كلمة المعرب
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
كلمة المعرب
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
السراب
السراب
تأليف
قدرية حسين
ترجمة
عبد العزيز أمين الخانجي
كلمة المعرب
الإحساسات الرقيقة والعواطف النبيلة التي تخفق في قلب أمة من الأمم، والأخيلة البديعة التي يظهر نور ضيائها من أذهانهم، والآمال العالية التي تجول في أدمغتهم، كل ذلك إنما يتولد من مطالعة الكتب الأخلاقية النفيسة والآثار الأدبية النافعة.
ابحث عن الجرثومة الأولى لكل أنواع البطولة، وعن الباعث الحقيقي للصفات الجميلة، والأخلاق الحسنة في نفس قوم أو طائفة من الناس، تجدها تأتت من رسالة أو منظومة أو مقالة، بل إنها قد تنشأ في بعض الأحايين من جملة حكمية، أو بيت من الشعر أو كلمة ذهبية صدرت من أعماق قلب؛ لتحل في سويداء قلب آخر.
وكلما ازدادت أفكار الإنسان وتصوراته رقة، واشتد تذوقه لطعم الآداب، تزداد في نفسه الرغبة للتقدم والتمشي مع روح العمران، إن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب، وإنما كلما تقدم الإنسان خطوة في هذا السبيل تكونت في نفسه ملكات أسمى من ذلك وعواطف أرفع منها رتبة، فقد تتربى في نفسه عاطفة إنكار الذات، وإفناء النفس في سبيل المصلحة العامة، فإذا ما وصل الإنسان إلى هذا المثل الأعلى من الطبع الإنساني، لا تلبث المقاصد الشريفة والأغراض النبيلة أن تتغلب على كل الأغراض والأهواء التي تعززها قوة مادية، ولا يمضي على ذلك زمن كبير حتى ينهار بناء الظلم مهما كان شامخا؛ ليقوم على أنقاضه بناء جميل متين الأساس، هو بناء الحرية، ثم تحل الفضيلة بعد ذلك مكان الرذيلة، وينزل السيف عن منبر الخطابة ليدع مجال الكلام فسيحا أمام القلم.
قبل أن تبدأ الحكومة العثمانية في تشكيل هيئتها، وقبل أن يكمل قوام جماعاتها كان أساس الأدب في الشرق متزلزلا، أما عند الأتراك العثمانيين فقد كان معدوما.
كان الأدب متزلزلا في الشرق؛ لأن الحروب الصليبية ومهاجمات التتر، أضف إلى ذلك المنازعات والمشاحنات التي كانت بين خلفاء الإسلام أولا، ثم ملوك الطوائف ثانيا، كل هذه الأمور قلبت كل شيء في الشرق رأسا على عقب، وأنزلت آداب الشرق تبعا لذلك من عرش العزة والسؤدد إلى درجة البؤس والفاقة.
أما كونه كان مفقودا عند العثمانيين، فالسبب راجع إلى هجرتهم وتخليتهم الديار والأوطان أيام تدفق سيل التتر، فتركوا آدابهم القومية بجانب قبور آبائهم وأجدادهم في جهات خراسان، غير أن الأمر لم يستمر كثيرا على هذا المنوال، بل ما كادت قوتهم تعظم، وساعدهم يشتد، ونفوذهم ينتشر في بقاع هي من أهم المراكز في العالم، حتى شعروا بحاجتهم إلى لسان أدبي، وبتعطشهم إلى لغة يظهرون بها إحساساتهم وتصوراتهم، فنظروا أولا إلى الآداب العربية فإذا هي قد أضاعت بهجتها الأولى ورونقها السابق، ثم عطفوا أنظارهم إلى الأدب الفارسي، فإذا هو في دور الاحتضار والخمول، ولكن ما العمل والحاجة ماسة إلى اتباع أحد الطريقين والارتواء من أحد المنهلين؟ وكان الأدب الفارسي - على علاته - أقرب إلى نفوسهم فاتبعوه.
على هذا الأساس بني الأدب التركي في مبدأ أمره، إلا أنه كان أساسا واهيا لا يبشر بالدوام والخلود، كان تافها لا يسد حاجة الأمة.
