قالوا عن «سجينة طهران»
عن الكاتبة
إهداء
شكر وتقدير
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
خاتمة
ملحق
سجينة طهران
دليل قراء «سجينة طهران»
حوار مع مارينا نعمت
قالوا عن «سجينة طهران»
عن الكاتبة
إهداء
شكر وتقدير
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
خاتمة
ملحق
سجينة طهران
دليل قراء «سجينة طهران»
حوار مع مارينا نعمت
سجينة طهران
سجينة طهران
قصة نجاة امرأة داخل أحد السجون الإيرانية
تأليف
مارينا نعمت
تقديم
فاطمة ناعوت
ترجمة
سهى الشامي
قالوا عن «سجينة طهران»
كقصة صادمة من قصص ألف ليلة وليلة، تأتي «سجينة طهران» التي تحكي قصة مارينا نعمت لتصور شجاعتها الواضحة، وحكمتها الباسلة، وكفاحها للحفاظ على شرفها وعائلتها في عالم يعتبر النساء عبيدا. صاغتها يد روائية ماهرة، لتصور لنا عالما حقيقيا، حياة النساء فيه زهيدة الثمن، عدا حياة تلك المرأة.
جاكلين ميتشارد، مؤلفة «النهاية العميقة من المحيط»
و«قفص النجوم»
قصة نجاة غير عادية، تصور لنا كيف توصلت امرأة أخيرا للسلام الداخلي من خلال الكتابة.
مجلة «إنترتينمنت ويكلي»
تصور تلك المذكرات الرائعة صراع مارينا نعمت من أجل الصفح عمن عذبوها وحكموا عليها بالإعدام وهي في السادسة عشرة من العمر، لأنها جاهرت بمعارضة الحكومة.
مجلة «نيوزويك»
كتاب مارينا نعمت الجميل أشبه باعترافات القديس أوجستين ... عندما يلازمها شبح الحدث الذي أنقذ حياتها - وهو زواجها السري ممن اعتقلها - فإنها تقرر كتابة الحقيقة. الكتاب يوحي بالبسالة، وبالشفقة أيضا. كلماتها المنمقة النابعة من القلب تصور مأساتها الصادمة والنظام الوحشي الذي حاول أن يدنسها.
صحيفة «ذا جلوب آند ميل» (تورونتو، أونتاريو) «سجينة طهران» قصة مؤثرة رويت بأمانة عن زمان ومكان وأشخاص عاصروا المحنة ... إنها قصة رائعة.
صحيفة «ميامي هيرالد»
رواية مهمة من شاهدة عيان.
مجلة «كيركس» «سجينة طهران» رحلة مؤلمة ... قصة عن النضج في أحلك الظروف واختبار للإيمان في وجه رعب بغيض. نسجت القصة نسجا ماهرا ممزوجا بالكثير من التشويق.
مجلة «كويل آند كواير»
قصة تستحق أن تجسد في فيلم مشوق.
صحيفة «ذا تامبا تريبيون»
مذكرات تفت القلوب.
صحيفة «ذا ستار فينيكس» (ساسكاتون، ساسكاتشوان)
تحفل مذكرات مارينا نعمت الآسرة بالشخصيات المركبة ... إنها تسرد قصتها المشوقة القابضة للصدور عن العفو والأمل والحب الخالد، وهي صوت لكثير من القصص التي لم ترو، والتي أخرستها الثورة الإيرانية.
مجلة «ببليشرز ويكلي» (مراجعة تقييمية حاصلة على عدة نجوم)
تتناول قصة مارينا المحزنة، عن الوقت الذي قضته في أحد السجون الإيرانية، قضايا مهمة؛ على رأسها قدرة التعصب الديني على دفع الأخيار لارتكاب أعمال الشر. غير أن تميز المذكرات وجمالها يعودان إلى أسلوبها البسيط، وكيفية تناولها عبء الذكريات، وحاجتها إلى الإدلاء بشهادتها، وخبايا قلوب البشر. «سجينة طهران» رواية مذهلة.
مجلة «ماكلينز»
عن الكاتبة
نشأت مارينا نعمت في طهران بإيران، وفي عام 1991 هاجرت إلى مدينة «تورونتو» بمقاطعة «أونتاريو» الكندية حيث تقيم الآن مع زوجها أندريه وولديهما.
إهداء
إلى أندريه، ومايكل، وتوماس.
إلى كل السجناء السياسيين في إيران؛
وأخص بالذكر منهم «ش. ف. م.»، و«م. د.»، و«أ. ش.»، و«ك. م.».
وإلى زهرا كاظمي.
شكر وتقدير
الحقيقة أني لا أدري كيف أو من أين أبدأ؛ ربما أحتاج إلى ابتكار كلمات جديدة، فعبارات مثل «أشكرك» و«أود التعبير عن امتناني» تبدو عادية للغاية وغير ملائمة للتعبير عما أود قوله، حتى إنها تشعرني وكأني أخون هؤلاء الذين أود شكرهم.
أندريه؛ حب حياتي: أنا على يقين من أنك أكثر الناس على وجه الأرض أمانة وإخلاصا، فالخير الذي بداخلك يتحدى قوانين الطبيعة؛ لقد ساندتني وأعطيتني الأمل والقوة كي أظل على قيد الحياة، وأعلم كم كان صعبا عليك أن أتبع ما يمليه علي قلبي وأكتب تلك المذكرات، لكن هذا لم يثنك عن دعمك لي. أشكرك على صفحك وثقتك وحبك الذي لا يتزعزع.
مايكل وتوماس: شكرا أنكما معي؛ أنكما منحتماني نعمة الأمومة والحب؛ فبفضلكما أصبحت إنسانة كاملة. شكرا على مشاركتي الحيوية والروعة وعلى صبركما أثناء الساعات الطويلة التي قضيتها في الكتابة.
بيفيرلي سلوبن؛ وكيلي الرائع وصانع المعجزات: لقد أنقذتني، وحولت هذا الكتاب إلى حقيقة وأتحته للعالم. نصائحك السديدة كانت خير عون في الأوقات الصعبة. لن تسعني الكلمات مهما حاولت لأعبر عن مدى شكري وامتناني لك.
محرري وناشري الرائعين: ديان توربيد وديفيد دافيدار (بينجوين كندا)، إليانور بيرن ورولاند فيليبس (جون موراي ببليشرز/المملكة المتحدة)، ليز ستين ومارثا ليفين (فري بريس/الولايات المتحدة)؛ أشكر لكم دعمكم الهائل وتعليقاتكم المدروسة وأسئلتكم الذكية. لقد اقتنعتم بضرورة سرد قصتي وساعدتموني بحكمتكم.
جيم جيفورد: ظهورك في حياتي كان معجزة؛ شجعتني، وأصبحت معلمي وصديقي. إليك يرجع الكثير من الفضل في تحول مخطوطتي إلى كتاب. سأظل مدينة لك بالفضل إلى الأبد.
ميشيل شيبرد: أتحت لي الفرصة لأن أعود خطوة للخلف وألقي نظرة على قصتي من خلال كلماتك. ساعدتني على الغوص في أعماق ذكرياتي وتذكر تفاصيل بدا لي تذكرها مستحيلا، وعلى مواجهة الذكريات التي حاول عقلي الباطن تجنبها. أكن لك معزة خاصة في قلبي.
راشيل مانلي: مهما حاولت أن أعبر لك عن مشاعري تجاهك، فلن أتمكن من ذلك، فلست معلمتي فحسب، بل أكثر من ذلك كثيرا. لطالما كنت أما حنونا وصديقة عزيزة وأختا حبيبة. لن أكف عن احترامك وتقديرك ما حييت. أشكرك على دعمك وعلى أجمل وأروع تقييم تلقيته عن هذا الكتاب، فأنت كاتبة وشاعرة ومعلمة عظيمة وإنسانة حرة حقا.
سكوت سيمي: كلانا يعرف الكثير عن الحرمان والصراع والحزن، وكلانا قد وجد الحرية والسعادة والعزاء في الكتابة وفي عبير الأزهار والنرجس الذي يهب على حين غرة؛ عبير يبعث الحياة والدفء في الوحدة القاتلة التي يخلفها الموت.
جون كلارك: تستحق أن تكون ملاكا، لأني لا أجد سبيلا آخر أعبر به عن طيبتك. اهتمامك بالتفاصيل غير عادي. ساعدتني على تنظيم ذكرياتي المتفرقة ما جعلني أقطع شوطا كبيرا في كتابة المخطوطة. صداقتك نعمة غالية.
ستيفن بيتي: عندما انهارت آمالي، ظهرت من بين الأنقاض ومنحتني أملا جديدا. أشكرك على إيمانك بهذا العمل وبقدرتي على إنجازه، وأشكرك أيضا على تصحيحاتك ونصائحك القيمة ودعمك لي.
أوليف كوياما: شكرا على توجيهك الأسئلة الصحيحة لي وعلى تشجيعي.
لي جوان: علمتني الكثير مما أعرف عن الكتابة، وآمل أن أتمكن من الكتابة مثلك. رفعت معنوياتي عندما كدت أفقد الأمل في إنجاز هذا العمل، وفتحت لي الأبواب التي قادتني إلى ما وصلت إليه. أشكرك على طيبتك اللامتناهية وصداقتك الكريمة.
جيليان بارتليت: لقد ساعدتني على التحلي بالثقة عند الكتابة. لم أعرف أحدا في طيبتك وحيويتك وكرمك وحكمتك قط. حبك للحياة يؤثر في كل من حولك ويجعل العالم مكانا أفضل وأسعد.
كارينا دالين وكيم إكلين وكينت ناسي وكل أصدقائي ومعلمي في مدرسة التعليم المستمر بجامعة تورونتو: لولا مساعدتكم ودعمكم لما كان هذا الكتاب حقيقة. كلكم تشاركونني نفس الشغف بالأدب وتأثيره القوي والإيمان بأن الحديث بلا خوف أول خطوة في طريق مداواة عالمنا المبتلى بالعنف.
مارثا باتيز زاك وسونيا ووروتينيك: أشكركما على الصداقة التي منحتماني إياها، وثقتكما في عملي وآرائكما القيمة التي أضاءت لي الطريق وقت أن كنت تائهة. أشكركما على كل رسائل البريد الإلكتروني التي أبقتني على صلة بالعالم وأنا أكتب المخطوطة؛ كلاكما منقذي. وأنت يا مارثا، دائما ترفعين معنوياتي عندما أشعر بالإحباط. لو كنت بصدد اختيار شقيقة لي لوضعتك على رأس القائمة.
عضوات نادي الكتاب؛ رومانا دولتشيتي وكارين إيكيرت ونيفا لورينزون وفلافيا سيلانو وجوان تومسون ودوروثي ويلان: على مدار أربعة عشر عاما ونحن نقرأ معا، فيا لها من رحلة! لقد رحبتن بي في مجموعتكن عندما كنت غريبة وحيدة، وعاملتنني كواحدة منكن، كأن بيننا صلة قرابة وافترقنا زمنا. فتحتن لي قلوبكن، وشاركتنني نصائح العناية بالأطفال وأشهى وصفات الطعام، وقرأتن أول مسودة لمخطوطة الكتاب، وأسبغتن علي الكثير من كلمات التشجيع والتأييد.
ماري لين فاندرفيلن: أشكرك على منحي شعورا بالانتماء، وعلى تحريرك الدقيق لمسودتي الأولى.
لين توبين: أقدم لك جزيل الشكر، فقد كنت بمنزلة أخت لي؛ أعتز بصداقتنا.
جزيل الشكر لرئيسي وزملائي في العمل، وعملائي الدائمين في مطعم «سويس شاليه» على دعمهم وتفهمهم ومودتهم.
زهرا كاظمي: أكدت لي وفاتك الوحشية أنه لا بد من كشف النقاب عن قصة السجناء السياسيين في إيران؛ لقد منحتنا اسما ووجها، وبفضلك بات العالم على دراية بما يرتكب من أهوال داخل سجن «إيفين». ليتغمدك الله برحمته.
أهدي هذا الكتاب إلى كل رفاقي.
ما زلت أذكركم جميعا، وأفتقدكم جميعا، وأحبكم جميعا.
أرجو أن تغفروا لي صمتي الطويل والعديد من الأخطاء الأخرى التي ارتكبتها.
وإذا صليت، فالصلاة الوحيدة
التي تحرك شفاهي: «ذر القلب الذي أحمل بين الضلوع،
وهبني الحرية!»
نعم، وإنني إذ تدنو أيامي المسرعات من غايتها،
فكل ما أرجوه
في الحياة والموت، روحا طليقة،
وشجاعة كي أحتمل.
إميلي برونتي
مقدمة
محارة، وحبة رمل، ولؤلؤة
محارة حبلى بالأسرار، كان يجب أن تضربها حبة رمل، كيما تجتمع تلك الأسرار الحزينة الدامية، الآتية من غور الذاكرة السحيق وشتاتها. تتكور الذكريات الكابية تلك، بعدما تشف وتصفو وتتنقى من شوائبها المرة، وتتحرر من أثقالها الموجعة، ثم تستقر في جوف محارتها ساكنة في نورها ونارها، حتى تخرج إلى العالم لؤلؤة مشعة، ناصعة الضوء، مثل قطعة من الدر النقي من الطراز الممتاز.
فأما المحارة الحبلى بالذكريات؛ فليست إلا بطلة روايتنا الشابة الإيرانية التي فرت إلى كندا بعدما أحكم الخميني والتيارات الإسلامية قبضتهم الغليظة على إيران، قبل ثلاثين عاما.
وأما حبة الرمل التي ضربت قلب المحارة، وكانت المحفز الحاث لكي تخرج المحارة خبيئتها اللؤلؤية إلى العلن؛ فهي المرأة الإيرانية باريسا التي التقت بطلة روايتنا في كندا، وألمحت، بخوف، إلى أنها كانت، مثلها، أيضا من سجينات معتقل إيفين اللعين. حبة الرمل تلك أطلقت شياطين الذاكرة من عقالها، تلك الشياطين الضارية، التي ظلت تطارد بطلتنا بعدما كانت قد نجحت في إسكات صوتها الوحشي سنوات طوالا، فما كان من سبيل للخلاص من ذلك العذاب سوى طرد الذكريات من العقل بإشعالها، ما دامت لم تعد قادرة على إخمادها، كما تقول الكاتبة: «ما دمت لا أستطيع النسيان، فربما يكون الحل في التذكر.»
وأما اللؤلؤة النقية التي نسيجها ذكريات موجعة، فليست إلا هذه الرواية العذبة التي بين أيدينا الآن: «سجينة طهران».
هذه الكاتبة
بطلة روايتنا، الصبية الجميلة مارينا مرادي بخت، أو مارينا نعمت؛ فتاة مسيحية إيرانية من طهران. كانت تلميذة في المرحلة الثانوية حينما بدأت رحلة عذابها؛ بعدما انتزعت من دفء الأسرة إلى صقيع سجن إيفين ووحشته، لتجرب ألوان التعذيب الوحشي، وتشهد كل يوم مقتل صبي أو صبية من ورود إيران النضرة. لم يبرحها الشعور بالإثم طوال سنوات حياتها، لأنها نجت حين مات كثيرون من رفقة الصبا وزملاء الدراسة في مدرستها؛ ممن تجاسروا أن يقولوا: «لا»، حين قال الآخرون: «نعم»، وتلك كانت جريرة وخطيئة في عرف حكم الملالي الإيراني.
يضربها الوجع ويطاردها الشعور بالذنب كلما تذكرت أنها كان يجب أن تموت معهم حيث ماتوا وحين قصفوا في عمر الزهور البريئة؛ لولا شجرة الأقدار البديلة التي ترسم خيوط حياتنا على نحو لا يخلو من مصادفات وعبثية واعتباطية وافتقار للمنطق في كثير من الأحيان! لهذا لم يبرحها يقين بأن حياتها تخص أولئك الموتى، أكثر مما تخصها هي. ولم يكن من سبيل إلى تحررها الذاتي من الأسر وانعتاق روحها من الوزر، إلا بتحرير تلك الذكريات من إسارها في سجن روحها وخبيئة ذاكرتها، ومن ثم إخراجها للنور إلى حيث الذاكرة الكونية الجمعية، ذاكرات الناس، عبر هذه الرواية الجميلة، الموجعة؛ من أجل أن تطرحها أمام الرأي العام العالمي، فيعرف من لم يكن يعرف، ما يجب أن يعرف، من أسرار لم تخرج بعد من قلوب الذين قتلوا وعذبوا باسم الله! حاشاه!
هذه الرواية
قصة مارينا منذ قبض عليها عام 1982، لتسكن معتقل إيفين وتعاني الأمرين عامين وشهرين عددا، مرورا بزواجها القسري من جلادها الإسلامي الذي أحبها ولم تحبه، ثم إسلامها القسري أيضا، ثم تحررها بمصرع الزوج على يد جلاد إسلامي آخر، ثم، أخيرا، زواجها من خطيبها المسيحي القديم رفيق الصبا حبيبها الذي انتظرها وانتظرته، وحتى هروبها إلى كندا مع زوجها وطفلها عام 1991؛ هي حكاية جيل الثورة الإسلامية الإيرانية بكل أوجاعها وجراحها وعصير ثمرها المر، والأحلام الموءودة لجيل من الشباب شاخ قبل الأوان؛ تضعها مارينا، سجينة طهران الصغيرة، أمام المجتمع الدولي، مخضبة بالدم النبيل الذي لا توقف قطره ضمادات العالم، مرهقة بالدموع التي لا تجففها إلا يد السماء الحنون. هي الجزء غير المروي من حكاية طويلة تناولتها الألسن والفضائيات والصحف والمجلدات وكتب التاريخ على نحو إعلامي منقوص، على نهج انتقائي غير موضوعي. هي الشطر المسكوت عنه من بيت شعري نازف لا يعرف العالم عنه إلا ما أراد له الشاعر، الفاشي، أن يعرفه من قصيدته الملحمية الدامية، مهما كان تقييمنا لأدائه الشعري الموصوم بالظلم والقمع وسحق الإرادة. قصة الصبية والصبايا المراهقين في إيران، ممن بدأ تشكل وعيهم بالحياة مع الأمل في صوغ إيران أجمل وأرقى وأكثر تحضرا، تظللها الحرية والديمقراطية والسلام؛ فإذا بهم يقعون فرائس سهلة تحت أنياب التعذيب ومقاصل القتل والاغتصاب وسحق الكرامة. إنها كواليس القصة التي راقبها العالم في صمت؛ إما عن جهل بما يدور في الغرف الخلفية المغلقة، أو عن خوف من سماع أنين المعذبين وراء قضبان السجون وظلامها، أو ربما عن عدم اكتراث بأرواح بريئة غضة تزهق كل ساعة خلف جدران سجن إيفين العالية. رواية تكشف النقاب عن آلية سحق الأرواح باسم الله، وتحت مسمى إعمال الخير والإصلاح في الأرض! وهي فوق كل هذا رواية «التحرر» من الخوف. فإن نحن «كتبنا» مخاوفنا «قتلناها»، لهذا تختم الكاتبة روايتها بهذه العبارة: «الخوف أفظع السجون على الإطلاق.»
قبل الدخول إلى الرواية
وقبل الدخول من بوابة هذه الرواية المخيفة، لا بد من إطلالة سريعة على طبيعة الثورة الإيرانية وآلية حكم «الملالي»، أي حكم بشر يزعمون التحدث ب «اسم الله»، بوصفهم ظلال الله على الأرض، كما يصورون للناس، فيصدقهم البسطاء، ويرفضهم أولو الألباب! لا بد من معرفة: من أسس للثورة ، ومن قام بها، ومن دفع الدم والروح والنفس والنفيس من أجلها، ثم من سرقها واستلب ثمارها، ومن، في الأخير، استفاد منها. من أهرق الدماء من أجل وطنه وفقراء وطنه، ومن استثمر تلك الدماء لتحقيق المغانم والمكاسب. من بذر بذورها في أرض بور، ومن الذي انتزع الأرض بعدما خصبت، والتهم الثمر.
ما الثورة الإيرانية؟
بعد الثورة الشعبية الإيرانية الشريفة (1979)، التي قام بها اليساريون والليبراليون والعلمانيون والمثقفون والعلماء والمدنيون في إيران، ونجحت في الإطاحة بشاه إيران المستبد، أملا في بناء إيران أكثر تحررا وتحضرا وديمقراطية وتصديرا للعلم، قفزت التيارات الدينية على الثورة، كالعادة، وجاء آية الله الخميني ليركل بقدمه الديمقراطية التي أجلسته على الكرسي، مثل منديل ورقي بال أدى وظيفته، وما عاد له إلا صندوق القمامة. بعد توسله إياها، لفظت الديمقراطية، وحل محلها حكم الفرد، والتحدث باسم السماء، والتغلغل المتسارع في مفاصل الدولة من مؤسسات حيوية وإعلام وتعليم وقضاء وجيش وشرطة، ثم التصفية الجسدية للانتفاضات الشعبية العديدة التي ثارت على القمع، ثم دهس القانون بالقدم، بعد إقصاء المعارضة، بل اعتقالها وتعذيبها وقتلها في أحد أشهر سجون التاريخ وأبشعها؛ سجن إيفين، الذي لا تقل شهرته عن الباستيل الفرنسي، وأبو غريب العراقي، وباجرام الأفغاني، ومعتقل جوانتانامو الأمريكي في كوبا. أما جلادو إيفين، فهم الإسلاميون الذين ذاقوا الويل على يد رجال «السافاك»؛ جهاز الاستخبارات الإيراني المخصص لمراقبة معارضي الشاه وتعذيبهم وتصفية قياداتهم، بذات السجن، في عهد محمد رضا بهلوي، شاه إيران. وحينما ترفق بهم القدر وتمكنوا من السلطة، خرجوا ليذيقوا الويل مضاعفا للشعب الذي حررهم، والويلين لمعارضي الخميني من المدنيين والليبراليين والثوار، أو كل من يفكر في لفظ كلمة: «لا» للفاشية باسم الدين!
وجاء الحرس الثوري الإيراني (حراس الخميني ونظامه، وليسوا حراس الثورة في حقيقة الأمر)، وشرعوا في اعتقال كل من تسول له نفسه «الأمارة بالسوء»، أن يمارس حقه الذي فطر عليه في التفكير والتعبير والاعتراض، لدرجة تورطهم في اعتقال الصبية الصغار بالمدارس إذا ما اعترضوا على المعلمين الجدد، الذين بدلا من أن يشرحوا المناهج التعليمية؛ من رياضيات وعلوم وتاريخ وكيمياء، راحوا يشرحون مزايا ثورة الخميني ووجوب طاعته التي هي من طاعة الله. وامتلأت عنابر سجن إيفين بمئات الآلاف من المواطنين يجلدون بالسياط، ويذبحون ويشنقون على مدار الساعة منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي وحتى اختفى تماما صوت آخر معارض لحكم الملالي.
الطريف في الأمر، أن الجلاد القاتل من الحرس الثوري كان يقتل مجاهرا بأنه يسدي معروفا وجوديا وتربويا ونفسيا للمقتول! كانوا يشنقون الناس في الشوارع قائلين: إنما نخدمهم بقتلهم؛ كيلا يرتكبوا مزيدا من الآثام؛ لأنهم أعداء الله، ما داموا يعارضون آية الله الخميني؛ وذلك عملا بأحد شعارات الإمام التي كانت تملأ شوارع طهران وميادينها وغيرها من المدن الإيرانية. نص الشعار يقول: «لو سمح للكافر بالاستمرار في الحياة، لأصبحت معاناته النفسية أسوأ كثيرا. أما لو قتل المرء ذلك الكافر، فيكون قد حال دون ارتكابه مزيدا من الخطايا، وبهذا يكون الموت نعمة كبرى له!»
