ
السرد القصصي في القرآن الكريم
السرد القصصي في القرآن الكريم
تأليف
ثروت أباظة
تقديم
ماذا أردت من هذا الكتاب؟ إن لم أكن أردت إلا أن أظهر ناحية جديدة من إعجاز القرآن فحسبي. ولعل ذلك كان يقتضيني أن أقدم إليك قصص القرآن جميعا، ولكن ما الذي كان يعود علي أو عليك إن أنا فعلت. أنا لا أتغيا عرض القصص القرآني، وإنما كل ما هدفت إليه أن أقدم إليك هذه الظاهرة العجيبة، وهي أن أحدث ما وصل إليه الفن القصصي هو النسق الذي سار عليه السرد في القرآن الكريم.
وقواعد الفن القصصي نبتت من الاستقراء؛ فالرواية حين بدأت في الظهور منذ خمسمائة عام ونيف، لم يكن لها قواعد بطبيعة الحال، شأنها في ذلك شأن الشعر في التراث العربي؛ فحين ألفت روايات كثيرة - نجح منها ما نجح، وفشل منها ما فشل - بدأ النقاد يتساءلون لماذا نجح الناجح ولماذا فشل الفاشل، فكانت هذه القواعد.
ولعمري هل نظر النقاد إلى قصص القرآن حين وضعوا قواعدهم؟ أشك في ذلك، بل أقطع أنهم لم يفعلوا؛ فهذه القواعد واردة علينا من الأدب الغربي. وما أحسب أن بين النقاد هناك من يفكر في القرآن إلا على أنه كتاب سماوي. أما روعته اللغوية والفنية فبعيدة عن أذهانهم كل البعد.
وقد كان الأجدر بنقادنا نحن أن ينتبهوا إلى هذه الفنية في السرد القصصي في القرآن، ويقوموا عني بعمل هذا الكتاب؛ فما أحسب أنني مهيأ للبحث؛ فقد يسر لي أن أكون روائيا، والروائي بعيد عن البحث، ولكن الروائي أيضا مطالب بأن يعرف قواعد القصة والرواية. وقد عجبت حين وصلت إلى هذه المعجزة في القرآن الكريم، وعجبت أن لم يلتفت إليها أحد من نقادنا، ثم ما لبثت أن قمعت هذا العجب الأخير؛ فمنذ متى يهتم نقادنا بديننا أو تراثنا، إنما كل همهم أن يلووا ألسنتهم بلغة غير لغة بلادهم، وينسبوا أنفسهم إلى أي أدب غير أدبهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ملامح من قصص القرآن
ناپیژندل شوی مخ
تنزه القرآن الكريم أن يكون قصصا، مجرد قصص، وإنما هي أمثال تضرب للناس ليتخذوا مما يروى لهم عبرة وليهتدوا إلى صراط مستقيم؛ ولذلك فقد يرى الناقد المحترف أن القصة القرآنية بعيدة عن قواعد القصة العادية؛ لأن الموعظة فيها تقترن بالعرض. وهذا الناقد إن فعل يكون مجانبا للصواب، مجافيا للنظرة المتعمقة؛ فالقصة التعليمية مذهب فني معترف به لا يحتاج إلى تأكيد وجوده. والقصص القرآني قصص من نوع خاص؛ فهو ليس فنا خالصا يقدمه صاحبه لا يعنيه فيه الجانب الخلقي. إنما قصص القرآن قصص صاغها الله سبحانه وتعالى لتكون مثالا للناس. والقصصي الملتزم، وأغلب القصاصين الآن ملتزمون لا يلقون بقصتهم لمجرد التسلية وإزجاء الوقت؛ فهم إن فعلوا أصبحوا أشبه ما يكونون بجدات الأطفال يهدهدن فراشهم بالحدوتة ليسلوا الأطفال إلى نوم هنيء.
القصاص الجاد لا بد أن يقول قصته ليقول بها شيئا، مهما يكن هذا الشيء قد يدعو إلى تحطيم الأخلاق، أو قد يدعو إلى إكبار الأخلاق. وبعض القصاصين يحبون أن يظهروا بمظهر المتحررين من كل قيد، فيدعون بقصصهم إلى التمرد، ظانين أن الحرية تمثل في التمرد. إنهم صغار، ولكنهم مع ذلك ملتزمون. وهنا يختلف القصاص البشر عما هو تنزيل من عزيز حكيم؛ فقصص القرآن بطبيعة الحال لا بد أن تكون المثل الأرفع في الخلق والإيمان.