إنني - مع احترامي للأسلاف وشكري لمعلوماتهم التي كانت السبب في ترقية الكثيرين - لا يسعني إلا أن أقول بأن الأفكار عندهم كانت مقيدة، محصورة، كانت مقيدة بالعادات ومحصورة في دائرة ضيقة من المعلومات، وإن كل الصور التي تجلت في آثارهم لم تكن مرآة تنطبع عليها آمال الأمة وحاجاتها، وإنما كانت تصور أهواءهم الخاصة وميولهم الشخصية، تصفح كتب فلاسفة الغرب وآدابهم في القرن الماضي تجدها طافحة بدروس الحكمة، والتحليلات الفلسفية الصادرة من أعماق القلب بقصد تنوير الأذهان وترقية الأفكار، ثم تصفح آثار أدبائنا في نفس العصر تجدها ملأى بالصور التي تنعكس عن شخصياتهم، وبينما كان أحد أدباء الغرب في منفاه يكد الذهن، ويشحذ القريحة ليخرج للعالم كتابا خالدا يقول في بدئه: «ولد الإنسان ليعيش حرا، ولكنه يرسف في قيود الاستعباد في كل مكان»، كان الشاعر أو الأديب في الشرق يكد الخاطر ليصف امرأة عارية أو غلاما جميلا، أو ليطرب من ذكر الخمر والندمان.
وربما كانت هذه من أهم العوامل التي أخرت الأدب في الشرق، ووقفت في سبيل رقيه وتقدمه.
إلا أن الأتراك العثمانيين كانوا أول الشرقيين الذين انتبهوا إلى هذه الحالة المحزنة التي وصلت إليها الآداب الشرقية؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الغرب أكثر من سواهم، فإنه ما كاد يكثر اختلاطهم بأهل الغرب حتى اشتد تبعا لذلك إحساسهم بالحاجة إلى إصلاح لسانهم الأدبي، وأدى بهم ذلك إلى إعجابهم بالآداب الغربية، وبالأخص أدب اللغة الفرنسية، فاقتبسوا كثيرا منه وأدخلوه في آدابهم بعد تحوير وتعديل.
ثم جاء «عاكف باشا» الشاعر الشهير فخطا خطوة في سبيل الإصلاح، وأخذ في تحوير الخطة التي سنها «نعيما» في الأدب، إلى أن جعلها وفق المحيط الذي كان فيه على قدر الإمكان، فكان بعمله هذا أول من تشبث بتمزيق سحب التردد المتكاثفة في سماء الأدب التركي، غير أن ذلك القلم العالي لم يتمكن من انتشال الأفكار من وهدة الغفلة التي كانت فيها.
وتلاه بعد ربع قرن «شناسي» المجدد الشهير، وكان أقدر من «عاكف باشا» لتذوقه بالأدب في محيط أرقى من البيئة التركية، غير أن المرض الذي لازمه طول حياته لم يمكنه من الاستمرار في سبيل الإصلاح، بل كان ما فعله هو تزيين الخطة التي رسمها عاكف باشا للإصلاح.
كانت حاجة العثمانيين شديدة في ذلك الزمن إلى عبقري يقوم بتشييد بناء جديد للآداب التركية يتمشى مع روح العصر، فتمت تلك المعجزة على يد نبي الآداب التركية «نامق كمال» ذلك الذي مزق ستار الآداب القديمة وكسر قيودها، وبشر العثمانيين بموقع في الآداب أعلى من موقعهم، ثم تطورت الآداب التركية عقب الثورة العثمانية، فظهرت بثوب جديد وخطت في سبيل الرقي خطوات واسعة، وكانت الكاتبات التركيات في مقدمة هذه النهضة المباركة يفسح لهن المجال في صدور المجلات، وأمهات الصحف، وتنشأ لآثار أقلامهن المقالات الطوال، ومن بين تلك الفضليات امتازت أميرتنا المصرية الجليلة القدر «قدرية حسين» بكثرة ما نشرته من الكتب النفيسة، والمقالات الرائعة، سواء أكان ذلك في مصر، أم في الآستانة، وإن هذا القلم الضعيف لأعجز من أن يحصر مناقب صاحبة السمو وآثارها القلمية؛ لأن ذلك يستلزم مجلدا كاملا، وإنما أردت إجلالها وإظهار ما لها من المكانة في عالم الخيال والأدب، بترجمة مؤلفاتها المكتوبة باللغة التركية، وكانت فاتحة أعمالي في ذلك ترجمة خواطر سموها، فلاقت من إقبال الناس عليها، واهتمام كبريات المجلات والصحف العربية والإفرنجية، ما دفعني إلى المضي في سبيل ما أخذته على عاتقي، وها أنا ذا أتقدم إلى أبناء مصر بالحلقة الثانية من سلسلة تلك البدائع التي أعجبوا بها وافتتنوا بجمال أسلوبها «في كتاب الخواطر»، وفي مأمولي أن يكون من وراء هذا الصنيع الفائدة التي أنشدها، وهي الوساطة في تمكين المعرفة بين الأدبين العربي والتركي، وإعلاء شأن النابغات من فضليات مصر، اللائي يفتخر بنبوغهن شباب هذا الوطن، والله هو المستعان على تحقيق الغايات.
