وفقا للأسطورة الخيالية أو الحلم الذي انبثق من عقلي بعد خبرة اللحظة الأسمى، فإن الكون المحدد الذي صرت أعتبر أنه «ذاتي» يقع في مرتبة لا هي بالمبكرة ولا بالمتأخرة في السلسلة الشاسعة للمخلوقات. وبدا أنه، في بعض الجوانب، أول الأعمال الناضجة التي أبدعها صانع النجوم، غير أنه كان يبدو، في العديد من الجوانب، طفولي الروح مقارنة بأعماله اللاحقة.
وبالرغم من أن الأعمال المبكرة لا تعبر عن طبيعة صانع النجوم إلا في مرحلته غير الناضجة، فإنها في الغالب تقع في جوانب مهمة في اتجاه يختلف عن اتجاه التفكير البشري؛ ولهذا فأنا لا أستطيع الآن أن أستعيدها ثانية. إنها لم تترك لدي سوى انطباع مبهم بتعدد أعمال صانع النجوم وتنوعها. بالرغم من ذلك، فما تزال هناك بضعة أمور يمكن للبشر إدراكها ولا بد من تسجيلها.
في الوسط البدائي لحلمي، جاء الكون الأول على الإطلاق بسيطا للغاية على نحو مثير للدهشة. لقد بدا لي أن صانع النجوم الطفل، بعد أن أثارته قدرته غير المعبر عنها، قد تصور سمتين من ذاته وجسدهما. وبهاتين السمتين فقط، صنع أول كون دمية له. ولم يكن هذا الكون سوى إيقاع زمني وكأنه يتألف من الصوت والصمت. ومن دق الطبول الأول البسيط هذا، والذي كان منذرا بالآلاف من الأكوان، طور صانع النجوم بحماس طفولي، لكنه إلهي في الوقت ذاته، قرعا إيقاعيا منتظما؛ نمط معقد ومتغير من الإيقاع. بعد ذلك بفترة قصيرة، من خلال التأمل في الهيئة البسيطة لمخلوقه، تصور صانع النجوم إمكانية وجود كون أكثر براعة؛ ومن ثم فقد ولد أول المخلوقات في خالقه حاجة لم يتمكن قط من إشباعها؛ ومن ثم فقد أسدل صانع النجوم الطفل الستار على كونه الأول . وحين نظر إليه صانع النجوم من خارج الزمن الكوني الذي ولده، أبقى مسيرته بأكملها في الزمن الحاضر. وحين انتهى من تقييم عمله بهدوء، حول انتباهه عنه وراح يفكر مليا في كون ثان.
بعد ذلك، راح الكون تلو الآخر ينبثق من مخيلته المتقدة، وكل منها أثرى مما سبقه وأكثر دقة. في بعض المخلوقات الأولى، بدا أنه لا يهتم إلا بالجانب الفيزيائي من المادة التي جسدها من نفسه. كان غافلا عما بها من إمكانات فيزيائية. بالرغم من ذلك، ففي أحد الأكوان المبكرة، أدت أنماط السمة الفيزيائية التي لعب بها إلى تحفيز طبيعة فردانية وحياة لم تكن هذه الأنماط تمتلكها في حقيقة الأمر، أم هل يا ترى كانت تمتلكها؟ في كون لاحق، انبثقت الحياة الفعلية على نحو شديد الغرابة بالفعل. لقد كان ذلك كونا قد أدركه صانع النجوم من الناحية الفيزيائية مثلما كان يدرك البشر الموسيقى. لقد كان تسلسلا ثريا من السمات المتنوعة في الحدة والشدة. لعب صانع النجوم الطفل بهذه الدمية بسرور، مخترعا مجموعة لا نهائية من الألحان والنغمات المرافقة. بالرغم من ذلك، فقبل أن يتمكن من تحديد جميع الفوارق النمطية الدقيقة في هذا العالم الصغير من الموسيقى الرياضية الباردة، وقبل أن يكون قد خلق ما يزيد عن بضعة فقط من الأكوان الموسيقية العديمة الحياة، اتضح له أن بعض مخلوقاته تبدي علامات على تمتعها بحياة خاصة بها تتمرد على الهدف الواعي لصانع النجوم. بدأت موضوعات الموسيقى تكشف عن أنماط سلوكية لم تكن متوافقة مع القانون الذي قد سنه لها. بدا لي أنه كان يراقبها باهتمام شديد، وأنها استثارت فيه تصورات جديدة تتجاوز قدرة المخلوقات على تحقيقها؛ ولهذا فقد انتهى من هذا الكون وبطريقة جديدة. لقد خطط لأن تؤدي الحالة النهائية للكون إلى الحالة الأولى على الفور. ربط الحدث الزمني الأخير بالبداية؛ ومن ثم فقد شكل الزمن الكوني حلقة لا نهائية. وبعد أن تأمل عمله من خارج زمنه المناسب له، نحاه جانبا، وبدأ التفكير في خلق جديد.
