في أكوان أخرى، لم يكن هناك ما يشبه الكون المادي المنهجي المألوف، بالرغم من وجود الجانب المادي بكل تأكيد. كانت الخبرة المادية للكائنات تتحدد بالكامل بناء على تأثيرها المتبادل على بعضها. لقد كان كل منها يغمر رفاقه ب «الصور» الحسية، وكانت نوعية هذه الصور وتسلسلها يتوقفان على القوانين النفسية التي تحكم تأثير كل عقل على الآخر.
في أكوان أخرى، كانت عمليات الإدراك الحسي والتذكر والتفكير وحتى الرغبة والمشاعر، مختلفة كل الاختلاف عما نعرفه حتى إنها تشكل في حقيقة الأمر عقلية ذات تنظيم مختلف تماما. وبالرغم من أنني على ما يبدو ما زلت أتذكر لمحات من هذه العقول، فلا يمكنني أن أذكر عنها أي شيء.
من الأحرى أن أقول إنه بالرغم من أنني لا أستطيع الحديث عن الأنماط النفسية الغريبة لهذه الكائنات، فثمة حقيقة غريبة عنها يمكنني أن أذكرها. بالرغم من أن أنسجتها الذهنية الأساسية والأنماط التي ترتبط بها معا تستعصي على الإدراك، استطعت أن أحظى بفهم عابر لأحد الجوانب في هذه الكائنات. بالرغم من اختلاف حيواتها عن حياتي، كانت تشبهني في جانب من الجوانب. إن جميع هذه الكائنات الكونية الأعلى مرتبة مني، والتي قد وهبت قدرا أكبر من القدرات، كانت تواجه باستمرار الوجود بالطريقة التي ما زلت أنا نفسي أسعى أحيانا إلى تعلمها؛ إنها، حتى في الألم والأسى، وحتى في النضال الأخلاقي والشفقة المتأججة، كانت تلاقي قرار القدر بابتهاج. ربما تكون الحقيقة الأكثر إدهاشا وتشجيعا في جميع خبراتي الكونية والفائقة للكون هي هذا التشابه وفهم أغرب الكائنات فيما يتعلق بالخبرة الروحانية الخالصة. بالرغم من ذلك، فسرعان ما اكتشفت أن هناك الكثير مما يجب علي أن أتعلمه في هذا الشأن. (3) الكون النهائي والروح الأبدية
عبثا راح انتباهي المجهد والمرهق يحاول أن يتبع الأكوان المتزايدة التعقيد والبراعة والتي، وفقا لحلمي، قد تصورها صانع النجوم. انطلق الكون تلو الكون من مخيلته المتقدة، وكل منها بروح مميزة متنوعة على نحو لا نهائي، وكل منها تصل في أعلى مستوياتها إلى حالة أكثر تيقظا من سابقاتها، وكل منها تستعصي على إدراكي بقدر أكبر.
بعد برهة، كشف لي حلمي أو أسطورتي، أن صانع النجوم قد خلق كونه النهائي والأكثر براعة على الإطلاق، والذي لم تكن غيره من الأكوان سوى تحضيرات بدائية له. لا يمكنني أن أقول عن هذا المخلوق الأخير سوى أنه كان يضم في نسيجه الأساسي، الأسس الجوهرية لجميع سابقيه، وأكثر منها بكثير. لقد كان شبيها بالحركة الأخيرة من إحدى السيمفونيات، والتي يمكن أن تتضمن من خلال دلالة محاورها، جوهر الحركات السابقة ومزيدا عليه، غير أن هذا التشبيه المجازي يخل بوصف براعة الكون النهائي وتعقيده إخلالا عظيما. لقد دفعت تدريجيا إلى الاعتقاد بأن العلاقة بينه وبين أي كون آخر سابق عليه، كالعلاقة بين كوننا وبين الإنسان، بل وذرة مادية واحدة. اتضح أن كل كون من الأكوان التي شاهدتها حتى الآن هو مثال واحد على رتبة متعددة الجوانب كأحد الأنواع البيولوجية أو رتبة تضم جميع ذرات عنصر واحد. بدا أن الحياة الداخلية في كل كون «ذري» تنطوي على النوع نفسه من الارتباط (والنوع نفسه من عدم الارتباط) بحياة الكون النهائي، كالعلاقة بين الأحداث في خلية دماغية، أو في أحد ذراتها، وبين حياة أحد العقول البشرية. وبالرغم من ذلك التباين العظيم، بدا أنني قد شعرت في ذلك الترتيب الهرمي المربك للأكوان بتطابق صارخ في الروح؛ فقد كان الهدف في هذه الأكوان كلها في النهاية يتضمن الاتحاد والعقل الإبداعي الصافي.