عبد العزيز أمين الخانجي
القاهرة 4 شوال سنة 1338
المقدمة
أيها القارئ المنحني على صفحات هذا الكتاب تقلبها واحدة فواحدة، إن كنت ظمآن الروح لتصفحه، متعطشا لقراءة محتوياته، فلا تأمل أن تجد في تضاعيفه قطرة واحدة تنفع غلتك وتطفئ ما بين جنبيك من حرارة الظمأ، وإن طموحك لتحقيق مثل ذلك الأمل يسلب ما في نفسك من الراحة والسكون؛ لأن هذا الغدير الذي يصوره لك وهم الظمأ نبعا فياضا مترعا بالبهجة والإشراق، إن هو إلا منظر سراب خادع كونته أشياء ثلاث هي: الصحراء، فالحرارة، ثم النور، فهل يليق بك أن تحفل بأمر هذه مكوناته؟
قدرية حسين
الفصل الأول
حقا إن الحياة سراب خادع؛ سراب لأنها تخدع أنظار المسافر المجد في سيره ليقطع المرحلة الأخيرة في صحراء العمر، إذ ينظر إليها نظر ذلك السائح التعب في وسط المهامه، المتطلع لأقصى نقطة يصل إليها بصره حيث يرى بعين الخيال واحات جميلة المناظر وارفة الظلال.
ذلك المنظر الخلاب، مناط أمل السائح في مجاهل الصحراء، عدم يحيط به فضاء يمتد إلى ما شاء الله، فليس له وجود حقيقي، اللهم إلا شكل ظاهري يتراءى للعين كأنما هو في نهاية الأفق، منشؤه تشعع الحرارة من ذرات الرمال المشرقة بالنور في وسط ذلك القفر.
مسكين ذلك الظمآن الساذج، المأخوذ بضروب المناظر الوهمية التي يصورها له ذلك السراب، من غدران صافية المياه، وجزر خضراء، وواحات ذات نضارة ونماء، يرى المسكين هاتيك المناظر، وينظر إليها بعين الوهم، وهو أشد ما يكون ظمأ، فيشتد عطشه وتزداد حيرته، فيسرع نحوها بخطى واسعة، محدثا نفسه بهذه الكلمات: «بعد قليل أصل تلك الجنة الفيحاء، فأتفيأ ظلالها، وأرتوي من جداولها، وهناك في نعيم تلك النضارة وظلال هاتيك الخضرة أخلع عن نفسي رداء هذه المتاعب والمشقات؛ لأنسى مرارة هذه الحياة الباردة الموحشة الخالية من ألوان البهجة وأنواع السرور.»
بمثل هذه الآمال يجد المسكين في مشيته، يطوي الأرض متخبطا في رمال الصحراء المتأججة بنيران الحرارة، فيمشي ثم يمشي ثم يمشي، إلى أن يضنيه السير ويأخذ التعب منه مأخذه، وكلما اشتد به التعب وأعياه السير تزداد رغبته في الوصول إلى غايته، ويظل على هذا المنوال، يهرول نحو ذلك الظل الخلاب ذي البريق الكاذب إلى أن يأتي عليه المساء، وعند ذلك تكون الشمس آخذة في المغيب، ويأخذ الانعكاس الناشئ عن الضوء في الأفول شيئا فشيئا حتى انكسار حدة الحرارة، فينظر المسكين بعدها إلى تلك المناظر المتعددة، مناظر الظلال والواحات والغدران، فإذا بها مرت من أمامه كالطيف، وأصبحت جميعها في خبر كان.
إزاء هذه الخيبة لا يجد المسافر بدا من الجلوس في وسط ذلك القفر الموحش، مضنى الجسم، منهوك القوى، محدثا نفسه عن تلك المناظر الخلابة التي توهمها منذ هنيهة، متسائلا عن حقيقة أمرها هامسا في آذان نفسه بهذه الكلمات: «وحينما بدأت في السير كان الطقس جميلا والفصل ربيعا في ميعة شبابه، أما الآن فأشعر كأنما الخريف يبسط أجنحته السوداء على الطبيعة رويدا رويدا، وأشعر أيضا بأن العواطف والإحساسات التي تخفق في قلبي الساعة أكبر من أن يشعر بها من كان في مثل سني ، فوا حسرتاه لتلك المتاعب والمشقات التي تكبدتها في سبيل الوصول إلى تلك المناظر المبهجة التي أفلت وانطفأ نورها مع غروب الشمس، أما آمالي فلم تكن سوى أشعة من النور المنعكس زالت بزوال المسبب وهو الضوء، والأماني الذهبية التي جعلت للحياة في نظري قيمة معنوية، تلك التي كنت أسعى وراء تحقيقها، إن هي أيضا إلا ظل زائل من هذا القبيل.»
