وأنا لا زلت أستكشف المستقبل من لحظة نضجي الأسمى الذي لا يعرف الذبول، رأيت موتي، الانقطاع الأخير لهذه الاتصالات التخاطرية التي كان وجودي يعتمد عليها. وبعد ذلك، عاشت العوالم الناجية القليلة في عزلة مطلقة، وفي تلك الحالة الهمجية التي يدعوها البشر بالتحضر. وبعد ذلك، بدأت تتهاوى المهارات الأساسية للحضارة المادية في عالم تلو الآخر، لا سيما مهارات التفكيك الذري والبناء الضوئي. كانت العوالم إما أن تفجر مخزونها القليل المتبقي من المادة عن غير قصد وتتحول إلى كرة من الموجات الضوئية التي تنتشر ثم تخبو في الظلام الهائل، وإما أن تموت بتعاسة من الجوع والبرد. الآن لم يتبق في الكون بأكمله سوى الظلام وبقايا الغبار القاتمة التي كانت مجرات فيما سبق. مرت دهور لا تحصى. وشيئا فشيئا، انكمشت بقايا حبات الغبار تلك على نفسها بفعل تأثير جاذبية أجزائها، ومع بعض التصادمات المتقدة بين الحبات المتجولة، تكثفت في النهاية جميع المواد الموجودة في كل حفنة من الغبار لتصبح كتلة واحدة. أدى ضغط المناطق الخارجية الضخمة إلى تسخين مركز كل كتلة في هذه الكتل، مما أدى إلى حدوث نشاط توقدي، بل حتى انفجاري. بالرغم من ذلك، شيئا فشيئا، اتجهت آخر الموارد الموجودة في الكون بإشعاعها بعيدا عن هذه الكتل الآخذة في البرودة، ولم يتبق شيء سوى الصخور وتموجات خافتة للغاية من الإشعاع راحت تنتشر في جميع أرجاء الكون الدائم «التمدد»، وببطء شديد لا يسمح برأب الصدوع المتزايدة بين حبات الصخور المنعزلة.
في هذه الأثناء، ولأن جميع الكرات الصخرية التي كانت مجرات فيما سبق قد حملت إلى مكان بعيد للغاية عن التأثير الفيزيائي لرفاقها، ولم يعد هناك من عقول للحفاظ على الاتصال التخاطري بينها؛ فقد كانت كل منها في حقيقة الأمر تمثل كونا مستقلا بالكامل. ولأن جميع التغيرات قد توقفت، فقد توقف الزمن أيضا في كل من هذه الأكوان القاحلة.
ولأن هذا الوضع كان هو ما سيمثل النهاية الثابتة الأبدية على ما يبدو، فقد انسحبت بانتباهي المرهق مجددا إلى اللحظة الأسمى التي كانت هي حاضري في واقع الأمر، بل ماضي القريب على وجه الدقة. وبجميع قواي العقلية الناضجة، حاولت أن أرى بوضوح أكبر ما كان حاضرا أمامي في ذلك الماضي القريب؛ ففي تلك اللحظة التي رأيت فيها النجم المتوهج الذي كان هو صانع النجوم، لمحت في أم عين ذلك البهاء، مشاهد غريبة من الوجود، وكأنما في أعماق الماضي الكوني الفائق والمستقبل الكوني الفائق أيضا، يقبع كون وراء كون، وكل ذلك يوجد في الأبدية.
الفصل الرابع عشر
أسطورة الخلق
إن متجولا في بلد جبلي قد ضل طريقه في الضباب وراح يتلمس طرقه من صخرة إلى صخرة قد يخرج فجأة من بين الغيوم ليجد نفسه على شفا جرف شديد الانحدار. إنه سيرى في الأسفل وديانا وتلالا وسهولا وأنهارا ومدنا متشابكة، وسيرى البحر بجميع جزره ومن فوقه الشمس. وهكذا قد انبثقت أنا، في اللحظة الأسمى في خبرتي الكونية، من ضباب محدوديتي لأجد كونا فوق كون، ولأجد النور الذي لا يضيء الحياة فقط، بل يمنحها للجميع. وبعدها، أطبق علي الضباب من جديد.