فإذا نحينا إذن جانب الموعظة التي يجملها القرآن في أغلب الأمر حين يختم قصته. وإذا اعتبرنا أن هذا الحديث يساق إلى قوم القصة بالنسبة إليهم لم تكن تخرج عما يتناقله الرواة من أخبار العرب. بل إن القصة حتى يومنا هذا ما زالت غريبة في بلاد عربية كثيرة لا يعرفون مذاقها. إلا إذا تمثلت في إذاعية أو تليفزيونية أو فيلم سينمائي. إذا تذكرنا هذا جميعه، ونظرنا إلى العرض الفني في القصص القرآني لوجدنا عجبا. ولا عجب؛ فإنه تنزيل من السماء. إنما العجب هنا من الإعجاب. إن الغرض القصصي في القرآن الكريم يتمشى مع أحدث ما وصل إليه الفن القصصي. وحتى نستطيع أن نتصور هذا دعونا نلق نظرة إلى الكتاب الخالد.
هذه قصص قصيرة، منها قصة تطالعنا في سورة الأعراف:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (من سورة الأعراف: من آية 59-64).
أرأيت كيف قدم القرآن قصة نوح جميعا في هذه الأسطر القلائل؟ ثم أرأيت كيف روى قصة الطوفان في كلمات لا تكاد تزيد على العشر؟ فهو لم ير داعيا أن يروي القصة جميعا وهي واردة في سورة أخرى. وهكذا ألمح إليها فأجملها إجمالا يوشك ألا يحتاج إلى تفصيل. إن الروعة هنا في اختيار الكلمة المؤدية. لا تستطيع كلمة غيرها أن تحل محلها، وكأن الكلمة قد خلقت لتكون هنا أولا، ثم لتؤدي بعد ذلك ما تشاء من وظائف. ثم انظر كيف انتقل بعد ذلك مباشرة إلى قصة أخرى في روعة آخذة عجيبة.
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء
1
الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين
ناپیژندل شوی مخ
صدق الله العظيم (سورة الأعراف: من آية 65-72).
تبدأ الآيات بقوله تعالى
وإلى عاد أخاهم هودا
إنه سبحانه لا يحتاج هنا إلى كلمة وأرسلنا؛ فهو سبحانه يخاطب قوما ذوي عقول (والكلمة الزائدة تقول لسامعها أنت غبي). وهذه قاعدة من أهم قواعد الأعمال الفنية جميعا، وخاصة القصة الحديثة التي تخلصت أخيرا من تفاصيل الواقعية الطويلة الكثيرة الجمل والأوصاف التي كانت تقول شيئا، ولكنه شيء في غاية الضآلة إذا قيس بطول الحديث الذي يقول هذا الشيء.
أصبحت القصة الآن تكتفي بالإشارة السريعة. أما في المسرح فالقاعدة المعروفة أن الجملة الحوارية لا بد أن تتقدم خطوة بالمسرحية، فإن لم تتقدم هذه الخطوة فلا داعي لها.
فالله سبحانه إذن في هذه الآيات يرسلها في إيجاز فني يطابق أحدث ما تطورت إليه القصة، وأعرق ما عرف عن المسرح الحديث.
وإذا قرأنا قصة نوح، ثم قصة هود كما جاءتا في سورة الأعراف، وإذا سرنا مع بقية الآيات بعد ذلك، ورأينا القرآن الكريم يروي معنى هذا النحو في قصة صالح مع قومه ثمود وقصة شعيب مع قومه مدين، لخرجنا بقصة أخرى عجيبة لم تذكرها الآيات في صريح نصها، وإنما ذكرها هذا التتابع في القصص لمن اختاره سبحانه وتعالى ليروي قصصه من رسله وأنبيائه الصالحين. وإنها قصة البشرية جميعا، وإنهم جميعا أقوام كذبوا ما جاء لهم من السماء، فحق عليهم العذاب . إنها البشرية في جهلها وعمايتها واستكبارها الكاذب. وإنهم الرسل والأنبياء في جهادهم في سبيل الله .. سبيل الحق، وفي سبيل هداية البشر، ولكن البشر لا يهتدون. وفي قصة البشرية هذه التي تتخفى وراء ظاهر النص في هذه الآيات روعة فنية قصصية لا نستطيع إلا أن نعجب بها، ولا نعجب لها؛ فإنه تنزيل من عزيز حكيم.