تمر دقائق العمر سراعا، بينما يكون السائح غارقا في مثل هذه الهواجس والأفكار، أما الأقدار فتهيئ لهذا الكون أياما جديدة وشموسا حديثة وأسرابا غير الماضية، بينما الإنسانية تقطع طريقها في مجاهل الحياة غير مبالية بما تلاقيه من ضروب العذاب والهجران في سبيل ما تطلبه من اللذائذ والمسرات، ووجهتها خضرة تلك الجزر الوهمية، حيث يفنى ذكرها إلى الأبد.
الفصل الثاني
كل كائن في هذا الوجود فان، غير أن ذكرى الفناء باقية لا تنعدم، وغاية كل كمال مبدأ للزوال، إذن فكل مخلوق عرضة للفناء حالما يصل حد الكمال، إلا الكلام، فإنه باق لا يزول، يضمن له الكمال دوام البقاء والخلود.
وأجسام المخلوقات عرضة للزوال والفناء، أما أجسام الكلام فهي دائمة لا تزول، إذن فالبقاء في هذا العالم موجود بوجود الكلام.
كل قوة في هذا الوجود قد تئول إلى ضعف بمرور الزمان، وكل نور قد يخبو بعد طول الأوان، أما الكلام فيبقى خالدا على الدوام، محافظا على ما له من قوة ونور.
للكلام وجه ورائحة وصوت، يترقرق ماء الحياة في وجهه أكثر مما يترقرق في تلك الوجوه التي تراها العين، ولصوته أثر في النفس أشد وأوقع من الأصوات التي تسمعها الآذان، أما عبير رائحته فأشد تضوعا وانتشارا من أي رائحة أخرى تشمها الأنوف.
الكائنات قاطبة رهن الزوال وقيد الفناء، اللهم إلا الكلام الناضج الواصل حد الكمال، فإنه يبقى إلى ما شاء الله رافلا في حلل النضارة مكتسيا ثياب البهجة والشباب، مصانا من كل الأخطار والعاديات، لا تجرأ عواصف الأيام على تجعيد وجهه، ولا تجسر تقلبات الزمان على تغيير صوته أو الإقلال من عبير رائحته .
قد يأتي يوم تطوى فيه معالم الأهرام وتمحى رسومه فلا يبقى في مكانه حجر واحد يدل عليه، إلا أن الأهرام مع ذلك باق لا يزول وإن زال جسمه من هذا الوجود، إذ يبقى اسمه مرتسما على صفحات الأذهان يتجسم شخصه أمام الأنظار بأفخم وأبدع مما كان كلما تردد ذكره على اللسان.
وللكلام سلاح ماض يفعل في القلوب ما لا تفعله أشد المدمرات والمهلكات، وقد يكون كذلك سببا في خسارة كبرى لا يمكن لكل ثروات العالم تلافيها، إلا أنه رغم هذه المعايب والمثالب فهو البلسم الوحيد الشافي لجروح القلب، وهو ألطف النغمات وقعا في النفس؛ فكلمة «أحبك» تلك الكلمة العذبة التي ترتسم صورتها على شفاه جميع الناس إعلان ما يجول في صدورهم من عواطف الحب والهيام، بقيت - رغم السنين والأيام - الكلمة الساحرة الخالدة التي ترددها الأفواه على الدوام.
الفصل الثالث
لشد ما يصعب على الإنسان أن يعرف إنسانا آخر معرفة حقيقية! أما الذين يدعون أن ذلك في مقدورهم، فهم في غرور تام وجهل فاضح، ولعمري إن المرء ليس في استطاعته أن يلم تماما بما بين جوانحه من العواطف والمشاعر، فأنى له أن يدعي معرفة دخائل الغير ومكنوناته؟ ألا إن كل علم نهايته جهل، أما ادعاء معرفة الناس فهي عادة شائعة، ليس لها نصيب من الحقيقة.
