استيقظت مبكرا على غير ما كان يتوقع. وتذكرت الأمس كله في ثوان. والتفت برأسي في خوف نحو الفراش الآخر، فعثر بصري في طريقه بأمي وهي تصلي. والتهب وجهي حياء، وغادرت الفراش في عجلة ومضيت إلى الحمام في حيرة بالغة. ورجعت إلى الحجرة فوجدتها منتظرة، تحاول أن تبدو هادئة لولا أن خانتها عيناها الصافيتان اللتان لا تعرفان الكذب، وتحاميت نظراتها، وحييتها تحية الصباح بصوت لا يكاد يسمع، فتنهدت بصوت مسموع، واقتربت مني، ووضعت يدها على كتفي وقالت بصوت رقيق مفعمة نبراته بالرجاء: دعوت لك بعد صلاتي طويلا، والله سميع مجيب .. ليس لدينا متسع من الوقت فأصغ إلي يا كامل بقلبك قبل أذنيك .. فات ما فات .. ما كنت أتصور ذلك على الإطلاق، ولكن أوساط الموظفين أوساط غواية وفساد .. إنها زلة شيطان فتب إلى الله عنها. هل من حاجة إلى تذكيرك بمأساة أبيك وأنت من شهودها، وأمك من ضحاياها؟! ولكن قلبي مطمئن رغم ما حصل؛ لأنك مؤمن تخاف الله، ولأنك ابن أمك لا ابن أبيك، وخليق بمن يصلي بين يدي الله خمس مرات في اليوم مثلك أن يحرص على المثول بين يديه نقيا طاهرا. لا تنس أن هفوة الأمس شر كبير، وأنها ستظل سكينا تقطع قلبي. لم يعد في وسعي وا أسفاه أن أستبقيك إلى جانبي، فإذا خرجت إلى الدنيا فلاقها بقلب التقي المؤمن. ستذهب اليوم إلى السيدة أم هاشم لتقدم توبتك على يديها.
لم تلتق عيناي بعينيها ذاك الصباح ، ومضيت إلى الوزارة محزونا، أستعيد قولها كلمة كلمة، وأنعم فيه الفكر. هالني افتضاح أمري، وقدرت عنف الصدمة التي تلقتها أمي البائسة، وذكرت الخيبة التي منيت بها في فناء البيت الغريب، فتلوت شفتاي تقززا. على أني لم أنس نشوة الخمر؛ لم أنسها رغم ما أعقبها من خمار وتعب وفضيحة، ولم ينفذ مقتها إلى قلبي حتى بعد صلاة الصبح التي أديتها في صدق وإيمان. ولم يكن ضميري مستريحا، ومتى كان مستريحا؟! ولكن أحلام النشوة الساحرة هجمت علي فاجتاحت في سبيلها ضميري وآلامي وأمي. هي النشوة التي تظل معاني السعادة والطرب مغلقة حتى تجري في الدم فتفتح أبوابها السماوية؛ إنها مطلبي. رباه كيف أهجرها وأتوب عنها؟ وما عسى أن يبقى لي بعدها غير اللهفة الكظيمة والحسرة القاتلة والقلق الذي يمزق حياتي إربا؟! وحتى لو استسلمت لإغرائها الشيطاني، فهيهات أن تخلص لي صافية، بل ستضيف إلى ضميري نزاعا جديدا ما كان أغناه عنه، كنت وما أزال في جذب ودفع متواصلين، بين اقتحام الدنيا والجفول منها، بين حبيبتي وأمي، بين إدمان العادة الجهنمية ورغبة الإقلاع عنها، فجاءني نزاع جديد، بين الميل إلى الخمر والتوبة عنها، زادني رهقا، حتى انقلبت أرجوحة تدفعها الشياطين وتجذبها الملائكة، ولا تكف عن التأرجح لحظة واحدة. وبلغ بي القلق غايته فتأوهت متسائلا في حيرة بالغة: لماذا لم يخلق الله الحياة نشوة خالصة تدوم جيلا فجيلا؟ لماذا لا نفوز بالسعادة بلا عناء ولا قنوط؟ لماذا يختنق الحب في قلوبنا يأسا، والحبيب يغدو ويروح على مرمى قبلة منا؟!