أجهدت ذكائي المتلاشي ليدرك شيئا عن تركيب الكون النهائي. وبإعجاب مختلط بالاعتراض، لمحت على نحو غير تام الأوجه الخفية الأخيرة في العالم والجسد والروح واتحاد هذه الكائنات الفردية الأكثر تنوعا والتي وصلت إلى أعلى مراحل اليقظة المتمثلة في المعرفة التامة للذات والبصيرة المشتركة، لكنني حين حاولت أن أصغي في ذاتي إلى موسيقى تلك الأرواح المجسدة في عدد لا يحصى من العوالم، لم تكن الأصداء التي وجدتها لمباهج لا يفي الحديث بالتعبير عنها فحسب، بل كانت أيضا لأحزان لا عزاء عنها؛ ذلك أن بعض هذه الكائنات النهائية لم تكن تعاني فحسب، بل إنها كانت تعاني في الظلام. وبالرغم مما كانت تتمتع به من قوة البصيرة الكاملة، كانت قوتها عقيمة. كانت الرؤية محجوبة عنها؛ فذاقت من المعاناة ما لم تذقه الأرواح الأدنى منها. لقد كانت شدة هذه التجربة القاسية لا تحتمل بالنسبة إلي، أنا الروح الواهنة لكون أدنى في المرتبة. وفي حسرة الرعب والشفقة، أوقفت بيأس عمل آذان عقلي. صرخت على ضآلتي في صانعي بأنه ما من مجد أبدي ومطلق يمكن أن يعوض حسرة هذه الكائنات. حتى إن كان البؤس الذي لمحته لم يكن في واقع الأمر سوى بضعة خيوط قاتمة قد حيكت في النسيج الذهبي لتثريه، وكان كل ما عدا ذلك نعيما؛ فقد صرخت قائلا بأن هذا العناء للأرواح المتيقظة، ما كان من المفترض له أبدا أن يحدث. تساءلت: بأي غل شيطاني ذاقت هذه الأرواح المجيدة العذاب، بل حرمت أيضا من العزاء الأسمى المتمثل في نشوة التأمل والتسبيح التي هي الحق الطبيعي للأرواح المكتملة اليقظة جميعها؟ لقد مر بي وقت نظرت فيه أنا نفسي، العقل المشترك لكون ذي مرتبة دنيا، إلى خيبات أفرادي الضئال وأحزانهم برصانة، واعيا بأن معاناة هذه الكائنات الناعسة ليست بالثمن الكبير مقابل ما قد ساهمت به أنا نفسي في الواقع من صفاء. غير أن الأفراد الذين كانوا يذوقون المعاناة في الكون النهائي بالرغم من عددهم القليل مقارنة بالعدد الكبير من المخلوقات السعيدة، فقد بدوا لي أنهم كائنات من رتبتي الكونية الذهنية نفسها، لا تلك الكائنات الواهنة التافهة التي ساهمت بأحزانها البليدة في صنعي. وهذا هو ما لم أستطع أن أتحمله.
بالرغم من ذلك، فعلى نحو مبهم، كنت أرى أن الكون النهائي جميل على أي حال ومثالي التكوين، وأن كل خيبة وحسرة فيه، مهما بلغت قسوتها على من يعاني منها، كانت تتجلى في النهاية دون أي إنقاص من الصفاء البالغ للروح الكونية نفسها. ومن هذه الناحية على الأقل، لم تكن المآسي الفردية عبثا.
غير أن هذا لم يكن شيئا. والآن، بدا أنني أرى، من خلال دموع التعاطف والاعتراض الشديد، روح الكون النهائي المثالي تواجه صانعها. وقد بدا أن التمجيد داخلها قد تغلب على التعاطف والاستياء. أما صانع النجوم، تلك القوة المظلمة والذكاء الصافي، فقد وجد في الجمال المتجسد في مخلوقه تحقيقا لرغبته. وفي البهجة المتبادلة بين صانع النجوم والكون النهائي، تولدت، على نحو شديد الغرابة، الروح المطلقة نفسها، والتي تكون فيها كل الأزمان حاضرة والوجود كله متضمنا؛ ذلك أن الروح التي نتجت عن هذا الاتحاد قد واجهت ذكائي المترنح بصفتها أساس جميع الأشياء المؤقتة المحدودة ونتاجها أيضا.
غير أن هذا الكمال الغامض والبعيد لم يمثل لي شيئا؛ ففي شفقتي على الكائنات النهائية المعذبة، وفي شعور بشري بالخزي والغضب، حنقت على حقي الطبيعي في الانتشاء بهذا الكمال اللاإنساني، وحننت إلى العودة إلى كوني الأدنى مرتبة، وإلى عالمي البشري المتخبط حيث أقف هناك كتفا إلى كتف مع نوعي نصف الحيواني في مواجهة قوى الظلام؛ أجل، وفي مواجهة ذلك الطاغية المنيع القاسي غير المبالي، والذي تقتصر أفكاره على إنتاج عوالم عاقلة ومعذبة.
ثم في خضم هذا الشعور بالتحدي، بينما صفقت وأحكمت إغلاق باب زنزانتي الصغيرة المظلمة المتمثلة في ذاتي المنفصلة، تهشمت جميع جدراني إلى الداخل وسحقت بفعل الضغط الناتج عن ضوء لا يمكن مقاومته، واحترق نظري مرة أخرى بصفاء لا يمكنه تحمله.
ناپیژندل شوی مخ