وفيما هما في ذلك رأيا رجلا كرديا من أولئك وقف وبيده جمجمة صب فيها خمرا وتمايل عجبا ثم شربها وهو يزدري رفاقه ويفاخرهم ببسالته وخشونته. فغضب واحد من رفاقه الأتراك فهزأ به ولطم تلك الجمجمة بقفا يديه فرماها وتناثر ما كان فيها من الخمر على الأرض، فضحك الرفاق وقهقهوا وقد أعجبهم عمل ذلك التركي، فلم يصبر الكردي على الإهانة واستل خنجره وطعن التركي طعنة قضت عليه. فهم الآخرون أن ينتقموا له فصاح بهم عبد الرحيم وأوقفهم وهددهم وأشار إلى بعض الحرس أن يقبض على القاتل.
ولم يزدد عماد الدين بذلك إلا دهشة مما رآه وسمعه. فرجع إلى حجرته وذهب عبد الرحيم لشأنه. وأتاه في اليوم التالي وقد جاء المرسوم من صلب الشام بوفاة نور الدين بالخانوق في الوقت الذي رواه شيخ الجبل. ولكنه صمم على الدخول في ذلك السلك؛ إذ لا بد له من ذلك للقيام بالمهمة التي جاء من أجلها، وقد تبرع بين يدي صلاح الدين بقتل راشد الدين، وربما علمت سيدة الملك بعزمه فكيف يعود بخفي حنين؟ على أن ما شاهده من مقام الرجل وكراماته جعل مهمته شاقة.
الفصل التاسع
عند زعيم الحشاشين
أصبح عماد الدين في اليوم التالي وهو على موعد للدخول على الشيخ الأكبر لينضم إلى جماعة الفدائيين. وكان كلما فكر في ذلك اختلج قلبه في صدره. وبعد قليل جاءه صديقه عبد الرحيم وهو يهش له تشجيعا وطمأنة، فقال عماد الدين: «هل أذهب الآن إلى الشيخ الأكبر أم إلى الشيخ دبوس؟»
قال: «لا بد من الذهاب إلى الشيخ الأكبر بواسطة الشيخ دبوس، فهل أنت متأهب لذلك؟»
قال: «نعم.» وأكبر أن يظهر الوجل. فقال عبد الرحيم: «هلم بنا إلى الشيخ دبوس.»
فمشيا حتى دخلا عليه وأطلعه عبد الرحيم على الغرض. فوجه كلامه إلى عماد الدين قائلا: «هل أنت مصمم يا عبد الجبار على الانضمام إلينا؟» قال: «نعم يا سيدي.»
فأمره أن ينزع ثيابه التي عليه ويرتدي ثوبا أبيض كالقميص الكبير دفعه إليه. فلبسه فجلله إلى عقبيه. ثم أمره فنزع عمامته وحل شعره وكان طويلا فأرسله على كتفيه. وأشار عبد الرحيم إليه أن يتقدم إلى الشيخ دبوس ويقبل يده ففعل. ثم أومأ إليه أن يتبعه فمشى في ممرات وطرقات والحرس وقوف في جوانبها بالحراب حتى أطل على رواق يؤدي إلى باب كبير عليه ستر وبجانبه حارسان عظيما الهامة كأنهما من الجان. فلما اقترب عبد الرحيم منهما أومأ إليهما بالإشارة (لأنهما أخرسان) أن يأذنا له في الدخول وهما يعرفانه فأذنا له، واستبقيا عبد الجبار خارجا. فوقف وهو مطرق يتردد بين الندم والعزيمة وإذا بصديقه قد عاد وقال له: «إن الشيخ مشتغل بمحاكمة الكردي القاتل لكنه أذن لنا في الدخول.»
ومشى فتبعه عماد الدين فدخلا قاعة مظلمة في صدرها كرسي كبير قد جلس عليه الشيخ الأكبر وإلى جانبيه رجال من خاصته وقد غطوا وجوههم ما عداه. ولم يستطع عماد الدين أن يتعرف الوجوه هناك إلا بعد قليل ريثما تعود النظر في الظلام فرأى ذلك الكردي واقفا وهو موثق اليدين. وفي وسط القاعة جثة القتيل ملطخة بالدماء. فأشار عبد الرحيم إلى عماد الدين أن يقف معه في ناحية ففعل، وأخذ يتفرس في راشد الدين فإذا هو يرتدي ثوبا أسود يغطيه كله إلا وجهه وقد بانت الشيخوخة في ذلك الوجه بتجعده وبياض لحيته، لكن عينيه تبرقان كالسراجين ويكاد الشرر يتطاير منهما. وما عتم راشد الدين أن صاح بذلك الكردي قائلا: «أتجسر يا هذا أن تقتل نفسا في جوارنا؟»
ناپیژندل شوی مخ