بطلة حكايتنا كانت إحدى ضحايا تلك الخطيئة السياسية؛ أن تقول: «لا»، حين خنع الناس واطمأنوا بقولة «نعم»، حين بحثت عن المنطق، وقت ساد العبث وانعدم المنطق، تجرأت الصبية الصغيرة، تلميذة الثانوي، واعترضت في الفصل على معلمة الرياضيات، التي أغفلت شرح درس التفاضل والتكامل، وراحت تشرح وتفند روعة الحكم الخميني وبشاعة الخروج عليه. طردت البنت من الفصل، وفي آخر النهار جاء إلى بيتها رجلان من الحرس الثوري وقبضوا عليها، لتقبع وراء قضبان إيفين عامين وشهرين. حكم عليها بالإعدام، ثم نجت بمعجزة اعتباطية، ثم خرجت من السجن بسلسلة من المعجزات الأخرى، قد لا تحدث إلا في الدراما الهندية التي تقوم على سلسلة من المصادفات قلما تحدث في واقعنا المر الممرور.
أدب السيرة الذاتية
أدب السيرة الذاتية، هو لون من أجناس الأدب، يؤرخ فيه المؤلف سيرته الشخصية، لما قد تحمله من فلسفة ما أو حكمة أو موعظة أو تجربة قد يفيد منها العامة. وهو من فنون الأدب التوثيقي التقريري.
الراوية السارد عادة ما يتكلم بضمير المتكلم، أو ضمير الغائب. قد يرويها صاحبها بنفسه، مثل رواية «الأيام»، رائعة طه حسين، أو يكتبها كاتب عن حياة كاتب آخر، مثل أدب التراجم. قد يضفر الكاتب الحقيقة بخيوط الخيال؛ من أجل تبرير أخطاء ارتكبها، كما فعل جان جاك روسو في «الاعترافات»، أو، على النقيض، قد تخرج السيرة الذاتية اعترافية المزاج، صادمة فجة، دونما شعور بالخطيئة، مثلما وجدنا في «مذكرات لص» للفرنسي جان جينيه، أو «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري. أو قد تتمحور السيرة حول التجربة الروحية والتحليل الفلسفي الاستقرائي الاستبطاني للنفس البشرية وأحوالها مثل «اعترافات القديس أوغسطين». هذا على المستوى المضموني. أما على مستوى الشكل الفني والأسلوبي، فقد تأتي رواية السيرة الذاتية نثرا، مثلما وجدنا لدى العقاد والمازني وطه حسين وسواهم، وقد تكون ملحمة شعرية تحكي تجربة الإنسان الشخصية كما في قصيدة: «الانعزالي»
The Recluse
للشاعر الإنجليزي وليام وردزورث.
ونظرا لتعددية أجناس الكتابة الأدبية للسيرة الذاتية، فقد تتداخل أحيانا تلك الألوان وتذوب الجدران الفاصلة بين السيرة الذاتية، والمذكرات، واليوميات، والرواية الشخصية، وقصيدة السيرة الذاتية، والبورتريه الذاتي، ثم علاقة كل ما سبق بفن الرواية كما نعرفها. إلى جانب أن نظرية «الكتابة عبر النوعية»، تساهم كثيرا في تداخل خيوط كل ما سبق، ومن ثم الافتقار إلى معايير محددة حاسمة للفصل فيما بينها. على أن الملاحظ أن السيرة الذاتية قد تقترب من سرد أحداث شخصية، بقدر ما تبتعد عن سرد الأحداث العامة، في حين تركز المذكرات واليوميات غالبا على تدوين الأحداث، عامة أو خاصة، دون التعليق على الحياة الشخصية لكاتب المذكرات.
على أن الزمن المروي في الرواية قد يعد معيارا للفصل بين السيرة الذاتية واليوميات. فالسيرة الذاتية عادة ما تنسج خيوطها في فترة محددة من حياة الكاتب حدثت فيها التجربة الأهم أو الأنصع، في حين تسبح اليوميات في لجة الأحداث يوما بيوم، دون تراتب قيمي لأهمية هذا الحدث أو ذاك. على أن الجنسين عادة ما ينطلقان من الحاضر إلى الماضي، ومن لحظة الكتابة صوب الفترة الزمانية للتجربة المعنية. لهذا فإن المساحة الزمنية التي تفصل بين لحظة الكتابة وزمن التجربة تكون في السيرة الذاتية أوسع منها في اليوميات.
المكان والزمان في سجينة طهران
مما سبق نجد أن «سجينة طهران»، تنتمي إلى «أدب السيرة الذاتية»، أو «رواية السيرة الذاتية». تنطلق الأحداث من اللحظة الراهنة (لحظة الكتابة، أو اتخاذ قرار الكتابة)، بعدما برئت الكاتبة، أو كادت أن تبرأ، من ذلك الكابوس الجاثم على ذاكرتها جراء رحلة عذابها في معتقل طهران. لحظة الكتابة هنا جاءت بعد عشرين عاما من «الحدث»، أو محفز الكتابة ومفجرها.
وأما مكان الكتابة، فلم يكن هو ذاته مكان الدراما، (عنبر رقم 246، أو الزنزانة الانفرادية رقم 27، أو غرفة الإعدام التي نجت منها بأعجوبة)، بل كانت في المنفى الاختياري، كندا، الذي فرت إليه مع زوجها الثاني، الزوج الحقيقي، وطفلها ابن العامين.
على أن مسرح الأحداث الرئيس يظل هو طرقات المعتقل وعنابره وزنازينه، تناوشه أماكن أخرى مثل كوخ العائلة على الشاطئ، وصخرة الصلاة، التي كانت تهرب إليها كلما أرادت أن تذهب إلى الله، والتي سوف تخبئ في جوفها خاتم زفافها بعد موت الزوج الجلاد، مع ناي أراش، والعقد الذي منعه الموت من أن يهديه لها، مع كل ما تخبئه فيها من أسرار صغيرة، وكذلك فصول المدرسة الثانوية، وساحات التظاهرات، وغرفة جدتها الروسية في بيتهم بطهران، والمكتبة المجاورة التي كان صاحبها الكهل الطيب ألبرت يزودها فيها بالقصص الملونة، وقد كانت تلك الكتب رفيقتها الأثيرة، وربما الوحيدة في تلك المرحلة النقية، قبل خوض التجربة المرة.
الذاكرة، البطل
مع أن «المكان» - سجن إيفين بأسواره العالية وزنازين تعذيبه وغرف إعدامه وجلاديه ومعتقليه - يمكن أن يعد البطل الرئيس لهذه الرواية، فإنني أعتبر أن الذاكرة، ذاكرة الكاتبة، هي البطل المحرك أو المحرض على فعل الكتابة. الذاكرة هي الريشة التي دونت على الورق، والذكريات هي قطرات المداد التي تشكلت حروفا وكلمات ووجعا وعذابات.
شلال الذكريات الحزينة الذي ظل يضرب عقل مارينا سنوات طوالا، لم يكن من علاج له إلا أن يتمخض الوجع في الأخير عن فعل «كتابة». فحين لم تستطع أن «تنسى» كان الحل في أن «تتذكر». فنحن نقتل ذكرياتنا بكتابتها. الأدق أننا نقتل «مطاردتها» لنا، حين نشل حركتها ونجمدها على هيئة حروف فوق ورق، في دفتر، نحفظه في درج المكتب. وهذا ما كان. حتى وإن كان في قتلها إحياء أبدي لها، وحفظ لها في ذواكر القادمين.
الذاكرة، والذاكرة المركبة
يعمل سرد الأحداث على مستويين من انهمار شلال الذكريات، مع ملاحظة أن لحظة فتح «صمام» الشلال بدأت بعد عشرين عاما من انتهاء الأحداث في سجن إيفين؛ عملت الكاتبة على حفر جدولين، لا واحد، تسري فيهما مياه الذاكرة الصافية؛ الجدول الأول تجري فيه فيوض ذكريات المعتقل الذي نقلها فجأة من ميعة الصبا البريء إلى خشونة سجينة سياسية تعاين الذل والقهر والتعذيب والزواج القسري وتغيير العقيدة إجبارا، وتتداعى في الجدول الثاني ذكريات الطفولة الأولى اللاهية، لتتضافر مع مياه الجدول الأول كصبية تخبر لأول مرة ما يعانيه الكبار من النشطاء السياسيين خلف أسوار المعتقلات. بوسعنا أن نسمي الجدول الأول: «الذاكرة القريبة»، ونسمي الجدول الطفولي الآخر: «الذاكرة المركبة» أو العميقة. مع التأكيد على أن الذاكرة القريبة عمرها عشرون عاما، لأن الكاتبة لم تحرر ذكرياتها إلا بعد عقدين من هجرتها إلى كندا، ظلت خلالهما تلك التجارب حبيسة ذهنها الموجوع بأثقال المحنة.
وجاء هذا التضافر «المركب»، على نحو مركب أيضا؛ فأحيانا ترد ذكريات الطفولة متداخلة مع ذكريات المعتقل، وفي أحيان أخرى كانت الكاتبة تحكي عن طفولتها في فصول مستقلة.
وسار هذا التكتيك الفني بالتوازي؛ فصل كامل يحكي عن المعتقل، تشوبه لمحات خاطفة من الطفولة، على نهج «التداعي الحر للأفكار» كما نهجه رواد تيار الوعي مثل جويس وبروست وفرجينيا وولف، يليه فصل كامل تكرسه الكاتبة لسرد ذكريات طفولتها النقية الأولى مع جدتها الروسية وأمها وأبيها وأشقائها وتجارب المراهقة السعيدة مع حبيبها أراش، عازف الناي المسلم الخجول الذي شاهدها تمتطي دراجتها جوار كوخ العائلة على الشاطئ، وتصادقا، ثم تحابا، وظلت تذهب معه إلى «صخرة الصلاة» ليصليا معا، بالرغم من اختلاف العقيدة. صخرة الصلاة تلك - كما سمتها - ستظل تخبئ فيها أشياءها الثمينة، وهي تتساءل: هل بالجنة مكان نخبئ فيه أشياءنا؟ واختفى أراش فجأة ، ولم تره من جديد إلا جثة سابحة في بركة من الدماء تكسو أرض إحدى الثورات الإسلامية ضد شاه إيران.
غسل الذاكرة
ولأن الذاكرة هي بطل هذه الرواية، ولأن بطل الرواية هو محورها الذي تموت الدراما عادة بموته، فإن الدراما غالبا تحافظ على ذلك العمود الفقري، الذي لو انكسر كتبت الرواية كلمة «النهاية». على أن الحياة لا تنهج ما ينهجه الكاتب من الحفاظ على روح «البطل» حتى النهاية. أحيانا يكون للواقع رأي مخالف، علينا، شئنا أم أبينا، أن نحترمه ونحذو حذوه. «سارة» صديقة مارينا وزميلتها في السجن، حافظت على «بطلها» الخاص، ذكرياتها، بكتابتها فوق جسدها، وكانت ترفض الاستحمام كيلا تضيع ذاكرتها. لكنها في الأخير اضطرت إلى قتل بطلها بالماء، حين تحممت. كذلك مارينا بطلتنا، حينما خرجت من المعتقل وعادت إلى بيت أسرتها، وجدت أن أمها قد أغرقت دفتر ذكريات جدتها في الماء، كيلا يكون شاهدا على أصولهم الروسية، خوفا من بطش الخميني. شهدت مارينا جنازة البطل المغدور، الذاكرة، بعد عامين من قتله على يد الأم، فبكته بدمع جف من عينيها. لكنها حافظت على «بطلها» الخاص، ذاكرتها وذكرياتها، بأن دونتها في هذه الرواية التي بين أيدينا.
كذلك أندريه، زوجها الثاني وحبها الوحيد وخطيبها السابق قبل الاعتقال، جهد أن يحفظ «بطله» الخاص، ذاكرته مع حبيبته مارينا، فانتظرها حتى خرجت من السجن، بالرغم من زواجها من الجلاد المسلم، ولم يسمح لهذا البطل أن يخدش. انتظرها حتى عادت إليه، ولم يخفت حبها في قلبه لحظة حتى التأم شملهما من جديد وتزوجا ورزقهما الله من ثمرات الحب طفلين: مايكل، وتوماس، سوف يكبران ويعرفان يوما ما حدث لأمهما في طهران على يد الحرس الثوري الخميني.
تعدد الرواة
مع أن الرواية مكتوبة على لسان «راوية» وحيد، هو مارينا، بطلة الأحداث وساردتها، فلدينا في الواقع أكثر من مارينا واحدة.
لدينا مارينا «المرأة» الناضجة، الزوجة والأم التي فرت إلى كندا مع زوجها أندريه وطفلها، ولم تقرر أن تفتح صندوق ذكرياتها إلا بعد سنوات طوال من التجربة؛ تلك هي الراوية الرئيس للأحداث.
ولدينا مارينا «الصبية»، طالبة الثانوي المتفوقة التي انتزعت من دفء البيت إلى برودة المعتقل؛ تلك راوية ثان.
ولدينا، في الأخير، مارينا «الطفلة»، التي كانت ترمي بخيوط من الذاكرة العميقة، بين الحين والآخر، لتتداخل مع نسيج ذاكرة المعتقل.
مارينا «الناضجة» حين كانت تكتب، لم تستغل وعيها كامرأة ناضجة لتتدخل في الأحداث المبكرة، بل تركت القلم لمارينا «الصبية» لتحكي تجربتها بوعي فتاة تخوض محنة المعتقل لأول مرة في حياتها النقية، مثلما تركت مارينا «الطفلة» لتحكي عن مرح طفولتها بوعي طفلة صغيرة تنتظر ظهور الملاك الطيب لينقذها، كلما مرت بأزمة صغيرة، مما يمر به الأطفال من أزمات تليق بأعمارهم النحيلة.
كانت مارينا الطفلة قد شاهدت الملاك الطيب حين كسرت مطفأة السجائر الكريستال، فخافت من عقاب الأم، وركضت لتختبئ تحت السرير مرعوبة، فجاءها الملاك الوسيم وانحنى لينظر إليها في ظلمة المخبأ ويطمئنها أن كل شيء على ما يرام. ولكنه لم يأت حين نادته، وهي مارينا «الصبية»، في محبسها بإيفين لينجدها؛ كانت قد كبرت، والملائكة الطيبون لا يظهرون، فيما يبدو، إلا للصغار الأنقياء.
عقدة الرواية
لكل رواية عقدة
Climax
وهي ذروة تداعيات الأحداث في الدراما، التي بعدها تبدأ تداعيات الهبوط وصولا إلى لحظة النهاية التي عندها تنتهي الأحداث بحل تلك العقدة على أي نحو. ولدينا في «سجينة طهران» عدة ذرى بوسعنا أن نعدها العقدة الرئيس. على أنني أعتبر أن لحظة الذروة في الحكاية الدرامية هي «زواجها» من علي، الجلاد الذي هام بها حبا، وفعل المستحيل حتى انتزع لها قرارا من الخميني بالعفو؛ ليتحول حكم الإعدام إلى سجن مدى الحياة، ثم أرغمها على قبول الزواج منه، ثم أجبرها على الإسلام. لم تنجح مارينا في مبادلته الحب، بالرغم من كل ما منحها من حنو وتفان في الاسترضاء، حتى إنها كرهت العفو الذي جاءها به لحظة الإعدام، وتمنت أن تموت على أن يصحبها إلى عنبر السجن حية. أخفقت في حبه بالرغم من حبه وبالرغم من حنو أسرته الطيبة عليها، وبالرغم من محاولاتها الحقيقية أن تبادله الحب.
هذا، على عكس رواية أخرى لسجينة إيرانية أخرى بعنوان «كاميليا»، صدرت ترجمتها عن دار الساقي ببيروت. كاميليا انتخابي، وهو اسم السجينة الصحفية، أحبت المحقق الذي كان يعذبها، وكافحت بكل ما تمتلك من سبل إغراء امرأة وإغوائها، حتى بادلها الحب عشقا وولعا ورغبة محمومة. تقول كاميليا في روايتها: «كنت أستخدم صوتي ويدي لأجذبه؛ صوتي الناعم والمعبر عن الندم أثناء الاعتراف ويدي اللتين ترقصان كالبجع. كان في استطاعتي أن أحس بتغيره البطيء.» «السبيل الوحيد للتحرر هو كسب ثقة مستجوبي. كان إيماني ومستقبلي بين يديه. كنت في حاجة الى الحب وإلى قوة الحب لكي أغير وضعي اليائس، وكان أقرب شخص إلي هو الذي أراه في كل يوم، مستجوبي. بدأت أحبه على طريقتي.» وبالفعل، أحبها المحقق وساعدها على الفرار من المعتقل، ثم الهرب إلى أمريكا.
على عكس هذا رفضت بطلة روايتنا حب جلادها. وكانت صادقة في مشاعرها ورفضت أن تكون ميكيافيلية برجماتية مثل كاميليا. لم تعبأ بكل ما قدم لها من عطايا على رأسها إنقاذ عنقها من المشنقة، حتى بعدما غدت زوجته ظلت على نفورها منه. حملت منه جنينها كرها، ولم تحبه، حتى حينما ضحى بعمره من أجلها واستلم بصدره الرصاصة التي صوبت إلى صدرها، شعرت بالحزن العميق على موته، حتى إنها تمنت لو غاصت في أعماق الموت المظلمة لتعود به، وبكت على قبره وغفرت له ما فعله بها، ولكنها أبدا لم تستطع أن تحبه. أسلمت مرغمة، حين هددها علي بقتل أسرتها وحبيبها أندريه، فنطقت الشهادتين بشفتيها ولكنها لم تسلم بقلبها؛ لهذا عادت إلى مسيحيتها بمجرد تحررها بموت زوجها، وتزوجت خطيبها القديم في الكنيسة، بما يخالف القانون الذي لم تعبأ به، وحتى أيام إسلامها الصوري، كانت مسيحية المعتنق، حتى إنها نادت على القديسين لكي ينقذوا صديقتها مينا حينما اشتعل قلقها عليها، ولم يبرح السيد المسيح قلبها، حتى وهي تصلي صلاة المسلمين في السجن. وهذا منطقي؛ لأنه لا إكراه في الدين.
المعرفية والمعلوماتية
تحفل الرواية بقدر لا بأس به من المعلوماتية بسردها العديد من الأسرار التي ما كان لنا - كقراء - أن نعرفها إلا من خلال سجينة خبرت العذاب وراء قضبان معتقل الخميني، ومن داخل أحد عنابر النساء. كيف كان السجانون يضعون الكافور في الشاي كي ينقطع الطمث عند الفتيات، كيف كانت السجينات يكافحن من أجل الحصول على حفنة ماء يستحممن بها، كيف كن ينمن على جوانبهن، ويحرمن من الاستلقاء على ظهورهن لضيق المكان وازدحامه بالسجينات. تحكي لنا عن الجوع والبرد والقهر، وتحكي لنا عن كتابات السجينات على الحوائط واستغاثاتهن، وكيف وجدت على جدران إحدى الزنازين كلمات مكتوبة بطريقة «برايل» للعميان تقول: «هل يسمعني أحد؟» كتبتها سجينة قديمة اسمها شيرين هاشمي عام 1982. وكيف كن لا يجدن الكتب للقراءة، إلا كتب الدعوة الخمينية والولاء الخميني، إضافة إلى بعض الكتب في الدعوة الإسلامية. أما الحصول على ورقة وقلم فكان من المستحيلات الكبرى، ولم يكن من سبيل له إلا عن طريق «السرقة»، كما فعلت السجينة الصبية سارة لكي تكتب مذكراتها على جسدها بعد موت شقيقها سيرس، وكانت ترفض الاستحمام كيلا تمحى يومياتها الموجعة. وكذلك تلقي الضوء على انعكاس الحرب العراقية الإيرانية على الشارع الإيراني، وما خلفته الحرب على المواطنين من ويل. وأيضا نتعرف من قرب على بعض فتاوى الخميني التي كانت تكتب كشعارات تملأ الميادين؛ مثل فتوى «قتل الكافر»، والمقصود بالكافر هنا هو كل من لا يؤمن بالفكر الخميني. نتعرف أيضا على الفروق بين عهدين من خلال مقارنة بين نزلاء عنبر في سجن إيفين في عهد الشاه وعهد الخميني. في عهد شاه إيران كان عنبر 246 يضم حوالي خمسين سجينا، وفي عهد ثورة الخميني بات يضم ستمائة وخمسين سجينة. نتعرف أيضا على قمع التلاميذ في المدارس على يد مؤيدي الخميني من خلال مديرة المدرسة محمودي خانم، وماذا فعلت في بطلتنا وفي طالبة أخرى اسمها نسيم، اتهمتها المعلمة القاسية بأنها نمصت حاجبيها لأنهما متساويان أكثر من اللازم، وأكدت نسيم أنها لم تمس حاجبيها أبدا، لكن المديرة اتهمتها بالفجور فبكت. كانت نسيم جميلة، ودافعت عنها الكثيرات من الطالبات، وشهدن أن تلك هي طبيعتها، لكنها أبدا لم تتلق اعتذارا على ما حدث. نتعرف أيضا على طقوس السجينات في المناسبات المختلفة؛ مثل عيد ميلادها السابع عشر، وكيف صنعت لها السجينات كعكة من الخبز والتمر، وطرزن لها وسادة من قصاصات الأقمشة كهدية، وكيف ولدت شيدا طفلها في المعتقل، وكيف كانت السجينات يلاعبن الوليد كاوه ويدللنه، فغدا له أمهات كثر، لا واحدة.
نتعرف أيضا إلى مفارقة أن ينجو زوجها الإسلامي علي في عهد الشاه العلماني، ثم يقتل في عهد الخميني على يد متطرف إسلامي مثله! تطرح الكاتبة أيضا صورة إيران الإسلامية كما تراها، بعدما قبض الخميني على مقاليد الحكم؛ حيث انقسمت إيران إلى شرائح ثلاث بمجرد أن أحكم الإسلاميون قبضتهم: (1) الجهلاء يطيعون الخميني طاعة عمياء دون تفكير ليدخلوا الجنة. (2) المثقفون التزموا الصمت خوفا من الإعدام أو الاعتقال. (3) الانتهازيون كانوا يكرهون الخميني، لكنهم يؤيدونه طمعا في المناصب.
تحفل الرواية أيضا بقدر لا بأس به من «المعرفية»، حيث تفتح لنا كوة صغيرة ليتعرف القارئ من خلالها على مبادئ الزرادشتية، وبعض مزامير داود، ولمحات من العقيدة المسيحية، ونتعرف على ملامح جماعة مجاهدي خلق المتطرفة، في مقابل جماعة فدائيي خلق الشيوعية. ترسم لنا الكاتبة أيضا ملامح من الحياة الإيرانية قبل الثورة الخمينية وبعدها، لنتعرف كيف انقلب مجتمع منفتح إلى شرنقة منغلقة. تسلط الضوء أيضا على «أحادية» التفكير لدى المتطرف الديني حين يظن أنه امتلك اليقين كاملا، واحتكر الطهر الكامل، وكل من عاداه جاهل دنس. نلمس هذا حين صفع الجلاد حامد سجينته مارينا وقت قالت: «سوف يساعدني الله في تجاوز محنة السجن.» ثم صرخ فيها: «لا تتلفظي باسم الله، فأنت دنسة!» تصحح الرواية أيضا بعض المفاهيم المغلوطة؛ مثل تكرار الخطأ الكلاسيكي القائل إن الشيوعية تنادي بهجر المعتقدات! أو باعتبارها معتقدا دينيا وليس مذهبا اقتصاديا ... إلخ.
