قال: «ومتى كان ذلك؟» فأطرق عماد الدين وهو يحسب الوقت ثم قال: «منذ يومين وبعض اليوم.»
قال: «لكنه مات في هذا الصباح، رحمه الله.» فأجفل وبانت البغتة في وجهه وقال: «مات؟ هل أنتم على ثقة من ذلك؟ لا أظن الخبر صادقا، ثم كيف يموت في هذا الصباح ويصل خبره إلى هنا الآن وبيننا وبين دمشق أكثر من يومين؟»
فضحك دبوس ضحكة استخفاف، وضحك الجلوس معه وهم يتلفتون بعضهم إلى بعض، ثم قال دبوس: «لا لوم عليك يا بني، وأنت لا تعرف مصدر هذا الخبر. إنه لم يأتنا بالبريد وإنما هو وحي هبط على مولانا الإمام الشيخ الأكبر نفعنا الله ببركته وكراماته. كذلك فعل يوم مات الإمام العاضد بمصر، فقد جاءه علمه في يوم موته، ومصر أبعد من دمشق. وكذلك خبر المؤامرة التي قتل فيها عمارة وأصحابه.» ثم نظر إلى الجلوس كأنه يستشهدهم فبدت على وجوههم أمارات الإيمان بما قال.
فدهش عماد الدين ومع ذلك ما زال يظن أن في الأمر خداعا للإيهام وأن نور الدين لم يمت وقال في نفسه: «إذا ثبت موته بورود المرسوم من دمشق على العادة فإن لهذا الشيخ لشأنا عظيما.»
ولحظ الشيخ دبوس تردده ودهشته فقال: «لا تستغرب ما تسمعه يا بني، إنك إذ تمت النعمة عليك ووفقت إلى الدخول في طريقتنا رأيت أعجب من ذلك. إن مولانا الشيخ الأكبر يخاطب الحجارة فتجيبه حتى الميت إذا كلمه أجابه في الحال.» والتفت إلى القوم وقال: «وأزيدكم بيانا أن مولانا الشيخ - حرسه الله - أخبرني عن سبب موت هذا السلطان، قال إنه توفي بعلة الخوانيق.» ثم حول نظره إلى عماد الدين وقال: «وسترى في الغد ما يحقق ذلك حينما يأتي المرسوم.»
فوقع عماد الدين في حيرة عظيمة مما سمعه ورآه وأوشك أن يعتقد صحة كرامات راشد الدين. وقال له دبوس: «تفضل يا بني إلى غرفتك حتى يستقر رأيك، وإنما دعوتك لعلمي أنك قادم من دمشق لعلك علمت شيئا من مقدمات موت نور الدين. ولتعلم أيضا أن صديقك عبد الرحيم أخلص النصح لك. أتم الله نعمته عليك وعلي؛ لأنه هو أيضا مرشح للارتقاء في هذه النعمة؛ إذ ينال المجتهد فيها نصيبه. هذا كلام لا تفهمه الآن ولكن سوف تفهمه تفضل.» وأشار إليه أن ينصرف.
فعاد إلى غرفته وهو كالغائب عن الرشد لا يعرف كيف يعلل ما يشاهده من الغرائب المدهشة. وعزم في سره إذا صحت نبوءة الشيخ عن موت نور الدين أن يلتمس الدخول في تلك الطغمة بلا تردد. وود لو كان صديقه عبد الرحيم هناك ليوضح له بعض ما أشكل عليه ويزيده بيانا. •••
بات عماد الدين في تلك الليلة كالتائه في البحر، وتوالت عليه الأحلام وأفاق في الصباح على نقر باب حجرته. فذعر وجلس فإذا بصديقه عبد الرحيم واقف بين يديه فشعر عند رؤيته بارتياح عظيم وقد خف قلقه واطمأن باله كأنه لقي أباه أو أخاه واستأنس به كثيرا، فأكب عليه وعانقه وأوشك الدمع أن يتساقط من عينيه لشدة التأثر.
فعانقه عبد الرحيم وهو يبتسم وقال له: «يظهر من تلهفك لملاقاتي أنك كنت في ضيق.» قال: «لم أكن في ضيق، ولكنني متردد في أمور ولا أرى لي فرجا إلا على يدك. وأشعر أنك أخي أو أبي وألقي اتكالي عليك، وهناك أشياء أحب أن أستشيرك فيها.» فهش له عبد الرحيم مطمئنا، فأشار إليه عبد الجبار (عماد الدين) قائلا: «اقعد، من أين أنت آت؟»
فقعد وهو يقول: «إني آت من عند الشيخ دبوس، وقد قص علي ما أعجبه من ذكائك وشجاعتك. وأنه تلطف في معاملتك وأمهلك حتى تفكر في أمرك.»
ناپیژندل شوی مخ