لا بد لي من أن أطيل الكلام في هذا الفصل امتحانًا لصبر القارئ. فإن أتى على آخره دفعة واحدة من غير أن تحترق أسنانه غيظًا أو تصطك رجلاه غيرة وحمية. أو ينزوي ما بين عينيه أنفة وحشمة. أو تنتفخ أو داجه وَغْرا وهوجًا. أفردت له فصلًا فيه وعددته من القراء الصابرين. ولكون الفارياق في هذا الوقت قد طال لسانه وإن يكن فكره قد بقي قصيرًا، ورأسه صغيرًا ناقصًا من عند فمحدوته. وقد نذرت على نفسي أن أمشي وراءه خطوة خطوة وأحاكيه في سرته. فإن رأيت منه حمقة جئت بمثلها. أو غواية غويت مثله. أو رشدًا قابلته بنظيره قابلته بنظيره وإلا فإني أكون خصمه لا كاتب سيرته أو ناقل كلامه. وينبغي أن يعلق هذا الحكم في أعناق جميع المؤلفين. ولكن هيهات فأني أرى أكثرهم قد زاغ عن هذه المحجة. إذ المؤلف منهم بينا هو يذكر مصيبة أحد من العباد في عقله أو امرأته أو ماله إذا به تكلف لا يراد الفقر المسجعة والعبارات المرصعة وحشى قصته بجميع ضروب الاستعارات والكنايات. وتشاغل عن هم صاحبه بما أنه غير مكترث به. فترى المصاب ينتحب ويولولول ويشكو ويتظلم. والمؤلف يسجع ويجنس ويرصع ويروي ويستطرد ويلتفت ويتناول المعاني البعيدة. فيمد يده تارة إلى الشمس وتارة إلى النجوم. ويحاول إنزالها من أوج سمائها إلى سافل قوله. ومرة يقتحم البحار. وأخرى يقتطف الأزهار ويطفر في الحدائق والغياض. من أصل إلى فرع ومن غوطة إلى ربوة.
ما ذلك دأبي فإني إذا أوردت كلامًا عن أحمق انتقيت فيه له جميع الألفاظ السخيفة. وإذا نقلت عن أمير تأدبت معه في النقل ما أمكن. فكأني جالس بمجلسه. أو عن قسيس مثلًا أو مطران أتخفته بجميع اللفظ الركيك والكلام المختل. لئلا يصعب عليه المعنى فيفوت الغرض من تأليف هذا الكتاب.
فأعلم إذًا أن الفارياق بعد أن فار دماغه بحرارة النمو زيادة على ما كان له من الرغبة في النظم سارت ذات يوم لقضاء مصلحة له. فمر في طريقة على دير للرهبان. وكان الوقت مساء. فرأى أن يبيت ليلته تلك في الدير فعرج عليه وطرق الباب فبرز له رويهب. فقال له الفارياق هل من مبيت عندكم لضيف فقال له الرويهب. أهلًا به إن لم يكن ذا سيف. ففرج الفارياق بهذا الجواب وعجب من أنه يوجد في الدير من يحسن المساجلة. وإنما قال له الروية بما قال لأن الدير كان ينتابه كثير من أتباع الأمير ليبيتوا فيه منكل سرطم قهقم لهم نهم وحم وخم هقم يسمع له هيقم. فكان أحدهم إذا بات ثمّ ليلة يكلف الرهبان من المطاعم الفاخرة ما لم يعهدوه. لأن هؤلاء الخلق يعيشون عيشة المتقشفين المقترين المتبلغين بأدنى القوت. إذ هم ينظرون إلى الدنيا وإلى لذاتها نظر العدو. فهي عندهم ضرة الآخرة. كلما تباعد عنها الإنسان المخلوق فيها تقرب إلى الجنة. حتى أن الخبر الذي كثيرًا ما يأكلونه بغير إدام ليس كخبز الناس. فإنهم بعد أن يخبزوه رقيقًا يشمسونه أيامًا متوالية حتى يجف وييبس بحيث يمكن للإنسان إذا أخذ بكلتا يديه رغيفين وضرب أحدهما بالآخر أن يخيف بقرقعتهما جميع جرذان الدير. أو أن يتخذهما متخذ الناقوس الذي يضرب به لأوقات الصلاة. ولا يقدرون على أكله إلا منقوعًا بالماء حتى يعود عجينًا. فأما تقلد تابع الأمير بالسيف فإنما هو تهويل وإنذار بنكال المتهاون به. كتهويل الفارياق على الرويهب بسؤاله. ومن لم يكن له سيف استعار سيف صاحبه. أو أتخذ له خشبة رقيقة في غمد سيف. وليس في استعارة الماعون وغيره عند أهل الجبل من عار بل كثيرًا ما يستعيرون حليًا ومعروضًا للعروس يزفونها به وللرجل ثيابًا وعمامة يزينونه بها.
1 / 36