الخيال الدرامي
لا يخلو عمل إبداعي، شعرا كان أم مسرحية أم رواية، من خيوط الخيال، وإلا كان سردا تقريريا يخلو من الفن. وبعيدا عن اعتراف الكاتبة في بداية القص بأن الأسماء الواردة بالرواية، من سجناء وسجينات، ليست هي الأسماء الحقيقية، بل أسماء وهمية حفاظا على أرواح الشخوص الحقيقيين الذين ما زالوا أسرى إيران الخمينية، وبعضهم ما زال رهين المعتقل، إلا أن أسلوب الصوغ ورسم الأحداث يشي بأن ظلالا أخرى من الخيال تناوش الأحداث الحقيقية، ولو عبر الصور القلمية واللوحات الشعرية التي تصبغ السرد بروح الإبداع، حتى وإن طغى الواقع المر على الخيال المحلق. ننصت أيضا إلى صوت الخيال في ذاكرة «الطفلة» مارينا وهي تحكي لنا حكايا جدتها الروسية، وصندوق اللعب، ودفتر الذكريات القديمة الخاصة بذكريات الجدة الروسية مع جدها، وصخرة الصلاة الطيبة التي لا تذيع الأسرار، والملاك الطيب الذي ينقذ الأطفال من عقاب الأمهات القاسيات، وغيرها من اللقطات العذبة.
الأسلوبية والصور الشعرية والفلسفية
تمتلك الكاتبة قلما رخصا يسيرا، يرسم الكلمات على نحو بسيط عفوي مشوق خال من التقعر والمعاظلة اللغوية، وهذا يصب في خانة رشاقة الصوغ وسلاسته.
وتحفل الرواية بصور شعرية آسرة؛ كأن تقول: «كنت أحيانا أتخيل نفسي سحابة بيضاء صغيرة تنجرف وسط السماء الزرقاء، أو راقصة باليه أمام حشد كبير من الناس، أو سفينة تبحر في نهر سحري.» أو قولها: «كأنها كانت تهيم على وجهها عدة أيام في فلاة بلا ماء، وأني نافورة تتدفق منها المياه.» أو حين كانت تغطي أذنيها وهي طفلة كلما سمعت ما لا ترغب، على أنها حين حاولت صك أذنيها عن صراخ المعذبين في سجن إيفين، سمعت أصواتهم كما في الأصداف. كذلك حينما سألها المحقق عن رأيها في الزواج، حلق عصفور ثم اختفى في الشجر. كذلك ذهابها إلى بحر قزوين ومناجاته في حوار شعري بديع.
نصادف أيضا العديد من الصور الفلسفية مثل: «الصمت والظلام يتشابهان إلى حد بعيد، فالظلام غياب للضوء والصمت غياب للأصوات.» وفي وصفها اللحظة الفارقة بين الموت والحياة حينما اعتلت منصة المشنقة انتظارا لجذب الحبل الذي يفصلها عن غياهب الموت. كذلك لها تأملات وجودية مثل تساؤلها: «هل من الممكن ألا يندم الإنسان على شيء لحظة الوفاة؟» ومن المدهش أن نتعرف على لونها المفضل (الوردي) مع نهاية الرواية، بعدما أطلق سراحها من إيفين، وكأن العامين والشهرين السابقين كانت جميعها خالية من الألوان، عدا لون الظلال وحسب.
التداعي الحر للأفكار
تنتهج الكاتبة بعضا من تيمات «تيار الوعي»، كما أسلفنا، من حيث توسلها أسلوب «المونولوج الداخلي»، و«التداعي الحر للأفكار». ومع أنها لم تنهج ما ينهجه السجناء عادة من العيش على الذكريات الماضوية القديمة، ما دام الحاضر متوقفا أو مجمدا، والمستقبل مقتولا غامضا مشكوكا في أمره، شأن ما يشعر به المرء تحت حكم السجن مدى الحياة، فقد كانت ترفض استدعاء ذكرياتها الجميلة، كيلا تشوبها عتمة السجن، وتدنس بياضها وحشة التعذيب والقهر. على أن الذكريات القديمة العذبة كانت أقوى من أن تغيب عن خاطرها، فكانت تقتحم عقلها خلسة. تشاهد طفلة صغيرة في سيارة مع والديها، وهي في سيارة الترحيلات في طريقها إلى المعتقل، فتتذكر أبويها وطفولتها بينهما، وتتساءل، ترى ماذا يفعلان الآن؟ ثم يبدأ التداعي الحر للأفكار. تعاني ظلمة الحبس الانفرادي، فتتذكر أن العقاب الأكبر الذي كانت تخشاه وهي طفلة هو أن تحبس وحيدة في شرفة الغرفة، عقاب أمها الأثير لها حين تخطئ الطفلة؛ قبل أن تتعرف في إيفين على ألوان العذابات التي تفوق الخيال. وعبر هذا التداعي الحر لأفكارها، نتعرف على طفولتها، وكيف كانت تهرب من قسوة أمها بقراءة القصص والكتب التي تمنحها عالما أكثر اعتدالا وعدلا ورحمة وقابلية على الفهم. وعبر عالم الكتب هذا، نتعرف على ألبرت، صاحب المكتبة العجوز الذي كان ملاذها الآمن من غموض العالم الذي تحياه، ونتعرف على آخر لقاء بينها وبينه، حين دخلت المكتبة المكتظة بالكتب لتجدها خاوية على عروشها، فيرتجف قلبها خوفا من مستقبل وشيك جاف دون ونس الكتاب: «آخر مرة رأيت فيها ألبرت بعد عيد ميلادي الثاني عشر ببضعة أيام، كان يوما ربيعيا جميلا يمتلئ بتغريدات الطيور والشمس الدافئة. فتحت باب المكتبة الزجاجي مبتسمة وأنا أضم رواية «نساء صغيرات» إلى قلبي.»
وكلما مرت بأزمة تذكرت جدتها الروسية التي أخبرتها أن لكل إنسان ملاكا حارسا يحميه، وبالفعل شاهدته مرة وهي مختبئة تحت السرير بعدما كسرت المطفأة، وخافت من عقاب محبس الشرفة. وبعد موت أراش حبيبها، نزلت تحت السرير في انتظار الملاك، لكنه لم يأت أبدا، مع أنها نادته.
عزيزي القارئ، أنت على موعد مع عمل إبداعي من الطراز الرفيع، كتبه قلم شابة موجوعة بالتجربة، فأفرز مدادها الدامي در كلمات خالدة، ثم ترجمته إلى العربية شابة واعدة امتلكت ناصية اللغة والبيان، لتقدمه لك دار «كلمات للترجمة والنشر» التي تنتصر للإبداع الراقي، الذي ينتظر بدوره قارئا راقيا يعرف كيف يبحث عن الدرر وسط أكوام الركام.
فاطمة ناعوت
كاليفورنيا-القاهرة
31 يناير 2013
مع أن الكتاب مأخوذ عن قصة واقعية، فقد غيرت الأسماء كي أخفي هوية رفيقات زنزانتي، وأضفت تفاصيل قصص سجينات أخريات إلى قصصهن، أمزج بينها تارة، وأعيد تشكيلها تارة أخرى، مما مكنني من التحدث بحرية عن الحياة والموت خلف أسوار «إيفين»، ورواية ما مررنا به بصدق دون أن أعرض أي شخص للخطر أو أتعدى على خصوصية أحد، ولكنني على يقين من أن رفيقات زنزانتي لن يجدن صعوبة في تمييز أنفسهن.
أثناء تأليف هذا الكتاب كان علي أن أعتمد على ذاكرتي، وهي كأي ذاكرة أخرى يصيبها الوهن وأحيانا تخونني. ما زلت أتذكر بعض الأحداث بوضوح كأنها وقعت منذ أسبوع فحسب، لكن أحداثا أخرى أصبحت ضبابية مشوهة؛ فقد مر أكثر من عشرين عاما عليها.
الحوار هو الوسيلة الرئيسة للتواصل في حياتنا اليومية، وأعتقد أن الذكريات لا يمكن أن تستحضر بوضوح من دونه؛ لذا أعدت بناء الحوار في هذا الكتاب بأفضل ما استطعت، وبأقرب قدر ممكن إلى الحقيقة.
الفصل الأول
يقول المثل الفارسي القديم: «لون السماء لا يتغير أينما ذهبت.» لكن السماء في كندا كانت تختلف عن سماء إيران؛ إذ كان لونها أكثر زرقة، وبدت بلا نهاية وكأنها تتحدى الأفق.
وصلنا إلى مطار بيرسون الدولي في تورونتو في الثامن والعشرين من أغسطس 1991، وكان يوما صحوا مشمسا. كان شقيقي بانتظارنا. اتفقنا على أن نقيم أنا وزوجي وطفلنا البالغ من العمر عامين ونصفا لديه حتى نتمكن من العثور على شقة، ومع أنني لم أكن رأيت شقيقي منذ اثني عشر عاما - حيث كنت في الرابعة عشرة عندما سافر إلى كندا - فقد تعرفت عليه على الفور؛ لقد وخط الشيب شعره الذي خف قليلا، وكان طوله يبلغ نحو مترين، وهكذا فقد برز رأسه وسط الحشود المتحمسة القابعة في صالة الانتظار.
وبينما نبتعد عن بيرسون، نظرت من النافذة، فأدهشني اتساع المكان. كان الماضي قد ولى، ومن مصلحة الجميع أن أتناساه. علي أن أبدأ حياة جديدة في تلك البلاد الغريبة التي آوتنا عندما لم نجد مكانا نأوي إليه، علي أن أوفر طاقتي من أجل البقاء على قيد الحياة، وعلي أن أفعل ذلك من أجل زوجي وولدي.
وبالفعل بدأنا حياة جديدة، فقد تمكن زوجي من العثور على وظيفة مناسبة، وأنجبنا طفلا آخر، وتعلمت قيادة السيارات. وفي شهر يوليو من عام 2000، وبعد تسعة أعوام من الهجرة إلى كندا، تمكنا أخيرا من شراء منزل مكون من أربع حجرات في ضواحي «تورونتو»، وأصبحنا مواطنين كنديين من الطبقة المتوسطة، نهتم بالعناية بحديقة المنزل، ونصطحب أطفالنا إلى دروس السباحة وكرة القدم والبيانو، وندعو أصدقاءنا إلى حفلات الشواء.
عندها فقدت القدرة على النوم ...
بدأ الأمر بذكريات متلاحقة تتدافع إلى ذهني كلما هممت بأن أخلد إلى النوم، وحاولت قدر الإمكان أن أجتنبها، ولكنها كانت تهاجمني ليل نهار. أخذ شبح الماضي يطاردني حتى أوشك على اللحاق بي، ولم أتمكن من إبعاده، بل علي أن أواجهه وإلا أصبت بالجنون. ما دمت لا أستطيع النسيان، فربما يكون الحل في التذكر. وهكذا بدأت الكتابة عن الأيام التي قضيتها في «إيفين» - وهو المعتقل السياسي الشهير سيئ السمعة بطهران - وعن العذاب والألم والموت وكل صور المعاناة التي لم أتمكن من الحديث عنها قط، وتحولت ذكرياتي إلى كلمات نابضة بالحياة، انطلقت من عقالها الذي فرضته عليها سنوات طويلة. كنت أظن أنني فور الانتهاء من الكتابة، سأصبح في حال أفضل، لكنني كنت مخطئة، كنت بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك. لا يمكنني الاحتفاظ بمخطوطة مذكراتي في درج بغرفة نومي إلى الأبد. كنت شاهدة، وعلي أن أدلي بشهادتي.
كان أول قرائي بطبيعة الحال زوجي، لم يكن هو أيضا على دراية بتفاصيل ما حدث لي بالسجن، وعندما أعطيته مخطوطة المذكرات تركها بجوار الفراش ولم يمد يده إليها ثلاثة أيام. حز ذلك الأمر في نفسي. متى سيقرؤها؟ هل سيتفهم الأمر؟ هل سيسامحني على إخفاء تلك الأسرار؟
وعندما قرأها أخيرا توجه إلي متسائلا: «لماذا لم تخبريني من قبل؟»
كانت سبعة عشر عاما قد مرت على زواجنا. - «حاولت، لكنني لم أستطع ... هل تسامحني؟» - «لا يوجد ما أسامحك عليه. هل تسامحينني أنت؟» - «علام؟» - «على عدم السؤال.»
تبددت شكوكي حول ضرورة سرد ما حدث لي عندما قابلت زوجين إيرانيين في صيف 2005 أثناء حفل عشاء. قضينا وقتا ممتعا، وأخذنا نثرثر بشأن الأمور اليومية؛ مثل وظائفنا وأحوال سوق العقارات وتعليم أولادنا، وعندما اشتدت برودة الجو جلسنا في الداخل كي نتناول الحلوى. سألتني المضيفة عن أخبار الكتاب الذي أعكف على كتابته حاليا وهي تقدم لنا القهوة، وأرادت السيدة الإيرانية التي تدعى باريسا أن تعرف موضوع الكتاب، فأجبتها: «عندما كنت في السادسة عشرة من العمر، قبض علي وقضيت عامين في سجن «إيفين».»
وهنا امتقع وجهها بشدة، فبادرتها: «هل أنت على ما يرام؟»
صمتت برهة، ثم أجابت بأنها قضت هي الأخرى بضعة أشهر في سجن «إيفين».
وهنا غرق الجميع في الصمت، وأخذوا يحدقون فينا.
اكتشفت أنني وباريسا كنا سجينتين في الوقت نفسه، في مكانين مختلفين من المبنى نفسه. ذكرت لها أسماء بعض رفيقاتي في الزنزانة، ولكنهن لم يكن مألوفات لها، وذكرت هي أيضا أسماء رفيقاتها في السجن، لكنني لم أتعرف على أي منهن، ومع ذلك فقد تبادلنا ذكريات بعض الأحداث التي يعرفها كل نزلاء «إيفين»، وأخبرتني بأن تلك هي المرة الأولى التي تتحدث فيها عن تجربتها في السجن.
قالت باريسا: «الناس لا يتحدثون عن هذا الأمر.»
إنه الصمت عينه الذي كبلني لما يزيد عن عشرين عاما.
عندما أطلق سراحي من «إيفين»، تظاهرت عائلتي بأن كل شيء على ما يرام، لم يذكر أحدهم السجن بكلمة، ولم يسألني أحدهم عما حدث لي. كنت أتحرق شوقا كي أخبرهم عن حياتي في «إيفين»، ولكنني لم أدر كيف أبدأ. انتظرت بلا جدوى أن يبادروا هم بالسؤال، أو أن يحدث أي شيء يجعلني أعرف من أين أبدأ الحديث، ولكن الحياة استمرت كأن شيئا لم يكن. فكرت في أن عائلتي تريدني أن أظل تلك الفتاة البريئة التي كانوا يعرفونها قبل دخولي السجن. كانوا خائفين من الألم والرعب اللذين قد يثيرهما الماضي الذي مررت به، ولذلك تجاهلوه.
شجعت باريسا على أن تحدثني هاتفيا، وتبادلنا الحديث بالفعل بضع مرات. كان صوتها يرتجف ونحن نتبادل ذكريات رفيقات السجن، ونتذكر الصداقات التي أعانتنا على الاستمرار في الحياة.
وبعد بضعة أسابيع أخبرتني بأنها لا ترغب في الحديث معي أكثر من ذلك. لم تكن ترغب في أن تتذكر ما حدث.
قالت لي: «لا أستطيع القيام بذلك. إنه شاق للغاية! إنه مؤلم للغاية!» واختنق صوتها بالدموع.
تفهمت الأمر، ولم أجادلها. لقد اتخذت قرارها، واتخذت قراري أنا الأخرى.
الفصل الثاني
ألقي القبض علي في الساعة التاسعة مساء يوم الخامس عشر من يناير 1982. كنت وقتها في السادسة عشرة من العمر.
في صباح ذلك اليوم استيقظت قبل الفجر، ولم أستطع أن أخلد إلى النوم ثانية. بدت لي غرفتي أكثر ظلاما وبرودة من المعتاد، فظللت متدثرة بالغطاء المصنوع من وبر الجمال، وانتظرت شروق الشمس، ولكن بدا لي أن شمس ذلك اليوم لن تشرق أبدا! وكنت أتمنى في مثل تلك الأيام الباردة لو كان نظام التدفئة في بيتنا أفضل من ذلك، فلم تكن مدفأتا الكيروسين كافيتين، لكن والدي كانا دائما يؤكدان لي أنني الوحيدة التي تشعر بأن البرودة في منزلنا لا تطاق في الشتاء.
كانت غرفة والدي بجوار غرفتي، والمطبخ في الجانب الآخر من الممر الضيق الذي يصل بين جانبي شقتنا المكونة من ثلاث غرف. أخذت أستمع إلى صوت والدي وهو يستعد للذهاب إلى العمل، ومع أنه كان يتحرك بخفة وهدوء، فقد ميزت وقع أقدامه متجها إلى الحمام ثم إلى المطبخ ... صوت براد الشاي وهو يغلي ... صوت الثلاجة وهي تفتح وتغلق ... ربما يتناول الخبز مع الزبد والمربى.
وأخيرا تسلل ضوء خافت من نافذة غرفتي. غادر أبي المنزل متوجها للعمل، وأمي لا تزال مستغرقة في النوم، فهي لا تنهض من نومها قبل التاسعة صباحا. أخذت أتقلب في الفراش أنتظر شروق الشمس بلا جدوى، حاولت أن أخطط لما سأفعله في هذا اليوم، ولكنني لم أستطع، وشعرت أنني أصبحت خارج حسابات الزمن، فنهضت من الفراش. كانت الأرض المغطاة بالمشمع أكثر برودة من الجو، والمطبخ أكثر ظلاما من غرفتي. خيل إلي أنني لن أشعر بالدفء مرة أخرى على الإطلاق، ربما لن تشرق الشمس مرة أخرى! بعد أن تناولت فنجانا من الشاي، كان كل ما استطعت أن أفكر فيه هو الذهاب إلى الكنيسة، فارتديت المعطف الصوفي البني الطويل الذي صنعته لي أمي، وغطيت رأسي بشال كبير بني فاتح، وهبطت السلالم الحجرية الرمادية الأربع والعشرين المؤدية إلى الباب الأمامي، وخرجت إلى الشارع المزدحم بوسط المدينة. ما زالت المتاجر مغلقة، والحركة المرورية خفيفة. انطلقت إلى الكنيسة دون أن أنظر حولي؛ إذ لم يكن يوجد ما يستحق المشاهدة. كانت صور آية الله الخميني والشعارات التي تنضح بالكراهية، مثل: «الموت للولايات المتحدة» و«الموت لإسرائيل» و«الموت للشيوعيين وكل أعداء الإسلام» و«الموت لأعداء الثورة»، تغطي كل الحوائط.
مضت خمس دقائق قبل أن أصل إلى الكنيسة، وعندما وضعت يدي على الباب الخشبي الكبير، سقطت كتلة رقيقة من الثلج على أنفي. تبدو طهران دائما مكسوة بمسحة جمالية بريئة تحت طبقات الثلج الخادعة، ومع أن النظام الإسلامي حرم معظم الأشياء الجميلة، فإنه لم يستطع منع الثلج من التساقط. فرضت الحكومة على النساء ارتداء الحجاب، وأصدرت قرارات بحظر الموسيقى، ومستحضرات التجميل، ورسم صور النساء السافرات، والكتب الغربية، حيث أصبحت كلها رجسا من عمل الشيطان، ومن ثم أصبحت حراما. ولجت في الكنيسة وأغلقت الباب خلفي، جلست في أحد الأركان، وأخذت أحدق في صورة «المسيح» على الصليب. كانت الكنيسة خالية، وحاولت أن أصلي، لكن الكلمات تزاحمت في ذهني بلا معنى ، ولم أستطع تكوين جملة مفيدة. بعد نحو نصف الساعة اتجهت إلى حجرة مكتب الكنيسة كي ألقي التحية على القساوسة، فوجدت نفسي أقف في مواجهة أندريه عازف الأرغن الوسيم. كنا قد التقينا منذ بضعة أشهر، وكثيرا ما كنت أراه في الكنيسة. الجميع يعلمون أن كلا منا يكن مشاعر الإعجاب للآخر، لكن خجلنا الشديد منعنا من التصريح بذلك؛ ربما لأن أندريه كان يكبرني بسبعة أعوام. سألته ووجهي تعلوه حمرة الخجل عن سر وجوده في هذا الصباح الباكر، فأخبرني أنه أتى لإصلاح مكنسة كهربائية مكسورة.
قال لي: «أين كنت؟ لم أرك منذ عدة أيام. اتصلت بك في المنزل بضع مرات، لكن والدتك أخبرتني بأنك لست على ما يرام. كنت أفكر في زيارتك اليوم.» - «لم أكن على ما يرام. ربما أصبت بنوبة برد أو ما شابه.»
أخبرني أندريه أنني أبدو شاحبة وينبغي أن أستريح في الفراش بضعة أيام أخرى، ووافقته على ذلك. عرض علي أن يقلني إلى المنزل، لكنني كنت بحاجة إلى الهواء النقي، فتوجهت إلى المنزل سيرا. ولولا القلق والإحباط اللذان كانا يعتريانني، لأحببت قضاء بعض الوقت معه، لكن منذ أن ألقي القبض على أصدقائي بالمدرسة سارة وجيتا وسيرس - شقيق سارة - وزج بهم في سجن «إيفين»، لم أتمكن من ممارسة حياتي بطريقة طبيعية. كانت سارة صديقتي المقربة منذ أن كنا في الصف الأول، بينما جيتا تربطني بها علاقة صداقة قوية منذ أكثر من ثلاث سنوات. لقد ألقي القبض على جيتا في منتصف نوفمبر، أما سارة وسيرس فألقي القبض عليهما في الثاني من يناير. تذكرت جيتا بشعرها البني الحريري الطويل وابتسامة الموناليزا التي ترتسم على وجهها وهي تجلس على مقعد عريض في ملعب كرة السلة، وتساءلت عما حدث لرامين؛ الفتى الذي كانت تحبه. لم تعرف عنه جيتا شيئا منذ صيف 1978 - الصيف الأخير قبل اندلاع الثورة - قبل أن يتغير نظام العالم. إنها الآن في سجن «إيفين» منذ أكثر من شهرين دون أن يسمح لوالديها برؤيتها، كنت أتصل بهما مرة أسبوعيا، ودائما كانت أمها تبكي وهي تحدثني. كانت تقف أمام باب منزلهم عدة ساعات كل يوم تحدق في المارة منتظرة عودة جيتا. أما والدا سارة فقد ذهبا إلى السجن عدة مرات وطلبا رؤية طفليهما، لكن طلبهما قوبل بالرفض.
كان «إيفين» سجنا سياسيا منذ زمن الشاه، واسمه يبث الرعب في القلوب، فهو مرادف للعذاب والموت. مبانيه العديدة تمتد على مساحة كبيرة في شمال طهران عند سفح جبال «ألبرز». لم يتحدث أحد عن «إيفين» قط؛ إذ كان محاطا بجدار من الصمت المخيف.
في الليلة التي ألقي فيها القبض على سارة وسيرس، كنت مستلقية في فراشي أقرأ ديوانا شعريا بقلم فروغ فرخ زاد عندما انفتح باب غرفتي فجأة وظهرت أمي عند الباب.
