فمشت إلى غرفة المائدة فتناولت الطعام وهي تتوقع أن تفاتحها ياقوتة بالحديث عن عماد الدين فلم تفعل، فاستحيت هي أن تذكره. قضت نصف ذلك النهار وهي تتشاغل بشئون مختلفة. وأحست بعد الغداء بميل إلى الرقاد من فرط تعب أمس فتوسدت فراشها فنامت ملء جفونها. وأفاقت وقد هدأت أعصابها وهان عليها ما هي فيه بالنسبة إلى ما كانت عليه من التعب؛ لأن تعب الأعصاب يزيد صاحبه قلقا ولا يريه الأمور إلا من وجهها الأسود.
فنهضت من الفراش وقد أشرق وجهها وعاد إليه ابتسامه وصفقت تطلب الحاضنة فأبطأت عليها. ثم جاءتها وفي وجهها خبر فخفق قلب سيدة الملك عند رؤيتها ولم تصبر عن الاستفهام عما وراءها، فقالت ياقوتة: «ما ورائي إلا الخير يا سيدتي هلم بنا.» فأجفلت وقالت: «إلى أين؟ قالت: «إلى خزانة الجوهر.»
فأعرضت عنها إعراض المنكر لما يسمعه وقالت: «أين الجوهر إنهم لم يتركوا فيها شيئا.» قالت: «إنهم أخذوا كثيرا وتركوا كثيرا. لكنني لا أدعوك للجوهر يا سيدتي وإنما أريد ذهابك إلى تلك الخزانة لملاقاة سيدي أمير المؤمنين، فإنه أنفذ في طلبك إليه على أن توافيه إلى تلك الخزانة لسبب لا أعلمه.» قالت بلهفة: «أخي يطلب ذهابي لملاقاته هناك؟»
قالت: «نعم يا سيدتي. ولا حاجة إلى تبديل ثيابك؛ لأنك تذهبين إلى ذلك المكان في ممر يؤدي إليه لا تجدين فيه أحدا. هلم بنا.»
قالت ذلك وأشارت إليها أن تمشي فلفت رأسها بملاءة لازوردية اللون ومشت وهي تفكر فيما عساه أن يكون الغرض من هذه الدعوة في ذلك النهار.
خرجا من قصر النساء إلى ممر أخلاه الخدم والجواري. فمرت سيدة الملك ولم تجد أحدا في طريقها حتى أتت خزانة الجوهر. وهي غرف عديدة نصبت فيها الخزائن والرفوف وأقيمت فيها الأرائك فوق الطنافس، ولم تكن دخلت تلك الدار من عهد طويل. ولكنها كانت تسمع بما تحوي من الذخائر النفيسة والجواهر الثمينة وتعلم أنها أخذت في أيام المستنصر بالله أبي تميم لما غلب على أمره منذ نحو مائة عام. ولم تكن تتوقع أن تجد فيها شيئا من الجوهر يستحق الذكر.
وصلت إلى الباب فاستبقها الحاجب وأدخلها وأشار إلى ياقوتة بالانصراف فانصرفت. أما سيدة الملك فدخلت وعيناها شائعتان تبحثان عن أخيها. فرأته جالسا في صدر القاعة الوسطى وحده على مقعد، وقد تخفف بعمامة صغيرة وبيده سبحة يعد حباتها وهو مطرق يفكر. فلما أنبأه الحاجب بمجيء أخته رفع بصره إليها وهش لها وأخذ يرحب بها فترامت عليه وسألته عن صحته فقال: «إني والحمد لله في خير وعافية، وكيف أنت؟»
قالت: «طالما كان أمير المؤمنين سالما فأنا سالمة، أبقاه الله لنا ركنا وسندا.» قالت ذلك وهي تقرأ في وجهه خبرا جديدا. ولكنها تجاهلت وخاطبته وهي تقعد على وسادة بالقرب منه قائلة: «إني لم أدخل هذه الدار منذ سنين عديدة، وآخر مرة دخلتها كنت طفلة ولا أذكر أني علمت ما فيها و...»
فقطع كلامها قائلا: «وماذا عساك أن تعلمي؟» كفى أن تسمعي بما كان فيها قبل عهد جدنا الإمام المستنصر، رحمه الله. انظري إلى هذا الصندوق.»
فنظرت إليه وهو متقن الصنعة وعليه نقوش فظنته يلفت نظرها إلى نقشه فقالت: «إنه جميل.» قال: «لا أعني جمال ظاهره، ولكنني أعني ما كان فيه من الحجارة الكريمة، أخبرني والدي - رحمه الله - أنهم أخرجوا منه في زمن المستنصر سبعة أمداد زمرد قيمتها 300000 دينار، تخاطفها الناس.»
ناپیژندل شوی مخ