وكان الرسم المتفق عليه بين همام وأمين أن يقص أمين كل ما يراه ويسمعه منذ خروج سارة من منزلها إلى عودتها كائنا ما كان شأنه من التفاهة وقلة الدلالة في نظره، فلا يسقط شيئا ولا يستهين بشيء وإن هان، وضرب همام مثلا لذلك لون الرداء وزي الملابس، فهو شيء لا يختلف مدلوله في رأي أمين، ولكنه يدل على الكثير في رأي همام، وضرب مثلا آخر أن تركب السيدة الترام فتتخطى مقصورة السيدات إلى مقصورة الرجال، أو تتخطى هذه وتلك إلى كراسي الدرجة الثانية، فلا يمكن أن يكون ذلك بغير دلالة تقترن بدلالة أخرى فتعين على جلاء الحقيقة، وهكذا من أمثال هذه الطفائف والقرائن التي لا غنى عنها للوصول إلى نتيجة من وراء الملاحقة والرقابة.
ولم يكن في سرد هذه المشاهدات صعوبة على أمين؛ لأنه كان مطبوعا على التقاط ما يبصر ويسمع، ومحاكاة ما يلتفت إليه من اللهجات والحركات والإشارات، فجاء يوما بعد مراقبة نهار كامل بحكاية ما شك همام وهو يسمع أوائلها أنه لن ينتهي إلى أواخرها حتى يضع يده على لباب الحقيقة ويتطرق منها إلى النبأ اليقين.
قال: لقد خرجت السيدة عصرا تلبس رداء عنابيا ومعها طفل صغير، فذهبت إلى بيت صعدت إلى دوره الأعلى ثم نزلت ومعها سيدة تكبرها بعدة سنوات، ومضتا إلى دار من دور الصور المتحركة في شارع عماد الدين فجلست أنتظرها على القهوة الملحقة بالدار، ولم يمض نصف ساعة حتى خرجت وحدها وليس معها الطفل ولا السيدة ...!
ما شك همام حين وصل أمين إلى هذه المرحلة من حكايته أن في الأمر شيئا ، وأنه يتعقب الأثر الصحيح إلى النتيجة الصحيحة.
نعم، إن أمينا أخطأ إذ لم يدخل معها إلى قاعة الصور المتحركة، ولكن خروجها بعد ذلك قد أصلح ذلك الخطأ وعفى عنه ... وما يراه بعد الخروج هو المهم، وليس ما يراه في القاعة إن رأى هناك ما يستحق الالتفات ... وإلا فلماذا تخرج بعد نصف ساعة؟ ولماذا تخرج وحدها؟ وذلك الثوب العنابي أليس هو الثوب الذي تحب أن تتزين به لخلوتها وتحسبه أجمل عليها من سائر ثيابها؟
فالحقيقة إذن على مدى خطوتين، ويستر الله فلا يعثر أمين بإحدى سهواته في إحدى هاتين الخطوتين، وماذا عسى أن يعثره بعد هذا المدى؟ وكيف يعثر يا ترى؟ ذلك بعيد ... وأغلب الظن أن الأمر سينكشف وأن الغاشية ستنجلي، وإن ليل الشكوك والهواجس المضطربة سيسفر بعد لحظة عن فجر صادق بين. - ثم ماذا يا أمين؟
ثم سهوة من تلك السهوات التي تنقض في صدمة المباغتة، والتي لا ترد على البال ولا تقع في الأوهام، والتي يخيل إليك أن أمينا لم يعثر بها إلا لأنه تعمد أن يعثر بها وأصر على تدبيرها؛ لأن ما صنعه هو الشيء الوحيد الذي لا ينتظر أن يكون.
اعتدل أمين في مجلسه واتكأ على عصاه، وقال في راحة الذي لم يضيع أقل فرصة وأقصى احتمال: إن السيدة لم تعد بعد خروجها من دار الصور المتحركة! - ويحك! وإلى أين ذهبت؟ - لا أدري. - وكيف لا تدري؟ ألم تتبعها؟ - لا، لأنني ما شككت في أنها خرجت لحاجة لها ثم تعود ... ولا يليق أن أتبعها.
فانتفض همام وهو يغالب غيظه وسخطه وصاح به: يا أخرق! أليس في دار الصور ما يغني سيدة مهذبة عن الخروج إلى منعطفات الطريق؟
ففطن أمين ساعتئذ لسهوته «الجبارة» ... وأخذ في تمحل الأعذار والمسوغات، وهو - على صدقه - لا يتورع في هذه الأزمات المحرجات عن أكذوبة صغيرة يتقي بها التهزئة والتسخيف أشد من اتقائه الملامة والتعنيف، وقال: الواقع أنني صادفت والدي عابرا فحياني وجلس معي وخشيت إن أنا تبعت السيدة فجأة أن يستريب ويتكدر، فلبثت في مكاني على رجاء أن تعود.
ناپیژندل شوی مخ