ما الإنسانية إلا سر غطاؤه مكشوف حتى الأبد، وإلا فما شأن قانون النشوء والارتقاء، ذلك السر في فيضان العالم بالكائنات الحية؟ أليس هو عبارة عما يطرأ على كل المخلوقات من التبدل والتحول؟
إن التموجات المختلفة التي تنكسر على شاطئ القلب من حس وشعور وتأثر، لهي على الدوام تجاه ريح الحياة فتتبدل وتتغير تبعا لها كلما غيرت هذه وجهتها من الشمال إلى الجنوب، ولتلك الرياح والعواصف أثر بين على تركيب الإنسان وطراز معيشته أيضا، إذ تبدلهما كيفما تشاء من لون لآخر، من حيث لا يشعر الإنسان ولا يدري، أما القلب، مجمع تلك الإحساسات، فهو لغز أبدي لا يعرف كنهه في أي وقت من الأوقات سوى الخالق - عز وجل.
كثيرا ما صادفني في طريق الحياة علماء أجلاء، لا فرق بينهم وبين أدنى الجهلاء، ورأيت كذلك أخساء، أدهشت أعمالهم أهل المروءة والوفاء، وطالما رأيت خلقا يحسبهم الناس في السماء محلقين، وهم في الحقيقة على الأرض دارجين، وآخرين توهمت أنني على علم بحقيقتهم، فإذا بي أجهل الناس بأمرهم، وكم من الأغنياء الموسرين أصحاب الأموال الطائلة ضايقتني سفالة نفوسهم، وكم غيرهم من المعتبرين في نظر العالم الحائزين لثقة الناس بحسن استقامتهم وقويم أخلاقهم رأيتهم بعيني رأسي وهم أعوج الناس أخلاقا وأفسدهم سيرة، أما المشهورون بالعدل المشهود لهم بالأمانة والصدق فحدث عن ظلمهم واعتسافهم ولا حرج.
أردت أن أعرف دخيلة كل إنسان وأن أقف على خفايا كل أمر، فبحثت عن ذلك واجتهدت آناء الليل وأطراف النهار، ولكن عندما خرجت من غرفة الاختبار في مدرسة التجارب علمت - والأسف ملء جوانحي - بأنني لا أدي شيئا، اللهم إلا القليل التافه، ألخصه فيما يأتي:
الناس باعتبار شخصياتهم فريقان، فريق من الناس لهم شخصيات بسيطة ويشبهون الأنهار؛ لأن لها أعماقا معلومة، أما الفريق الآخر فهم أصحاب الشخصيات العميقة التي لا يسبر غورها ومثلهم مثل المحيطات الكبرى، تلك التي كل موجة من أمواجها عمق قائم بنفسه.
الفصل الرابع
لكل حادثة تقع على مسرح هذا الوجود أثر خالد في نفسه مهما كان أمد هذه الحادثة، إذ لا توجد حالة من حالات هذا العالم لا تترك لها أثرا بعدما ينقضي حكمها.
إن اللمسة الخفيفة والكلمة الصغيرة والنظرة السريعة والتأثر الطفيف كل هذه أمور خالدة باعتبار وقوعها وجريانها؛ لأن اليد تشعر على الدوام بأثر تلك اللمسة، والأذن لا تنسى مطلقا وقع تلك الكلمة، والعين لا يمكنها أبدا أن تمحو من صفحة بصيرتها خيال تلك النظرة، أما القلب فليس في استطاعته نسيان ما يقع عليه من التأثير مهما حاول ذلك.
قد يمكن للمرء أن ينسى بمرور الزمن بعض التأثرات التي يشعر بها، ولكنه لا يستطيع محو الأثر المعنوي الذي تتركه تلك التأثرات في مخيلته.
لكل حادثة حالتان، إحداهما قبل وقوع الحادثة والأخرى ما بعد زوالها، فهل يمكن أن تكون حالة ما قبل الحدوث شبيهة بحالة ما بعد الزوال؟ وهل تستطيع الزهرة أن تمحو من ورقتها أثر مس الفراشة لها؟ وهل يمكن للبلبل الذي قضي عليه بالأسر ردحا من الزمن أن ينسى وهو يتمتع بالحرية، تلك الساعات المرة التي قضاها في قفص الأسارة والذل؟
اللذة العميقة التي تشعر بها النفس أثر سماعها نغمة حلوة، والبهجة التي تتغلغل في أعماق قلب المحبوب أثر ما يعتريه من السرور والانشراح، لهي حالات لا يستطيع المرء نسيانها مطلقا، بل يبقى أثرها محفورا على صفحات القلب كذكرى خالدة.
