كنا في أواخر الخريف، وكان الوقت عصرا، وقد ودعت رباب وغادرت الحجرة لقضاء سهرتي المسائية، والتقيت بأمي في الصالة وكانت متوعكة، فمضيت معها إلى حجرتها ولبثت معها نتحدث فطال بنا الحديث، ثم نهضت مستأذنا وغادرت الحجرة، ولاحت مني التفاتة إلى حجرتنا - وكان بابها مفتوحا كما تركته - فرأيت رباب جالسة على حافة الفراش تقرأ خطابا، وأدركت لتوي أن ساعي البريد جاء به حين كنت منفردا بأمي وإلا لعلمت به وقت وصوله، وظننته مرسلا إلي من أخي؛ لأن رباب لم تكن تتلقى خطابات، فعدت إلى حجرتي مستطلعا، وشارفت بابها ورباب مغرقة في القراءة فلم تنتبه لي حتى قلت لها: أهذا الخطاب لي؟
ورفعت رأسها نحوي في دهشة، وطوت يدها الخطاب بحركة آلية سريعة، وسألتني في اضطراب ظاهر: هل نسيت شيئا؟
فقلت وقد تولاني قلق لا أدريه: كنت في حجرة أمي، ورأيتك عند مغادرتي لها تقرئين هذا الخطاب فظننته لي.
فنهضت من مجلسها وتراجعت صوب التواليت، وكانت بلا ريب تحاول أن تضبط عواطفها، ولكن عينيها وشتا بما تركه حضوري المفاجئ في نفسها من وقع عميق لم تتوقعه، وقالت وقد ندت عنها ضحكة مقتضبة جافة لم تجد في مداراة اضطرابها: ليس خطابا كما تظن، إن هي إلا وريقة سجلت بها بعض ملاحظات تتعلق بعملي المدرسي.
وداخلني خوف تمشى في مفاصلي. لعلها لم تجاوز الصدق، ولكن عدوى اضطرابها انتقلت إلى نفسي فشعرت بذاك الخوف الغريب، كأنه نذير شر مجهول يتجمع في أفقي المكفهر. ما الذي يدعوها إلى الكذب؟ ولكني رأيت في يدها خطابا بلا ريب! وقد خفت أن أتمادى في إظهار الشك أن يكون الحق معها فأقع في حرج ما أغناني عنه! على أنني لم أتمالك أن قلت: ولكني رأيت خطابا بيدك.
ووقع قولي من أذني موقعا سيئا، فخيل إلي أنني لم أحسن اختياره، وأنه يفصح عن شك واضح، ورمقتها في إشفاق، وانتظرت أن تبسط لي الوريقة في حركة عصبية وأن ترميني بطرف ساخر مؤنب، ولكنها كانت تعاني أحاسيس أخرى، وكأنما قهرتها عاطفة مجهولة فقالت وهي توليني ظهرها: قلت لك إنها وريقة خاصة بملاحظات مدرسية.
ثم رأيتها تمزقها بحركة مباغتة، وتحولت صوب النافذة ورمت بها! كانت حركة مباغتة أبعد من أن أتوقعها، فتسمرت في مكاني كأنما حل بي شلل. واستقبلتني بوجهها متظاهرة بعدم المبالاة، فتملكني حنق وغضب ويأس، وشعرت بأن جدارا هائلا قد انقض على حياتي فدفنها تحت ركامه، وأن عيني تتفتحان - بعد أوهام العمى - على حقائق بشعة! وهل غير الحقائق البشعة ما يستثير هذا الاضطراب وذلك الخداع الماكر؟ وصحت بلا وعي: كاذبة .. لم تكن وريقة ملاحظات كما قلت كذبا وخداعا، ولكنه خطاب كما رأيت، وقد مزقته لتواري عني سوءة!
وغاض الدم في وجهها فترك صفحته شاحبة كوجوه الموتى، ولكن بدا أنها لا تريد أن تسلم بغير دفاع المستيئس فغمغمت: أنت مخطئ .. وظالم .. لم يكن خطابا!
فهتفت بها مغيظا محنقا والألم واليأس يطرقان رأسي بعنف: لماذا مزقته؟ .. لماذا تولاك الذعر؟ .. تكلمي .. لا بد أن أعرف الحقيقة .. سأنزل إلى الطريق وألتقط القصاصات.
واتجهت نحو النافذة في عجلة واضطراب وأطللت على الطريق، فرأيت العطفة الضيقة التي تفصل مؤخرة العمارة عن حديقة الكنيسة، فداخلني يأس وأيقنت أن الهواء قد حمل القصاصات إلى حديقة الكنيسة. واسودت الدنيا في عيني، وخيل إلي أنها تتمخض عن عالم من الشياطين الراقصة في تيار من لهيب. كيف أنتزع الحقيقة من بين شفتيها؟ ودرت على عقبي فوجدتها بموقفها، يحاكي وجهها وجوه الموتى، وتلوح في عينيها نظرة ذعر وارتباك، فاشتدت قسوة قلبي، ورميتها بنظرة طويلة رهيبة، وقلت بإصرار وحنق: إنه خطاب، ولن أرجع حتى تعترفي لي بكل شيء!
ناپیژندل شوی مخ