قالت: «لقد اتصلت للتو والدة سارة.»
شعرت أني أتنفس قطعا من الجليد. «ألقى «الحرس الثوري» القبض على سارة وسيرس منذ ساعة تقريبا، واقتيدا إلى سجن «إيفين».»
فقدت الشعور بجسدي.
سألت أمي: «ما الذي فعلاه؟»
يا لهما من مسكينين سارة وسيرس! لا بد أنهما شعرا بالرعب، لكنهما سيكونان بخير ... لا بد أن يكونا بخير. - «أخبريني يا مارينا، ماذا فعلا؟»
أغلقت أمي باب الغرفة خلفها، واتكأت عليه. - «لا شيء. سارة لم تفعل شيئا، لكن سيرس عضو في جماعة المجاهدين.» بدا صوتي واهنا بعيدا. كانت منظمة «مجاهدي خلق» جماعة إسلامية يسارية تقف في وجه الشاه منذ الستينيات من القرن العشرين؛ وبعد نجاح الثورة الإسلامية، عارض أعضاؤها السلطة المطلقة لآية الله الخميني بوصفه المرشد الأعلى لإيران، ووصفوه بالطاغية، وهكذا أعلنت الحكومة الإسلامية أن «مجاهدي خلق» جماعة محظورة. - «إذن ربما ألقوا القبض على سارة بسبب سيرس.» - «ربما.» - «مسكينة والدتهما! كم كانت قلقة عليهما!» - «ألم يقل الحرس أي شيء؟» - «أخبروا والديهما ألا يقلقا، وأنهم يرغبون في إلقاء بعض الأسئلة عليهما فحسب.» - «إذن ربما يطلقون سراحيهما قريبا.» - «طبقا لما تقولين، فإنني على يقين من أنهم سيطلقون سراح سارة قريبا. أما سيرس ... كان عليه أن يكون أكثر وعيا. لا داعي للقلق.»
غادرت أمي الغرفة، وحاولت أن أفكر، لكنني لم أستطع. شعرت بالإنهاك، فأغمضت عيني، واستغرقت في نوم عميق.
على مدار الاثني عشر يوما التالية، كنت أقضي معظم وقتي نائمة. حتى القيام بأبسط المهام بدا لي مرهقا ومستحيلا. لم أكن أشعر بالجوع أو العطش، ولم أرغب في القراءة أو الذهاب إلى أي مكان أو الحديث مع أي شخص. كل ليلة تخبرني أمي أنه لم تصل أي أنباء عن سارة وسيرس. منذ أن ألقي القبض عليهما، أدركت أنني سأكون التالية؛ فاسمي كان مدرجا في قائمة الأسماء والعناوين التي شاهدتها معلمة الكيمياء باهمان خانم في حجرة مكتب ناظرة المدرسة محمودي خانم التي تنتمي للحرس الثوري. كانت باهمان خانم امرأة طيبة، حذرتني من أن تلك القائمة موجهة لمحاكم الثورة الإسلامية. لكن لا يوجد ما أفعله سوى الانتظار، فليس بوسعي الاختباء. وأين عساي أن أذهب؟ الحرس الثوري مجموعة من قساة القلوب الذين لا يعرفون الرحمة؛ فعندما يذهبون للقبض على أحد الأشخاص ولا يجدونه في منزله، فإنهم يلقون القبض على من يجدونه هناك. لم أستطع المخاطرة بحياة والدي كي أنقذ نفسي. خلال الأشهر القليلة الماضية، ألقي القبض على مئات الأشخاص بتهمة معارضة الحكومة بطريقة أو بأخرى. •••
في التاسعة مساء ذهبت كي أستحم، وفور أن فتحت الصنبور وبدأت المياه الساخنة تتدفق، دق جرس الباب، فانقبض قلبي. لم يكن أحد يطرق باب منزلنا في تلك الساعة.
أغلقت الصنبور، وجلست على حافة المغطس، وسمعت والدي يفتحان الباب. بعد مرور بضع ثوان نادتني أمي، فخرجت من الحمام لأرى رجلين ملتحيين مسلحين من «الحرس الثوري» يرتديان زيا عسكريا داكن الخضرة ويقفان في الردهة. صوب أحدهما السلاح نحوي. شعرت أنني انفصلت عن جسدي تماما وأني أشاهد فيلما سينمائيا. لم يكن هذا يحدث لي، بل يحدث لأخرى لا أعرفها.
قال الحارس الثاني لزميله: «ابق هنا ريثما أفتش البيت.» ثم التفت نحوي متسائلا: «أين غرفتك؟» كانت رائحة البصل تنبعث من أنفاسه حتى إنني شعرت بالغثيان. - «في هذه الردهة، الغرفة الأولى إلى اليمين.»
كانت أمي ترتجف، وشحب وجهها تماما. وغطت فمها بيدها كأنها تكتم صرخة مدوية. أما أبي فقد ظل يحدق إلي كأنني أحتضر من مرض مفاجئ لا شفاء منه وهو عاجز عن فعل أي شيء لإنقاذي. انهمرت الدموع على وجهه. لم أره يبكي منذ وفاة جدتي.
سرعان ما عاد الحارس الآخر وفي يده مجموعة من كتبي، وكلها روايات أجنبية. - «هل هذه الكتب تخصك؟» - «نعم.» - «سنأخذ بعضها دليلا.» - «دليل على أي شيء؟» - «على أنشطتك المعادية للحكومة الإسلامية.» - «أنا لا أتفق مع الحكومة، لكنني لم أفعل أي شيء ضدها.» - «لست هنا لأقرر إن كنت مذنبة أم لا، بل أتيت لإلقاء القبض عليك. هيا ارتدي الشادور.» - «أنا مسيحية، ولا يوجد عندي شادور.»
فوجئا بسماع ذلك، فقال أحدهما: «حسنا، ارتدي غطاء رأس وهيا بنا.»
تساءلت أمي: «إلى أين تأخذانها؟»
أجابا: «إلى إيفين.»
تبعني أحدهما إلى غرفتي حيث أخذت الشال الكشمير ذا اللون البني الفاتح وغطيت رأسي به. كانت ليلة قارسة البرودة، وفكرت في أن الشال سيساعد في تدفئتي. وبينما نهم بالخروج من الغرفة، وقعت عيناي على مسبحتي القابعة على مكتبي، فأخذتها معي.
قال الحارس: «انتظري! ما هذا؟» - «مسبحتي التي أصلي بها. هل يمكنني أخذها؟» - «دعيني أرى.»
أريته المسبحة. تفحصها جيدا ممعنا النظر في كل حجر من أحجارها الزرقاء الباهتة وصليبها الفضي. - «يمكنك أخذها، فالصلاة هي ما ستحتاجين بالضبط في «إيفين».»
وضعت المسبحة في جيبي.
اقتادني الحارسان إلى سيارة مرسيدس سوداء واقفة أمام باب منزلنا، وفتحا لي الباب الخلفي فدلفت إلى السيارة. عندما بدأت السيارة في التحرك، نظرت خلفي فلمحت النوافذ المضيئة لمنزلنا تواجه الظلام، وشبحي والدي يقفان عند باب المنزل. كنت أدرك أنه من المفترض أن أشعر بالرعب، لكنني لم أكن خائفة. كان يحيط بي فراغ قاس.
قال أحد الحارسين: «أود أن أوجه لك نصيحة؛ من مصلحتك أن تجيبي على كل الأسئلة التي توجه لك بصدق، وإلا ستدفعين الثمن. لعلك سمعت أن لديهم في «إيفين» أساليبهم الخاصة لحمل المتهمين على الكلام. يمكنك تجنب الألم إذا قلت الحقيقة.»
انطلقت السيارة مسرعة باتجاه الشمال نحو جبال «ألبرز»، وفي تلك الساعة كانت الطرقات شبه خالية؛ فلم يكن بها أي مشاة، بل القليل من السيارات فحسب. كانت إشارات المرور ترى على مسافة بعيدة، حيث تتغير من اللون الأحمر إلى الأخضر والعكس. وبعد مرور نحو نصف الساعة رأيت في ضوء القمر الشاحب الأسوار الملتوية لسجن «إيفين» تتخذ خطا متعرجا وسط التلال. كان أحد الحرس يخبر الآخر عن زواج شقيقته الوشيك. كان فرحا للغاية؛ لأن العريس من كبار قيادات الحرس الثوري وينتمي لعائلة عريقة موسرة. فكرت في أندريه، فشعرت بألم هائل في أحشائي تسلل بعدها إلى كل أنحاء جسدي؛ شعرت وكأن شيئا خطيرا قد حدث له وليس لي.
دلفنا إلى شارع ضيق متعرج، وظهرت أسوار السجن المرتفعة المبنية بالطوب الأحمر على يميننا. وكل بضع خطوات تغمر أضواء الكشافات الليل بضوئها الساطع من أبراج المراقبة. اقتربنا من بوابة حديدية كبيرة وتوقفنا أمامها. رأيت في كل مكان رجالا ملتحين مسلحين، بينما الأسلاك الشائكة التي تغطي أعلى السور تلقي بظلال متشابكة على الرصيف. ترجل السائق من السيارة، وأعطاني الحارس الذي كان جالسا في المقعد الأمامي شريطا سميكا من القماش، وطلب مني أن أعصب عيني قائلا: «أحكمي العصابة جيدا، وإلا جلبت لنفسك المتاعب.» مرت السيارة عبر البوابة وعيناي معصوبتان، وتابعت سيرها دقيقتين أو ثلاثا قبل أن تتوقف مرة أخرى. فتحت أبواب السيارة، وطلب مني أن أخرج منها، وقيد أحدهم معصمي بالحبال وسحبني، فتعثرت ووقعت على الأرض.
سمعت صوتا يقول: «أأنت عمياء؟» وضحك أحدهم.
سرعان ما شعرت بالدفء، فأدركت أننا دخلنا أحد المباني. كان سنا ضوء بسيط يتسلل من العصابة، ورأيت أننا نسير عبر أحد الأروقة. كان الجو مشبعا برائحة العرق والقيء، وأمرت بأن أجلس على الأرض وأنتظر. شعرت بآخرين يجلسون إلى جواري، ولكنني لم أتمكن من رؤيتهم. الكل صامت، لكن أصواتا مبهمة غاضبة كانت تسمع من خلف الأبواب المغلقة. ومن حين إلى آخر كنت أميز بعض الكلمات، مثل: كاذب - أخبرني - الأسماء - اكتبها ... وأحيانا أسمع أناسا يصرخون من شدة الألم. بدأ قلبي ينتفض بين أضلعي حتى إنها آلمتني، فوضعت يدي على قلبي وضغطت عليه بقوة. وبعد لحظات جاء صوت صارم يأمر أحد الأشخاص بالجلوس إلى جواري؛ إنها فتاة تبكي.
سألتها هامسة: «لماذا تبكين؟» - «أنا خائفة. أريد العودة إلى المنزل.» - «أعلم ذلك، أنا أيضا أريد العودة إلى المنزل، لكن لا تبكي، فلن يفيد ذلك شيئا. أنا واثقة أنهم سيطلقون سراحنا عما قريب.» كنت أعلم أني أكذب. - «كلا لن يفعلوا! سأموت هنا! سنموت هنا جميعا!»
قلت: «عليك أن تتحلي بالشجاعة.» وشعرت بالندم على الفور. ربما تعرضت الفتاة للتعذيب، فكيف أطالبها أن تتحلى بالشجاعة؟!
سمعت صوت رجل يقول: «كم أن هذا ممتع! مارينا، تعالي معي. تقدمي عشر خطوات للأمام ثم استديري يمينا.»
بكت الفتاة بصوت عال، وفعلت ما طلب مني، فأمرني الرجل أن أتقدم أربع خطوات للأمام، وأغلق الباب خلفي، ثم أمرني بالجلوس على أحد المقاعد. - «أنت شجاعة جدا، وهي صفة نادرة الوجود في «إيفين». رأيت العديد من الرجال الأشداء ينهارون هنا. هل أنت أرمنية؟» - «كلا.» - «لكنك أخبرت الحرس بأنك مسيحية!» - «أنا مسيحية.» - «إذن فأنت آشورية؟» - «كلا.» - «لا أفهم. المسيحيون هنا إما أرمن أو آشوريون.» - «معظم المسيحيين الإيرانيين كذلك، لكن ليس جميعهم. جدتاي هاجرتا من روسيا إلى إيران عقب اندلاع الثورة الروسية.»
كانت جدتاي قد تزوجتا رجلين إيرانيين يعملان في روسيا قبل الثورة البلشفية عام 1917، لكن بعد الثورة أجبر زوجاهما على ترك الاتحاد السوفييتي لأنهما لا يحملان الجنسية الروسية، واختارت الزوجتان أن تأتيا إلى إيران معهما. - «إذن فهما شيوعيتان!» - «لو كانتا شيوعيتين، فلم غادرتا بلدهما؟ لقد غادرا لأنهما كرهتا الشيوعية. كانتا مسيحيتين متدينتين.»
أخبرني الرجل بأن في القرآن الكريم آيات تتحدث عن السيدة مريم والدة المسيح، وأن المسلمين يؤمنون بأن المسيح كان نبيا عظيما، وأنهم يحترمون السيدة مريم كثيرا. وعرض علي أن يقرأ لي ذلك الجزء من القرآن، وظللت أستمع إليه وهو يقرأ النص العربي، كان صوته عميقا رخيما.
عندما انتهى من القراءة سألني عن رأيي في الآيات. كنت أرغب في أن يستمر في القراءة، لأنني أدركت أني في أمان ما دام يواصل القراءة، ولكنني كنت أعلم أيضا أنه لا يمكنني الوثوق به، فهو غالبا أحد رجال الحرس الثوري الغلاظ الذين يعذبون الأبرياء ويقتلونهم دون أدنى شعور بالندم. - «إنه بديع للغاية. درست القرآن، وقرأت تلك الآيات من قبل.»
خرجت الكلمات من فمي مضطربة قليلا. - «أحقا درست القرآن؟ هذا يزيد الأمر تشويقا! مسيحية شابة شجاعة درست كتابنا! وما زلت تعتنقين المسيحية بالرغم من أنك تعلمين عن نبينا وتعاليمه؟» - «نعم، ما زلت أعتنق المسيحية.»
لطالما أخبرتني أمي أني أتحدث دون أن أفكر. كانت تقول ذلك عندما أجيب صدقا عن الأسئلة التي توجه لي، وعندما أبذل كل ما بوسعي كي لا يخطئ أحد فهمي.
ضحك قارئ القرآن، وقال: «كم هذا ممتع! أود أن أستكمل تلك المحادثة ولكن في وقت لاحق، أما الآن فالأخ حامد بانتظارك كي يلقي عليك بعض الأسئلة.»
بدا كأنني أثرت اهتمامه بالفعل، فربما أكون المسيحية الوحيدة التي رآها في «إيفين»، وربما توقع مني أن أكون كمعظم الفتيات المسلمات اللواتي ينتمين إلى عائلات محافظة؛ أن أكون هادئة خجولا مستكينة، لكنني لم أعرف أيا من تلك الصفات.
سمعته ينهض من مقعده ويغادر الغرفة. شعرت كأني فقدت الإحساس. ربما يكون هذا المكان خارج حدود الخوف؛ مكان تختنق فيه المشاعر الإنسانية الطبيعية دون أن تحظى حتى بفرصة المقاومة.
انتظرت وأنا أفكر في أنهم لا يملكون سببا لتعذيبي؛ فالتعذيب غالبا يستخدم لانتزاع المعلومات. لم أكن أعلم أي شيء قد يفيدهم، ولم أكن أنتمي لأي جماعة سياسية.
فتح الباب ثم أغلق مرة أخرى، فقفزت من مكاني. عاد قارئ القرآن مرة أخرى، وعرف نفسه لي على أنه علي، وأخبرني أن حامدا مشغول بالتحقيق مع شخص آخر. أوضح لي أيضا أنه يعمل لحساب الفرقة السادسة التي تتبع «محاكم الثورة الإسلامية» التي تحقق في قضيتي. بدا لي هادئا وصبورا، ولكنه أكد علي ضرورة قول الحقيقة. كان غريبا أن أتحدث مع شخص دون أن أتمكن من رؤيته، ولم تكن لدي فكرة عن شكله أو عمره أو شكل الغرفة التي نحن فيها.
أخبرني أنه علم أني عبرت عن أفكار مناهضة للثورة في المدرسة، وأني كتبت مقالات ضد الحكومة في صحيفة المدرسة، ولم أنكر ذلك، فلم يكن هذا سرا أو جريمة. سألني هل عملت لحساب أي جماعات شيوعية، فأجبت بالنفي. كان يعلم بالإضراب الذي تزعمته في المدرسة، وكان مقتنعا بأنه يستحيل على أي شخص لا يملك علاقات بأحزاب سياسية محظورة أن ينظم إضرابا. لكنني أوضحت له أنني لم أنظم أي شيء، وهذه هي الحقيقة، كل ما في الأمر أني طلبت من مدرسة التفاضل أن تدرس لنا مادة التفاضل بدلا من الحديث عن السياسة، فطردتني من الفصل، وعندما خرجت، انضم لي زملائي، وسرعان ما علم معظم الطلاب في المدرسة بما حدث ورفضوا العودة إلى الفصول. لم يصدق علي أن الأمر قد يكون بهذه البساطة، وأكد لي أن المعلومات التي لديه تشير إلى أنني على صلة قوية بالجماعات الشيوعية.
قلت: «لا أدري من أين تستقي معلوماتك، لكنها خاطئة تماما. لقد درست الشيوعية مثلما درست الإسلام، ولم أتحول إلى الشيوعية تماما مثلما لم أتحول إلى الإسلام.»
قال ضاحكا: «هذا الأمر ممتع حقا! إن أعطيتني قائمة بأسماء الشيوعيين وكل المناهضين للثورة في مدرستك، فسأصدق أنك لا تكذبين.»
لماذا يطلب مني قائمة بأسماء زملائي في المدرسة؟ إنه على علم بأمر الإضراب وصحيفة المدرسة، ولا بد أن محمودي خانم تحدثت إليه وأعطته قائمة الأسماء، لكن لا يمكنني المخاطرة بإخباره أي شيء، لأنني لا أعلم شيئا عن الأسماء الأخرى التي تتضمنها القائمة بخلاف اسمي.
قلت: «لن أعطيك أي أسماء.» - «كنت أعلم أنك في صفهم.» - «لست في صف أحد، ولكن إن أخبرتك بأسمائهم فسوف تلقي القبض عليهم، ولا أريد أن يحدث ذلك.» - «أجل، سوف نلقي القبض عليهم حتى نتأكد من أنهم لا يفعلون شيئا ضد الحكومة، وإن تأكدنا من ذلك فسوف نطلق سراحهم. أما إن كانوا يتآمرون ضد الحكومة، فعلينا أن نوقفهم، وفي تلك الحالة فلا يلوموا إلا أنفسهم.» - «لن أعطيك أي أسماء.» - «وماذا عن شهرزاد؟ هل تنكرين معرفتك بها؟»
ظللت هنيهة لا أدري عمن يتحدث. من تكون شهرزاد؟ لكنني سرعان ما تذكرت. كانت صديقة جيتا وعضوا في جماعة شيوعية تدعى «فدائيي خلق». قبل نحو أسبوعين من بدء الإجازة الصيفية طلبت جيتا مني أن أقابلها؛ أملا في أن تقنعني بالانضمام إلى الجماعة، وبالفعل قابلتها مرة واحدة وأوضحت لها أنني مسيحية ملتزمة، ولست على استعداد للانضمام لأي جماعة شيوعية.
أخبرني علي أنهم كانوا يراقبون شهرزاد، وأنها علمت بأمر المراقبة واختبأت، وهم يبحثون عنها منذ فترة، ويعتقدون أنها ربما تكون قد قابلتني مرة أخرى، وأخبرني أيضا بأنه لا بد من وجود سبب وجيه يدعو شهرزاد لمقابلتي غير دعوتي للانضمام للفدائيين، فوقتها أثمن من أن تضيعه هكذا. حاولت كثيرا أن أؤكد له أنني لا علاقة لي بها، لكنه لم يصدقني. - «لا بد أنك تعرفين مكانها.» - «لا يمكنني أن أساعدك، لأنني لا أعرف مكانها.»
ظل علي هادئا أثناء التحقيق، ولم يرفع صوته قط. - «مارينا، اسمعيني جيدا. أرى أنك فتاة شجاعة، وأحترم ذلك كثيرا، لكن لا بد أن تخبريني بما لديك من معلومات. إذا لم تخبريني، فسوف تثور ثائرة الأخ حامد، وهو رجل يفتقر إلى الصبر. لا أود أن أراك وأنت تتألمين.» - «آسفة، لكن ليس لدي ما أخبرك به.»
قال: «آسف أنا أيضا.» ثم اقتادني خارج الغرفة عبر ثلاثة أو أربعة ممرات. سمعت صوت رجل يصرخ. طلب مني أن أجلس على الأرض. أخبرني علي أن الرجل الذي يصرخ لا يرغب مثلي في إطلاعهم على أي معلومة، ولكنه سيغير رأيه سريعا.
ملأت الصرخات الممزوجة بالألم المكان من حولي. كانت صرخات قوية عميقة بائسة تخترق جسدي وتملأ كل خلية فيه. كان الرجل المسكين يمزق، وتحول العالم إلى لوح من الرصاص يجثم بثقله على صدري.
كان وقع السوط المدوي يشق الفراغ، فيصرخ الرجل، ثم تأتي لحظة من الصمت، ثم تعاد الكرة مرة أخرى.
وبعد مرور بضع دقائق سأل أحدهم الرجل هل هو على استعداد للكلام، فأجاب بالنفي، فبدأ فاصل آخر من الجلد بالسياط. ومع أن يدي كانتا مقيدتين، فقد حاولت أن أغطي أذني بذراعي كي لا أسمع الصرخات، ولكن الأمر لم يجد نفعا، واستمر الأمر ضربة وراء ضربة وصرخة بعد صرخة.
في النهاية صاح الرجل الذي يخضع للتعذيب: «أرجوكم توقفوا، سوف أتحدث.» فتوقف الضرب.
كل ما كان يشغل بالي أني قررت ألا أخبرهم بأي اسم. لست ضعيفة أو عاجزة، وسوف أخوض الحرب للنهاية.
ارتفع صوت الرجل الذي كان يمارس جلسة التعذيب السابقة: «مارينا، كيف حالك؟ أخبرني علي بكل شيء عنك. لقد أثرت إعجابه، حتى إنه لا يرغب في إلحاق الأذى بك، لكن لا مجال للعواطف في العمل. هل سمعت ذلك الرجل؟ لم يكن يريد إخباري شيئا في بداية الأمر، لكنه فعل أخيرا. لو أنه أخبرني بما أريد معرفته من البداية لأصبح الوضع أفضل كثيرا. والآن هل أنت مستعدة للكلام؟»
أخذت نفسا عميقا وقلت: «كلا.» - «يا للأسف! انهضي!»
أمسك الرجل بالحبل الذي يقيد معصمي وسحبني عدة خطوات، ثم دفعني على الأرض وانتزع العصابة التي تغطي عيني. رأيت رجلا نحيفا ضئيل الحجم ذا شعر بني قصير وشارب، يقف أمامي ويمسك بالعصابة في يده. كان في أوائل الأربعينيات من العمر، يرتدي سروالا بنيا وقميصا أبيض. كانت الغرفة خالية إلا من فراش مكشوف ذي ظهر معدني، وفك هذا الرجل قيد معصمي وقال: «لن تجدي الحبال، بل نحتاج شيئا أقوى.» وأخرج زوجا من الأصفاد من جيبه وقيدني به.