فكل صفحة أو حادثة في الحياة محكوم عليها بالزوال والنسيان، وإنما التأثير الناشئ عن زوال هذه الصفحة من كتاب الحياة فباق لا يزول.
الفصل الخامس
من الغريب أنه توجد إحساسات خفية في الدماغ الإنساني كامنة فيه منذ الأزل، كالبذور الكامنة في باطن الأرض، لا يشعر بوجودها الإنسان طالما تظلله أغصان الراحة والسعادة، فإذا ما هبت عليه إحدى العواصف رأيت تلك البذور الكامنة في حجيرات دماغه المغمورة بأمطار اليأس وغيوث الآلام، آخذة في النمو شيئا فشيئا، حتى تظهر ما لها من لون وقوام.
وحجيرات الدماغ شبيهة بالأرض، إما أن تكون خصبة جيدة التربة، أو يبابا قليلة الخير والبركة، فإذا كانت خصبة انكشفت تلك البذور عن رياحين عطرة وأزهار جميلة ذات بهجة ورواء، أما إذا كان منبت تلك البذور الآخذة بأسباب الحياة أرضا عقيمة، فلا تلبث تلك الحشائش النضرة التي أنبتتها سيول المصائب أن تنقلب إلى أعشاب سامة وحشائش مضرة، إلا أنه لكل قاعدة شذوذ؛ فالأرض المشهورة بجودة محصولها قد تنبت وردة سامة، كما أن الغصن النابت في أرض غامرة قد يورق عن أزهار نفيسة ذات أريج عطري؛ ذلك لأن الدماغ الإنساني مجمع للأضداد، وأكثر الحجيرات ظهورا في الرأس المملوءة بالنور قد تكون بؤرة مظلمة، ومن نقطة واحدة في أعماق ذلك الدماغ تظهر حبات النزاهة والسمو بجانب بذور الدناءة والخسة.
في العالم الزراعي، إذا آنس الناس خيرا في أرض قاحلة تعهدوها بالعناية والتطهير، أما في العالم الإنساني، فالوسيلة الوحيدة لإظهار كوامن الحجيرات في الدماغ هي تعرضها لأمطار المصائب وسيول النوائب.
المصائب والأخطار مجال لتقدم الإنسان، فكل عسر مادي يعقبه يسر معنوي، والآلام والأشواق التي تمحوها يد الحزن قد تنبت مكانها أزهار ذات لون بديع تعطر بشذاها عوالما أخرى.
الفصل السادس
إذا كان التاريخ عبارة عن تكرر الحوادث، فالبشرية من جميع الوجوه ليست سوى تقليد؛ إذ إن كل شخص هو نسخة ثانية من شخص آخر، وأعماله وأقواله تؤيد هذه الدعوى.
الإنسان مقلد بفطرته، لا يكاد يستحسن شيئا حتى يأخذ في تقليده جهد الطاقة؛ فهو لذلك أسير التشبه، ويفضل على الدوام أن ينسج على منوال غيره من أن يتشبه به إنسان آخر، وبالإجمال فكل حركاته وأطواره تقليد ومحاكاة.
أروني معنى مبتكرا لم تردد الأجيال السالفة صدى ذكراه؟ ومن يستطيع أن يثبت أن الحكمة الرائعة والكلمة الطيبة التي تلوكها أفواه الناس في يومنا هذا لم تكن كذلك منذ أجيال؟ وهل يمكننا أن نعرف منشأ آثار الرحمة التي تظهر فينا على حين غفلة؟ ومن أي بطن انتقلت إلينا؟ أم هل يمكن للإنسان أن يعرف من أي جدوده ورث ما يعتريه من اللطف وكرم الأخلاق؟ نرى هذه الأمور فينا ونشاهد وقوعها في نفس الظروف التي وقعت فيها سالفا فيشتد إعجابنا بهذا الانعكاس الأزلي، ولا نتمالك من أن نردد مع من يقول: «التاريخ يعيد نفسه.»
فهناك إذن تقليد فطري وهذا ما لا أبحث فيه، وإنما يأخذني العجب من حال أولئك الذين يرضون - بمحض إرادتهم - أن يضحوا ما لهم من الحرية باندفاعهم في تقليد سواهم؛ أقول ذلك لأن التقليد تقييد، ومن اقترض رأس ماله من غيره فقد أصبح مدينا له، وما الدين سوى سلسلة تطوق الأعناق، إذن فهل يفهم أولئك الذين يرتلون أناشيدهم أمام صنم الحرية معنى تلك التراتيل التي يتشدقون بها؟
وإنه لمن الصعب أن يكون الإنسان بعيدا عن تأثير أي بيئة منزها عن كل هوى وغاية؛ لأن مثل هذا الأمر لا يتفق إلا لمن خلق من مادة ممتازة أعلى من طينة البشر.