وحين يورد القرآن قصة نوح في سورة هود نرى الإعجاز أروع ما يكون الإعجاز؛ فالتفصيل حيث لا بد من التفصيل، والإيجاز حيث لا بد من الإيجاز. إنني أوشك أن أعتقد أن الذين أنشئوا فن القصة في الغرب قرءوا هذا القرآن وتعلموا. وإذا تركنا السرد ونظرنا إلى الألفاظ وكيف هي مطمئنة في مكانها، تهدد فترجف الأفئدة وتهلع النفوس، وتسارع إلى مغفرة من ربها عسى أن يهديها إلى صراط مستقيم.
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم
صدق الله العظيم (من سورة هود: من آية 36-39).
ناپیژندل شوی مخ
أنرى إلى بداية هذه الآيات وكيف يواسي الله نبيه، ثم كيف ينتقل بعد ذلك من حدث إلى حدث، في سرعة خاطفة وفي ترابط داخلي للحدث دون ترابط لفظي.
اصنع الفلك
هذا حدث، ثم ينتقل فجأة إلى أمر فيه حدث كبير. أنا أعلم يا نوح أنك تريد أن تتشفع عندي لقومك أو لبعض منهم، لا تفعل ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. ثم يروي سخرية الناس من الفلك. ثم نصل إلى رد نوح على الساخرين، ويكاد هذا الرد يكون نوعا من تيار الوعي؛ فهي إجابة قد يقولها نوح بصوت مسموع أو يقولها لنفسه. وفجأة وفي فنية إلهية معجزة تصل إلى قمة الأحداث فتتواكب الآيات، في كل جملة قصة بأكملها.
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء
2
وقضي الأمر واستوت على الجودي
3
وقيل بعدا للقوم الظالمين
صدق الله العظيم (سورة هود: من آية 40-44).
أرأيت عرضا فنيا أروع من هذا العرض؟! ما أعظم حظ الآباء الأوائل الذين استقبلوا هذه الآيات في نزولها الأول! لقد رأوا السينما قبل أن يعرف العالم السينما .. صور متتالية سريعة متلاحقة تنبهر لها النفس، وتخفق القلوب، ويشتد الوجيب، ويعلو النبض، وتروغ الأعين، وتحار البصيرة، ويريم الخيال، ويعمل التصور. ونرى السينما في جرس من اللغة هي الموسيقى العنيفة الرائعة، فلا السيمفونية ولا شيء مما يدعون.
ناپیژندل شوی مخ
انظر إلى قوله:
احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك .
هل رأيت أجمل من كلمة أهلك هنا؟ همسة جامعة قصيرة. لم يقل قبلها واحمل أهلك. أو لا بأس عليك أن تحمل أهلك. إنها مجرد كلمة أهلك ثم يستثني (إلا من سبق عليه القول). ليس كل من أهلك إذن، فالضالون لا توجه إليهم الدعوة، وإنما دعوة للمؤمنين من أهلك ومن غير أهلك أيضا.
ثم انظر إلى قوله:
إلا من رحم وحال بينهما الموج .
إن كلمة رحم هنا جملة ناقصة وكاملة في الوقت نفسه؛ فكأنما كان نوح يريد أن يقول إلا من يرحم. ولكن حال الموج فاكتملت الجملة ولم تكتمل. أليس هذا هو الإعجاز؟ تلك هي قصة نوح الذي كلفه بهداية قومه، فما شأن نوح الإنسان الذي لم يستطع أن ينقذ ولده؟
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم
صدق الله العظيم (من سورة هود: من آية 45-48).
يسأل نوح ربه في شأن ابنه فيجيبه سبحانه وتعالى أنه ليس من أهلك. إنه عمل غير صالح. ويترك سبحانه الإيجاز هنا ليواسي نبيه، وينزل السكينة على قلبه. ثم تتتابع الآيات لتنتهي إلى هذه الأمم التي ستنال المتعة وتنال العذاب .. إنها أمم تعيش الحياة. وما الحياة؟ أليست هي المتعة، وهي العذاب؟
الهيكل الفني في قصة يوسف
ناپیژندل شوی مخ
لعل سورة يوسف هي خير مثال للفكرة التي نحاول أن نبلورها من خلال استقراء القصص القرآنية؛ فالقرآن في هذه السورة يصارح بأنه يقص القصص.
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (من سورة يوسف: آية 3).
فالقرآن إذن يقص القصص ليصحو الغافل. وما أعظم النقلة بعد هذه الآية:
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (من سورة يوسف: آية 4).
