السفر مجددا
لا بد أنني قد قضيت عدة سنوات على الأرض الأخرى، وهي فترة أطول بكثير مما انتويت أن أقضيه هناك حين التقيت أول مرة بأحد فلاحيها يمشي عبر الحقول. كثيرا ما كنت أتوق إلى العودة إلى البيت مجددا. كنت أتساءل بقلق مؤلم عن أحبائي كيف يكونون، وأي تغيرات سأكتشفها إن كان لي أن أعود على الإطلاق. كان من المفاجئ لي أن تظل الأفكار المتعلقة بالبيت بهذا القدر الكبير من الإلحاح بالرغم مما عاينته على الأرض الأخرى من خبرات جديدة وكثيرة. لقد بدا الوقت كلحظة منذ أن كنت جالسا على التل أنظر إلى أضواء ضاحيتنا. بالرغم من ذلك، فقد مرت عدة سنوات. سيكون الأطفال قد تغيروا بدرجة يتعذر معها التعرف عليهم. ماذا عن أمهم؟ كيف تكون قد جرت بها الأمور؟
كان بفالتو مسئولا بصفة جزئية عن مكوثي الطويل على الأرض الأخرى؛ فهو لم يكن ليسمح بمغادرتي إلى أن يفهم كلانا عالم الآخر فهما حقيقيا. كنت أحفز خياله باستمرار كي يتصور الحياة على كوكبي بأكبر قدر ممكن من الوضوح، وقد اكتشف فيه المزيج نفسه من الروعة والهزلية، الذي اكتشفته في عالمه. والحق أنه كان بعيدا عن الاتفاق معي في أن عالمه هو الأكثر تنفيرا في المجمل.
لم تكن الدعوة إلى الكشف عن المعلومات هي الاعتبار الوحيد الذي يربطني ببفالتو. لقد أصبحت أشعر نحوه بصداقة قوية للغاية. في الأيام الأولى من شراكتنا، كانت هناك بعض المتاعب أحيانا؛ فبالرغم من أن كلانا كان كائنا بشريا متحضرا يحاول دائما أن يتصرف بكياسة وكرم، فقد كانت علاقتنا الحميمية المفرطة تجهدنا في بعض الأحيان. كنت أنا على سبيل المثال أجد شغفه بفن التذوق الرفيع الخاص بعالمه مرهقا للغاية. لقد كان يجلس باستمرار ليمرر أصابعه الحساسة على الأحبال المتشبعة كي يشعر بالمذاق الذي كان يمثل لديه تلك البراعة العظيمة في الشكل والرمزية. شعرت بالفضول في بداية الأمر، ثم تأثرت بالناحية الجمالية، لكن بالرغم من مساعدته الصبورة لم أتمكن قط في تلك المرحلة المبكرة من أن أندمج بصورة كلية وتلقائية في جماليات المذاق. وعاجلا أم آجلا، كنت أشعر بالإرهاق أو الضجر. ثم إن صبري كان ينفد بسبب حاجته الدورية إلى النوم؛ فأنا عن نفسي لم أعد أشعر بتلك الحاجة منذ أن خرجت عن جسدي. كنت أستطيع بالطبع أن أنفصل عن بفالتو وأجول العالم بمفردي، لكنني كثيرا ما كنت أستاء من ضرورة الانفصال عن تجارب العالم المثيرة لمجرد توفير الوقت الذي يتطلبه جسد مضيفي للتعافي. أما بفالتو، من جانبه، كان يمتعض في الأيام الأولى من شراكتنا على الأقل، من قدرتي على مشاهدة أحلامه؛ إذ كان يستطيع في أثناء صحوه أن ينحي أفكاره عن ملاحظتي، أما في نومه فقد كان عاجزا عن ذلك. سرعان ما تعلمت تلقائيا أن أمتنع عن ممارسة هذه القوة، وحين تطورت علاقتنا الحميمية إلى احترام متبادل، لم يعد يعتز بهذه الخصوصية بشدة. وبمرور الوقت، أصبح كلانا يشعر أن تذوق نكهة الحياة بمعزل عن الآخر يعني أن يفقد نصف ما فيها من ثراء وحذق. لم يكن أحدنا يثق بحكمه أو دوافعه بصورة كلية إلا أن يكون الآخر حاضرا ليقدم نقدا لا يعرف الهوادة وإن كان وديا.
