فأمن على قولي بهزة من رأسه المستدير بدت هزلية، واستدرك قائلا: صدقت! هذا سر الوجود. أما والله لو كان حقا ما يقولون عن الله فإن مصيرنا لأسود! بيد أنني عظيم الثقة والاطمئنان، وما أفقد ثقتي وطمأنينتي إلا إذا ساء هضمي، هناك تبدو الدنيا عابسة كالحة! وذلك لأني أومن بأن الله لا يعذب عباده. كيف أصدق أن إلها عظيما سبحانه يحرق مخلوقا مثلي لأنه أحب الخمر؟! ألا يعجبك كلامي؟ أنت آنستنا. أرى الملل في وجهك. ترى ما الذي دعاك إلى تذكر أبيك بعد نسيان العمر كله؟!
وخفق قلبي، ولم أعد أطيق السكوت، ولعله لم يكن من الفطنة أن أطرق موضوعي إثر ذاك السؤال، لكني قلت في عدم تبصر: أراني في ضيق شديد، وإذا كانت الظروف السيئة قد فرقت بيننا، فإنك أبي على رغم هذه الظروف السيئة.
وقهقه ضاحكا، فكرهت منظره للمرة الثانية، ثم قال بلهجته الهاذية التي تنزع من سامعه أية ثقة فيما يقول: معك حق. الويسكي هذا حكمة غالية، إنه كالدنيا في مرارته، ولكن الحكيم الحكيم من يستطيبه ويألفه كما يستطيب الحكماء الدنيا ويألفونها، ويل لمن يجزعون لمرارته أو يقيئون، لن يصبروا إذن مع الحياة. قلت يا بني إن معك حقا. يعجبني والله حسن تمهيدك ولباقتك. تقاطعني مختارا ثلاثين عاما أو ما يقارب هذا، لا تؤاخذني على الخطأ لأن الحساب لا وزن له عند الشريب، فليس حتما أن يساوي واحد وواحد اثنين، وعسى واحد يساوي عشرة، قلت إنك تقاطعني عمرا ثم تجيئني معتذرا بجملة لطيفة. على أني أقبل العذر، ولم لا؟ الحق لا آسف على مقاطعة الناس لي. أما الضيق الذي تشكو فأمر يهمني جدا، فما يضايق ابني يضايقني بالتالي، فماذا تعني يا بني؟
حدثتني نفسي بالذهاب لأني لم أجد في ذلك الهذيان فائدة ترجى. بيد أني نبذت الفكرة في احتجاج وغضب. وعز علي أن أنكص على عقبي بعد أن أقدمت على ما أقدمت عليه. واستجمعت قواي، وبذلت فوق ما أحتمل عادة في مقاومة الخجل والارتباك، وقلت بصوت منخفض: أريد أن أتزوج!
وعاد الرجل السكران إلى قهقهته الكريهة، ثم قال بدهشة: ما بال أسرتنا لا تنجو أبدا من هذا الداء الوبيل؟! إن أختك لم تطق صبرا حتى أختار لها بعلا كما ينبغي، فهربت مع رجل غريب وتزوجته. وهذا أخوك ما كاد يشب عن الطوق حتى كان راقدا في حضن عروسه، ولا أبرئ نفسي فقد حاولت أن أكون زوجا مرة وأخرى وثالثة، أعجب بها من أسرة! ولعلك تحتاج مالا ليتم لك ما تريد من زواج! لا أستبعد هذا فالزواج وإن كان داء كما قلت إلا أننا ننفق عليه أموالا طائلة، وفي هذا وحده الدليل الناطق على جنون الإنسان! ولعلك جئتني وحملت نفسك ما لا تود من رؤيتي لتسألني مالا تزف به إلى عروسك .. لا أستبعد هذا، ولكن من أين لي بالمال الذي تريد؟ هل «قالوا» لك إني غني ميسور؟ لا أنكر أني أتمتع بدخل شهري مقداره أربعون جنيها غير أجرة الطابق العلوي، ولكن لا تغيبن عنك نفقاتي، إليك الطباخ مثلا فهو يسلبني عشرين جنيها كل شهر، وإذا خطر لي أن أراجعه مرة دوخ دماغي بحساب طويل لا أفقه عنه شيئا. وإليك الخمر أيضا فإنه يلزمني منها زجاجتان في اليوم أو ما يزيد على خمسة عشر جنيها في الشهر، وما يبقى بعد ذلك لا يكاد يفي بالضرورات الأخرى كالكساء والتدخين ورواتب الطباخ والبواب والخادم وأجرة العربة التي تجوب بي بعض الشوارع القريبة كلما سئمت طول المكث في البيت. ليس لي من رصيد في المصرف، حتى إني أعالج سوء الهضم بالوصفات البلدية. لا تسألني مالا يا بني، وإني أقول هذا آسفا علم الله، ولكن لماذا لا تتزوج كما تزوج أخوك من غير أن يبذل مليما واحدا؟! وإن احترمت نصيحتي فلا تتزوج على الإطلاق!