دخل رجل آخر الغرفة، طوله نحو مائة وثمانين سنتيمترا، ووزنه نحو تسعين كيلوجراما، وشعره أسود قصير، ذو لحية سوداء مهذبة، في أواخر العشرينيات من العمر.
سأل: «هل تكلمت يا حامد؟» - «كلا، إنها عنيدة للغاية، ولكن لا تقلق، فسوف تفعل قريبا.»
تحدث الوافد الجديد معي: «مارينا، تلك هي فرصتك الأخيرة.» تعرفت على صوته. إنه علي؛ كان أنفه كبيرا بعض الشيء، وعيناه البنيتان معبرتين، وله رموش طويلة وكثيفة. تابع: «سوف تتحدثين في نهاية الأمر على أي حال، من الأفضل أن تقومي بذلك الآن. هل ستخبريننا بالأسماء؟» - «كلا.» - «أريد أن أعرف منك مكان شهرزاد.» - «لا أعرف مكانها.»
قال حامد: «انظر يا علي! إن معصميها صغيران للغاية، وسوف ينزلقان من الأصفاد.» أدخل كلا معصمي قسرا في صفد واحد، واقتادني إلى الفراش. كان الصفد المعدني يحطم عظامي، وأفلتت مني صرخة، لكنني لم أقاوم؛ إذ كنت أعرف أني في موقف بائس تماما لن تزيده المقاومة إلا سوءا. ثبت حامد الصفد الخالي في ظهر الفراش المعدني، وبعد أن خلع حذائي ربط قدمي في الفراش.
قال حامد ملوحا في وجهي بسلك أسود سمكه أقل من سنتيمترين ونصف: «سوف أجلد باطن قدميك بهذا السلك.» «كم ضربة تلزمها للحديث في رأيك يا علي؟» - «ليس كثيرا.» - «في رأيي عشر ضربات ستكفي.»
شق صوت السلك الحاد المخيف الهواء، واستقر فوق باطن قدمي.
ما هذا الألم؟! لم أشعر بشيء كهذا قط، بل لم يكن بوسعي حتى أن أتخيله. انفجر الألم داخلي كصاعقة من البرق.
الضربة الثانية: توقفت أنفاسي في حلقي. كيف يمكن لأي شيء في الوجود أن يؤلم هكذا؟ حاولت أن أفكر في شيء يساعدني على تحمل الألم. لا يمكنني الصراخ، فلا يوجد هواء كاف في رئتي.
الضربة الثالثة: صوت السلك يشق الهواء ثم أعقبه ذلك الألم المبرح. ولم يكن بإمكاني أن أفكر إلا في تحية مريم العذراء.
توالت الضربات، وظللت أدعو وأصارع الألم. تمنيت أن أفقد الوعي، ولكن ذلك لم يحدث، بل إن كل ضربة كانت تتركني منتبهة أترقب الضربة التالية.
الضربة العاشرة: توسلت إلى الله كي يخفف عني الألم.
الضربة الحادية عشرة: آلمتني أكثر من كل ما سبقها.
يا إلهي لا تتركني وحدي! لا أستطيع تحمل كل ذلك.
استمر العذاب بلا نهاية.
سوف يتوقفون عن تعذيبي إن أخبرتهم بضعة أسماء ... كلا، لن يتوقفوا، فهم يريدون معلومات عن شهرزاد، وأنا لا أعلم عنها شيئا على أي حال. لا يمكن للضربات أن تستمر إلى الأبد، وسوف أحتملها واحدة تلو الأخرى.
بعد الضربة السادسة عشرة توقفت عن العد.
لم أعد أشعر إلا بالألم. - «أين شهرزاد؟»
لو كنت أعرف مكانها، لأخبرتهم. كنت سأفعل أي شيء كي أوقف هذا العذاب.
ضربة أخرى.
ذقت ألوانا أخرى من الألم من قبل؛ إذ كسرت ذراعي ذات مرة. لكن هذا الألم كان أسوأ ... أسوأ كثيرا. - «أين شهرزاد؟» - «لا أعرف!»
ألم مبرح ...
أصوات ...
عندما توقف حامد عن الضرب، كان كل ما استطعت فعله هو أني أدرت رأسي ورأيته يغادر الغرفة. فك علي الأصفاد وحرر قدمي. كانت قدماي تؤلمانني، ولكن العذاب اختفى، وحل محله شعور بالفراغ أخذ ينتشر في عروقي. مرت دقيقة قبل أن أفقد الشعور بجسدي وأشعر بثقل في جفوني. ارتطم شيء بارد بوجهي. إنها المياه. هززت رأسي.
قال علي: «أنت تفقدين الوعي يا مارينا، هيا انهضي!»
جذبني من ذراعي، فاعتدلت في جلستي. كانت قدماي تؤلمانني كثيرا كأن مائة نحلة لدغتهما. نظرت إليهما فوجدتهما متورمتين ومصطبغتين باللونين الأحمر والأزرق، وتعجبت من أن جلدي لم ينفجر.
سألني علي: «ألديك ما تقولينه لي الآن؟» - «كلا.»
نظر إلي ساخطا وقال: «الأمر لا يستحق كل هذا العناء. هل تريدين التعرض للضرب مرة أخرى؟ ستسوء قدماك أكثر إن لم تتكلمي.» - «لا أعرف أي شيء.» - «لم تعد هذه شجاعة! إنه الغباء بعينه! قد تعدمين لأنك لم تتعاوني مع الحكومة. لا تفعلي هذا بنفسك.»
صححت كلامه: «لا تفعلوا هذا بي.»
نظر في عيني مباشرة للمرة الأولى، وأخبرني أن لديهم كل أسماء أصدقائي بالمدرسة. أعطتهم محمودي خانم القائمة. أخبرني أن تعاوني معهم لن يغير شيئا من مصير أصدقائي، ولكنه سوف ينقذني من العذاب، وأخبرني أيضا بأن أصدقائي سوف يلقى القبض عليهم سواء أعترفت أم لا، ولكنني إذا ذكرت أسماءهم، فلن أضطر إلى احتمال العذاب أكثر من ذلك.
قال: «أصدقك فيما يتعلق بشهرزاد. لا تحاولي ادعاء البطولة، فربما تفقدين حياتك بسبب ذلك. حامد على يقين أنك عضو في جماعة الفدائيين، لكنني لا أعتقد ذلك، فهم لا يستغيثون بالسيدة مريم تحت وطأة التعذيب.»
لم أكن أدرك أنني دعوت بصوت مرتفع.
طلبت الذهاب إلى دورة المياه، فأخذ بيدي وساعدني على النهوض. شعرت بالدوار. وضع خفا مطاطيا على الأرض أمام الفراش كي أرتديه. كان الخف أكبر من مقاس قدمي أربع مرات على الأقل، لكنه كان صغيرا جدا بسبب تورم قدمي. ساعدني علي كي أسير عبر الحجرة، ولم يكن من السهل أن أحفظ توازني. وفور أن وصلنا إلى الباب ترك ذراعي وأعطاني العصابة وطلب مني أن أضعها، ففعلت كما طلب مني، ثم وضع حبلا في يدي وقادني إلى دورة المياه. وعندما دخلت دورة المياه فتحت الصنبور وغسلت وجهي بالماء البارد، ثم شعرت فجأة بغثيان شديد وانقبضت أمعائي فتقيأت. شعرت كأن سكينا قد شقني نصفين. ملأ صوت صفير عال أذني، ثم غرقت في الظلام.
عندما فتحت عيني لم أدرك أين أنا، وعندما بدأ ذهني يصفو رويدا رويدا أدركت أنني لم أعد في دورة المياه ولكنني أرقد على الفراش الخشبي الذي شهد تعذيبي. كان علي يجلس على مقعد يراقبني. شعرت بأن رأسي يؤلمني كثيرا، وعندما تحسسته وجدت كدمة كبيرة على الجانب الأيمن من جبيني. سألته عما حدث، فأخبرني أنني سقطت في دورة المياه مغشيا علي فارتطم رأسي بالأرض، وأخبرني أيضا بأن الطبيب فحصني وأكد أن حالتي ليست خطرة، ثم ساعدني على الجلوس في مقعد متحرك وعصب عيني مرة أخرى ودفعني خارج الغرفة. وعندما نزع العصابة عن عيني وجدت نفسي في غرفة ضيقة بلا نوافذ وبها مرحاض وحوض في أحد جوانبها، بالإضافة إلى بطانيتين عسكريتين رماديتين على الأرض. ساعدني على النوم وغطاني بإحداهما. كانت خشنة يابسة تفوح منها رائحة العفن، لكنني لم أهتم، فقد كدت أتجمد بردا. سألني هل أشعر بالألم، فأومأت برأسي متعجبة من حسن معاملته لي. تركني ثم عاد بعد بضع دقائق ومعه رجل متوسط العمر يرتدي زيا عسكريا قدمه لي على أنه الطبيب الشيخ.
حقنني الطبيب في ذراعي، ثم غادر كلاهما الزنزانة. أغلقت عيني، وفكرت في منزلي. تمنيت لو أن بإمكاني التسلل إلى فراش جدتي كما كنت أفعل وأنا طفلة لتخبرني بأنه لا يوجد ما يدعو إلى الخوف، وأن كل ذلك ليس سوى كابوس.
الفصل الثالث
عندما كنت طفلة صغيرة كنت أحب سكون طهران وألوانها الزاهية في الصباح الباكر؛ إذ كنت أشعر بالحرية والخفة كأنني محجوبة عن الأنظار. كان ذلك هو الوقت الوحيد من اليوم الذي يمكنني فيه التجول بحرية داخل صالون التجميل الذي تمتلكه أمي؛ فكنت أتنقل بين مقاعد تصفيف الشعر ومجففات الشعر دون أن تغضب مني. ذات صباح من شهر أغسطس 1972 وأنا في السابعة من العمر أمسكت بمطفأة السجائر الكريستالية المفضلة لديها. كادت تصل في حجمها إلى حجم طبق الطعام، وقد سبق وحذرتني أمي آلاف المرات من لمسها، لكنها كانت جميلة للغاية، وأردت أن أمرر أصابعي على نقوشها الرقيقة. أدركت سر حب أمي الشديد لهذه المطفأة، فهي تبدو ككتلة ثلجية عملاقة لا تذوب أبدا. وحسبما أتذكر، كانت المطفأة موضوعة في منتصف مائدة زجاجية، وكانت مرتادات الصالون من السيدات - بأظافرهن الطويلة المطلية باللون الأحمر - يجلسن في مقاعد الانتظار المغطاة بقماش أبيض وثير ويطفئن سجائرهن فيها، وكن أحيانا يخطئن التصويب فيتساقط الرماد على المائدة. كانت أمي تكره اتساخ المائدة، وكلما أحدثت أي نوع من الفوضى صرخت في وجهي وأمرتني بتنظيفها. لكن ما جدوى التنظيف إذا كانت الأشياء تتسخ طوال الوقت.
أمسكت بالمطفأة ورفعتها في يدي. كان شعاع ذهبي شفاف من الضوء يتسلل من النافذة الوحيدة بالغرفة التي تحتل أكثر من نصف مساحة الحائط الجنوبي، والضوء ينعكس على السقف الأبيض ويتفرق في ثنايا المطفأة الشفافة اللامعة. وبينما أميلها كي أنظر إليها من زاوية أخرى إذ انزلقت من بين أصابعي، فحاولت أن ألتقطها، ولكن كان الأوان قد فات، فسقطت على الأرض وتحطمت.
صاحت أمي من غرفة نومها المجاورة للصالون: «مارينا!»
جريت إلى اليسار عبر الباب المؤدي إلى الممر المظلم الضيق، واندفعت إلى غرفتي، وتسللت أسفل فراشي. كان الجو مشبعا برائحة الغبار التي أحرقت أنفي، فكتمت أنفاسي كي لا أسعل. ومع أنني لم أر أمي، فقد سمعت صوت خفها المطاطي على مشمع الأرضية، وجعلني وقع خطواتها الغاضبة أنكمش بجوار الحائط. نادتني عدة مرات أخرى، ولكنني ظللت ساكنة. وعندما دخلت غرفتي ووقفت إلى جوار فراشي سمعت جدتي تتساءل عما حدث، فأخبرتها أمي أني كسرت المطفأة، ولكن جدتي قالت إنني لم أكسرها، بل هي التي كسرتها أثناء تنظيف المكان. لم أصدق أذني، فقد أخبرتني جدتي بأن جهنم مصير الكاذب بعد الموت.
سألتها أمي متعجبة: «أنت كسرتها؟!»
أجابت جدتي: «نعم، كنت أنظف المائدة من الغبار. كان حادثا، وسأنظف المكان على الفور.»
بعد قليل شعرت بثقل جسد ارتمى على الفراش، فرفعت الملاءة القديمة ذات اللون البني الفاتح عن الأرض، ورأيت خفي جدتي البنيين وساقيها النحيلتين. تسللت خارجة من تحت الفراش وجلست بجوارها. كان شعرها الأشيب مشدودا بإحكام خلف رأسها، ترتدي تنورة سوداء وقميصا أبيض مكويا بعناية، وتحدق في الحائط مباشرة. لم يكن يبدو عليها الغضب.
قلت: «جدتي، لقد كذبت!» - «نعم، كذبت.» - «ولكن الله لن يغضب منك.»
رفعت أحد حاجبيها، وقالت: «لماذا؟» - «لأنك أنقذتني.»
علت البسمة وجهها. نادرا ما كانت جدتي تبتسم؛ فقد كانت امرأة جادة تعلم جيدا كيفية القيام بكل شيء، ولديها دائما حلول لأصعب الأمور، فضلا عن أنها لم تخفق قط في معالجة آلام المعدة.
إنها جدتي لأبي وتعيش معنا. تذهب للتسوق كل يوم في الثامنة صباحا، وغالبا ما أذهب معها. في ذلك اليوم أخذت محفظتها وتبعتها على الدرج، وفور أن فتحت الباب الخشبي الوردي الذي يقع أسفل الدرج، تدفق خليط من أصوات السيارات والمشاة والباعة إلى المدخل. أول ما وقعت عليه عيناي الابتسامة الدرداء على وجه أكبر أغا الذي تخطى الثمانين من العمر ويبيع الموز على عربة مكسورة.
سأل جدتي: «أتريدين موزا اليوم؟»
تفحصت جدتي الموز، فوجدته طازجا أصفر اللون لا تشوبه شائبة. أومأت برأسها وأشارت له بثمانية من أصابعها، فأعطانا أكبر أغا ثماني موزات.
انعطفنا يسارا في شارع «رازي»، وهو شارع ضيق ذو اتجاه واحد أرصفته ترابية. وباتجاه الشمال استطعت رؤية جبال «ألبرز» بلونها الرمادي الضارب إلى الزرقة تناطح السحاب. كنا في أواخر الصيف، وقمم الجبال الثلجية قد اختفت منذ وقت طويل، فيما عدا جبل «دامافاند» - البركان الخامد - الذي كانت مسحة من البياض تعلو قمته. عبرنا الطريق وسرنا عبر سحابة من البخار مشبعة برائحة الكتان النظيف المكوي المنبعثة من باب المغسلة المفتوح. - «جدتي، لماذا لم تقولي ثمانية بالفارسية؟ فأنت تعرفينها.» - «تعلمين جيدا أني لا أحب التحدث بالفارسية. الروسية أفضل كثيرا.» - «أنا أحب الفارسية.» - «ولكننا لا نتحدث إلا الروسية.» - «عندما أذهب إلى المدرسة في الخريف القادم، سوف أتعلم القراءة والكتابة بالفارسية، وسوف أعلمك.»
تنهدت جدتي.
تقدمتها في السير. كان الشارع هادئا يكاد يخلو من الزحام المروري. رأيت امرأتين تسيران في الطريق تلوحان بحقائب التسوق الفارغة في يديهما. عندما دخلت متجر البقالة الصغير، كان صاحبه أغا روستامي - ذو الوجه العطوف والشارب الأسود الكث الذي لا يتناسب ووجهه النحيل - يتحدث إلى سيدة ترتدي شادورا أسود يغطيها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، لا يظهر منها سوى وجهها، بينما سيدة أخرى ترتدي تنورة قصيرة وقميصا ضيقا بلا أكمام تنتظر دورها. كنا في زمن الشاه، ولم يكن لزاما على النساء أن يلتزمن بالزي الإسلامي. ومع أن المحل كان ضيقا، فالأرفف عامرة بمختلف أنواع البضائع مثل الأرز طويل الحبة، والتوابل، والأعشاب المجففة، والزبد، واللبن، والجبن التبريزي، والحلوى، وحبال القفز، وكرات القدم البلاستيكية. ابتسم لي أغا روستامي وهو يناولني عبوة من اللبن بالشيكولاتة ويناول المرأة التي ترتدي الشادور كيسا ورقيا بني اللون. وبينما كنت أزدرد اللبن مستمتعة ببرودته العذبة، إذ تقدمت جدتي وأشارت إلى كل ما نحتاجه. وفي طريقنا للعودة رأينا أغا طاغي؛ الرجل المسن الذي يجوب الشوارع في مثل هذا الوقت من كل عام ينادي: «أمشط وبر الجمال والقطن.» فتفتح النساء النوافذ وتدعوه للدخول كي يعد الأغطية للشتاء عن طريق تمشيط الصوف أو الألياف القطنية بداخلها.
عندما عدنا إلى المنزل، تبعت جدتي إلى المطبخ. كان الموقد ذو الشعلتين إلى اليسار، والثلاجة البيضاء إلى اليمين، وخزانة الأطباق تستند إلى الحائط المواجه للباب. عندما نكون معا داخل المطبخ، بالكاد يكون هناك مكان للحركة. كانت نافذة المطبخ الصغيرة قريبة من السقف يتعذر وصولي إليها، وكانت تطل على ساحة مدرسة للبنين. وضعت جدتي الغلاية المعدنية القديمة على الموقد كي تعد الشاي، ثم فتحت الخزانة. - «دخلت أمك هنا مجددا، ولا يمكنني العثور على أي شيء! أين المقلاة؟»
تناثرت الأطباق والأواني من الجانب الآخر من الخزانة على الأرض، فهرعت كي أساعد جدتي في إعادتها إلى أماكنها. كان المطبخ مملكة جدتي، وهي من تعتني بي وتؤدي كل الأعمال المنزلية، في حين كانت أمي تقضي نحو عشر ساعات يوميا في صالون التجميل، وكانت تكره إعداد الطعام. - «لا تقلقي يا جدتي؛ سوف أساعدك.» - «كم مرة أخبرتها أن تبتعد عن المطبخ؟» - «عدة مرات.»
سرعان ما أصبح كل شيء في موضعه مرة أخرى.
نادت جدتي على أبي الذي كان يجلس في استوديو الرقص على الأرجح: «كوليا!» لكن لم يجبها أحد.
قالت جدتي وهي تضع أغراض البقالة في الثلاجة: «مارينا، اذهبي واسألي أباك هل يرغب في تناول الشاي.»
سرت عبر الممر المظلم أمام صالون التجميل الذي تمتلكه أمي حتى وصلت إلى استوديو الرقص الخاص بأبي، وهو غرفة كبيرة على شكل حرف “L”
أرضيتها مغطاة بمشمع بني، وحوائطها مزدانة بصور لأزواج من الراقصين يرتدون ثيابا أنيقة. وفي منتصف استراحة الانتظار - الضلع الأصغر من حرف “L” - كانت توجد مائدة منخفضة مستديرة مغطاة بالمجلات وحولها أربعة مقاعد جلدية سوداء. كان والدي يجلس على واحد من هذه المقاعد يقرأ الجريدة. كان يتمتع باللياقة، طوله 1,7 متر، أشيب الشعر، حليق الوجه دائما، عسلي العينين. - «صباح الخير يا أبي. جدتي تسألك هل تريد كوبا من الشاي.»
أجابني دون أن ينظر إلي: «كلا.» فاستدرت عائدة من حيث أتيت.
عندما أستيقظ في الصباح الباكر والكل نيام أذهب إلى استوديو الرقص، وأتخيل موسيقاي المفضلة - الفالس - تصدح، وأشرع في الرقص والدوران حول الغرفة متخيلة والدي يقف في أحد أركانها يصفق لي ويقول: «أحسنت يا مارينا! أنت ترقصين جيدا!»
عندما دخلت المطبخ، كانت جدتي تقطع البصل والدموع تنهمر من عينيها. بدأت أشعر بحرقة في عيني.
قلت: «أكره البصل النيئ.» - «سوف تقدرينه عندما تكبرين. عندما تكونين بحاجة للبكاء دون أن يعلم أحد أنك تبكين، يمكنك تقطيع البصل.» - «لكنك لا تبكين حقا، أليس كذلك؟» - «كلا، بالطبع لا.» •••
عندما تزوج والداي أثناء الحرب العالمية الثانية استأجرا شقة متواضعة في الجانب الشمالي الغربي لتقاطع شارعي «شاه» و«رازي» في وسط طهران، عاصمة إيران وأكبر مدنها. وهناك افتتح أبي - غلام رضا نيكولاي مرادي بخت - استوديو للرقص أعلى متجر صغير للأثاث ومطعم صغير. ولما كان العديد من الجنود الأمريكيين والبريطانيين قد مروا بإيران أثناء الحرب، فقد انتشرت الثقافة الغربية بين أفراد الطبقة العليا، وهكذا وجد والدي العديد من المتحمسين لتعلم الرقص على المنوال الغربي.
وضعت أمي - رقية ناتاليا فكري - أخي في عام 1951، وعندما بلغ العامين، سافرت أمي إلى ألمانيا - مع أنها لم تكن تتحدث الألمانية - للحصول على دورة تدريبية في تصفيف الشعر، وعندما عادت بعد ستة أشهر، أصبحت بحاجة إلى مكان كي تفتتح صالون تجميل، وكانت الشقة المجاورة لشقة والدي مطابقة لها، فاستأجراها هي الأخرى وضما الشقتين معا.
ولدت أنا في الثاني والعشرين من أبريل 1965. ومنذ عام 1941 كان محمد رضا شاه بهلوي الحاكم المستبد الموالي للغرب هو ملك إيران. وقبل أربعة أشهر من مولدي اغتيل رئيس الوزراء الإيراني حسن علي منصور على يد أتباع الزعيم الشيعي الأصولي آية الله الخميني الذي كان يطالب بإقامة دولة دينية في إيران. وفي عام 1971 أقام أمير عباس هوفيدا - رئيس الوزراء آنذاك - احتفالا ضخما عند أطلال مدينة «برسيبوليس» العتيقة لإحياء الذكرى السنوية الخمسمائة بعد الألفين لتأسيس الإمبراطورية الفارسية. حضر الاحتفال خمسة وعشرون ألفا من المدعوين من كل أنحاء العالم، بينهم ملوك وملكات ورؤساء دول ووزارات ودبلوماسيون، وبلغت تكلفته 300 مليون دولار. وأعلن الشاه أنه أراد بهذا الاحتفال أن يظهر للعالم مدى التقدم الذي أحرزته إيران في السنوات الأخيرة.