من القواعد القصصية المعروفة أن القصة يجب ألا تفاجئ القارئ؛ فلا بد لكل حدث من تمهيد يسبقه. وأحسن ما يكون التمهيد إذا كان غير واضح. إذا التأم في نسيج القصة بحيث لا ينبئ عما يمهد له. حتى إذا وقع الحدث تنبه القارئ إلى هذا التمهيد فتذكره. والحلم هنا خير تمهيد للأحداث التي جرت بعد ذلك، بل إن الآيات لا تكتفي بهذا، وإنما تمضي قدما.
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (يوسف، آيتا 5، 6).
في هذه الآيات القليلة عرفنا أن إخوة يوسف على استعداد أن يكيدوا، وأن يوسف من آل يعقوب. عرفنا معنى الحلم وما سيصير إليه أمر يوسف من بعد. وفي هذه اللمحة قمة التشويق، وإن كنت عرفت حقيقة ستأتي فيما بعد؛ ذلك أن القارئ سيقرأ ليعرف كيف وصل يوسف إلى معرفة تأويل الأحلام والحكمة. كما سيقرأ ليعرف كيف انتفع بعلمه هذا. ولو كان القارئ يقرأ لقصاص عادي لقرأ ليعرف إن كان هذا التنبؤ قد تم أم لا. كل هذا يشوق القارئ فيمضي في قراءة القصة في لهفة. وقد حاول بعض من كتاب القصة المتحدثين في الغرب أن يلغوا فكرة التشويق فانهارت القصة، وفرض عليهم التشويق نفسه كعنصر أساسي من عناصر العرض الآتي:
ولعل ألبرتو مورافيا هو أهم قصاص حاول تحطيم التشويق في رواية له، ومورافيا كاتب عالمي، وكل أعماله تحقق نجاحا عالميا منقطع النظير، ولكنه في هذه الرواية بالذات التي حاول أن يحطم فكرة التشويق باء بفشل لم يصادفه في كل أعماله التي قدمها وهو في قمته، فالتشويق إذن كان وما زال من أهم عوامل القصة، وهو أروع ما يكون إذا سيطر على الرواية أو القصة دون افتعال من المؤلف أو من الأحداث.
انظر معي إذن هذا التشويق في قمته حين اجتمع إخوة يوسف:
إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب
ناپیژندل شوی مخ
1
يلتقطه بعض السيارة
2
إن كنتم فاعلين (سورة يوسف: من آية 8-10).
أرأيت المؤامرة كيف دبرت. أنت بطبيعة الحال تعرف القصة، ولكنك مع ذلك مشوق أن تعرف كيف سارت الأمور بعد ذلك. أنت بطبيعة الحال تعرف القصة، ولكنك لا شك واجف على يوسف، مشفق عليه. أتستطيع أن تتصور نفسك من المسلمين الأوائل متحلقا مع صحبك حول النبي تستمع. ماذا أنت فاعل حين يسكت النبي عند هذه الآيات؟ لا شك أنك ستظل ساهرا الليل والليالي حتى يصل الوحي ما انقطع من القصة، لتعرف ماذا تم بشأن يوسف. وأنت يومذاك لا تعرف يوسف. وأنت يومذاك لم تسمع به قبل، ولكنك حين تسمع هذه الآيات يصبح يوسف جزءا من حياتك، تذكره في مضطرب يومك. وفي هدأة ليلك، وتريد أن تعرف ماذا فعل به إخوته .. هل قتلوه؟ هل ألقوه في غيابة الجب؟ هل التقطه السيارة؟ هل نجا؟ هل مات؟ لقد أصبحت شخصية يوسف شخصية حية في محيط حياتك، تعرفها وتناجيها وتسألها لعلها تجيبك.
ثم أرأيت الأسلوب الفني في العرض؟ أبونا يحب يوسف .. اقتلوا يوسف .. مقدمة ونتيجة .. جملة حوار أعقبتها جملة أخرى .. قال الإخوة جميعا الجملة الأولى. أما الثانية فلم تذكر الآية قائلا لها. ولكننا نحس أنها رغبة الإخوة جميعا .. إلا أن واحدا منهم هو أكثرهم تعقلا .. لا تقتلوا يوسف .. إنه حوار قصصي في قمة الحوار القصصي. ماذا بعد هذه المؤامرة؟
قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (سورة يوسف: من آية 11-14).