رباه كم يجب على الإنسان أن يكون غني الروح ليستطيع أن يكف الطرف عن أموال الناس وجواهرهم، وإلى أي حد يجب أن تكون أفكاره وإحساساته مستثناة وظاهرة ليكون عفيف النفس عما في حوزة سواه؛ وليستطيع أن يدعي ملكية تلك الأفكار والإحساسات لنفسه، ويفتخر بأنها تخصه دون غيره.
إن الإنسان الذي يستطيع أن يكون شخصية مستقلة قائمة بنفسها - وليست صورة منسوخة من إنسان آخر - ليستحق كل إعزاز وتقديس؛ لأن مثل هذا الإنسان - إن وجد - كان آية الآيات ومعجزة المعجزات.
الفصل السابع
الأفكار العالية والتأثرات النبيلة منزهة عن الابتذال والامتهان من كل الوجوه؛ لأن السمو في حد ذاته جبل صعب المرتقى، يشرف على سلسلة جبال الأخلاق بأكملها، وله في الحياة موقع ممتاز لا يدانيه فيه ند ولا منافس لجليل قدره وعظيم شأنه، نرى هذا الجبل باذخا مرتفعا لدرجة تدهش الألباب وتحير العقول، ومع هذا فالناظر من علوه الشاهق لا يصيبه ألم في عينه، أو يعتريه دوار في رأسه كما يحصل عادة للناظر من أعالي الجبال إلى الوديان السحيقة، إذ لا يبقى أثر للضعف أو الاضطراب في محيط ذلك العلو الشاهق.
أما الوصول إلى تلك الذروة العالية - ذروة السمو الأخلاقي - فليست بالشهرة ولا السطوة ولا الجاه؛ لأنها ليست امتيازا موعودا لجميع الخلق، فلا الأصالة في ذلك تنفع ولا الرتبة تشفع، بل إن العمر والذكاء أيضا لا يجديان نفعا أو يأخذان بيد المرء خطوة واحدة في سبيلها؛ ذلك لأن هذا الجبل الشامخ المتعالي على سلسلة جبال الأخلاق بأجمعها هو عالم قائم بنفسه، عالم منفرد بصولجان السطوة والرياسة بين العوالم الأخرى، والوصول إليه إنما يكون برقة الروح وشفافتها.
والمقيمون في تلك الذروة قلما يهبطون الوادي؛ ولذلك لا يستطيعون إفهام أهله بما يجول في نفوسهم من العواطف والأفكار وما تنطوي عليه صدورهم من المشاعر والإحساسات، أما مدة نزولهم في الوادي فقصيرة الأمد؛ لأنهم لا يجدون بين سكانه من يفهم بلسانهم، فسرعان ما يعودون إلى ذروتهم ثانية؛ لأن المحيط يضايق أنفاسهم.
وفي أطراف الوادي، تحت أقدام ذلك الجبل الشامخ يعيش أناس يقضون أوقاتهم في الأحلام، لا يكاد أحدهم يشعر بوجود تلك الذروة فوق رأسه، فلو خطا أحدهم خطوة واحدة في سبيل تلك القمة لاعتراه الخفقان وأصابه الدوار بلا شك؛ لأن هواء ذلك العلو الشاهق ثقيل الوطأة عليه لا تتحمله رئتاه.
الفصل الثامن
لكل الحوادث والوقائع - حتى التافهة منها - مكان من الأهمية في حياة الإنسان؛ لأنها تؤثر على الدوام بأصابعها الخفية على الأخلاق والإحساسات والتصورات، فأريج رائحة خفيفة يشمها المرء على حين غفلة منه قد توقظ ذكرى سلفت من نومها العميق، والمنظر العادي ذو اللون البسيط ربما صبغ القلب بألوان شتى من الأمل والرجاء، وكذلك الكلمة الصغيرة قد تكفي لأن تستعرض أمام أنظار المرء كل مناظر الحياة، وفي بعض الأحايين نجد أن بعض الحوادث يقع بكيفية خاصة تؤثر على القلب وتحوله إلى بركان من الحماس والهياج.
فكل حادثة في الحياة مهمة باعتبار ماهيتها؛ إذ إن منشأها إما أن يكون لونا أو صدى أو ذكرى.
