65

والآن وقد تعلقت خواطره فتاة جميلة مرحة مليئة بلذة الحياة فقد بدا له أن يصور «الحياة.» وتحمس لهذه الفكرة كما هي عادته كلما عن له رأي جديد. وراح يعتقد أنه في هذه المرة سيوفق إلى النجاح.

وبعد أن أعد لوحا كبيرا مضى في العمل بسرعة المحموم كأنما يخشى أن يعطله معطل. وما كاد يلمس اللوح ببعض الألوان ويخرج من تواليفها أثرا سارا متجاوبا حتى اهتز سرورا وتمثلت لخياله الصورة المزمعة بكل تفاصيلها، ولكنه لما توغل في العمل نشأت المصاعب الفنية وتعددت وأحس يوري أن لا قبل له بتذليلها، وعاد كل ما هو براق جميل قوي في مخيلته هزيلا ضعيفا على اللوح، ولم تعد تفتنه التفاصيل بل راح يلاقي منها البرح والضيق والكرب. والواقع أنه أغفلها وأنشأ يتوخى في الرسم الإجمال والإهمال والسرعة. وبدل أن تخرج يده صورة قوية واضحة للحياة ارتسمت على اللوح أنثى فاترة مثقلة بالألوان لا ينسجم عليها هندام. ولم يكن ثم شيء فاتن أو مبتكر في مثل هذه الصورة الفاترة المكررة. إن هو إلا رسم تافه في فكرته وفي آدائه. فاكتأب يوري كالعادة.

ولولا أنه استحيا لأمر ما أن يبكي لبكى ولأخفى وجهه في الوسادة وراح يعول. ولقد أحس الحاجة إلى أن يبث بعض الناس شكواه ولكن ليس من عجزه وقصور باعه. على أنه لم يفعل، بل جعل يرمق الصورة متحسرا ذاهبا إلى أن الحياة على العموم ضنى وشجى وضعف، وأنها خالية مما يلذه. وراعه أن يفكر في أنه سيكون عليه أن يقضي سنين عدة في هذه البلدة الصغيرة.

وابترد جبينه كالثلج وهو يقول لنفسه: «إن هذا هو الموت بعينه!»

ثم اشتاق أن يصور «الموت» وأمسك سكينا وشرع وهو محنق يكشط صورة «الحياة» وغاظه أن ما صنعه بمثل تلك الحماسة يزول بمثل هذه الصعوبة. ولم يسهل عليه أن ينزع الألوان. ولقد أفلتت السكين ومزقت اللوحة في موضعين، ثم وجد أن الطباشير لا يخلف أثرا على ألوان الزيت فملأه هذا ضيقا.

ثم إنه شرع يعمل بالفرشة ويخطط موضوعه وجعل بعد ذلك يرسم في بطء وقلة احتفال وبلا روح. غير أن عمله لم يخسر بذلك شيئا بل أفاده التثاقل والإهمال والأخذ بالألوان الثقيلة الرازحة. واختفت فكرته الأولى وذهب يصور «الشيخوخة» فجعلها عجوزا هزيلة متطرحة في طريق وعر، وقد غابت الشمس واحلولكت السماء وارتمت ظلال الصلبان وانحني كتفا المرأة المحروقتان تحت ثقل نعش أسود، وارتسمت على وجهها الكآبة واليأس وإحدى قدميها على حافة قبر مفتوح، صورة مرعبة للشقاء والجهامة.

وأرسلوا إليه يدعونه إلى الطعام ولكنه لم يذهب وظل يشتغل.

ثم جاءه نوفيكوف ليبلغه أمرا، غير أنه لم يصغ إليه ولا رد عليه. فتنهد نوفيكوف وجلس.

وكان نوفيكوف يحب السكون وإجالة الفكر فيما مر به وما جاء به إلى يوري إلا أن الوحدة في بيته ترمضه.

وكان رفض ليدا أن تتزوجه لا يزال يحزنه ولم يكن يدري أحزن ما به من ألم المذلة. وكان رجلا مستقيما متبطلا ولم يتصل به ما يتحدث به الناس عن ليدا وسارودين، ولم يكن يحس الغيرة بل الأسف على حلم لم يكد يليح له بالسعادة حتى انتسخ.

ناپیژندل شوی مخ