فهز مدحت رأسه وقال: عليه إذن أن يحصل على البكالوريا.
وكان جدي من الذين ألحقوا بالمدرسة الحربية بالابتدائية، فقال بازدراء: إن بكالوريا اليوم لا تعدل ابتدائية الأمس!
ثم دار الحديث عن الحياة في بيت أبي، حتى قالت راضية: كنا في الحقيقة نعيش بمفردنا، ولم نكن نرى أبانا إلا مرة في الصباح الباكر، ثم نمضي وقتنا معا، نذاكر أو نلعب أو نتحدث، وقد حمدنا الله على تلك الوحدة.
وتنبهت أمي إلى الشطر الأخير من الكلام وتنهدت في إشفاق، فقال جدي: إن كان أبوكما أعفاكما من عشرته ومخالطته حقا، فقد فعل خيرا يستحق عليه الشكر والدعاء !
وتقضى النهار كله في جو عابق بالحب والأشواق، وعدنا إلى المنيل مجبوري الخاطر. واتصلت الأسباب بعد ذلك بيننا وبين شقيقتي، وكان مدحت يزورنا كلما سنحت له فرصة.
واستقبلت عاما مثيرا توزعتني فيه الحيرة وحب الاستطلاع والتجربة القاسية .. صدمني في مطلعه هروب أختي وما علمت بعد ذلك من زواجها، فحبلها، ثم إنجابها طفلة. وتساءلت نفسي كما ساءلت أمي عن معنى هذا كله: لماذا هربت من أبي إلى رجل غريب؟ لماذا لم تأت إلينا؟ ولماذا تزوجته؟ وكيف حبلت؟ وكيف خرجت زينب الصغيرة إلى نور الدنيا؟ .. وارتبكت أمي حيال إلحاحي وتطفلي، وجعلت تصطنع لي الأجوبة الكاذبة حينا وتتأناني حتى أكبر حينا آخر، فإذا لججت تكلفت لي حزما غير معهود ولا مألوف. فلم أظفر منها بشيء ينقع الغلة، وفي الوقت نفسه شعرت بأن ثمة سرا يراد إخفاؤه عني. ثم جاءني العون من حيث لا أدري، فتطوعت الخادمة لإماطة اللثام عما حير خيالي وألهبه. كانت تكبرني بأعوام، وكانت دميمة قبيحة، ولكنها كانت تكرس فراغها لخدمتي، وكانت تخلو بي في أويقات نادرة إذا شغلت أمي بعمل أو حاجة. وبدا أنها استرقت السمع يوما إلى ما يدور بيني وبين أمي عن الألغاز التي استثارتني من سباتي، فصارحتني مرة بأنها تعلم أمورا خليقة بأن تعرف، وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور، وواجهت التجربة بلذة وسذاجة. على أن العهد بها لم يطل، فما أسرع أن ضبطتنا أمي ملتبسين، ورأيت في عيني أمي نظرة باردة قاسية، فأدركت أني أخطأت خطأ فاحشا، وقبضت على شعر الفتاة ومضت بها فلم تقع عليها عيناي بعد ذلك. وانتظرت على خوف وخجل .. ثم عادت متجهمة قاسية، ورمت صنيعي بالمذمة والعار، وحدثتني عما يستوجبه من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة. ووقع كلامها مني موقع السياط حتى أجهشت باكيا، ولبثت أياما أتحامى أن تلتقي عينانا؛ خزيا وخجلا.
10
حدثت معجزة - على حد تعبير جدي - فنجحت في الامتحان، ونقلت إلى السنة الثانية، وإن كنت قضيت عامين في السنة الأولى. ولما اطلع جدي على الشهادة قال لي مداعبا : لو كنت ما أزال في خدمة الجيش لجئتك بفرقة الطوبجية، وأمرتهم بإطلاق أربعة وعشرين مدفعا احتفالا بنجاحك.
على أن جدي إذا كان لم يمكنه أن يطلق لنجاحي أربعة وعشرين مدفعا، فقد قذف حياتي بقنبلة - عن قصد حسن - كادت تودي بي. حدث أن زاره يوما ضابط متقاعد في الخمسين من عمره ممن عملوا تحت قيادته في السودان. وعقب انصرافه مباشرة جاءنا جدي في الشرفة وراح يتفرس في وجهينا في صمت، وإن نم وجهه عن ارتياح وسرور. ثم قال مخاطبا أمي بلهجة مليئة بالمرح: اتبعيني بمفردك يا زوزو هانم!
وانفجرت ضاحكا لذاك التدليل اللطيف. على حين تبعته إلى حجرة نومه، ومنيت نفسي ببشرى جميلة .. وغابت أمي مقدار ساعة، ثم عادت إلي، وما إن وقعت عليها عيناي حتى بادرتها قائلا: أهلا وسهلا يا زوزو هانم!
ناپیژندل شوی مخ