في الأكوان التالية، تعمد وضع شيء من فطنته وإرادته؛ فقضى بأن تكون بعض الأنماط والإيقاعات المحددة هي الأجسام المادية لعقول تتمتع بالقدرة على الإدراك. يبدو أن هذه المخلوقات كان من المفترض أن تعمل معا لإنتاج التناغم الذي كان هو قد تخيله لهذا الكون، غير أن كلا منها قد سعى جاهدا لأن يصوغ الكون بأكمله بما يتفق مع صورته. تقاتلت المخلوقات قتالا مستميتا، وهي مقتنعة بصلاحها واستقامتها. وحين تضررت، عانت من الألم. ويبدو أن هذا كان أمرا لم يختبره صانع النجوم الصغير أو يتخيله. وباهتمام مستغرق مندهش، وبجذل يكاد أن يكون شيطانيا أيضا (مثلما بدا لي)، راح يراقب حماقات أولى مخلوقاته الحية ومعاناتها، إلى أن حولت هذا الكون بصراعاتها ومذابحها إلى الفوضى.
ومنذ ذلك الوقت، لم يتجاهل صانع النجوم قط إمكانية وجود الحياة في مخلوقاته. بالرغم من ذلك، فقد بدا لي أن العديد من تجاربه الأولى في الخلق الحيوي كانت تنحرف عن مسارها على نحو غريب، وأنه في بعض الأحيان، كان يعود لبرهة إلى الخيالات الفيزيائية الخالصة، تقززا على ما يبدو من الطبيعة الحيوية.
لا يمكنني أن أصف مجموعة الأكوان الأولى إلا باختصار شديد. ويكفي القول إنها قد انبثقت من خيال إلهي ما يزال في مرحلة الطفولة. لقد انبثقت واحدا تلو الآخر كأنها فقاعات زاهية مبهرجة الألوان لكنها عديمة القيمة والتي كانت ثرية بجميع أنواع التفاصيل الفيزيائية الدقيقة، وشاعرية ومأساوية في معظم الأحيان بما فيها من مظاهر الحب والكراهية والرغبات والطموحات والمشروعات المشتركة لأولى الكائنات التجريبية الواعية التي خلقها صانع النجوم.
كانت العديد من هذه الأكوان المبكرة أكوانا لا مكانية، غير أنها كانت فيزيائية بالرغم من ذلك. وقد كان عدد غير قليل من هذه الأكوان اللامكانية، ينتمي إلى النوع «الموسيقي»، والذي كان المكان يمثل فيه على نحو غريب ببعد مماثل للحدة الموسيقية، وهو ثري بمجموعة متنوعة من الفروقات اللحنية. كانت المخلوقات يبدو بعضها لبعض على أنه أنماط وإيقاعات معقدة من السمات اللحنية. كانت تستطيع تحريك أجسادها اللحنية في بعد الحدة، وفي أبعاد أخرى في بعض الأحيان لا يمكن للبشر تصورها. كان جسد الكائن يشبه نمطا لحنيا ثابتا بدرجة أو بأخرى، وكان يتمتع بالدرجة نفسها من المرونة والقدرة على التغير البسيط التي يتمتع بها الجسد البشري. وكان يستطيع أيضا أن يجتاز غيره من الأجساد الحية في بعد الحدة، مثلما تتقاطع سلاسل الموجات في بحيرة بعضها مع بعض. لكن رغم أن هذه الكائنات كانت تستطيع أن تتجاوز إحداها الأخرى فحسب، فقد كان يمكنها الشجار أيضا وتدمير الأنسجة اللحنية بعضها لبعض. لقد كان بعضها يعيش بالفعل على التهام الآخرين؛ ذلك أن الأجساد الأكثر تعقيدا كانت تحتاج إلى أن تضم في أنماطها الحيوية الأنماط الأبسط التي كانت تنتشر مباشرة من القوة الإبداعية لصانع النجوم في الكون بأكمله. استطاعت