وضحكت متظاهرا بالاستهانة، فابتسم إلي، وقرأت في عينيه عدم التصديق، ثم بادرني قائلا: إنك جنتلمان كما قدرت، فأرجو أن تخبرني صراحة هل لك بالآنسة علاقة ما؟ إذا أجبتني بالإيجاب شددت على يدك مهنئا وانصرفت إلى حال سبيلي.
فقلت وقلبي يتقطع ألما: ليس لي بها أية علاقة.
فتردد لحظات ثم سأل في حرج غير قليل: ألم تفكر في طلب يدها؟
تناوبتني أحاسيس متباينة؛ شعرت أول الأمر بعذاب لا يوصف، ثم داخلني سرور خفي لأني أيقنت أن الرجل الذي يخاطبني رعديد مثلي، وإلا لشق طريقه إلى بيت حبيبتي دون أن يعبأ بي، بل أيقنت أنه يخافني، فأرضى ذلك غروري إرضاء خفف عني بعض ألمي. ثم وجدتني مدفوعا إلى الادعاء والكذب بقوة لا تقاوم، فقلت بيقين: لو فكرت فيما تقول لما منعني مانع من طلب يدها من زمن طويل!
وساد صمت .. ومضى يتفرس في وجهي وقد تألقت في عينيه نظرة ارتياح. أي مانع يمنعني؟ يا للسخرية! إن كل شيء يبدو كحلم غريب، هل حقا نحن نتكلم عن حبيبتي؟ وهل حقا أني لم أفكر في طلب يدها وليس لي من رغبة في ذلك؟ رباه ما أشد عذابي! وتملكني شعور باليأس لم أشعر بمثله طول حياتي الحافلة باليأس. وأخيرا خرج «البك» من صمته قائلا: أكرر المعذرة عن تطفلي .. الحق أن نيتي قد صدقت أخيرا على طلب يد الآنسة بعد أن زالت من طريقي أسباب صدتني طويلا عن التفكير في الزواج، وبدا لي أن أحدثك به حتى لا أضع رجلي في غير موضعها، والآن لا يسعني إلا شكرك.
إنه من فصيلة العجزة - هكذا حدثني قلبي - إلا أنه صادف من هو أعجز منه، فهو سعيد الحظ بلا ريب. فلم يعد لبقائي من مسوغ، فنهضت مستأذنا في الانصراف وأنا أقول: مبارك يا سيدي.
فنهض في أدب، وبسط لي راحته، وشد على يدي بامتنان فخلته يشد على عنقي، وشعرت نحو السرور الضاحك في عينيه بحقد ناري، ثم ودعته وغادرت المشرب. وساقتني قدماي على غير هدى فاستسلمت لهما؛ لأنه لم يكن لي غاية أقصدها، وأخذت نفسا عميقا وقلت لنفسي: الحمد لله. وأعدت القول بصوت مسموع كأني أهنئ نفسي! ولعلي كنت أهنئ نفسي حقا على اليأس، وأمنيها بالخلاص من القلق والعذاب واللهفة التي لازمتني منذ أشهر طوال، أو منذ سكن الحب قلبي. وقلت لنفسي أيضا: إني سعيد، وليس أحق مني بالسرور أحد، انتهت آلامي إلى الأبد! وخيل إلي أنني لو ألقيت بنفسي من جسر الملك الصالح - كما كان ينبغي أن أفعل في يوم مضى - لحلقت بدل أن أهوي من شدة السرور! ذقت لذة اليأس في سرور هذياني غريب، ومرت بي لحظات جنونية، والآن علمت لماذا توارت عن عيني؟! فأخذت أفيق من نشوتي الجنونية الكاذبة. ثم نشبت في قلبي أنياب الغيرة السامة، أيمكن أن يتم هذا حقا؟! لم أستطع أن أصدق هذا. لماذا؟ .. ربما كان مرجع هذا إلى ثقتي التي لا تتزعزع في الله الرحيم ورعايته، ولكن من كان يصدق أن ينتهي بنا الحظ إلى الحال التي نعيش عليها؟! وتنهدت من الأعماق في يأس مرير، ثم سرت في جسمي رعدة من البرد القارس الذي تنبهت إليه لأول مرة بعد مغادرتي المشرب، فأحكمت المعطف حول نفسي خوف البرد لكثرة ما يتهددني الزكام في الشتاء. وألمت بي رغبة غريبة، هي أن أجد نفسي طريح الفراش! .. وتخيلت بارتياح رقادي تحوط به العناية والحنان! وعلى حين فجأة انهارت أعصابي تحت الضغط الشديد الذي تحملته، فوجدت ميلا لا يقاوم إلى البكاء، فاستسلمت له متشجعا بالظلمة التي تلفني وبكيت، ثم ازددت استسلاما فأجهشت في البكاء حتى انتحبت وشهقت كالأطفال.
30
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي كنت في طريقي إلى الحلمية؛ إلى أبي. كيف انتهيت إلى هذا، خاصة وأنه لم يكد يمضي شهر على الزيارة المخيفة؟! إنه اليأس .. قضيت ليلة مسهدة معذبة لم يغمض لي فيها جفن، وتفكرت في أمري طويلا حتى تجسمت لي الأفكار شخوصا تصرخ بي أن اذهب إلى أبيك، مهما كلفك الأمر، وليكن ما يكون. ولم يكن التردد بممكن في مثل حالتي؛ لقد فقدت رشادي، وأذهلني الألم عن مشاعري الطبيعية بالتردد والخجل والخوف، فكان أبي - على رغم كل شيء - الأمل الوحيد الباقي لي.
واخترت أن أزوره في الصباح لأني أملت أن أجده قبل سكره في حال خير من تلك التي وجدته عليها في الزيارة السابقة المشئومة، وفضلا عن هذا كله فلم يكن بي من صبر أستطيع أن أنتظر به حتى الأصيل، فتلفنت إلى إدارة المخازن معتذرا ومضيت لطيتي. وكان الصداع يدق غلاف رأسي بمطرقته، بعد ليلة سهاد وهم، بيد أني تماسكت واستمددت من يأسي قوة لم أعهدها في نفسي من قبل. وبلغت البيت بعد العاشرة بقليل، فوقف لي عم آدم احتراما، فحييته ودخلت بلا طلب استئذان، إما لأني أبيت أن أستأذن في دخول بيت أعده بيتي، وإما لأني تناسيت ذاك في قلقي وغمي. ومضيت إلى الفراندا وارتقيت السلم متنحنحا، ولكني وجدتها خالية، فوقفت مرتبكا، وأدركني آدم فدفع بابا يفضي إلى الداخل وسبقني وهو يقول: كامل بك حضر.
ناپیژندل شوی مخ