عندما بلغت الرابعة من عمري غادر أخي المنزل كي يلتحق بجامعة بهلوي في مدينة شيراز بوسط إيران. كنت فخورة للغاية بأخي الوسيم فارع الطول، لكنه لم يكن يأتي إلا نادرا، ولم يكن يمكث معنا فترة طويلة. في المناسبات السعيدة التي كان يزورنا فيها، كان يسد باب غرفتي بجسده وهو يبتسم ويقول: «كيف حال أختي الصغيرة؟» كنت أحب رائحة عطره الخلابة التي تملأ المكان. كان هو وجدتي الوحيدين اللذين يعطيانني هدايا عيد الميلاد، أما والداي فكانا يعتقدان أن عيد الميلاد مضيعة للوقت والمال.
كانت جدتي تصطحبني إلى الكنيسة أيام الآحاد، وكانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية الوحيدة في طهران تقع على مسيرة ساعتين من منزلنا. كان الطريق إلى الكنيسة يقودنا عبر شوارع وسط المدينة بطهران، حيث تصطف على جانبيها المتاجر والباعة وأشجار القيقب العتيقة. كانت الرائحة العطرة لدوار الشمس وبذور اليقطين تملأ الجو، وكان شارع «نادري» الذي يضم متاجر اللعب والمخابز هو الجزء المفضل لدي في تلك الرحلة، إذ كانت رائحة الفطائر الطازجة والفانيليا والقرفة والشيكولاتة تشعرني بالنشوة. أيضا كانت هناك العديد من الأصوات التي يتداخل بعضها مع بعض في الشارع: أبواق السيارات، والباعة الذين يعلنون عن بضاعتهم ويساومون زبائنهم، والموسيقى التقليدية. لم تكن جدتي تؤمن بأهمية شراء اللعب، ولكنها كانت دوما تشتري لي هدية صغيرة.
وفي أحد أيام الآحاد انطلقنا مبكرا كي نزور إحدى صديقات جدتي التي تسكن في شقة صغيرة. كانت سيدة روسية عجوزا صعبة المراس، شعرها أشقر قصير مجعد، تضع دائما أحمر شفاه وظل عيون أزرق، وتفوح منها رائحة الأزهار. كانت شقتها مليئة بالأثاث القديم والعديد من الحلي الصغيرة، ولديها أروع مجموعة من التماثيل الخزفية الصغيرة على الإطلاق في كل مكان؛ على الموائد الجانبية، وأرفف الكتب، وقواعد النوافذ، بل وعلى طاولات المطبخ. وكنت أحب على وجه الخصوص تماثيل الملائكة بأجنحتها الرقيقة. قدمت لنا الشاي في أروع فناجين صينية رأيتها من قبل؛ فكانت بيضاء لامعة، مرسوما عليها أزهار وردية. وضعت السيدة ملعقة ذهبية صغيرة بجوار كل فنجان. كان يروق لي وضع مكعبات السكر في فنجاني ومشاهدة الفقاعات تعلو وأنا أقلبه.
سألتها عن سبب امتلاكها لكل هذا العدد من التماثيل الملائكية، فأخبرتني بأنها تؤنس وحدتها، وسألتني هل أعلم أن كل واحد منا لديه ملاك حارس، فأجبتها بأن جدتي قد أخبرتني بذلك. أوضحت لي وهي تنظر إلي بعينيها الزرقاوين اللتين بدتا كبيرتين للغاية خلف نظارتها الطبية السميكة أن كل واحد منا قد رأى ملاكه الحارس من قبل، ولكنه نسي كيف كانت هيئته.
قالت: «الآن أخبريني، هل حدث من قبل أن هممت بارتكاب خطأ ما فشعرت بهاتف يهمس في أذنيك ألا تفعلي؟»
قلت وأنا أفكر في مطفأة السجائر: «نعم ... أظن ذلك.» - «حسنا، كان هذا ملاكك الحارس يتحدث إليك. وكلما أنصت إليه، سمعته أفضل.»
تمنيت أن لو تذكرت شكل ملاكي الحارس، فاقترحت علي صديقة جدتي أن ألقي نظرة على كل تماثيلها، وأكدت لي أن ملاكي يشبه التمثال الذي سينال إعجابي أكثر. تفحصت التماثيل برهة، وأخيرا وجدت تمثالي المفضل؛ شاب وسيم يرتدي ثوبا أبيض طويلا، أخذته إلى جدتي كي أريها إياه، فأخبرتني أنه لا يبدو كالملائكة لأنه لا يملك أي أجنحة، لكنني أخبرتها بأن أجنحته غير مرئية.
قالت صديقة جدتي: «يمكنك الاحتفاظ به يا عزيزتي.» وهو ما أسعدني كثيرا. ***
كانت جدتي تصطحبني إلى الحديقة العامة كل يوم، فهناك حديقة عامة فسيحة تدعى «حديقة فالياد» على مسيرة نحو عشرين دقيقة من المنزل. كنا نقضي الساعات نستكشف الحديقة وننظر بإعجاب إلى أشجارها العتيقة وأزهارها العطرة. وفي أيام الصيف الحارة، كنا نجلس على مقعد طويل نتناول المثلجات. في منتصف الحديقة كانت توجد بركة ضحلة في وسطها نافورة تقذف بالمياه عاليا في الهواء وحولها العديد من النافورات الصغيرة. كنت دائما أقف بجوار البركة وأدع الرياح تنثر رذاذ المياه فوقي. حول البركة كانت توجد تماثيل برونزية لفتيان صغار يختلف شكل كل منهم عن الآخر؛ فأحدها يقف شامخا ينظر إلى السماء، وآخر ينحني بجوار المياه كأنه يبحث عن شيء ثمين مفقود، وثالث يشير بعصا نحاسية نحو المياه، ورابع يقف على ساق واحدة ويرفع الأخرى في الهواء كأنه يستعد للقفز في البركة. جمعت مسحة من الحزن والوحدة بين هذه التماثيل، فكانت تبدو وكأنها حقيقية لكنها تجمدت إلى الأبد في وضع ثابت كئيب أعجزها عن التحرر.
كانت الأرجوحة متعتي الكبرى، كانت جدتي تعلم أنني أحب الانطلاق عاليا بها، وكانت دائما تدفعني بأقصى قوتها، وكنت أحب مداعبة الرياح لخصلات شعري واختفاء العالم من تحتي. وفي عالمي الصغير الذي لم يتجاوز الأعوام السبعة، كان يخيل إلي أن الحياة ستظل هكذا إلى الأبد.
ذات يوم في فترة ما بعد الظهيرة، وبينما كنت أجري في الحديقة، نادتني جدتي من مسافة بعيدة كي تخبرني بأن الوقت قد حان للعودة إلى المنزل، ولكنها نادتني باسم خطأ، حيث دعتني تامارا. أسرعت نحوها حائرة وسألتها من تكون تامارا، فاعتذرت لي وأخبرتني أنه من الأفضل أن نعود إلى المنزل لأنها لا تتحمل شدة الحرارة، فانطلقنا في رحلة العودة سيرا على الأقدام. بدت متعبة، وتعجبت لذلك، لأني لم أرها مريضة أو متعبة من قبل.
سألتها مرة أخرى: «من تكون تامارا؟» - «إنها ابنتي.» - «لكن ليس لديك بنات يا جدتي، ليس لديك سواي أنا حفيدتك.»
أخبرتني أن لديها ابنة تدعى تامارا، أكبر من والدي بأربعة أعوام، وأني أشبهها كثيرا كأني توأمها. تزوجت تامارا رجلا روسيا وهي في السادسة عشرة من عمرها، وعادت إلى روسيا معه. سألتها لماذا لم تزرنا تامارا قط، فأخبرتني جدتي أنه غير مسموح لها بمغادرة روسيا؛ فالحكومة السوفييتية لا تسمح لمواطنيها بالسفر إلى الدول الأخرى بسهولة. اعتادت جدتي أن ترسل لتامارا الثياب الجميلة والصابون ومعجون الأسنان، لأن تلك الأشياء يصعب العثور عليها هناك، إلى أن تلقت خطابا من جهاز «السافاك» - البوليس السري للشاه - يقول إنه غير مسموح لها بالتواصل مع أي شخص في الاتحاد السوفييتي.
سألتها: «لماذا؟» - «الشرطة هنا تعتقد أن روسيا دولة شريرة، ولذا أخبرونا أننا ممنوعون من مراسلة تامارا أو إرسال أي شيء لها.»
وبينما كنت أحاول استيعاب تلك المعلومة الجديدة عن عمتي التي لم أعرفها قط، تابعت جدتي الحديث كأنها تتحدث مع نفسها. لم أتمكن من فهم كثير مما قالت، فقد ذكرت أسماء أشخاص وأماكن لم أسمع عنها من قبل، واستخدمت كلمات غريبة وغير مألوفة، فكنت ألتقط أجزاء متفرقة من حديثها. أخبرتني أنها عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها وقعت في غرام شاب قتل فيما بعد أثناء الثورة الروسية. أخذت تصف منزلا ذا باب أخضر يطل على شارع ضيق ونهر واسع وجسر كبير، وتحدثت عن جنود يمتطون الخيول ويطلقون النار على أحد الحشود. - «... استدرت فوجدته قد سقط أرضا. أصابته إحدى الرصاصات. كانت الدماء في كل مكان. احتضنته فلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي ...»
لم أكن أرغب في سماع المزيد، لكنها لم تكن لتتوقف. لم أستطع تغطية أذني بيدي؛ فهو تصرف غير لائق وسوف يغضبها. ربما يمكنني إسراع الخطى وترك مسافة بيني وبينها، ولكن هناك خطبا ما، فهي ليست على ما يرام، وعلي أن أعتني بها. أخيرا بدأت أدندن وطغى صوتي على كلماتها. لطالما كانت تحكي لي الحكايات قبل النوم، ولكنها جميعا كانت تنتهي نهايات سعيدة، ولم يكن بها أي قتلى. كنت أعلم أن الأخيار يذهبون إلى الجنة بعد الموت، وهكذا لا يمكن أن يكون الموت سيئا إلى هذا الحد، ولكنه ما زال يخيفني. إنه أشبه بالسير نحو ظلام دامس قد يصيبك فيه أي مكروه، ولم أكن أحب الظلام على الإطلاق.
كنا نسير باتجاه المنزل عندما توقفت عن الكلام فجأة ونظرت حولها، وبدت تائهة حائرة. ومع أننا كدنا نكون قد وصلنا، فقد كان علي أن آخذ بيدها وأقودها ما تبقى من الطريق. المرأة القوية التي عرفتها طوال حياتي، الصديقة الحميمة التي كنت أعتمد عليها، المرأة التي كانت دائما بجواري تساعدني أصبحت ضعيفة فجأة، أصبحت كطفلة مثلي تماما. جدتي التي كانت دائما تستمع ونادرا ما تتفوه بأكثر من بضع كلمات في المرة الواحدة أخبرتني قصة حياتها. صدمتني كلماتها عن الدماء والعنف والموت. لطالما كان عالمي آمنا معها، لكنها أخبرتني أن كل شيء إلى زوال. شعرت أن جدتي تحتضر، رأيت ذلك في عينيها كأن أحدهم همس به في أذني.
عندما عدنا إلى المنزل ساعدتها كي تستريح في الفراش. لم تتناول معنا عشاء ذلك اليوم، ولم تنهض من فراشها في الصباح التالي. اصطحبها والداي إلى الطبيب في ذلك اليوم، وعند عودتهم ذهبت جدتي إلى الفراش مباشرة، ولم يجب والداي على أي من أسئلتي بشأن مرضها.
ذهبت إلى غرفتها، ووجدتها نائمة، فجلست على مقعد بجوارها، وانتظرت فترة طويلة حتى تحركت أخيرا ، وحينها فقط أدركت كم أصبحت هزيلة واهنة.
سألتها: «ما الخطب يا جدتي؟»
قالت: «أنا أحتضر يا مارينا.» كأنه أمر عادي يحدث كل يوم.
سألتها عما يحدث لنا بعد الموت، فطلبت مني أن أتأمل صورة معلقة على الحائط في غرفة نومها منذ أن تفتحت عيناي على العالم، وأن أخبرها بكل ما أراه في الصورة. قلت إنها صورة عجوز شعرها أشيب تتوكأ على عكاز وتسير في طريق في غابة مظلمة، وفي نهاية الطريق يوجد ضوء ساطع.
أوضحت جدتي أنها تشبه تلك العجوز، فقد ظلت تسير طوال حياتها التي استمرت سنوات عديدة حتى شعرت بالتعب، وأن حياتها كانت مظلمة وصعبة، وأنها واجهت العديد من العقبات لكنها لم تستسلم قط.
قالت: «والآن، حان دوري كي أرى وجه الرب.»
عارضتها: «لكن يا جدتي، لم لا يمكنك رؤية وجه الرب وأنت هنا معي؟ أعدك بأن أدعك تستريحين، ولن يتعين عليك الذهاب إلى أي مكان.»
ارتسمت على وجهها ابتسامة. تحسست أهداب عيني بأصابعها المرتجفة وقالت: «يا صغيرتي، لا يمكننا رؤية وجه الرب بهاتين العينين، ولكن بأرواحنا. عليك أن تعلمي أن الموت ليس إلا خطوة علينا أن نخطوها كي نصل إلى العالم الآخر ونحيا حياة مختلفة.» - «لكني لا أريد لأي شيء أن يتغير، فأنا أحب كل شيء كما هو الآن.» - «عليك أن تتحلي بالشجاعة يا مارينا.»
غير أني لم أكن أرغب في التحلي بالشجاعة. كنت خائفة، وحزينة، وبدا لي أن الشجاعة مثل الكذب من حيث التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، بينما الحقيقة غير ذلك.
أخذت جدتي نفسا متقطعا، وطلبت مني أن أذهب إلى خزانتها وأفتح الدرج العلوي الأيسر، وأحضر لها صندوقا ذهبيا كان هناك، ثم طلبت مني أن أتسلل تحت فراشها وأحضر الحذاء الأسود، حيث وجدت داخل الفردة اليسرى مفتاحا ذهبيا صغيرا.
أعطتني الصندوق والمفتاح والدموع تنهمر من عينيها. - «مارينا، لقد كتبت قصة حياتي ووضعتها في هذا الصندوق، وهي ملكك الآن. أريدك أن تحتفظي بها وأن تتذكريني. هل ستفعلين ذلك من أجل جدتك؟»
أومأت برأسي. «ضعي الصندوق في مكان آمن. الآن اذهبي ولا تقلقي، فأنا بحاجة إلى الراحة.»
تركتها وأويت إلى غرفتي حيث شعرت بالوحدة أكثر من أي وقت مضى. خبأت الصندوق أسفل فراشي، وفتحت الباب الزجاجي المؤدي إلى الشرفة وخرجت إليها. كان الهواء ساخنا، والشارع مزدحما كعادته دائما. بدا كل شيء مختلفا مع أن شيئا لم يتغير عما كان عليه.
لم تستيقظ جدتي بعدها أبدا. كان سرطان الكبد يفتك بها، وأخبرتني أمي أنها في غيبوبة. وامتدت الغيبوبة أسبوعين ظل فيهما أبي يذرع الممر جيئة وذهابا ويبكي. كنت أجلس بجوارها ساعتين على الأقل يوميا كي أؤنس وحدتها، وكي لا أشعر بالوحدة أنا أيضا. كان وجهها يشع هدوءا وسكينة، وإن كان شديد الشحوب والهزال. وبمرور الأيام، كنت أغالب دموعي خوفا من أن تصبح وفاتها حقيقة واقعة.
ذات صباح استيقظت مبكرا ولم أستطع النوم مرة أخرى، فذهبت إلى غرفة جدتي، وأضأت النور فوجدتها في مكانها. كان وجهها شاحبا تماما. لمست يدها فوجدتها باردة، وقفت صامتة وقد أدركت أنها توفيت ولكن لم أكن أعلم ماذا أفعل، أردت أن أقول لها شيئا، ولكنني لم أكن متأكدة هل تستطيع سماعي؛ هل يمكنني اختراق الحاجز الذي أوجده الموت بيننا. - «وداعا يا جدتي، أتمنى أن تحيي حياة طيبة مع الرب أينما كان.»
داهمني شعور غريب بوجود شخص آخر في الغرفة معنا. هرعت إلى غرفتي، وانزويت في فراشي أتلو كل الصلوات التي أذكرها.
في اليوم التالي حملت جثة جدتي بعيدا. ظللت طوال اليوم أسمع بكاء والدي. غطيت أذني بيدي ونظرت حولي، لم يكن هناك مكان أذهب إليه، فقد كانت جدتي ملاذي الآمن عندما يحدث خطب ما، ولكنها الآن رحلت. في النهاية أمسكت تمثالي الملائكي من فوق خزانتي واختبأت أسفل فراشي وبدأت أصلي: «السلام عليك يا مريم، يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك يسوع، يا مريم القديسة، يا والدة الرب، صلي لأجلنا نحن الخطاة، الآن وفي ساعة موتنا.»
ارتفع الغطاء عن جانب فراشي، وتدفقت موجة من الضوء وسط الظلام إلى البقعة التي أختبئ فيها، فرأيت وجها غريبا ينظر إلي. كان وجه شاب ذي شعر أسود مجعد وعينين شديدتي السواد. كان وجهه ناصع البياض مقارنة بشعره، وابتسامته دافئة حنون. أردت أن أسأله من يكون، ولكنني لم أستطع.
قال: «مرحبا.»
كان صوته حنونا رقيقا أعطاني الشجاعة التي أحتاجها، فخرجت من أسفل الفراش. كان يرتدي ثوبا أبيض طويلا وكان حافي القدمين. لمست أصابع قدميه فوجدتها دافئة. انحنى، ورفعني، ثم جلس على فراشي، وأجلسني على حجره، فملأت أنفي رائحة زكية كعبير أزهار النرجس في يوم مطير.
قال وهو يربت على شعري: «كنت تنادينني فأتيت.» أغمضت عيني، وتحركت أصابعه بين خصلات شعري مذكرة إياي بنسائم الربيع وأشعة الشمس الدافئة وهي تداعب أغصان الأشجار. ملت على صدره يخالجني شعور بأني أعرفه، كأننا التقينا من قبل، لكن لا أعلم متى أو أين. نظرت إليه، فارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة دافئة.
سألته: «لم لا ترتدي خفا في قدميك؟» - «لا حاجة إلى الخف في المكان الذي أتيت منه.» - «هل أنت ملاكي الحارس؟» - «من تظنين أني أكون؟»
نظرت إليه لحظة. وحده الملاك يملك عينيين كهاتين. - «أنت ملاكي الحارس.» - «هذا صحيح.» - «ما اسمك؟» - «أنا ملك الموت.»
كاد قلبي أن يتوقف. «أحيانا يكون الموت صعبا، لكنه ليس سيئا أو مخيفا. إنه رحلة إلى الله، ولأن الناس لا يموتون إلا مرة واحدة، فهم لا يعرفون الطريق، ولذلك فأنا أرشدهم وأساعدهم.» - «هل أتيت لتأخذني معك؟» - «كلا، ليس الآن.» - «هل ساعدت جدتي؟» - «نعم.» - «هل هي سعيدة؟» - «إنها في غاية السعادة.» - «أتبقى معي قليلا؟» - «أجل.»
ملت على صدره مرة أخرى وأغمضت عيني. لطالما تساءلت بم تشعر الطيور وهي تحلق في الهواء وتغتسل بأشعة الشمس وتعانق السماء. الآن عرفت.
عندما استيقظت في الصباح التالي كنت في فراشي لا أرى أي ملائكة حولي.
الفصل الرابع
استيقظت من نوم عميق على صوت يناديني بينما أشعر بألم حاد في كتفي الأيمن. كانت رؤيتي مشوشة، وكان حامد يقف عند رأسي ويركل كتفي. تذكرت أن عليا قد تركني في تلك الزنزانة ، لكن لم أكن أعرف كم من الوقت قضيته هنا.
قلت: «نعم، نعم.» - «هيا انهضي!»
كانت ركبتاي ترتجفان، وقدماي تلتهبان ألما.
قال حامد: «ستأتين معي الآن كي تشاهدي إلقاء القبض على أصدقائك الذين حاولت حمايتهم. كنا نعرف أسماءهم وعناوينهم منذ البداية، لكننا أردنا معرفة المزيد عنك، وقد أثبت لنا عداءك للثورة. أنت خطر على المجتمع الإسلامي.»
عصبت عيناي مرة أخرى، وقيد حامد معصمي بحبل وسحبني إلى الأمام. زج بي داخل إحدى السيارات، وبعد بضع دقائق أزيلت العصابة عن عيني. كنا قد غادرنا السجن، ولم أكن أعرف في أي يوم أو في أي وقت من اليوم نحن، لكن بدا لي أننا في الساعات الأولى من الليل؛ إذ السماء ملبدة بالغيوم لكنها لم تكن مظلمة تماما. اتجهنا جنوبا في شارع ضيق متعرج، وكدنا لا نرى أيا من السيارات أو المارة. اصطفت الجدران الطينية والقرميدية القديمة على جانبي الشارع تحيط بالعقارات الكبيرة ما جعل الطريق يبدو وكأنه مجرى نهر جاف. ارتفعت الأشجار الجرداء إلى عنان السماء وأخذت تهتز بفعل الرياح. وسرعان ما دخلنا طريق جوردان السريع وواصلنا السير جنوبا. كان ذلك الحي حديثا راقيا، ورأيت مبنى سكنيا شاهقا على أحد التلال تحيط به منازل ثنائية الطوابق وأخرى أحادية الطابق كبيرة. نظرت إلى السائق؛ كانت له لحية سوداء كثة ويرتدي الزي العسكري الأخضر المميز للحرس الثوري. جلس حامد في المقعد الأمامي، وكانا صامتين ينظران أمامهما. وبينما كنا نتوقف عند إحدى إشارات المرور، ابتسمت لي فتاة - ربما في الثالثة أو الرابعة من العمر - تجلس في المقعد الخلفي لسيارة بيضاء توقفت بجوارنا، وكان في المقعدين الأماميين للسيارة رجل وامرأة يتحدثان، تساءلت عما يفعله والداي في تلك الساعة؛ أيحاولان مساعدتي؟ أم أنهما فقدا الأمل؟ أعلم أنه ليس باستطاعتهما فعل أي شيء. ماذا عن أندريه؟ هل يفكر في الآن؟
دخلنا وسط المدينة حيث زادت الكثافة المرورية، وبدت الأرصفة والمتاجر مزدحمة بالناس. كانت كل الجدران مغطاة بشعارات مؤيدة للحكومة الإسلامية وأقوال مأخوذة عن الخميني. استرعى أحدها انتباهي: «لو سمح المرء لكافر أن يستمر في إفساد الأرض، فستصبح المعاناة النفسية للكافر أسوأ كثيرا. أما لو قتل المرء هذا الكافر وحال ذلك دون ارتكابه الخطايا، فسيكون الموت نعمة له.» القتل في عالم الخميني يمكن أن يعد عملا صالحا أو «نعمة»، وهكذا يمكن أن يصوب حامد بندقيته إلى رأسي ويجذب الزناد معتقدا أنه قد أسدى إلي معروفا، وأنه قد يدخل الجنة لقاء ذلك.
كان المارة يشقون طريقهم بين السيارات كي يعبروا الطريق، وعند أحد التقاطعات نظر شاب إلى داخل السيارة، وعندما رأى الحارس الجالس أمام عجلة القيادة تراجع خطوة للخلف وحدق في. وكان الثلج قد بدأ يتساقط.