يستحيل علي أن أصف هذه الرؤية الغريبة التي تستعصي على إدراك أي عقل محدود وإن كان عقلا كونيا. إنني، أنا الفرد البشري الضئيل، قد نزعت الآن منها إلى الأبد، ثم إنها كانت شديدة الإرباك حتى على العقل الكوني نفسه. غير أنني إن لم أقل شيئا عن مضمون اللحظة الأسمى لمغامرتي، فإنني أكون بذلك قد ناقضت روح الكل. وبالرغم من أن اللغة البشرية وربما الفكر البشري نفسه لا يستطيعان بطبيعتهما استيعاب الحقيقة الميتافيزيقية، فثمة شيء لا بد لي من أن أحاول التعبير عنه، وإن كان ذلك بالمجاز فحسب.
كل ما أستطيع فعله هو أن أذكر، على أفضل نحو أتمكن منه بقدراتي البشرية الهزيلة، شيئا عما تلا تلك الرؤية من تأثير غريب عنيف على مخيلتي الكونية حين كان الصفاء الشديد قد غشاني بالفعل وصرت أتلمس طريقي محاولا تذكر ما ظهر أمامي. في عمائي، حفزت الرؤية من عقلي المبتلى انعكاسا مذهلا منها: صدى أو رمز أو أسطورة أو حلم مجنون بدائي ومضلل على نحو يدعو للازدراء، وبالرغم من ذلك كله، فإنني أعتقد أنه لا يخلو من الأهمية. إن هذه الأسطورة الهزيلة، أو تلك الحكاية الرمزية، سأروي منها ما أتذكره وأنا في حالتي البشرية. غير أنني لا أستطيع القيام بما هو أكثر من ذلك، بل إنني لا أستطيع أن أنفذ ما قلته هذا بما يليق. لقد حاولت كتابة سرد لحلمي هذا مرات عديدة لا مرة واحدة، ثم كنت أمزق ما أكتب في كل مرة لرداءته الشديدة. وبشعور تام بالفشل، سأحاول ذكر القليل فقط من سماته الأكثر وضوحا.
إن أسطورتي قد مثلت إحدى سمات رؤيتي الفعلية على نحو شديد الإرباك والرداءة. لقد أعلنت أن اللحظة الأسمى في خبرتي وأنا في حالة العقل الكوني، كانت تنطوي على الأبدية بداخلها، وكانت الأبدية تنطوي بداخلها على مجموعة من التسلسلات الزمنية المستقلة تماما بعضها عن بعض؛ فبالرغم من أن جميع الأزمان في الأبدية هي الحاضر، وبالرغم من أن الروح اللامتناهية - لما تتسم به من كمال - لا بد أن تنطوي بداخلها على الإنجاز الكامل لجميع الأكوان الممكنة، فإن هذا لم يكن ليحدث ما لم تتمكن الروح اللامتناهية المطلقة من أن تتصور وهي في حالتها المحدودة والزمنية والإبداعية، تلك السلسلة الشاسعة من الأكوان بأكملها، وتوجدها. من أجل الخلق، تنطوي الروح الأبدية اللامتناهية على الزمن في أبديتها، وتنطوي أيضا على تلك السلسلة الممتدة من الأكوان بأكملها.
في حلمي، كان صانع النجوم نفسه، في صفة الروح الأبدية المطلقة، يتأمل جميع أعماله بصورة لا زمنية، لكنه كان يقوم أيضا في النسق المحدود الإبداعي للروح المطلقة، بتجسيد أكوانه واحدا تلو الآخر في تسلسل زمني ملائم لمغامرة كل منها ونموه. بعد ذلك، كان يهب كل عمل من أعماله، أي، كل كون، زمنه الخاص المميز، على نحو يجعل من تسلسل الأحداث بأكمله في أي كون من الأكوان ظاهرا لصانع النجوم لا من داخل الزمن الكوني نفسه فحسب، بل من الخارج أيضا، من الزمن الملائم لحياته هو، مع وقوع جميع الدهور الكونية في الوقت نفسه معا. ووفقا للحلم الغريب أو الأسطورة الغريبة التي تملكت عقلي، كان صانع النجوم في نسقه المحدود الإبداعي روحا متيقظة متطورة في حقيقة الأمر. إن حقيقة أن يكون كذلك، ويكون في الوقت نفسه كاملا على نحو أبدي، لهو أمر لا يمكن أن يتصوره البشر بالطبع، لكن عقلي المثقل بالرؤية التي تفوق مستوى البشر، لم يجد طريقة أخرى لكي يعبر لنفسه عن غموض الخلق.
ناپیژندل شوی مخ