ليكن ما يكون، الخمر مفتاح الفرج .. هي العزاء .. هي كلمة السر التي تفتح لي باب حبيبتي الموصد. لا أريد الدنيا ما دامت تأبى أن تغير ما بنفسها. إن مقتي للواقع ليس دون مقتي لتلك الراقصة المخيفة. الدنيا نفسها تتكشف لي عن صورة شبيهة بتلك الراقصة في تلويها وتعقدها وطلائها الكاذب وشقائها الدفين، فلماذا إذن أقاوم إغراء النشوة الساحرة؟! •••
ودعتني أمي عصر ذلك اليوم إلى زيارة «أم هاشم» فخرجنا معا بعد أن انقطعت عن الخروج في صحبتها أعواما، وركبنا عربة، فجلسنا ملتصقين جلسة أعادت لنفسينا ذكريات «الحنطور» القديم، فخففت رقتها من قلق النفس المستحوذ علي. كانت أمي ترتدي معطفا صيفيا رقيقا تقمصه جسمها النحيل في رشاقة لطيفة، وبدا وجهها المليح مستسلما وعيناها الخضراوان صافيتين تلوح فيهما نظرة حالمة يشوبها شيء من الحزن. وقد تلفع رأسها بخمار أسود أحاط وجهها بوقار لم يخل من أثر للأربعة والخمسين عاما التي قطعتها فيما قسم لها من حياة. وحن قلبي لها فوددت لو أستطيع تقبيلها، وتفكرت في تقدم عمرها نحو الشيخوخة بأسى عميق، ثم ذكرت الخواطر الخائنة التي دارت برأسي على فراش مرضها، فعضضت على شفتي بقسوة وحنق. يا لها من خواطر مقيتة! إنها من صميم الألم الذي ألتمس في الهرب منه أي سبيل، وهون من وجدي ما كان يخيل إلي من أنها سترث عمر جدي الذي يهدف إلى التسعين.
كبر علي في تلك اللحظة عصيانها، بيد أنني شعرت في أعماق نفسي بأني ذاهب إلى توبة كاذبة لا يسعني إلا الإذعان لها. وساءني ذلك وأحزنني. كيف ألقى أم هاشم بهذا القلب الخائن، وهي التي لا تخفى عليها خافية؟ كيف انقلبت بين عشية وضحاها من ورع طيب إلى شيطان مولع بالمعصية؟! وانتهينا إلى الجامع، ودخلنا ونحن نقرأ الفاتحة، وقصدنا الضريح يتوزع قلبي الحب والإيمان والخوف. ونسمت على قلبي ذكريات الأيام الخوالي حين كنت أنفذ للجامع الطاهر بقلب سعيد لم يعان بعد الشعور بالذنب وعذاب الضمير. وتقدمتني أمي إلى المقام وهي تهمس بحرارة: «جئتك يا أم هاشم بكامل؛ ليتوب عن هفوته بين يديك، فباركيه وسددي خطاه!» ثم دفعتني نحو باب المقام فبسطت راحتي عليه، وشعرت ببرودة تسري إلى فؤادي، فوقفت صامتا مليا حيال جلال تخشع له القلوب، وخلت الجدث الطاهر يرمقني بعينين متألقتين لم يغيرهما الموت، فدعوت بقلبي «أم هاشم» أن تلهمني الصواب وأن تنقذني من حيرتي وشقائي، وأن تتوب علي. وترددت لحظة ثم سألتها أن ترعى حبي التعيس بعين الرحمة!
وغادرنا المثوى الطاهرة وأمي تجفف عينيها، ثم سألتني: هل تبت إلى الله؟
فأجبتها دون أن أحول إليها عيني: نعم.
فتمتمت برجاء: توبة صادقة إن شاء الله.
24
لم يسعني مقاومة النزوة الجديدة، ولم يغن عني شيئا لا ضميري ولا توبتي، ولا ما جبلت عليه من مخافة الله. كنت من حياتي في قنوط؛ فعملي جد بغيض، وحبي حسرة طويلة، وإن الأيام لتمر ثقيلة بلا عزاء وبلا أمل، فتنظر عيناي ويخفق فؤادي، ويعيي إرادتي العجز والخوف، فلم أجد من سلوى إلا نشوة الخمر وتهالكت عليها! على أن ذاك العزاء التعيس لم يخلص لي طويلا، ولم تمل الأقدار لي في الاستمتاع به، ففي مطلع الخريف من ذاك العام، وفي يوم من أيام الجمع - وكنت جالسا مع أمي نتحدث كعادتنا - دق جرس الشقة، وفتح الخادم الباب، ثم جاء يدعوني لمقابلة واحد «بك». وذهبت من فوري فوجدت رجلا مهيبا في الستين أو السبعين، فحييته بأدب وألقيت عليه نظرة متسائلة، فبادرني متسائلا: حضرتك كامل أفندي؟
ناپیژندل شوی مخ