62

ويعود همام من رحلته وقد علق جميع همومه وأجل جميع نياته، وأصبح جزءا من الشمس والهواء والجو، ولم يعد جزءا من عالم الإنسان.

وألفى نفسه وهو عائد إلى منزله على مقربة من مسكن صاحبه الأستاذ زاهر، وهو رجل ظريف طيب النحيزة من أولئك الذين يرضون فيسلون ويطربون، ويسخطون فيكونون أدنى إلى التسلية والطرب، لطرافة ما يرتجله في هذه الحالة من مفارقات اللذع والتنديد.

وكان يومئذ يسكن في بيت من بيوت الحجرات المفروشة تديره خائطة فرنسية، ليكن اسمها «ماريانا» ... فدلف همام إلى المنزل يزور صاحبه ويقضي معه فترة يقفزان فيها بين معارض الحديث التي لا وصلة بينهما، ويضحكان ضحكا كثيرا، إن لم تكن فيه فكاهة عالية ففيه ولا شك تمرين نافع للرئتين.

ووجد «ماريانا» في فناء الدار تطعم الديكة الرومية التي عندها صفحة من «المكرونة» البائتة، وعندها فتاة مليحة يصعب تقدير سنها؛ لأنها تصلح للعشرين كما تصلح للخامسة والعشرين، وتسمى آنسة كما تسمى سيدة، وهي مشغولة بكساء تقلبه وتمعن النظر فيه.

قال همام: أسعد الله الصباح، أين زاهر يا مدام؟

فردت تحيته بمثلها، وقالت: أولا نراك إلا زائرا لزاهر؟ إنه خرج منذ هنيهة على أن يعود بعد قليل.

والتفت همام إلى صفحة المكرونة قائلا: أرى أن الديكة اليوم إيطالية وليست رومية.

فلم تجب ماريانا بغير ابتسامة عريضة، وإنما أجابت الفتاة قائلة: إن كان الجنس بالطعام فالديكة هنا عالمية لا تدين بجنس من الأجناس، مصرية إن أكلت الفول المدمس، وإنجليزية إن أكلت البطاطس، وهندية إن صبرت على الصيام الطويل.

فنظرت إليها «ماريانا» نظرة العتب المصطنع، واستظرف همام جوابها واستغرب مشاركتها في الحديث في وقت واحد، ورحب مع ذلك بهذه المشاركة التي أحس لتوها أنها وافقت هواه، وأنه كان يسوق الحديث إليها إن أبطأ المساق.

قال همام: إن الآنسة تعرف كل شيء عن ديكة البيت وتذبذبها في الوطنية، ولكني لا أذكر أنني رأيتك هنا يا آنسة قبل الآن.

ناپیژندل شوی مخ