الفصل التاسع
هنالك كائن بلا جسم، قابض بيده القوية على جميع الموجودات، يسمى «السكوت»، وهو في الحقيقة صدى الفضاء ولسان حاله.
وهذا الكائن المسمى سكوتا مملوء بالخواطر النفيسة والتذكارات العزيزة التي تخلب العقل الإنساني بلسانها السحري، مملوء بأسرار الماضي وأشجانه وشكاويه، تلك التي يذوب لها القلب حسرة وأسى كلما ردد الأثير صداها.
ولهذا السكوت الناشئ عن اللاشيء والمستولي على العالم بأجمعه السلطان المطلق والنفوذ التام في كل زمان ومكان، فهو موجود في وسط الزحام حيث الضجيج والضوضاء، وفي أطراف كل جلبة ولجب ومع كل طنطنة ودبدبة.
ذروة كل علو صمت وسكوت، وفي قرارة كل عمق لا تجد سوى السكوت، وكما أن مبدأ كل عاصفة سكوت ومنتهى كل جلبة وعويل سكوت؛ كذلك لا تجد في أشد حالات الدهشة والتأثر برهانا أبلغ من الصمت والسكوت.
إن الصفير الناشئ عن شفافة الأثير ورقته ليس إلا نغمة موسيقية تردد كل زاوية مهجورة في العالم صداها بلا انقطاع، إلا أن وقعها لا يحلو إلا في النفوس المكروبة المتعطشة للسكون والراحة؛ لأنها تسكن ثائرتها وتبعث فيها روح النشاط والقوة.
ومع ذلك فهنالك صمت مريع لا تطيقه النفس، مملوء بأنواع النقمة والغدر والتهديد، فمثل هذا الصمت الرهيب الذي ترتعش أمام قسوته كل الموجودات ينشأ أيضا من صميم الفضاء، إلا أنه في هذه الحالة لا يعد نغمة حلوة، بل يكون صيحة العدم المفزعة.
كل صمت هو حي متكلم؛ لأنه يحوي بين جنبيه تاريخ العالم وحوادثه أجمع؛ ولذا ففي مقدوره أن يعيد لزوايا النسيان والهجران بهجتها الأولى ورواءها السابق بما يستعرضه أمامها من مناظر الأيام السالفة وخواطر الساعات الماضية.
الفصل العاشر
الألم مخلوق من الألم فقط، فلا توجد في عنصره مادة أخرى؛ ولذلك كان من أصح الإحساسات البشرية وأصدقها، فكل حالة روحية قد يكون لها مظهر داخلي، وكل تأثر قلبي قد يكون له ماهية أخرى، أما الألم فلا يخالطه جوهر آخر، وبهذه المزية عد من أصفى التأثرات وأنقاها.
انظر إلى الألم من أي وجهة أردت فلا تجد له غير لون واحد ومظهر واحد.
الوجه المتألم لا يمكن أن يستر قلبا طروبا، وصدى الشهقة يستحيل أن تكون قهقهة، فظاهر الألم ألم؛ لأنه لا يحمل نقابا على وجهه.
لا مراء في أن للخيال دخلا في كل أمور الحياة، قليلا كان ذلك أم كثيرا، فالسرور والانشراح وغير ذلك من حالات الصفو مصدرهما الخيال، أما الآلام والأكدار فمنشؤها الحقيقة، والألم الناشئ عن الحقيقة مصباح ينير طريق السمو أمام الروح؛ لأن عين السور كليلة عن حقيقة المرئيات، أما عين الأكدار والآلام فترى الأشياء بوضوح تام، ومثل تلك الإحساسات الناشئة في ظل قلب سعيد يكون أكثرها سطحيا مموها بطلاء سريع الزوال، أما إحساسات القلوب المملوءة بالأحزان والأشجان فهي في الغالب حقيقية، إن الآلام تحيي في النفوس ما أماتته الغفلة، وتمحو أثر كل لبس وإبهام، وتزيح من أمام الأنظار ستار الأوهام والخيالات، فتزداد بذلك بصيرة العيون الكليلة، وتشتد حدة الأذهان البليدة، وتقوى الإحساسات في القلوب الضعيفة.
الألم درس واطلاع، وتحمل الألم معناه إدراك، أما الإدراك فهو الوصول إلى الحقيقة، وعلى هذا الأساس تتوقف رقة الحواس بأكملها، فالألم إذن حقيقة، والغوص في قرارة النفوس المتألمة لاستجلاء الحقائق إلهام ونبوغ.
ناپیژندل شوی مخ