ولما اقترب الليل من منتصفه اقترح أخي أن نبيت ليلتنا بالبيت؛ لكن أمي آثرت أن نعود إلى بيتنا على أن نرجع مع الصباح. وبذلك غادرنا البيت القديم وسرنا جنبا إلى جنب صوب المحطة، وحدثتني في الطريق قائلة: أما كان الأفضل أن تبقوا على البيت.
فقلت بدهشة: وماذا نصنع به؟ إنني في أشد الحاجة إلى نصيبي من ثمنه!
فقالت: حسبك راتبك الشهري، أما هذا القدر الكبير فما أدري والله ما حاجتك إليه؟!
ترى هل استشعر قلبها خوفا؟! وساورني القلق والاستياء، واختلست منها نظرة؛ ولكني لم أتبين في الظلمة ما يبدو على وجهها، وواصلت حديثها قائلة في لهجة تنم عن الإشفاق: إياك وأن تفرح لموت أحد! لا تذكر أباك من الآن فصاعدا إلا دعوت له بالرحمة، فما أحب لك أن تسر لموت إنسان مهما كان هذا الإنسان!
عجبت لهذا الكلام يلقى علي من الفم الذي بث في المقت لأبي، لكن لم يخطر لي على بال أن أذكرها بهذه الحقيقة العجيبة. ثم عدنا إلى بيتنا دون أن ينبس أحدنا بكلمة.
33
لم أعد الفقير المعوز الذي كنت .. رفع عن كاهلي عبء الحاجة والحرمان، غدوت ذا دخل لا بأس به، غير الثروة التي ستوافيني في خلال شهر أو شهرين، ولكن مسني جنون لم يكن لي به عهد؛ جنون محب لا يقعده الفقر! كان لي من الفقر رادع يحد من طموحي، ويجعل من حبي حسرة طويلة منطوية في ذات نفسي، ولذلك سلمت بالهزيمة حيال منافسي محمد جودت دون مكابرة، وانطلقت في الطريق أنشج كالأطفال، فلما قتل الفقر غدا الحب مطمعا غير محال. فتناسيت العوائق الأخرى، وركبني جنون جديد؛ جنون من تبدو له السعادة ممكنة، ولا يحول بينه وبينها إلا أن يتغلب على خجله فيقتحم سبيله ويجرب حظه. لزمت المحطة طويلا في عصر اليوم التالي للوفاة، وجعلت أتطلع إلى النافذة المحبوبة برغبة جنونية، ما عدت أرى حبيبتي، وما أدري إن كان الذي أخشى قد وقع، ولئن كان فلن أجني من ثروتي إلا السم الزعاف، ولكن هبها لاحت وراء النافذة فما عسى أن أصنع؟! هل تواتيني الشجاعة على أن أومئ لها بطرف خفي؟ .. لشد ما ينقبض قلبي خوفا وجفولا! لست من ذلك في شيء .. لو كان بي ذرة من شجاعة لاقتحمت باب العمارة دون تردد ولاستأذنت في مقابلة البك وعرضت عليه ما يجول بخاطري. هل يعد هذا من الخطورة بحيث يستدعي كل هذا الخوف؟ وهبه على أسوأ فرض قد اعتذر من عدم القبول، فلماذا أعد هذا الرفض أشد من الموت وأقتل من القتل؟! .. لماذا لا يكاد يجول بخاطري حتى أتصبب عرقا ويتنزى قلبي في صدري؟! يا ألله! .. أما يتزوج الناس كل يوم بالعشرات والمئات؟! .. كيف يتلمس الأزواج الوسائل ويقتحمون السبل؟! ليس بيني وبين مبتغاي إلا أن أطرق هذا الباب. فإما سعادة الأمل أو راحة اليأس، فإلام أتردد وأحجم؟! إنه بيت وليس بحصن، وإني طالب زواج ولست بعدو، فلماذا أخاف كل هذا الخوف؟! ليست غايتي أن أغزو قارة ولا حتى أن أخوض معركة، ليس المطلوب أن أكون نابليون أو هانبيال، لا يعدو الأمر أن أقدم نفسي، وأن أعرض سؤالي، وأنا محوط بالرعاية التي يتلقاها ضيف من مضيف كريم، ثم ليكن الجواب ما يكون فما يجاوز على أسوأ حال الاعتذار الرقيق! قلت هذا لنفسي في يسر وتأنيب؛ ولكن ما إن تجسم لي الخيال حتى التهب مني الجبين واشتدت ضربات قلبي، وأحسست رعدة تسري في أطرافي، وحضرتني بغتة ذكرى ساعة الخطابة المشئومة بكلية الحقوق التي طوحت بي بعيدا عن الجامعة، فتنهدت من الأعماق في قنوط قاتل. إن الإقدام فوق طاقتي، وربما كان بوسعي أن أقضي العمر على هذا «الطوار» باكيا، أما عبور الطريق وطرق الباب فما لا أستطيع. وبلغ مني الهلع أن انقلب القلق الذي يساورني حمى تحرق القلب والرأس، ثم انقضت أيام قلائل عشتها فيما يشبه الهذيان، نسيت الثروة التي وقعت علي .. خمد حماسي للحياة والأمل، وتركز تفكيري في شيء واحد لا يتحول عنه، جعلت أدور حوله دون أن أجرؤ على الدنو منه، أو أستطيع الابتعاد عنه، ووجدت على أمي وجدا لم أحاول إخفاءه، فقلت لنفسي في حنق بالغ: لو لم أخشها لبعثتها تخطب لي وتكفيني شر الحمى التي تسعر في كياني.