توقفت السيارة عندما وصلنا إلى منزل مينو، وهي إحدى صديقاتي في المدرسة. وتوقفت بجوارنا سيارة مرسيدس سوداء وخرج منها حارسان توجها إلى باب المنزل وقرعا الجرس. فتحت والدة مينو الباب، ودخل الحارسان المنزل. استدار حامد وأعطاني ورقة بها نحو ثلاثين اسما أعرفهم جميعا، فقد كانوا زملائي في المدرسة، وتعرفت على توقيع مديرة المدرسة عليها. كانت الورقة التي أحملها في يدي قائمة بالأسماء التي تبحث عنها الشرطة في مدرستي.
قال حامد مبتسما: «لن نستطيع إلقاء القبض على الجميع اليوم، لكننا سننتهي من ذلك في غضون ثلاثة أيام أو نحو ذلك.»
خرج الحارسان من المنزل بعد نحو نصف ساعة، ومينو معهما. ترجل حامد من السيارة وفتح الباب الخلفي، وطلب منها أن تجلس بجواري. رأيت والدتها تبكي وهي تتحدث إلى أحد الحارسين، وأخبر حامد مينو بأنهم ألقوا القبض علي منذ يومين، وطلب مني أن أنصحها بالتعاون معهم إن لم أكن أود رؤيتها تحت وطأة التعذيب.
حدقت مينو في وقد اتسعت عيناها رعبا.
قلت لها وأنا أشير إلى قدمي: «أخبريهم بما يودون معرفته، فهم ...»
قاطعني حامد: «يكفي هذا.»
نظرت مينو إلى قدمي، ثم غطت وجهها بيديها، وأخذت تبكي.
سألها حامد: «لم تبكين؟» لكنها لم تجبه.
خيل إلي أننا مكثنا في السيارة ساعات؛ فقد تنقلنا من منزل إلى آخر، وألقي القبض على أربعة من زملائي في المدرسة في تلك الليلة. أخبرت مينو همسا بأن عليها أن تخبر الحرس ببضعة أسماء أثناء التحقيق، وأخبرتها أيضا أن لديهم قائمة بالأسماء، وأنهم يعرفون كل شيء، ولكنني لم أكن واثقة من مدى استيعابها لما قلت.
عصبت أعيننا فور وصولنا إلى بوابة السجن، وعندما توقفت السيارة، فتح الباب المجاور لي وأمرني حامد بالنزول. سرت خلفه أعرج حتى دخلنا أحد المباني، فطلب مني أن أجلس على الأرض في الرواق. جلست هناك فترة طويلة أسمع بكاء السجناء وصرخاتهم. كان رأسي ينبض ألما، وشعرت بالغثيان.
كان النعاس قد غلبني، وانتفضت واقفة عندما سمعت صوت حامد: «مارينا، انهضي!»
تمكنت من استعادة توازني بأن استندت إلى الحائط. طلب مني أن أتشبث بشادور فتاة تقف أمامي ففعلت، وبدأت تسير وأنا أعرج خلفها. كانت قدماي تؤلمانني كأني أسير على زجاج مكسور. سرعان ما خرجنا من المبنى وواصلنا السير والرياح الباردة تعصف بي. بدأت الفتاة التي أمامي تسعل، وملأ الثلج الذي كسا الأرض خفي المطاطي فخدر قدمي وساعد في تخفيف الألم، لكنني كنت أفقد الشعور بقدمي شيئا فشيئا، وكل خطوة تزداد صعوبة عن سابقتها. تعثرت في صخرة، فوقعت أرضا. وبينما أستند برأسي على الأرض المتجمدة، لعقت الثلج محاولة تخفيف جفاف فمي ومرارته. لم أشعر بالبرد أو العطش هكذا من قبل. كان جسدي يرتجف دون إرادتي، وأسناني يصطك بعضها ببعض حتى ملأ صوتها رأسي. رفعتني أيد خشنة عن الأرض، وأجبرتني على الوقوف على قدمي.
ترى إلى أين يأخذونني؟
صاح حامد: «سيري جيدا، وإلا أطلقت الرصاص عليك هنا!»
جاهدت كي أواصل السير إلى أن طلب منا التوقف أخيرا، وأزال أحدهم العصابة عن عيني. وجه ضوء ساطع إلى وجهي فأعماني وخلف وراءه ألما تفجر في رأسي. وبعد بضع ثوان نظرت حولي. كانت أضواء الكشافات تشق الليل كأنها نهر أبيض متلألئ، والتلال السوداء تحيط بنا كظلال الأشباح. كنا في بقعة نائية لا تحيط بها أي مبان. كانت سماء الليل مرقطة بسحب تجري على بساط من النجوم المتلألئة. طافت بضع من ندف الثلج في الهواء بخفة محاولة أن تطيل وجودها البلوري قبل أن تلقى مصيرها على الأرض. كان معي أربعة سجناء آخرون؛ فتاتان وشابان، وأربعة من الحرس الثوري يصوبون فوهات بنادقهم نحونا، وقد خلت وجوههم من أي تعبير. صاح حامد: «تحركوا نحو الأعمدة!» فتردد صدى صوته بين التلال. وعلى بعد سبعة أمتار ارتفعت من الأرض بضعة أعمدة خشبية في مثل طولي. نحن قاب قوسين أو أدنى من الإعدام، وشعور البرودة الذي ملأ صدري يشلني.
هذه لحظة موتي. لا أحد يستحق الموت بهذه الطريقة.
بدأ أحد الشابين يرتل بالعربية، وبصوت جهوري قوي، آيات من القرآن يرجو فيها مغفرة الله، أما الشاب الآخر فقد أخذ يحدق في الأعمدة. كانت إحدى عينيه متورمة ومغلقة، وقميصه الأبيض ملطخا بالدماء. كرر حامد كلامه: «تحركوا بجوار الأعمدة الآن!» فأطعنا صامتين. كان الأسى يجثم على صدري مثل حجر ثقيل ويعتصر فؤادي.
أيها الرب يسوع، ساعدني! لا تدع روحي تضيع في الظلمات. «إذا سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرا، لأنك أنت معي.»
بدأت إحدى الفتاتين تجري، فصاح أحدهم: «توقفي!» ولكنها واصلت الجري. شق طلق ناري سكون الليل، ووقعت الفتاة على الأرض. أخذت خطوة للأمام، ولكن ساقي خذلتاني. تحركت الفتاة على جنبها، وتقوس ظهرها ألما، وأخذت تئن: «أرجوكم ... أرجوكم لا تقتلوني!» كان الثلج الذي يغطي الشادور الذي ترتديه يلمع في الضوء الساطع، ووقف حامد فوقها يصوب بندقية إلى رأسها، فغطت الفتاة رأسها بذراعيها.
أخذت الفتاة الواقفة إلى جواري تبكي، وبدت صرخاتها العميقة كأنها تمزق صدرها، ثم جثت على ركبتيها.
صاح حامد: «قيدوا الآخرين إلى الأعمدة!»
رفعني أحد الحراس عن الأرض وقيدني آخر إلى العمود، فانغرس الحبل في لحمي.
كنت منهكة للغاية. «هل سيؤلمني الموت كما آلمني الجلد؟»
ما زال حامد يصوب بندقيته نحو الفتاة المصابة. - «أيها الحراس! استعدوا!»
الموت ليس سوى مكان لم أذهب إليه من قبل. سوف يساعدني الملاك كي أجد طريقي. لا بد أن يفعل. هناك ضوء خلف هذا الظلام الرهيب. في مكان ما خلف النجوم، تشرق الشمس.
صوبوا بنادقهم نحونا، فأغمضت عيني.
أتمنى أن يعلم أندريه بحبي له. السلام عليك يا مريم، يا ممتلئة نعمة، الرب معك ...
سمعت صوت سيارة تسرع نحونا، ففتحت عيني، وللحظة تخيلت أنهم سيدهسوننا بالسيارات. علا صرير الفرامل، وتوقفت سيارة مرسيدس سوداء أمام الحراس مباشرة. ترجل علي منها، وتوجه نحو حامد وأعطاه ورقة. تبادلا الحديث هنيهة، ثم هز حامد رأسه. أخذ علي يتقدم نحوي وعيناه مثبتتان علي، أردت أن أجري، أردت أن يطلق حامد الرصاص علي وينهي حياتي. فك علي قيدي فخذلتني قواي وسقطت على الأرض، حملني وسار بي نحو السيارة. شعرت بدقات قلبه، وحاولت بلا جدوى أن أخلص نفسي من بين ذراعيه. - «إلى أين تأخذني؟»
أجابني همسا: «لا تقلقي؛ لن أؤذيك.»
التقت عيناي بعيني الفتاة التي كانت مقيدة بجواري.
صرخت الفتاة: «يا إلهي ...» وأغمضت عينيها.
وضعني علي في المقعد الأمامي للسيارة وأغلق الباب، فحاولت أن أفتحه لكنه كان موصدا. وثب إلى مقعد السائق. استجمعت قواي وأخذت ألكزه، ولكنه أعاق حركتي بيد واحدة، وبينما كنا نبتعد سمعت صوت إطلاق الرصاص. •••
فتحت عيني على ضوء مصباح يسطع فوق رأسي فرأيت سقفا رماديا. حاولت أن أتحرك، ولكنني لم أشعر بجسدي. كان علي جالسا في أحد الأركان يحدق إلي، وكنت أرقد على الأرض في زنزانة صغيرة.
أغمضت عيني وتمنيت أن يرحل، لكن عندما فتحتهما مرة أخرى بعد مرور دقيقتين وجدته ما زال جالسا هناك. هز رأسه، وأخبرني أني جلبت المتاعب لنفسي بعنادي. قال إنه ذهب إلى آية الله الخميني الذي كان صديقا مقربا لوالده كي يخفف عني الحكم من الإعدام إلى السجن مدى الحياة. وهكذا أصدر آية الله أوامره بألا أعدم.
لم أرد أن ينقذني آية الله. لم أرد أن ينقذني أحد. كنت أريد الموت.
قال علي دون أن يرفع عينه عني: «سأحضر لك طعاما، فأنت لم تتناولي أي شيء منذ وقت طويل.» لكنه لم يتحرك. شعرت بأن نظراته تخترق جسدي، فلففت الغطاء بإحكام حولي حتى بدأت أصابعي تؤلمني. وأخيرا قام من مكانه، وتوترت كل عضلة في جسدي.
سألني: «هل أنت خائفة مني؟»
تمتمت: «لا.» - «لا داعي للخوف.»
كان الشوق في عينيه عميقا صادقا، فشعرت بألم في معدتي، وبأن صرخة تتهيأ للخروج من حلقي، لكنه استدار وغادر الزنزانة. كان جسدي يرتجف مع كل دمعة تنحدر من عيني. كنت أكرهه. •••
عاد علي حاملا طبقا من الحساء وجلس إلى جواري. - «أرجوك لا تبكي.»
لم أستطع حبس دموعي. - «أتريدينني أن أرحل؟»
أومأت برأسي. - «سوف أرحل إن وعدتني بأن تتناولي الحساء كله. هل تعدينني بذلك؟»
أومأت مرة أخرى.
توقف عند الباب، واستدار نحوي، وقال بصوت تبدو عليه آثار التعب: «سوف أطمئن عليك فيما بعد.»
ماذا سيحدث لي؟ لماذا أنقذني من فرقة الإعدام؟ لست أدري.
آخر من خطر ببالي قبل أن أستغرق في النوم هي سارة، تمنيت أن تكون بخير، وكل ما استطعت فعله هو الدعاء لي ولها ولسيرس وجيتا وكل أصدقائي الذين ألقي القبض عليهم.
منذ زمن ليس ببعيد كنا جميعا في المدرسة نلهو ونمرح. الآن أصبحنا سجناء سياسيين.
الفصل الخامس
كانت المدرسة الابتدائية التي أذهب إليها في زمن الشاه ذات أسوار قرميدية حمراء مغطاة بالكروم، وتبعد مسيرة عشر دقائق عن المنزل، فكنت أذهب إليها وأعود منها بمفردي. كان مبنى المدرسة القديم في الأصل قصرا مكونا من طابقين، وأخبرني أصدقائي أن مديرة المدرسة مرتضوي خانم التي التحقت بالجامعة في الخارج قد حولت هذا القصر لمدرسة فور عودتها إلى إيران. ومع أن كل الفصول كانت بها نوافذ طويلة، فإن المكان كان مظلما بالداخل دائما بسبب بعض أشجار القيقب العتيقة التي تنمو في فناء المدرسة، وكان لا بد من إضاءة الأنوار كي نتمكن من رؤية السبورة. بعد انتهاء اليوم الدراسي كل يوم أخرج أنا وسارة من المدرسة ونعبر الشارع معا، ثم تنعطف هي يسارا وأنا يمينا، ثم أستمر في السير جنوبا في شارع «رازي»، وأمر بالأسوار القرميدية التي تحيط بسفارة الفاتيكان ومطعم «أشنا» الذي تفوح منه رائحة الأرز المميزة واللحم المشوي، ثم أمر بمتجر صغير يبيع الملابس الداخلية يعرض مجموعة من ثياب النوم الحريرية الناعمة. ولما لم تكن أمي معي تأخذ بيدي وتأمرني أن أعتدل في سيري، كنت أحيانا أتخيل نفسي سحابة بيضاء صغيرة تنجرف وسط السماء الزرقاء، أو راقصة باليه أمام حشد كبير من الناس، أو سفينة تبحر في نهر سحري.
ما دمت لم أتأخر في الوصول إلى المنزل، فلا داعي للعجلة، ولكنني كنت دوما حريصة على ألا أغضب أمي؛ إن كان لديها زبائن فعلي الابتعاد عن الصالون، وإن لم يكن، فعلي التزام الهدوء لأنها كانت تعاني من الصداع غالبا. كنت خرقاء، وكان علي أن أنتبه كي لا أكسر شيئا أو أحدث فوضى عند إعداد شطيرة لنفسي، أو عند صب المياه الغازية أو الشاي المثلج في الكوب. كانت أمي سريعة الغضب، وجميلة أيضا؛ فكانت لها عينان بنيتان وأنف دقيق وشفتان ممتلئتان وساقان طويلتان، وكانت تحب ارتداء الفساتين ذات فتحات العنق الكبيرة كي تظهر بشرتها البيضاء الناعمة. كل خصلة من خصلات شعرها القصير الداكن كانت في مكانها دائما. وعندما أغضبها، كانت توصد باب الشرفة المتصلة بغرفتي علي وأنا بالخارج. كانت الشرفة محاطة بستائر الخيزران التي تستند إلى عمودين أفقيين وبضعة أعمدة رأسية. ومن الشرفة كنت أشاهد السيارات والمشاة يملئون الشوارع، والباعة يعلنون عن بضاعتهم، والمتسولين يستجدون الناس. كان الشارع المرصوف ذو الحارات الأربع يغص بالزحام المروري في ساعات الذروة، والجو يعبق برائحة العادم. وفي الجانب الآخر من الشارع، كان حسن أغا - البائع الأكتع - يبيع البرقوق الأخضر الحامض في الربيع، والخوخ والمشمش في الصيف، والبنجر الأحمر المطهو في الخريف، وأنواعا مختلفة من الكعك المحلى في الشتاء. كنت أحب البنجر المطهو على نار هادئة في وعاء واسع مسطح على لهيب موقد متنقل، حيث تغلي عصارته اللزجة وتتصاعد منها الأبخرة لتملأ الهواء برائحة حلوة. وفي الجانب الآخر من التقاطع يجلس رجل ضرير مسن يرتدي حلة ممزقة متسخة، ويمد يديه الضامرتين للمارة وهو يصيح: «ساعدوني لوجه الله!» من طلوع الشمس حتى غروبها. أمام شقتنا كان يوجد مبنى مكون من خمسة عشر طابقا، له نوافذ كبيرة من زجاج المرايا تلمع في الشمس وتعكس حركة السحب. وفي الليل تضاء مصابيح النيون الساطعة أعلى المتاجر وتلون الظلام بضوئها.
ذات يوم قررت أن أي عقاب سيكون أفضل من الحبس في الشرفة. نظرت إلى أسفل، ووجدت القفز مستحيلا. كان بإمكاني أن أصرخ، لكنني لم أرغب في لفت الأنظار كي لا يعرف جميع الجيران أن أمي حبستني داخل الشرفة. نظرت حولي، فوجدت الحقيبة البلاستيكية الصغيرة التي تضع فيها أمي مشابك الغسيل، ونظرت إلى الرصيف المزدحم مرة أخرى. إذا أسقطت المشابك على المارة، فلن تؤذيهم، لكن الفضول سيدفعهم إلى اكتشاف ما سقط على رءوسهم من السماء. عندها يمكنني أن أخبرهم بأمر المشابك وأتوسل إليهم أن يدقوا الجرس ويطلبوا من أمي أن تسمح لي بالدخول. كنت أعلم أن أمي ستغضب، لكني لم أهتم، فلم يكن بوسعي تحمل الحبس الانفرادي أكثر من ذلك. كنا في الشتاء، والرياح الباردة بدأت تهب، وسرعان ما اختفت الشمس وراء السحب وأخذت ندف الثلج تتساقط على وجهي. استجمعت شجاعتي وأمسكت مشبكا، واستندت إلى ستائر الخيزران التي تحيط بالشرفة، وأخذت نفسا عميقا، وأسقطته، لكنه لم يسقط على أحد، بل سقط على الرصيف. أعدت الكرة، ونجحت. توقفت امرأة في منتصف العمر ذات شعر بني طويل، وتحسست رأسها، ونظرت حولها، ثم انحنت للأمام، والتقطت المشبك، وتفحصته؛ وأخيرا نظرت لأعلى وحدقت في عيني مباشرة.
سألتني وملامح وجهها توحي بالغضب: «ماذا تفعلين أيتها الفتاة؟» - «آسفة. لم أقصد إيذاءك، لكن أمي حبستني هنا في الشرفة، وأريد الدخول لأن الجو بارد. هلا قرعت الجرس وطلبت منها أن تسمح لي بالدخول؟»
قالت وهي تبتعد: «بالطبع لا! لا دخل لي بالطريقة التي تعاقبك بها أمك. وعلى ما يبدو أنت تستحقين ذلك.» لكني لم أكن لأستسلم.
في المرة التالية سقط المشبك على رأس سيدة أكبر سنا ترتدي شادورا أسود، فنظرت للأعلى في الحال.
سألتني: «ماذا تفعلين؟» فأخبرتها بقصتي.
قرعت السيدة الجرس، وسرعان ما ظهرت أمي في الشرفة الأخرى التي لم يكن يفصلها عن شرفتي سوى بضعة أمتار، ونظرت للأسفل متسائلة: «من هناك؟»
وبينما كانت السيدة تخبر أمي عما فعلت وعن سبب فعلتي هذه، رأيت عيني أمي تقدحان شررا، وبعد دقيقة فتح باب شرفتي، لكني ترددت في الدخول.
قالت أمي وهي تكز على أسنانها: «ادخلي الآن.» فدخلت غرفة نومي.
قالت: «يا لك من طفلة مزعجة!»
ارتجفت خوفا، وتوقعت أن تصفعني، ولكنها بدلا من ذلك استدارت، وأخذت تبتعد وهي تقول: «إني راحلة. لقد تعبت. أنا أكره هذه الحياة، ولا أرغب في رؤيتك مرة أخرى!»
شعرت بألم في أحشائي. لا يمكنها أن ترحل، أو هل يمكنها ذلك؟ كانت تبدو جادة. ماذا عساي أن أفعل بلا أم؟ جريت خلفها وتشبثت بتنورتها، لكنها لم تتوقف.
توسلت إليها: «أرجوك لا ترحلي. أنا آسفة. أعدك أن أعود إلى الشرفة وأن أبقى هناك دون أن أثير المتاعب. أعدك بذلك.»
لم تلتفت إلي، بل ذهبت إلى المطبخ، وأمسكت بحقيبة يدها، وتوجهت نحو السلم. شعرت بالذعر، وبدأت أبكي، لكنها لم تتوقف. تشبثت بإحدى ساقيها، ولكنها استمرت في هبوط الدرج تجرني خلفها. كان الدرج قاسيا شديد البرودة. توسلت إليها مرة أخرى أن تبقى، فتوقفت أخيرا عند الباب. - «إذا كنت تريدينني أن أبقى، فاذهبي إلى غرفتك وامكثي بها ولا تصدري صوتا.»
حدقت إليها.
صرخت في وجهي: «الآن!» فجريت إلى غرفتي.
بقيت فترة بعد تلك الواقعة، أجلس بجوار النافذة كلما خرجت أمي من المنزل للتسوق أو الذهاب لأي مكان وأنا أرتجف خوفا، وأتساءل ماذا لو لم تعد أبدا؟ ***
قررت أن أبتعد عن طريق أمي، وكان أفضل سبيل لذلك هو البقاء في غرفتي أطول وقت ممكن. عندما أعود من المدرسة كل يوم، أتسلل على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أرى هل هي هناك أم لا. إذا لم أجدها، أعد لنفسي شطيرة من السجق. وإذا وجدتها، ألقي عليها تحية سريعة ثم أذهب إلى غرفتي وأنتظر حتى تغادر المطبخ. وبعد تناول الطعام أمكث في غرفتي أؤدي واجباتي المدرسية وأقرأ الكتب التي استعرتها من مكتبة المدرسة والتي كان معظمها مترجما مثل: «بيتر بان»، و«أليس في بلاد العجائب»، و«عروس البحر الصغيرة»، و «ملكة الثلج»، و«الرجل القصدير»، و«سندريلا»، و«الجمال النائم»، و«هانزل وجريتل»، و«رابونزل». كانت مكتبة مدرستي صغيرة، وسرعان ما قرأت كل الكتب التي تحتوي عليها، ليس مرة واحدة بل ثلاث أو أربع مرات. وكل ليلة كانت أمي تفتح باب غرفتي مرتين لترى ماذا أفعل، وتبتسم عندما تجدني أقرأ. يمكنني القول إن الكتب أنقذتنا نحن الاثنتين.
ذات يوم استجمعت شجاعتي، وسألت أمي هل من الممكن أن تبتاع لي بعض الكتب، فأخبرتني أنها لا تستطيع أن تبتاع أكثر من كتاب واحد في الشهر، لأن أسعار الكتب مرتفعة ولا يمكننا إنفاق كل ما نملك عليها. لكن كتابا واحدا في الشهر لم يكن كافيا. بعد بضعة أيام، كنت أنا وأمي عائدتين إلى المنزل بعد زيارة جدي، فرأيت مكتبة صغيرة تحمل لافتة كتب عليها: «كتب مستعملة». كنت أعلم أن كونها مستعملة يعني أنها رخيصة الثمن، لكني لم أجرؤ أن أطلب من أمي أن تتأكد من ذلك.
بعد أسبوع أخبرتني أمي أن الوقت قد حان لزيارة جدي، فأخبرتها بأنني لست على ما يرام، ووافقت على بقائي في المنزل. كان أبي في العمل؛ فعقب وفاة جدتي بوقت قصير أغلق استوديو الرقص وحصل على وظيفة في وزارة الفنون والثقافة مع فرق الرقص الشعبي. أحب أبي وظيفته الجديدة، وكان أحيانا يجوب أنحاء العالم مع الراقصين والراقصات الذين يمثلون إيران في المسابقات العالمية. فور أن غادرت أمي المنزل، هرعت إلى غرفتها، وأخذت مفاتيح المنزل الاحتياطية من درج خزانتها. كنت قد ادخرت كل النقود التي عادة ما أنفقها في شراء اللبن بالشيكولاتة لمدة أسبوع، وتمنيت أن تكفي لشراء كتاب.