الكائنات الذكية استخدام عناصر مستخرجة من البيئة اللحنية من أجل تحقيق غاياتها؛ ومن ثم فقد صنعت أدوات ذات نمط لحني. استخدمت بعض هذه الأدوات في المتابعة الأكثر فعالية للأنشطة «الزراعية» التي تمكنت من خلالها من تعزيز وفرة غذائها الطبيعي. وبالرغم من أن هذه الأكوان اللامكانية أبسط للغاية وأكثر ضآلة على نحو لا يقارن من كوننا، فإنها كانت تتمتع بالثراء الكافي لإنتاج مجتمعات قادرة على «الصناعة اليدوية»، لا «الزراعة» فحسب، بل إنها قد تمكنت أيضا من إنتاج فن خالص يجمع بين سمات الغناء والرقص والشعر. كان أول ظهور للفلسفة بمعناها العام لا الفيثاغورثي، على أحد هذه الأكوان «الموسيقية». وفقا لحلمي، كان الزمن لا المكان، هو السمة الأكثر جوهرية في الغالبية الساحقة من أعمال صانع النجوم. ورغم أنه قد استبعد الزمن من بعض مخلوقاته الأولى، مجسدا تصميما ثابتا فحسب، فسرعان ما تخلى عن هذه الخطة. لقد كانت تقيد مهارته بنطاق صغير للغاية. ثم إنها كانت تستبعد إمكانية العقل والحياة، فلم تتوافق مع أي من اهتماماته سوى اهتماماته في المرحلة الأولى على الإطلاق.
أوضح حلمي أن المكان قد ظهر أولا باعتباره تطويرا لأحد الأبعاد اللامكانية في كون من النوع «الموسيقي». لم تكن الكائنات اللحنية في هذا الكون تستطيع التحرك إلى «الأعلى» و«الأسفل» على السلم الموسيقي فحسب، بل كانت تستطيع الحركة «جانبيا» أيضا. في الموسيقى البشرية، يمكن أن تبدو بعض الموضوعات المحددة أنها تقترب أو تبتعد وفقا لاختلافها في جهورية الصوت وجرسه الموسيقي. وعلى نحو مشابه لهذا، كانت الكائنات في هذا الكون «الموسيقي» تستطيع الاقتراب بعضها من بعض أو الابتعاد إلى أن تختفي نهائيا من مدى السمع. وعند تحركها «جانبيا» كانت تنتقل عبر بيئات لحنية دائمة التغير. وفي كون تال، أثريت هذه الحركة «الجانبية» للكائنات بخبرة مكانية حقيقية.
تلا ذلك أكوان تتمتع بسمات مكانية ذات أبعاد متعددة، أكوان إقليدية وغير إقليدية، أكوان تجسد تنوعا هائلا في المبادئ الهندسية والفيزيائية. في بعض الأحيان، كان الزمان أو الزمكان، هو الحقيقة الجوهرية في الكون، ولم تكن الكائنات سوى صور معدلة عابرة منها. وبالرغم من ذلك، ففي معظم الأحيان كانت الأحداث الكيفية هي الجوهرية، وكانت مترابطة على نحو مكاني-زماني. في بعض الحالات، كان نظام العلاقات المكانية لا نهائيا، وكان نهائيا في بعضها الآخر لكن دون حدود. في بعض الحالات، كان لمدى المكان المحدود قدر ثابت يتناسب مع مكونات المادة الذرية في الكون، وفي بعضها الآخر، مثلما هي الحال في كوننا، كان يبدو في العديد من الجوانب أنه «يتمدد». وفي بعض الأكوان الأخرى، كان المكان «ينكمش»؛ ومن ثم تكون نهاية مثل ذلك الكون، الذي قد يكون ثريا بالمجتمعات الذكية، هي اصطدام جميع أجزائه وتكدسها معا، ثم اجتماعها في النهاية معا وتلاشيها في نقطة عديمة الأبعاد.
ناپیژندل شوی مخ