وحدجني ببصره الزائغ، فبدا لي فظيعا كريها. ثم استخرج علبة سجائره، وأخذ سيجارة وأشعلها وراح يدخنها بتلذذ. وجعل يراقب دخان السيجارة بعينيه الخابيتين، فخيل إلي أنه نسيني. ثم وقع في نفسي أنه يعذبني! وملأني الحنق، ولكني بقيت على جمودي، وازددت إحساسا باليأس والخيبة. وساد الصمت مليا، ثم التفت نحوي، وألقى علي نظرة لا معنى لها، ثم ارتسمت على فمه الواسع ابتسامة وسألني: ألا تدخن؟ - كلا!
وعدنا إلى الصمت. ألا يجدر بي أن أذهب؟ وتوثبت للنهوض لولا أن لاح في وجهه ما جعلني أنظر إليه بدهشة وانزعاج. بدا متعبا وتفصد جبينه عرقا ودارت عيناه في أنحاء المكان وكأنهما لا تريان شيئا. ورأيت خده الأيمن فيما يتصل بفمه يرتعش ارتعاشة عصبية. ثم دمعت عينه اليمنى .. آ ... توقعت شيئا مخيفا لا أدري كنهه، ولكن لم تطل به تلك الحال، انبسط وجهه وعادت إلى عينيه الحياة الطفيفة التي تبدو فيهما .. ونظر صوبي مرة أخرى، زايلني الخوف الغامض، وعاودتني أحاسيس اليأس والخيبة والكراهية. ثم تأملت بعين الاستغراب الحقيقة الماثلة أمامي، وهي أن هذا الرجل هو أبي الذي أوجدني في هذه الدنيا، ودعت هذه الحقيقة حقائق أخرى مما يتصل بها، بدت في صور محسوسة، فساءني منظرها، وآلمني وأحزنني. ولبثت هنيهة من الألم في شبه ذهول، ثم تنهدت على غير وعي مني بصوت مسموع، وتنبه إلي وسألني للمرة الثانية: ألا تدخن؟
فهززت رأسي سلبا، فقال في تهكم: نعم الفتى أنت! لا عيب فيك إلا أنك ترغب في الزواج! حدثني عن زواجك أهو رغبة عامة؟ أو هو رغبة خاصة في بنت من بنات حواء؟ (هنا خفق قلبي بعنف وكادت الدموع تسارع إلى عيني) هذا ما يبدو لي، ترى كيف الحب هذه الأيام؟! لا شك أنه لا يزال محتفظا بخطورته وقوته في خداع البشر! ومع ذلك أكرر عليك النصيحة بألا تتزوج على الإطلاق! هذه نصيحة رجل مجرب؛ الزواج سخرة. تصور أن امرأة تملكك! ودع ما يقال من أنك أنت الذي تملكها فهو كذب سمج، تنهك قواك وتسلبك مالك وتستبد بحريتك، ثم تستدرجك لاستعباد روحك وما تملك لرعاية شخصها وأبنائها! فإذا مت سعت إلى رجل غيرك قبل أن تجف دموعها، الزواج شيء سخيف لم أحتمله أكثر من ليلة واحدة!
ترنح قلبي تحت وقع الطعنة التي نفذت إلى صميمه، وندت عني على رغمي آهة من الأعماق، فنظر إلي في شبه بلاهة، ورمقته بنظرة نارية حتى حادثتني نفسي بأن أقذفه بالقارورة في وجهه. ولكني لم أكن الرجل الذي ينفذ مثل ذلك الخاطر، وشعرت بالقهر لعجزي، وبرغبة في البكاء قاومتها ما وسعني الجهد. وسألني في دهشة: هل آلمتك يا بني؟
فنهضت قائما في حنق وصحت به: السلام عليكم!
ناپیژندل شوی مخ