توصلنا إلى خطة ترضي صداقتنا واهتمامه بعالمي وتوقي إلى البيت في الوقت ذاته. لم لا نحاول بطريقة ما أن نزور كوكبي معا؟ لقد سافرت من هناك، فلماذا لا نسافر إليه معا؟ وبعد فترة نقضيها على كوكبي، يمكننا أن نتابع مغامرتنا الأكبر معا من جديد.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، كان علينا أن ننفذ مهمتين مختلفتين تماما. تقنية السفر بين النجوم، والتي لم أتمكن أنا منها إلا بالصدفة وبصورة عشوائية، يجب أن نتقنها الآن تماما. ويجب أيضا بطريقة ما أن نحدد موقع النظام الكوكبي الذي أنتمي إليه على الخرائط الفلكية التي وضعها البشر الآخرون.
وقد ثبت أن هذه المشكلة الجغرافية، أو بالأحرى الفلكية، لا يمكن حلها. فمهما فعلت، لم أستطع أن أتوصل إلى بيانات بشأن التوجيه. بالرغم من ذلك، فقد قادتنا المحاولة إلى اكتشاف مذهل، ومخيف بالنسبة إلي، وهو أنني لم أسافر عبر المكان فحسب، بل عبر الزمن نفسه. في المقام الأول، بدا في المعرفة الفلكية الفائقة التقدم لدى البشر الآخرين أن النجوم التي تبلغ درجة النضج التي تبلغها شمسنا وشمس البشر الآخرين كانت نادرة. غير أن المعرفة الفلكية الأرضية كانت توضح أن هذا النوع من النجوم هو الأكثر انتشارا على امتداد المجرة. فكيف يكون هذا ممكنا؟ بعد ذلك توصلت إلى اكتشاف آخر محير؛ لقد ثبت لدى علماء فلك الأرض الأخرى أن المجرة تختلف اختلافا صارخا عما أتذكره عنها من وصف علماء الفلك الأرضيين لها. وفقا للبشر الآخرين، كان النظام الشمسي أقل فلطحة بكثير مما نراه. بينما يخبرنا علماء الفلك الأرضيون أنه يشبه قطعة بسكويت دائرية يبلغ عرضها خمسة أضعاف سمكها، يرى علماء فلك الأرض الأخرى أنها أشبه بكعكة. أنا نفسي كثيرا ما كنت أتعجب من عرض درب التبانة في سماء الأرض الأخرى ولا نهائيته. وقد أدهشني أيضا أن علماء فلك الأرض الأخرى كانوا يعتقدون أن المجرة تحتوي على قدر كبير من المادة الغازية التي لم تتكثف بعد على هيئة نجوم. أما علماء الفلك الأرضيون، فقد كانوا يرون أن النجوم هي التي تمثل القدر الأكبر منها.
أسافرت حينئذ عن غير قصد إلى مكان أبعد كثيرا عما كان يفترض بي ودخلت إلى مجرة مختلفة وأحدث؟ ربما في فترة الظلام حين اختفت أحجار جمشت السماء وياقوتاتها وماساتها، زادت سرعتي وسافرت في الفضاء بين المجرات. في بداية الأمر، بدا أن ذلك هو التفسير الوحيد، غير أن حقائق معينة قد أجبرتنا على استبعاده لصالح تفسير أكثر غرابة.
أقنعتني المقارنة بين علم الفلك لدى البشر الآخرين وبين ذكرياتي المشتتة عن علم الفلك الأرضي أن كون المجرات الكامل الذي عرفوه كان يختلف عن كون المجرات الكامل الذي عرفناه. لقد كان الشكل المعتاد للمجرات أكثر استدارة وأكثر امتلاء بالغازات بدرجة كبيرة؛ لقد كان في واقع الأمر أكثر بدائية مما هي الحال لدينا بدرجة كبيرة.
إضافة إلى ذلك، بدا العديد من المجرات في سماء الأرض الأخرى قريبا للغاية، حتى إن تلك المجرات كانت تبدو بقعا واضحة من الضوء حتى للعين المجردة. وقد أوضح علماء الفلك أن العديد مما يطلق عليها «الأكوان» كان أقرب إلى «الكون» الأم بدرجة أكبر كثيرا من أقرب كون معروف في معرفتنا الفلكية.
ناپیژندل شوی مخ