متى تنقشع هذه الغمة؟ لم أكن لأرى لها من نهاية لولا حادث عارض! كنت عائدا من الحلمية، فنزلت في العتبة حين الغروب، وصعدت إلى ترام الجيزة الذاهب عن طريق الروضة كالعادة. وكانت القاطرة مكتظة بالجالسين والوقوف، فرحت أتزحزح حتى أسند ظهري إلى باب مقصورة الدرجة الأولى. ولما غادر الترام الميدان بقليل سمعت نقرا على الباب فأدركت أن أحد الراكبين يستأذن لفتحه، فابتعدت عنه قليلا دائرا على عقبي لأفسح للقادم طريقا، وفتح الباب عن وجه أعرفه، رأيت أمامي حبيبتي دون غيرها! وثب قلبي وثبة عنيفة زلزل لها صدري، وغبت عن كل شيء في الوجود إلا هذا المنظر البهيج الذي ارتعدت له جوارحي فرحا وخوفا، ورفعت إلى وجهي عينيها عرضا فالتقت عينانا لحظة قصيرة، وبدا لي أنها ترددت قليلا على عتبة المقصورة، ولكن لم يكن وراءها موضع لقدم، فغادرت المقصورة على رغمها، والتمس بصرها فيما ورائي مكانا تقف فيه، ولكن كان تكتل الواقفين متماسكا، فاضطرت أن تحتل الموضع الذي كنت شاغله وأسندت ظهرها إلى الباب، ووقفت أمامها ممسكا بمقبض الباب، على مرمى الأنفاس منها، هي هي دون غيرها، جادت بها السماء لتبل جوانحي. من الحقائق ما هو أعجب من الأحلام، وهذه أعجب الحقائق. ماذا بي؟ .. ترى أهذا سرور أم خوف أم وقدة نار؟ لولا دقة الموقف وشدة حيائي لطاب لي أن أبكي! غبت عن كل شيء، فلم أعد أحس للناس وجودا على تكتلهم، وحتى حبيبتي نفسها لا أذكر لون فستانها ولا ماذا كان بيدها .. يبدو لي أن للقلب بصرا إذا اشتد تفرسه غطى على بصر الأعين، فينقلب الإنسان أعمى وهو بصير، ولا أدري كيف واتتني الشجاعة فاسترقت إليها النظر، ورأيتها فخفق قلبي بغير رحمة وهيأ لي أن وجودي هو الباعث على هذا التودد الفاتن وذاك الارتباك المليح، وتنهدت على رغمي فتموجت خصلة من شعرها لوقع أنفاسي، ورفعت إلي عينيها ثم خفضتهما بسرعة فرارا من عيني، آه .. عثرت أخيرا على من يفر مني! .. وشاعت في رأسي نشوة ألذ من نشوة الخمر وأحمى، وركبني جنون لا عهد لي به، فثبت على وجهها عيني في جسارة خارقة، بل هي بالنسبة إلي جنونية، ثم وثبت إلى شعوري رغبة غريبة أن أنطلق وأن أبوح بما يضغط أنفاسي، وازدردت ريقي في توتر عصبي عنيف، وجعلت أتحفز وأتوثب في قلق وهياج نفسي مروع، وأيدني الجنون الذي يضطرب في روحي، ودفعني ما عانيت في الأيام الماضية من لهفة قلق وقنوط، ثم تملكني إحساس يشبه إحساس المنتحر إذا تجمع للوثبة الأخيرة، وتحركت شفتاي بصوت خرج همسا قائلا: أريد أن أقول لك كلمة!
رباه .. ترى هل بلغ سمعها؟ .. أجل .. رمقتني بعين دهشة وقد تورد وجهها ورمشت عيناها!
ومر وقت قاس غليظ .. جف حلقي وتوالت ضربات قلبي في سرعة وعنف، أية هاوية أوردني جنوني؟ لقد هوى المنتحر وجاء دور الاستغاثة. مع ذلك داخلني ارتياح عميق لأني زحزحت أضخم سد اعترض حياتي. تكلمت .. نطق الحجر ولو بعد حين، لن أموت على أية حال وسري دفين صدري. ولكن الترام لا يمهلني طويلا، وإنه وشيك الوصول إلى محطة حبيبتي، وها هي ترمي بنظرها خلل النافذة، وها هي يدها تتلمس مقبض الباب لتفتحه، سينتهي كل شيء! وركبني الجنون تارة أخرى فشددت على مقبض الباب أمنع فتحه! من أين لي بهذه الجراءة؟! وبدا في الوجه الجميل الاستياء، ورمقتني غاضبة، فهمست برجاء كأنه البكاء: كلمة واحدة!
ناپیژندل شوی مخ