انتقلت القصة نقلة سينمائية مباشرة من تدبير المؤامرة إلى تنفيذها، وانتقل السر دون أي إطالة إلى الأب، ويحذرهم الأب، ولكنهم خبثاء يمكرون، فهم يظهرون الحب لأخيهم. يريدون أن يرتع ويلعب وهم له لحافظون. والأب أب للجميع، تراوده الهواجس، ولكنه مع ذلك يتمنى أن تكون هواجس كاذبة، ويتمنى أن يحب الإخوة أخاهم الذي يكن له الحب والأثرة، وهكذا تنتقل الآية في نقلة سينمائية أخرى.
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (سورة يوسف: آية 15).
تمت المؤامرة إذن، ولكن الله اللطيف بمن يجتبيهم يوحي ليوسف أنك ستنبئهم بأمرهم هذا. إذن فقد اطمأن يوسف أنه سيعيش، فلا خوف إذن ولا هلع، بل لقد بشره ربه أنه سينبئ إخوته بهذا الذي صنعوا دون أن يتوقعوا.
ناپیژندل شوی مخ
ونترك يوسف تركا فنيا شائقا رائعا لنرى إلى الإخوة ماذا صنعوا مع أبيهم.
وجاءوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (سورة يوسف: آية 16-18).
وتترك القصة الأب مطمئنا إلى عدل ربه، والها على بعاد ابنه الأثير، ونرجع مرة أخرى إلى يوسف في غيابة الجب.
وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم
3
فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (سورة يوسف: من آية 19-20).
في هذه الآيات نرى قاعدة من أم القواعد القصصية، فهؤلاء الأشخاص الذين التقطوا يوسف وباعوه نكرات مسرحية؛ ولذلك لم تهتم القصة بذكر شأنهم؛ من هم، وماذا كانوا يفعلون ولم ذهبوا إلى مصر. كل هذا لا يهم القصة، فهي لا تذكر عنه حرفا. إنهم نكرات كان دورهم أن يصلوا بيوسف إلى مصر. وقد فعلوا. إنهم أداة للحدث .. لا تؤثر شخصياتهم في الحدث ذاته .. فالقصة إذن تهملهم وتمر بأمرهم عرضا دون إطالة أو بحث، وكانوا فيه من الزاهدين. في هذه الكلمات القلائل قمة من القمم الفنية. إنهم زاهدون فيه لأنهم لا يعرفون قيمته، شأن الجاهل إذا وجد جوهرة من الماس، وظن أنها من الزجاج، فهو فيها زاهد وهو يبيعها بثمن بخس. مفارقة فنية بارعة؛ فلو كان هؤلاء السيارة يعرفون قيمة يوسف وما سيصير إليه أمره لما اكتملت القصة. لو كانوا يعرفون مكانة يوسف هذا عند أبيه لرجعوا به إليه، ولما اكتملت القصة، وإنما هم فيه زاهدون.
أين استقر المقام بيوسف .. ما مصيره؟
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه
4
ناپیژندل شوی مخ
عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (سورة يوسف: آية 21).
أترى هذا الإجمال؟ ألا يشوقك أن تعرف كيف انتفع يوسف بتأويل الأحاديث، وماذا سيكون من أمره في هذه البلاد؟ أنت تعرف القصة، وأنا أعرفها، ولكن لا شك أن كلينا يريد أن يعرف. إنه الفن في قمة روعته.
أستغفر الله. إنما الفن قد يكون عمل البشر، إنما هذا هو الإعجاز. ومن أعظم إعجازا من الله العلي الكبير؟ •••
في انتقالة سريعة وامضة تنتقل قصة يوسف إلى فترة زمنية أخرى، انتقالة أشبه ما تكون بالنقلة الفيلمية، أو بالنقلة القصصية الحديثة.
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين * وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك
5
قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون .
وفي انتقالة سريعة وامضة أخرى ذهبنا إلى قصة جديدة. إنها حياة عريضة مليئة بالمغامرات يخوضها سيدنا يوسف وتقدمها لنا قصته القرآنية في تشويق أخاذ. لو أن قصصيا اقتبس هذه القصة لاستطاع أن يسميها مغامرات يوسف، ولاستطاع دون جهد يذكر أن يجعل منها فيلما سينمائيا رائعا .. ماذا فعل يوسف؟ انظر معي:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين .
إن العرض القصصي هنا في قمته .. فأروع ما في العرض القصصي السرد الفني. وقد كانت السورة خليقة أن تستر على يوسف أنه هم بها، ولكن الله سبحانه يريد أن يقول لعباده إن يوسف كان إنسانا مثلكم، يهم بالخطيئة شأن الإنسان .. ثم يرجع عنها شأن الصالحين. في هذه الجملة روعة فنية وكشف نفسي عميق؛ فهي تجعل القارئ يطمئن أنه أمام شخصيات تحيا وتعيش مثل حياة الناس وعيشهم، يهمون بالخطأ، ويوشكون أن يقعوا فيه، ثم يرتدون عنه. إن لم يفعلوا ذلك كانوا ملائكة. والله سبحانه وتعالى لا يريد أن يقص علينا قصص الملائكة، إنما يريد أن يروي لنا قصص ناس مثلنا يجري عليهم ما يجري علينا من مشاعر ومن أخطاء ومن رغبات. إن قصص الملائكة لن تجدينا في شيء. فإننا سنقول في أنفسنا. وأين نحن من الملائكة؟ أما قصص الناس فإنها تغرينا أن نتشبه بهم حتى وإن كانوا أنبياء. لنمض إذن مع قصة هذا الإنسان.
ناپیژندل شوی مخ
واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر
6
وألفيا
7
سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم .
في هذه الآية قاعدة قصصية يقدمها القرآن في روعة فنية أخاذة. وقدت قميصه من دبر إذا قرأت هذه الجملة دون أن تكون عارفا ببقية القصة ما ألقيت أدنى اهتمام، إنها كلمات ألقيت، وكأنما ألقيت عن غير عمد. هذا هو التمهيد الفني للحدث في أروع صوره. ثم أرأيت إلى المفاجأة الواقفة عند الباب؟ تصورها إذا كنت تقرأ هذه القصة دون أن تكون عارفا ببقيتها .. زوجة تراود رجلا عن نفسه .. ثم تفاجأ بزوجها عند باب الغرفة المغلقة. مفاجأة آخذة لا تكاد تفيق منها. حتى تشدك مفاجأة أخرى أقسى وأنكى .. ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. إذن فقد ألقت التهمة جميعها على يوسف في سرعة خاطفة؛ فلم يقل القرآن فكرت ماذا تفعل، أو حاولت في أمرها وأمر ذلك الرجل معها. لم يقل شيئا من هذا، وإنما صك النفوس بالتهمة في مفاجأة فنية مذهلة. وتمضي القصة بعد ذلك في فنية بارعة، وفي إيجاز أعجب.
قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .
أرأيت محاكمة الدليل فيها قاطع مثل هذا .. ثم أرأيت الكلمة التي ألقيت إلقاء وكأنها غير متعمدة ماذا أصبحت الآن؟ إنها براءة يوسف مما وجه إليه من اتهام. ثم أرأيت الحكم الذي أصدره الزوج كيف كان مانعا جامعا؟ إن كيدكن عظيم .. حكم أطلق في وجه النساء جميعا .. غير مخصص للزوجة الخائنة.
وحين تثير نسوة المدينة حديث زوجة العزيز ويوسف تدعوهن:
فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا
ناپیژندل شوی مخ
8
وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم .
براعة في السرد معجزة .. هل سمعت في السورة من أولها إلى أن بلغت هذه الآيات أن يوسف جميل .. أو على شيء من الوسامة؟ لم تذكر السورة شيئا. ولكن كيف قدمت لك السورة هذه الحقيقة قدمتها صورة مرئية متحركة أخاذة تحمل الدليل الذي لا يستطيع أي كلام أن يصفه .. لقد قطعت النسوة أيديهن؛ فهن إذن في ذهول عن أنفسهن وفي ذهول عما حولهن .. فالجمال الذي أمامهن إذن جمال لا يحيط به وصف .. وهل هناك وصف أروع من هذا أو أصدق؟ •••
وننتقل بعد ذلك إلى مغامرة أخرى من مغامرات يوسف:
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين .
إذن فقد عدنا إلى تأويل الحديث، ذلك الذي بدأت به الآية .. ألست الآن مشوقا أن تعرف كيف انتفع يوسف بهذا العلم؟
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم
9
لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون .
وتمضي الآيات حتى يقول سبحانه عن لسان يوسف:
ناپیژندل شوی مخ
يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان * وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين * وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون .
أرأيت كيف إذن مهد السبيل أن يرجع يوسف إلى الملك؟ لقد نسي من نجا أن يذكره حين نجا، ولكن الرؤيا تذكره، ويسأل يوسف، ويجيب يوسف الصديق:
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد
10
يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون
11 * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث
12
الناس وفيه يعصرون .
لقد أفتى يوسف، ولكن يوسف يصر أن يعرف الملك الحقيقة من أمره؛ فقد دخل السجن متهما من زوجته ومن النساء الأخريات.
قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص
ناپیژندل شوی مخ
13
الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين .
لقد رأت النسوة، ورأت امرأة العزيز أن الأمر أصبح جدا لا هزل فيه، وأن الشعب كله مهدد بمجاعة إذا لم يأخذ الملك قول يوسف أخذ صدق .. فلا بد إذن تصيح: الآن حصحص الحق.
وترفع عن يوسف تهمة الخيانة .. ويمضي يوسف إلى عهد جديد من حياته، ونسير معه في هذه القصة الأخاذة المعجزة في عرضها. وإن لم يكن القرآن معجزة، فما المعجزة؟
ماذا فعل الملك حين علم الحق من أمر يوسف؟
وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين
14
أمين * قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين .
في كلمات قلائل أصبح يوسف على خزائن الأرض .. ولكن أرأيت كيف ألقيت إليك هذه الآيات؟ طلب يوسف أن يكون على الخزائن، وأبدى السبب القوي .. إنه حفيظ عليم؛ أي إنه يريد الخير لهذه الخزائن وللناس .. ثم لا نسمع ردا من الملك، وإنما يقول جل وعلا في جملة إخبارية تبدو كأنها بعيدة عن الخزائن نفسها إنه يريد أن يقدم الحكمة من كل ما مضى من أحداث ليوسف .. وكذلك مكنا ليوسف .. أعطيناه ما يستحقه من تكريم .. ومن هذه الجملة تعرف أنه أصبح على خزائن الأرض دون أن يذكر ذلك صراحة.
وتنتقل السورة فجأة إلى أمر كنا أوشكنا أن ننساه .. ماذا فعل إخوة يوسف؟ ماذا كان من شأنهم وشأن أبيهم؟
ناپیژندل شوی مخ
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون .
أتراك ترى الإعجاز الفني في هذه الآيات؟ لقد ذكرت السورة في أولها أن هناك أخا شقيقا ليوسف لم تذكره السورة بعد ذلك أبدا. حتى لتعجب ما الداعي إلى تخصيص ذكره. ولا يلبث عجبك أن يزول حين تجد يوسف يسأل إخوته عن أخيه هذا الشقيق .. أتراك تذكر هذا الأخ؟ وما لنا لا نقرأ السورة من أوائلها، ونتذكر تلك المؤامرة التي دبرها هؤلاء الإخوة؟ ألم يقولوا آنذاك:
إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين .
أذكرت الآن ذلك الأخ؟ وفي إعجاز رائع وذكاء قصصي فريد يريد يوسف أن يرى أباه وأخاه، ويريد إخوته هؤلاء المؤتمرون أن يعرفوا حقيقته. فهو لا يطالعهم بهذه الحقيقة في جملة إخبارية ساذجة .. وإنما يسألهم عن أخيهم من أبيهم، ويهددهم إن لم يأتوا به فلا كيل لهم عنده، ولا هو يسمح لهم بأن يقتربوا منه .. ويعرف الإخوة أنهم أصبحوا في مأزق؛ فإن أباهم لن يسمح لهم أن يأخذوا الأخ الثاني أيضا .. ماذا يفعلون؟
قالوا سنراود عنه أباه
15
وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون * فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .
انظر إلى يوسف الذي يعرف إخوته ويعرف أباه .. لقد وضع لهم كيلهم في رحالهم، وهو يعلم أنهم مع ذلك سيعودون، ويعرف أن أباه سيمنع أخاه، ولكنهم سيجدون وسيلة لإقناعه .. انظر معي:
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير
16
ناپیژندل شوی مخ
أهلنا ونحفظ أخانا ..
إنها شخصيات بشرية تمور بالحياة. تلك هي الشخصية القصصية المكتملة لا تجد فيها اضطرابا فنيا .. أو تناقضا في السلوك .. إن الإخوة الطامعين الذين تخلصوا من أخيهم حتى يخلو لهم وجه أبيهم هم أنفسهم الذين يحاولون أن يصحبوا أخاهم الثاني ليزداد لهم الكيل؛ فهم غير راضين عما أصابوا، ولكن ما رأي الأب؟
قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم
17
فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل .
