كان يراقبها في نفسها ويراقبها في نفسه، كان يرى المرأة المرحة الطروب وهي تلهو وتعبث، ويرى المرأة الكسيرة المطواع وهي تلتمس الأمان والعزاء، ويرى الإنسانة الفطرية وهي تطيع الغريزة وتلبس «دورها» على مسرح الطبيعة بين نباتها وحيوانها ومكانها وأهوائها، ويرى المرأة الذكية وهي تقرأ النثر والشعر وتنتقد الصور المتحركة، ويرى المرأة العصرية وهي تتغلب على امرأة الجيل الغابر في ميدان، وتخضع لها وتنهزم أمامها في ميدان، ويرى من وراء ذلك جميعه وفي خلال جميعه المرأة الخالدة التي لا تتحول ولا تتبدل، والأنثى السرمدية التي يهمها من «الذكر» الحماية والجاه قبل كل شيء وبعد كل شيء، ولا يهمها العقل والرجحان والفضائل والمناقب إلا لأنها وجه من وجوه الحماية والجاه.
لقد أكبرته كثيرا وهي تسمع الثناء عليه في مجالس أناس من علية الناس لا يعلمون ما بينهما من صلة، ولا يستريحون إليها لو علموها.
ولقد أكبرته كثيرا وهي تقرأ له أسفار النوابغ من أساطين الأقدمين وفحول المحدثين الغربيين، وهو يعقب على ما يسمع بكلمة هنا وكلمة هناك، ويناقش لها ما يبدو أنه حقيق بالمناقشة، وليست هي من الجهل بحيث يخفى عليها سداد مناقشاته، وليست هي من قلة الثقة به بحيث تغلق المنافذ على ذهنها مكابرة وتقليدا كما يفعل العامة الجامدون، وليست هي من العلم بحيث تفهم أن نوابغ الغرب كائنة ما كانت أقدارهم وبالغا ما بلغ صيتهم واشتهارهم خاضعون للنقد قابلون للتشريح والتصحيح، بل هي نشأت نشأتها الأولى على تقديس هؤلاء النوابغ والعلو بهم إلى مرتبة العصمة والتأليه، فإذا بدهتها الملاحظة ولم تجهل سدادها فغرت فاها الصغير وحملقت بعينيها الواسعتين كما تفعل الطفلة وهي تتفرج على منظر طريف، وجال في قلبها إكبار تعبر عنه بكل ما تستطيع من علامات التحبب والتدليل.
إلا أن شيئا من ذلك - في مدى السنوات الطوال - لم ينعشها ولم يلمس كوامن أنوثتها ولم يقدح من سرورها به وحنينها إلى جواره مثل ما نعشها وسرى فيها وتجلى عليها في حادثة عرضية حدثت ذات مساء في مركبة من مركبات الأجرة بين الزمالك والجزيرة.
كانت المركبة تسير على مهل والحوذي قد غفل عن إشعال مصابيحها بعد مغيب الشمس، فصدمت واحدا من ثلاثة أو أربعة من رجال الضبط كانوا يتمشون على ساحل النيل في محاذاة العوامات والذهبيات، وذلك جرم من الحوذي تضيق عنه رحمة الله! فإن كل شيء ليجوز للحوذي الغافل إلا أن يصدم السادة «رجال الضبط»، وهم هم أصحاب الحول والطول والقول الفصل في الخيل والمركبات والسيارات والحوذية والساقة، وما يحملون ومن يحملون! ... فإذا كان ذلك في أثناء «تأدية وظيفة» كما يسهل القول والإثبات، فويل يومئذ للمسكين ... إنه لذاهب من الدار إلى النار وما له من شفيع.
وقد كان أصاب الغافل الأثيم جزاءه اليسير في سرعة لا تليق بمركبات الخيل ولو كان لها مائة حصان، فجذبه «رجال الأمن» من مقعده الرفيع وصافحوا صدغيه بكل ما وسعته الكفوف من مران على هذا الضرب من المصافحات، وجعل الرجل يستغيث ويعتذر ويتوسل ولا جواب له إلا ضربات متداركات تتبارى فيها الألسنة والكفوف.
وطال الخصام ولاح لهمام أنه لا يؤذن بختام ... فلم يجد مناصا من النزول والسعي في الإصلاح، ولم يغب عن باله أن اللجاجة قد تفضي برجل الضبط «المعتدى عليه» إلى كتابة محضر واستدعاء شهود، وأنه سيكون لا محالة واحدا من هؤلاء الشهود، فإذا أفضى الأمر إلى ذلك فقد كان ينوي أن يعطيهم عنوانه إن قنعوا به أو يصاحبهم بعد أن يحتال في صرف سارة وإبعادها عن القضية ما استطاع.
على أن المسألة لم تلجئ إلى شيء من ذاك، ولم تستغرق أكثر من دقيقة أو دقيقتين، فقد كان «رجال الضبط» ظرفاء رقاق الحاشية يعرفون همام بالرؤية والسماع وإن لم تجمعهم به صداقة، فتلطف أكبرهم وحيا هماما بلقبه دون اسمه، واتجه إلى الحوذي بعد أن صفعه الصفعة الأخيرة وأسلمه الرخصة المنزوعة ... وهو يهنئه بالسلامة، إكراما للرجل الذي معه لا إكراما لأمه وأبيه اللذين من صفاتهما كيت وكيت، كما علم قبل ذلك على ما يظهر.
ولم تكن سارة من السذاجة بحيث تفرق من محذور هذه الحادثة، ولم تكن من قلة الحيلة بحيث تعي بتدبيرها أن ساءت الجريرة وقد أفهمها همام قبل نزوله من المركبة أن اتقاء المحذور سهل من «الوجهة الرسمية»، وقد سبق لهما أن تعرضا معا لمهاجمة بعض العاطلين الذين يأخذون الطرقات على المارة في الضواحي البعيدة رجاء المساومة على ما يحسبونه من الفضائح الغرامية، فنظرت إليهم غير حافلة وتركت هماما يزجرهم وينهرهم ليعلموا ألا رجاء في مساومة ولا خوف من فضيحة، فلم يكن سرورها بصاحبها تلك الليلة سرور النجاة من مأزق مخيف والفزع من عاقبة محذورة، وإنما كان سرور المرأة بالحماية والثقة والاستسلام وهي مغمضة العينين.
فلما عاد همام إلى المركبة واستوى في مكانه فيها لم تزد على أن زحفت إلى جانبه واستكانت إلى جواره وتطامنت في حضنه تطامن الفرخ في حضن أبيه، وهمست تحت أذنه وهي تمسح خدها بخده: ما أسعدني بجوارك سيدي ومولاي! وكانت تلك أول مرة دعته فيها تلك الدعوة، وكان ذلك كل ما فاهت به من تعبير عن سرورها، وما كانت في حاجة إلى أن تزيد؛ فقد كان شعور همام بسرورها الناعم المرفرف الشكور غنيا عن كل كلام.
ناپیژندل شوی مخ