مع ذلك حالا. وهو مع ذلك لا يألو فرحا ونشاطا ، فهلم إليه فعساك يخف عنك بعض ما ضقت به ذرعا ، فقمت منهم وانتهيت إلى شاب في عنقه جامعة ، وفي يديه غل ، وفي رجليه أربعة أزواج قيود ، فإذا هو جميل الوجه طيب الرائحة ، وبين يديه غلام معه زكرة (1) شراب يسقيه منه ويجعل القدح على فم هذا الشاب فيكرع الفتى منه ، فإذا استوفى الشراب تغنى بهذا الشعر :
وما زلت أبكي بالديار وإنما
بكائي على الأحباب ليس على الدار
قال : فلما رأيت حاله غاظني والله كل الغيظ ، وبلغ مني كل مبلغ استنكارا لمثل هذا السرور والابتهاج في حال توجب ضد ذلك ، فدنوت منه وقلت : أبو من سرك الله؟ فقال : أبو الفوارس ، فقلت : ممن النسب؟ قال : من صميم كلب وعزها وفخرها. فقلت : يا أبا الفوارس ، أما فيك من الرأي ما يفرق بين النعيم والبؤس ، والرخاء والبلاء؟ أما فيما دفعت إليه من البلاء العظيم ما يصدك عن الغناء والشراب؟ فتبسم ضاحكا ثم قال : وهل يجوز أن يكون أعظم مما أنا فيه؟ قلت : لا والله ، قال : بلى والله ، فإني من غد على ميعاد القتل والصلب. فلما سمعت منه ما قال هالني الأمر ، وأنسيت ما كنت فيه من استعظام ما رأيت به فقلت : وتراك مع هذا تسيغ الشراب وتستوفي الألحان؟ فقال : (يا بائس) (2) بيني وبين هذا بقية يومي ، وطول ليلتي ، وإلى ذلك يقضي الله أمورا لا يحصيها غيره ، ويبدل أمورا لا يملك تغييرها وتبديلها سواه ، وما كنت ليطلع الله علي آيسا من روحه فواق ناقة. (فكأنه) (3) جاءني ما لم أعرفه ، فقلت : اي والله إن الأمر الإلهي لكذلك. ثم أعرض عني وأخذ في شربه وغنائه ، فلما صلينا الصبح جاءنا السجان فقال : قد قتل خمارويه وهرب أصحابه ، فاجمعوا لي شيئا اخل لكم باب السجن وأهرب ، فوزعنا له بيننا ألفي درهم ، وهرب في جوف الليل ، وفتح باب السجن. فما بقي أحد إلا وصار إلى أهله ونعمته كما كان. ولله در القائل :
مخ ۲۸۹