ووصل الموكب قبيل الغروب إلى القصر الكبير الشرقي من قصور القاهرة. وهو مجموع قصور ربما زاد عددها على بضعة عشر قصرا، منها قصر الزمرد، وقصر المظفر، وقصر الإقبال، وقصر البحر، وقصر الحريم، وقصر الشوك، ودار الوزارة، ودار الضيافة، ودار الضرب، وخزانة البنود، وخزانة الكتب، وحجر الصبيان الحجرية وغيرها. وتسمى كلها معا القصر الكبير الشرقي. كما كانت تسمى قصور عبد الحميد في الآستانة قصر يلدز.
وموضع القصر الكبير الشرقي الآن في شرقي القاهرة القديمة وشماليها فيما بين الأزهر وباب الفتوح، ويدخل في ذلك خان الخليلي وبيت القاضي والجمالية والنحاسين . وقد سمي هذا القصر بالشرقي؛ تمييزا له عن قصر آخر أصغر منه كان غربي القصر الشرقي، وبينهما ساحة يقال لها الميدان بين القصرين. ووراء القصر الغربي نحو الغرب متنزه كبير يقال له البستان الكافوري يحده من الغرب خليج القاهرة، وعلى هذا الخليج كانت متنزهات الخلفاء الفاطميين.
وكان في جملة أبنية القصر الكبير الشرقي بناء يسمونه قصر الذهب، كان الخليفة يجلس فيه للناس في يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فوقف الموكب عنده.
فترجل الخليفة ودخل القاعة المعدة للاستقبال وتسمى قاعة الذهب، يدخل إليها من باب يسمى باب الذهب (حيث المارستان المنصوري في النحاسين). فجلس على سرير من الذهب في صدر القاعة، يزن ألوف المثاقيل، وحوله ستر محلى بطراز من الذهب المرصع بالجواهر فيه خمسمائة وستون قطعة جوهر مختلفة الألوان. وفوق السرير مظلة من ذهب وزنها ثلاثون ألف مثقال. وأكثر جدران الغرفة مغطاة بستور الديباج المزركش. حتى إن الناظر إليها يحسب نفسه في حلم، ولا سيما متى نظر إلى ما فوق عمامة العاضد من الجواهر المتلألئة.
وبعد جلوس الخليفة على سريره دخل الوزير صلاح الدين. فجلس في مرتبة خاصة به. ولم يؤذن في الدخول يومئذ لأحد من رجال الدولة، وإنما جعلت الجلسة خاصة بإكرام نجم الدين. فأمر صاحب الباب باستقباله وإدخاله عليه. فدخل نجم الدين وكان بهي الطلعة عظيم الهيبة فوقع من نفس العاضد موقعا عظيما فأشار إليه بالجلوس ورحب به، فقعد نجم الدين باحترام. وكانت العادة إذا دخل الوزير على الخليفة الفاطمي أن يقبل يد الخليفة ورجله، ولم يفعل صلاح الدين ذلك ولا جعل والده يفعله، ولم يستغربه الخليفة.
وكان في جملة الحضور في تلك القاعة كهل ربعة دقيق العضل ممتقع اللون، قاعد في مجلس أقارب الخليفة قعود من يريد الاستتار ويود ألا ينتبه إليه أحد، لكن صلاح الدين لمحه فعلم من مجلسه أنه من بعض الأمراء ولم يكن رآه من قبل.
ولما استقر بالجالسين المقام بدأ العاضد بالكلام وهو يومئذ شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره مع أنه تولى الخلافة منذ عشر سنين (سنة 556ه)؛ لأنه كان عند مبايعته في الحادية عشرة من عمره، والذي يراه الآن يحسبه في حدود الأربعين لكثرة ما كابده من الهموم وتحمله من الإحن. وكان لا يقع نظره على صلاح الدين إلا ندم على استنجاده بنور الدين زنكي صاحب الشام! •••
لما جلس القوم، وجه الخليفة كلامه إلى نجم الدين قائلا: «عسى ألا يكون القائد نجم الدين قد تعب في أثناء الطريق.»
قال: «كلا يا سيدي، إن سفري كان غاية في الراحة، وخاصة لأني أتوقع التشرف بلقيا الإمام، أعزه الله.»
فابتسم الخليفة ابتسامة مصطنعة وقال: «أهلا وسهلا بكم قد نزلتم على الرحب والسعة. وقد أمرت أن تعد لمقامكم منظرة اللؤلؤة وهي أجمل قصورنا، بل أحد متنزهات الدنيا، فعسى أن تجدوا فيها راحة.»
ناپیژندل شوی مخ