وقبل جدي الشرط، وكان يحدسه مقدما من قبل أن يذهب إليه، ولكنه عجب كيف أن الرجل لم يبد عن أية رغبة في رؤية ابنه، ولا سأل عنه على الإطلاق. ثم قال جدي: لم يعد رؤبة لاظ إنسانا، لقد انتهى الرجل.
فغمغمت أمي في حزن وكآبة: واحزناه على راضية ومدحت!
فقال جدي يطمئنها: إن راضية في السابعة عشرة ومدحت في السادسة عشرة، ولم يعودا طفلين. •••
وثبنا إلى طمأنينتنا المعهودة، فنجونا من ذاك الخوف الذي اعترض سبيلنا مهددا، وواصلت الدراسة في البيت أعالجها بصعوبة وضيق. واستدار العام، وحل الخريف وكثر الحديث عن الدراسة والمدرسة، وأيقنت أني معاد قريبا إلى السجن، وقلت يوما لأمي: إذا كنت تحبينني ولا توافقين على أن يأخذني أبي، فلماذا ترضين بأن تفرق المدرسة بيننا؟
فضحكت ضحكتها الرقيقة وقالت: يا للعار! كيف تقول هذا وأنت الرجل الكامل؟! ألا ترغب أن تكون يوما ضابطا كبيرا مثل جدك؟ وماذا يبقى إذا هجرت المدرسة إلا أن تشتغل بائع فول أو كمساري ترام!
ومضى بي جدي إلى مدرسة العقادين بمصر القديمة، ونجحت في الامتحان هذه المرة. وهل العام الدراسي، وانتظمت في المدرسة كارها مرغما. وكان الحنطور يوصلني صباحا إلى المدرسة، ويعود بي مساء إلى البيت، وفي نظير ذلك منع جدي أمي من توصيلي بنفسها كما كانت تفعل على عهد المدرسة الأولية. عدت مرة أخرى إلى المدرسة، وعانيت من جديد الدروس والنظام وقسوة المدرسين وسخرية التلاميذ. كانت حياتي المدرسية شقاء كلها. وأكد ذلك الشقاء أنني كنت ملكا مستبدا في بيتي وعبدا ذليلا في مدرستي. وطالما تحيرت بين الحب الذي يغمرني في البيت وبين عصا المعلم وسخرية التلاميذ.
وقد اكتسبت عداوة المدرسين ببلادتي وخمود ذهني، حتى أطلق علي بعضهم: «الغبي الممتاز». وكان مدرس الرياضة إذا انتهى من شرح درس سألني عنه، وما يزال بي حتى أجيب إجابة ترضيه فيتنفس الصعداء ويلتفت نحو التلاميذ قائلا: لا بد أنكم فهمتهم ما دام سي كامل قد فهم. ويضج الفصل بالضحك!
أما التلاميذ فكان دأبهم السخرية مني ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وكان عجزي عن إنشاء علاقة صداقة حقيقة مرة لا شك فيها، فلم أظفر في حياتي بصديق. والحق أني لست أسوأ من كثيرين ممن يتمتعون بصداقات سعيدة، ولكني شديد النفور بطبعي، شديد الخجل، محب للوحدة والعزلة، عديم الثقة في الغرباء، وزاد طبعي تعاسة ما جبلت عليه من صمت وعي وحصر، فلم أحسن الكلام قط، فضلا عن الدعابة والمزاح، لذلك جميعهم رموني بثقل الدم، وقد آلمتني هذه الصفة، حتى سألت أمي يوما: هل أنا ثقيل الدم يا أماه ؟
فرمقتني بنظرة ارتياع وقالت بحدة: من قال عنك ذلك؟
فقلت في حياء: التلاميذ كلهم؟
ناپیژندل شوی مخ