ويعود الإخوة كما توقع يوسف .. ويقرب يوسف أخاه ويؤمنه ويخبره أنه أخوه. وفجأة يواجه الإخوة حدث جديد .. مهد له العزيز يوسف بطمأنة أخيه .. دون أن يطمئن إخوته.
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير
18
إنكم لسارقون .
مفاجأة قصصية عجيبة، وجديدة على مسار القصة .. ويفتشهم العمال باحثين عن صواع الملك الضائع .. فإذا بالصواع في رحل أخي يوسف .. ويسقط في يد الإخوة.
ناپیژندل شوی مخ
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون .
إذن فقد نزلت الطامة. ويتشاور الإخوة فيما يفعلون، فيقول كبيرهم إنه سيبقى إلى جانب أخيه. وعليهم هم أن يخبروا أباهم أن ابنه قد سرق، وأن هذا لم يكن في حسبانهم، ولكن هيهات.
قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم
19 .
وهكذا تبلغ القصة قمتها وتكتمل المأساة .. وأسهل شيء في القصة أو الرواية عند السرد هي القمة أو المأساة، وأصعب شيء هو بلوغ هذه القمة. كيف يستطيع الراوي أن يصل إليها في فنية وبراعة دون قفزات متكلفة لا تمهيد فيها ولا معقولية. إن البلوغ إلى القمة هو أصعب شيء في القصة وفي الحياة جميعا.
وحين يصل الروائي إلى القمة تواجهه صعوبة أخرى. كيف يصل من هذه القمة إلى الحل؟ هذا هو إعجاز القرآن. أما في القصة الكاملة فلا بد أن يكون الكاتب روائيا متمكنا لا تفلت منه الخيوط، ولا تنساب من بين يديه الشخصيات لتضرب في ظلام دامس من اللامعقولية والتخبط.
أعود فأكرر أنني أشك كثيرا أن يكون الغرب بمنأى عن هذه القصص القرآنية. لعل التاريخ قد أهمل .. وكم أهمل التاريخ .. فلم يذكر لنا أن القرآن قد ترجم إلا في العصر الأخير. وإلا فكيف استطاع أولئك الروائيون الذين أنشئوا فن القصة أن يضعوا هذه القواعد، فإذن هي منقولة عن القرآن وقصصه نقلا يوشك أن يكون حرفيا. نعرف أن القرآن قد ترجم وأفاد منه تولستوي الذي كان يعرف العربية، ولكني أعتقد أنه ترجم قبل أن يعرف فن الرواية جميعا.
سيروا بنا مع خاتمة قصة يوسف لنرى كيف أخذت قواعد القصة من العرض الفني لقصص القرآن.
في غمرة من يأس الأب على فقد ولديه يقول لبنيه:
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
ناپیژندل شوی مخ
إذن فالأب لم ييئس أن يلقى يوسف؛ فإنه لا ييئس من روح الله إلا الكافرون. والآية التالية مباشرة تنفيذ لرغبة الأب.
فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة
20
فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .
أرأيتم كيف تجمع القصة الخيوط لا تفلت منها شيئا. لقد غفر الأخ لإخوته عن خطئهم، ولم يبق إلا الأب. هيا بنا لنرى ماذا يكون من شأنه.
اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين * ولما فصلت العير
21
قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم .
أتراك ترى مثلي هذا التمهيد الرائع للحدث عند الأب. وترى معي هذه السخرية التي تجعلك تتشكك في وقوع الحدث. ولا تنتظر السورة بعد ذلك .. بل تصك المستقبل بالمعجزة في قوة فنية فائقة.
فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون .
ناپیژندل شوی مخ
لقد وقعت المعجزة .. وآن للأب أن يقول لقد كنت أعلم ما لا تعلمون .. وتمضي الآيات بعد لتلم الأسرة التي ظلت متفرقة حينا من الدهر.
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ
22
الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم .
وهكذا تستدير القصة .. وتعود نهايتها إلى أولها، إذ قال يوسف لأبيه:
يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
صدق الله العظيم.
جاذبية التشويق في قصة الخليل
في لون آخر من القصص المعجز نجد قصة إبراهيم عليه السلام. دعونا نعجب معا من السرد الفريد الرفيع الذي قدمها به القرآن الكريم.
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (سورة الأنبياء: من آية 51-75).
ناپیژندل شوی مخ