ولما سمع عماد الدين ذلك الصوت اقشعر بدنه لأنه كثير الشبه بصوت سيدة الملك. وحدثته نفسه أن يتقدم ليراها ولكنه صبر ليسمع ما يدور بينها وبين الخادم. فإذا هو يقول لها: «إن سيدي الشيخ بعث يطلب مولاتي إليه في هذا الحصن.»
فصاحت فيه: «إلى أين؟ من هو سيدك هذا؟ ما بالكم تزعجونني بالأسئلة؟ دعوني أنم لحظة لكي أنسى فيها مصائبي.»
قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن مولاي بعث رسولا خاصا من خدمة الشيخ راشد الدين لكي يحملك إليه بما تريدين حمله من متاعك وثيابك و...»
فقالت: «لا. لا أذهب إلا محمولة على خشبة. دعوني منه. لعنة الله عليه. ويا ويله من الله ومن يوم الدين. آه. آه. حملني إلى بلاد ليس فيها من يعرفني ولم يشفق على قلبي ... آه ... كل بلائي من هذا القلب!»
وأصبح عماد الدين يرتعد من عظم التأثر؛ لأن الصوت صوت سيدة الملك. ولو كان عالما بما بينها وبين أبي الحسن لما شك في أنها هي، لكنه استبعد وصولها إلى هناك وهي في ظل صلاح الدين. وإنما ارتعد انتصارا لامرأة مظلومة إكراما لحبيبته لأنها من جنسها. وزادت نقمته لأن صوتها يشبه صوتها. ثم سمع الرجل يخاطبها قائلا: «والآن يا سيدتي ماذا تريدين أن نفعل؟ لا بد لنا من أخذك إليه حسب أمره، وهذا رسوله واقف بالباب وليس في الإمكان رد طلبه، فالأوفق أن تنهضي راضية.»
فلما سمعت تهديده صاحت صيحة وقف لها شعر عماد الدين قائلة: «أتهددونني بالأخذ قهرا؟ أريد هذا الشقي أن يحملني على أيدي اللصوص كما خطفني من مصر بأيدي أتباعه قبل الآن؟» ثم خفضت صوتها وغصت بدموعها وقالت: «ولكن الله بعث إلي في تلك المرة ملاكا شجاعا أنقذني من مخالب الموت وأنقذ شرفي وحياتي.» ثم تنهدت وقالت: «آه. أين أنت يا عماد الدين؟»
فلما سمع عماد الدين نداءها لم يتمالك عن الوثوب كالأسد الكاسر وقد تحقق أن تلك المظلومة حبيبته سيدة الملك وأجابها: «لبيك. لبيك. يا سيدتي.»
وما لبثت بعد أن سمعت صوته حتى رأته أمامها وقد أزاح الخادم بيده وتقدم نحوها وهو يقول: «مولاتي سيدة الملك أنت هنا في هذا العذاب؟»
فشخصت إليه شخوص الأبله كأنها أصيبت بجنة، وقد جمدت عيناها وعقد لسانها ولم تعد تستطيع النطق، لكنها تماسكت وتوهمت نفسها في حلم، فقالت وصوتها يتقطع وهو مختنق: «عماد الدين؟ عماد ... الدين؟! آه ... يا ليت ذلك كان في اليقظة!»
وغطت وجهها بكفيها وأخذت في البكاء، فتقدم عماد الدين نحوها وقد تقطع قلبه لرؤيتها وهي في شدة الضعف، ولو أنه شاهدها بدون أن تناديه لما عرفها. فأمسك بيدها وقال: «أنت في يقظة يا سيدتي. أنا عماد الدين. أنت في يقظة وروحي فداك فلا تخافي.»
ناپیژندل شوی مخ