أسرعت إلى مكتبة الكتب المستعملة. كانت شمس أواخر الربيع تشرق على الأسفلت الأسود وتكون موجات من الهواء الساخن تهب في وجهي. عندما وصلت إلى المكتبة كانت قطرات العرق تنحدر من جبهتي وتحرق عيني، فمسحت وجهي بقميصي ودفعت الباب الزجاجي للمكتبة وخطوت داخلها. وما إن اعتادت عيناي على الإضاءة الخافتة، لم أصدق ما رأيت. في كل مكان حولي كانت أكوام الكتب مكدسة على الأرفف حتى السقف، تاركة بينها ممرات ضيقة اختفت وسط الظلام. كنت محاطة بآلاف الكتب، والجو مشبع برائحة الورق؛ برائحة القصص والأحلام التي تحيا في كلمات مكتوبة.
ناديت: «أيوجد أحد هنا؟»
لم يجبني أحد.
كررت النداء بصوت أعلى: «أيوجد أحد هنا؟»
ومن أعماق أحد ممرات الكتب أتاني صوت رجل بلكنة أمريكية خالصة: «كيف يمكنني أن أساعدك؟»
تراجعت خطوة للخلف وأنا أقول: «أين أنت؟»
ظهر أمامي في الحال شبح رمادي، فأطلقت شهقة.
ضحك الشبح. - «آسف يا صغيرتي. لم أقصد إخافتك. ماذا تريدين؟»
كان علي أن أذكر نفسي بأن ألتقط أنفاسي. - «أريد ... أريد أن أشتري كتابا.» - «أي كتاب؟»
أخرجت كل النقود التي بحوزتي من جيبي وأريتها للعجوز النحيف الواقف أمامي. - «لدي كل هذه النقود. المهم أن يكون كتابا ممتعا.»
ابتسم الرجل، وحرك أصابعه بين خصلات شعره الأشيب. - «لم لا تذهبين إلى المخبز المجاور وتشترين بعض الكعك المحلى بدلا من ذلك؟» - «ولكني أريد كتابا. ألا تكفي هذه النقود؟» - «المشكلة يا صغيرتي أن كل الكتب هنا مكتوبة باللغة الإنجليزية. هل تتحدثين الإنجليزية؟» - «مستواي جيد جدا في الإنجليزية، فنحن ندرسها مدة ساعة يوميا في المدرسة، وأنا في الصف الثالث الآن.»
قال متنهدا: «حسنا، دعيني أرى الكتاب المناسب لك.» ثم اختفى خلف تلال الكتب.
انتظرت وأنا أتساءل كيف سيجد شيئا وسط تلك الفوضى، لكنه ظهر بأعجوبة من بين الأكوام المظلمة وهو يحمل في يده كتابا. قال وهو يعطيني إياه: «ها هو كتاب «الأسد والساحرة وخزانة الملابس»، إنه كتاب رائع، وهو العدد الأول في سلسلة من الكتب.»
تفحصت الكتاب. كان ذا غلاف رمادي مائل إلى الزرقة، في منتصفه صورة أسد يقفز في الهواء ويجلس على ظهره فتى وفتاة. بدا الكتاب قديما، ولكنه بحالة جيدة. - «كم ثمنه؟» - «خمسة تومانات.»
قلت وأنا أكاد أبكي: «لكنني لا أملك سوى أربعة تومانات.» - «حسنا، تكفي أربعة.»
شكرته، وأسرعت إلى المنزل والسعادة تملؤني. •••
بعد ثلاثة أيام، انتهيت من قراءة «الأسد والساحرة وخزانة الملابس» مرتين، وأحببتها كثيرا. أردت المزيد، لكن لم يكن معي سوى تومانين، ولم أكن متأكدة هل سيكون صاحب المكتبة كريما معي مرة أخرى. وخشيت أن أطلب من أمي نقودا، فقررت أن أبيع حافظة أقلامي لصديقتي سارة. كانت سارة قد سألتني في بداية العام الدراسي عن المكان الذي اشتريتها منه، وأخبرتها أن أمي اشترتها لي من المتجر الكبير الذي يقع في تقاطع شارعي «شاه» و«بهلوي»، لكن عندما ذهبت والدة سارة لتشتري لها واحدة، وجدتها قد بيعت جميعها، وحزنت سارة كثيرا. كانت تلك الحافظة علبة بلاستيكية زرقاء ذات قفل مغناطيسي يصدر صوتا عند إغلاقه. وفي اليوم التالي قابلت سارة في طريقي إلى المدرسة. كانت عيناها بنيتين واسعتين، وشعرها أسود كثيفا مجعدا يصل إلى كتفيها، ولديها ساعة فاخرة عليها صورة سندريلا والأمير وهو يضع حذاء زجاجيا في قدمها، وسندريلا جالسة على مقعد تضع ساقا فوق الأخرى، وساقها تتحرك للأمام وللخلف كل ثانية. كانت والدة سارة قد اشترت لها هذه الساعة عندما كانوا يقضون إجازتهم في إنجلترا. سألتها هل ما زالت ترغب في الحصول على حافظة أقلامي، فقالت نعم. أخبرتها أني على استعداد لأن أبيعها لها، فتساءلت في ريبة عن السبب، فأخبرتها بأمر المكتبة. وافقت سارة أن تعطيني خمسة تومانات، بشرط أن أعطيها ممحاتي المعطرة أيضا، وقبلت شروطها.
بعد انتهاء اليوم الدراسي استغرق الأمر أقل من خمس دقائق كي نصل جريا إلى منزل سارة الذي يقع في شارع متعرج ضيق يضم كل منزل من منازله فناء صغيرا، وتحيط به جدر قرميدية مرتفعة كي توفر الخصوصية للساكنين. كنت أحب الشارع الذي تقطن فيه، لأنه هادئ بلا سيارات أو متاجر أو باعة أو متسولين. كان الجو مشبعا برائحة البصل والثوم المحمر الذي يثير الشهية؛ ربما كان أحد الجيران يطهو العشاء. كانت سارة تحمل مفتاحا للمنزل، فوالداها يعملان ويعودان إلى المنزل في وقت متأخر من اليوم. فتحت الباب، وخطونا إلى فناء المنزل. رأيت على يميننا حوضا صغيرا من الزهور تملؤه زهور الجيرانيوم والبانسيه الحمراء والخضراء والبنفسجية.
تمنيت أن أعيش في منزل كمنزل سارة. كانت والدتها ممتلئة الجسم ذات شعر أسود قصير، تعمل في أحد البنوك، ودائما ما ترتدي بذلات أنيقة وأحذية سوداء لامعة عالية الكعبين. كانت تعانقني كلما ذهبت لزيارتهم، وتبدي سعادة غامرة بزيارتي لهم. أما والد سارة فكان مهندسا قوي البنية، دائما يطلق النكات المضحكة، ويضحك بصوت مرتفع، ويقرأ أشعارا قديمة جميلة. وكان شقيق سارة الوحيد - سيرس - في الثانية عشرة من العمر، أي يكبرني أنا وسارة بثلاث سنوات، وعلى النقيض من بقية أفراد أسرته كان شديد الخجل. كان منزل سارة على الدوام يعم بالصخب والضحكات.
أعطيت سارة حافظة الأقلام وأعطتني النقود، ثم اتصلت بأمي، وأخبرتها أني ذهبت إلى منزل سارة كي أساعدها في أداء واجباتها المدرسية. لم تمانع أمي، فشكرت سارة وانطلقت عدوا إلى المكتبة، ووجدتها بنفس الحالة من الظلام والأتربة والغموض كما رأيتها أول مرة، ومرة أخرى ظهر الرجل المسن فجأة من وسط الظلام.
قال وعيناه تضيقان: «دعيني أخمن: أنت لم تفهمي حرفا من الكتاب، وجئت الآن لتستردي نقودك، أليس كذلك؟» - «كلا، بل قرأته مرتين وأحببته كثيرا. هناك بضع كلمات لم أفهمها، لكني استخدمت معجم أبي. أتيت كي أشتري الجزء الثاني من السلسلة. هل هو موجود؟ لقد بعت حافظة أقلامي وممحاتي المعطرة لصديقتي سارة، ولدي ما يكفي من النقود هذه المرة.»
حدق العجوز في ولم يتحرك، فانقبض قلبي. ربما لا يكون الكتاب الثاني موجودا لديه. - «هل الكتاب موجود لديك؟» - «نعم، ولكن ... لست مضطرة لدفع ثمنه. يمكنك استعارته إذا وعدتني بأن تعتني به وتعيديه لي عند الانتهاء من قراءته ... مرتين.»
خطر في ذهني ملاكي الحارس. ربما يتظاهر بكونه رجلا مسنا هذه المرة. نظرت في عيني الرجل، فبدت لي مثل عيني الملاك تماما، تتمتعان بنفس اللون الداكن والعمق والطيبة. نظرت إلى الكتاب فوجدته يحمل عنوان «الأمير كاسبيان».
سألني: «ما اسمك؟» - «مارينا. وأنت؟» - «ألبرت.»
حسنا ... ملاك اسمه ألبرت.
ومنذ ذلك اليوم اعتدت على زيارة ألبرت واستعارة الكتب منه مرة على الأقل أسبوعيا. •••
التحقت بالمدرسة الإعدادية في سن الحادية عشرة. وفي ذلك الوقت كانت الحكومة تمول كل المدارس والجامعات في إيران، ولكن بعض المدارس أثبتت أنها أفضل من غيرها، ومنها مدرسة «أنوشروان دادجر»، وهي مدرسة فتيات زرادشتية إعدادية وثانوية. لم يقع اختيار والداي على هذه المدرسة لأنها من أفضل المدارس، ولكن لأنها تقع على مقربة من منزلنا.
يتبع الزرادشتيون تعاليم نبيهم «زرادشت» الذي ولد في بلاد فارس منذ نحو ثلاثة آلاف عام، ودعا الناس إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد: «أهورا مازدا». وأثناء دراستي بالمدرسة كانت أغلبية الطلاب إما من الزرادشتيين أو المسلمين، ولكن كان هناك أيضا بعض البهائيين واليهود وثلاثة أو أربعة من المسيحيين.
الأسقف المرتفعة والنوافذ المتعددة للمدرسة التي شيدت منذ أربعين عاما جعلتها تبدو فسيحة، والممرات الطويلة بدت كأنها بلا نهاية، وكان هناك درجان عريضان يوصلان الطابق الأول بالثاني، وعمودان يبلغ ارتفاعهما طابقين يقفان على جانبي المدخل الرئيسي مكتوب فوقهما بحروف كبيرة: «الأفكار الصالحة والأقوال الصالحة والأعمال الصالحة» وهو شعار الديانة الزرادشتية. كان لدينا أيضا صالة للألعاب الرياضية بها ملاعب لكرة السلة والكرة الطائرة، وكان فناء المدرسة الممهد محاطا بأسوار قرميدية مرتفعة.
على مدار ثلاثة أعوام كانت زياراتي لمكتبة ألبرت أهم حدث في حياتي. كان ألبرت قد قرأ مئات الكتب المتراكمة بعضها فوق بعض في مكتبته، وكان يعلم جيدا مكان كل منها، ويحب الحديث عنها. كان متزوجا ولديه ابن، وأخبرني أن ابنه - الذي كان متزوجا ولديه طفلان - قد انتقل للعيش في الولايات المتحدة منذ عامين. وفي عيد الميلاد الأول بعد لقائنا، أعطاني ألبرت عبوة مغلفة بورق أحمر، وعندما فتحتها وجدت سلسلة «سجلات نارنيا»، بالإضافة إلى حافظة أقلام زرقاء جميلة ممتلئة بأقلام رصاصية ملونة ومماح معطرة برائحة العلكة.
آخر مرة رأيت فيها ألبرت بعد عيد ميلادي الثاني عشر ببضعة أيام. كان يوما ربيعيا جميلا يمتلئ بتغريدات الطيور والشمس الدافئة. فتحت باب المكتبة الزجاجي مبتسمة وأنا أضم رواية «نساء صغيرات» إلى قلبي. - «مرحبا أل...»
طافت ذرات التراب فوق شعاع الشمس الذي تدفق على الأرضية المغطاة بالمشمع، ووجدت المكتبة خالية تماما. شعرت كأني أقف على حافة صحراء، وأن رياحا قوية عنيفة هبت للتو في وجهي، فأطلقت شهقة وحاولت أن ألتقط أنفاسي. كان ألبرت يجلس على صندوق كبير من الورق المقوى في منتصف هذا الفراغ الرهيب وينظر لي بابتسامة حزينة تعلو وجهه.
سألته: «أين الكتب؟»
أخبرني أنه باع معظمها لمكتبة أخرى، لكنه احتفظ بكل كتبي المفضلة في الصندوق الذي يجلس عليه، ووعدني بإحضارها إلى منزلي فيما بعد. أراد أن يخبرني بذلك سابقا، لكنه لم يستطع. كان هو وزوجته على وشك الرحيل من إيران ليلحقا بابنهما في الولايات المتحدة. لم يكن ألبرت يرغب في الرحيل، لكن زوجته لم تكن على ما يرام، وأرادت قضاء ما تبقى من أيامها مع ابنها وأحفادها، وهو لم يستطع أن يرفض طلبها، فقد تزوجا منذ واحد وخمسين عاما، وتلك أمنيتها الأخيرة.
أخرج ألبرت منديلا أبيض من جيب قميصه ومسح أنفه. شعرت بوهن حل فجأة على ذراعي وساقي، وهنا نهض ألبرت، واقترب مني، ووضع يديه على كتفي. - «لقد شاهدتك وأنت تكبرين، وقد منحتني البهجة والسعادة. سوف أفتقدك، فأنا أعتبرك ابنتي.»
طوقته بذراعي وعانقته عناقا حارا، وبدا لي الرحيل للولايات المتحدة موجعا وأبديا مثل الموت.
الفصل السادس
استيقظت ومذاق حساء الدجاج في فمي. كنت جالسة، وبدا العالم كأنه مغطى بطبقة كثيفة من الضباب وأنه يدور حولي. لم تكن هناك أي خطوط أو أشكال مجسمة، بل ألوان ضبابية فقط، وأحدهم ينادي اسمي. حساء الدجاج في فمي مرة أخرى. سعلت. - «ابتلعيه، إنه مفيد لك.»
تدفق السائل الساخن في حلقي، وكان مذاقه جيدا، فابتلعت جرعة أخرى. رأيت أمامي مربعا أبيض مضيئا، فحاولت أن أركز انتباهي، ووجدته نافذة صغيرة ذات قضبان. كنت محمومة أشعر بالألم.
قال صاحب الصوت: «هذا أفضل.» كان الصوت يأتي من خلفي، وحاولت أن أتحرك. - «لا تتحركي، ابتلعي.»
كانت الحركة مؤلمة. ابتلعت الحساء، وتساقط بعضه على ذقني.
بدأت معالم الزنزانة تتضح تدريجيا.
قال صاحب الصوت الذي عرفت أنه علي: «سوف أدعك تستلقين الآن.»
كان جالسا على الأرض على بعد متر أو أقل مني، وأخبرني أنه سيرسلني إلى عنبر للنساء في «إيفين» يطلق عليه «246»، حيث أرى بعض صديقاتي وأكون في حال أفضل. أخبرني أيضا أنه يعرف إحدى الحارسات المسئولات عن عنبر «246» اسمها الأخت مريم، وأنه سيطلب منها الاعتناء بي.
قال: «سوف أتركك بعض الوقت ...» ولكنه ظل يحدق إلي صامتا كأنه ينتظر مني أن أقول شيئا. لم تكن لدي فكرة عن طبيعة المكان الذي سأنتقل إليه. هل أخبرني علي حقا أني أواجه حكما بالسجن مدى الحياة، أم أنها كانت أضغاث أحلام؟
سألته: «هل حكم علي بالسجن مدى الحياة حقا؟»
أومأ برأسه، وطاف بوجهه شبح ابتسامة حزينة.
حاولت ألا أبكي، لكني لم أستطع. أردت أن أسأله عن السبب الذي دفعه لإنقاذي من الإعدام. أردت أن أخبره أن الإعدام أفضل كثيرا من السجن مدى الحياة. أردت أن يعرف أنه لم يكن لديه الحق فيما فعل، لكنني لم أستطع.
وقف، وقال: «في رعاية الله.» ثم غادر المكان.
استغرقت في النوم، وبعد بضع ساعات عاد واصطحبني إلى غرفة صغيرة بها نحو عشرين فتاة يرقدن جنبا إلى جنب على الأرض، وقال لي: «ستنتظرين في هذه الغرفة حتى يأتوا ويصطحبوك إلى عنبر «246». انتبهي لنفسك، وسوف تتحسن الأمور. ضعي العصابة على عينيك بعد أن تجلسي.»
وقعت عيناي على مكان صغير خال في جانب بعيد من الغرفة. كنت أشعر بالدوار، وقدماي تؤلمانني، فاستغرق الأمر جهدا كبيرا كي أصل إلى هذا المكان دون أن أطأ أحدا. لم أتلق رد فعل على وصولي من أحد. لم يكن المكان كافيا للنوم، فجلست وضممت ركبتي إلى صدري واتكأت على الحائط وأخذت أبكي.
بعد قليل نادى رجل عشرة أسماء بصوت عال كان من بينها اسمي، ثم أردف: «كل من سمعن أسماءهن يرفعن العصابة قليلا كي يرون الطريق ويصطففن أمام الباب هنا. على كل واحدة منكن أن تتشبث بشادور الفتاة التي تقف أمامها. تذكرن ألا ترفعن العصابة إلا قليلا. وإن رأيت إحداكن تختلس النظر، فسوف تندم على ذلك. فور أن تصطففن في أماكنكن، ضعن العصابة مرة أخرى وتأكدن من إحكامها.»
تشبثت بشادور الفتاة التي تقف أمامي، وتشبثت الفتاة التي تقف خلفي بالشال الذي أرتديه. مررنا عبر رواقين، وسرعان ما خرجنا من المبنى. كان الجو باردا، ودعوت أن نصل إلى وجهتنا سريعا لأنني على وشك الانهيار. كل ما أمكنني رؤيته الرصيف الرمادي وشادور الفتاة التي تسير أمامي وقدماها. لم تكن قدماها متورمتين، ولكنها ترتدي خفا مطاطيا أكبر من مقاسها مرتين على الأقل يشبه ذلك الذي أرتديه. تساءلت عما حدث لحذائي. دخلنا أحد المبانى وسرنا في ممر، ثم صعدنا درجتي سلم، وطلب منا الحارس أن نتوقف، ثم نادى اسمي وطلب مني أن أخرج من الصف وقال: «أمسكي بهذا الحبل، واتبعيني.»
أمسكت بالحبل، وتبعته عبر مدخل. - «السلام عليكم أختاه. صباح الخير. لدي سجينة جديدة تدعى مارينا مرادي بخت، وها هي الأوراق.»
فردت امرأة: «صباح الخير أخي. أشكرك.»
أغلق الباب محدثا صوت خافتا. كانت الغرفة معبأة برائحة الشاي الطازج، وأدركت أنني أتضور جوعا.
قالت المرأة بلهجة آمرة: «مارينا، اخلعي العصابة.» فأطعت الأمر. كانت تبلغ من العمر نحو خمسة وعشرين عاما، وأطول مني بنحو ربع متر، ذات عينين سوداوين واسعتين وأنف كبير وشفتين رفيعتين؛ صفات اجتمعت معا كي تكون وجها شديد الجدية. كانت ترتدي شادورا أسود، وسألت نفسي: هل ابتسمت في حياتها من قبل؟
كان المكان أشبه بغرفة مكتب مساحتها نحو أربعة في ثلاثة أمتار ونصف، وبها مكتب وأربعة مقاعد معدنية، بالإضافة إلى طاولة معدنية مستوية مغطاة بأكوام من الورق. ومن خلال النافذة ذات القضبان الحديدية، تسللت شمس الصباح لتغطي أرضية الغرفة.
قالت المرأة: «مارينا، أنا الأخت مريم. أخبرني الأخ علي عنك.» أوضحت لي أن المبنى الذي كنا فيه والذي يحمل رقم «246» مكون من طابقين؛ الطابق الأول به ست غرف، والطابق الثاني به سبع غرف، وأني سأقيم في الغرفة «7» بالطابق الثاني. ثم نادت اسما في مكبر الصوت، وبعد بضع دقائق دخلت فتاة في مثل عمري المكتب، وقدمتها لي الأخت مريم على أنها سهيلة. كانت سجينة مثلي، ومندوبة عن الغرفة «7».
كانت سهيلة فتاة ذات شعر بني قصير، ترتدي سترة زرقاء وسروالا أسود، ولم تكن ترتدي الحجاب. خمنت أنه لما كان مبنى «246» للنساء فقط، فليس لزاما علينا ارتداء الحجاب طوال الوقت. كانت أبواب حجرة المكتب تطل على ردهة خالية يبلغ طولها نحو سبعة أمتار ونصف، وعرضها أقل من ثلاثة أمتار، وبينما كنا نعبرها لاحظت السلم المؤدي إلى الطابق الأسفل. ظللت أعرج خلف سهيلة حتى تأخرت عنها، فتوقفت ونظرت خلفها وحدقت إلى قدمي ثم قالت: «آسفة، لم أدرك ذلك. ضعي ذراعك على كتفي، وسوف أساعدك.»
وصلنا إلى باب معدني مدعم بقضبان حديدية، دفعته سهيلة، ثم دلفنا إلى ممر ضيق. كانت هناك فتيات في كل مكان. مررنا بثلاثة أبواب، وتبعنا الممر مع انعطافه بزاوية قائمة، ثم مررنا بثلاثة أبواب أخرى، ودخلنا الباب الأخير الذي يحمل عنوان الغرفة 7. نظرت حولي، فرأيت مساحة الغرفة نحو سبعة أمتار ونصف في خمسة أمتار، والأرض مغطاة بسجادة مهترئة بنية اللون. وفوق مستوى نظري بقليل رف معدني بعرض الحائط وضعت فوقه أكياس بلاستيكية ممتلئة بالملابس وحقائب أصغر منها معلقة بواسطة خطاطيف تحتها. كان الطلاء البني الفاتح الذي يغطي الجدران والأبواب المعدنية رقيقا متسخا، وفي أحد الأركان فراش ذو طابقين. كانت البرطمانات والأوعية مختلفة الأشكال والأحجام تغطي الطابق الأول من الفراش، والأكياس البلاستيكية الممتلئة بالملابس تملأ الطابق الثاني. وفي ركن آخر بجوار النافذة المدعمة بقضبان حديدية، كانت البطاطين العسكرية الرمادية مكدسة بعضها فوق بعض حتى كادت تصل إلى السقف. كانت الغرفة نظيفة مرتبة على نحو يثير الدهشة. رأيت نحو خمسين فتاة يجلسن على الأرض في مجموعات مكونة من ثلاث أو أربع يتجاذبن أطراف الحديث. كن كلهن في مثل عمري تقريبا، ونظرن إلي بفضول عندما دخلت الغرفة. لم تقو قدماي على حملي أكثر من ذلك، فسقطت على الأرض.
صاحت سهيلة وهي تنحني إلى جواري: «أيتها الفتيات، افسحن لها مكانا كي تستريح.» ثم قالت لي: «أعلم كم تؤلمك قدماك، لكنك ستكونين بخير. لا تقلقي.»
أومأت برأسي والدموع تملأ عيني.
هتف صوت مألوف: «مارينا!»
فرفعت بصري، وللحظة لم أميز الفتاة التي تقف أمامي. - «سارة ! حمدا لله! كم كنت قلقة عليك.»
لقد ذوى عودها، وشحبت بشرتها التي كانت فيما مضى بيضاء متوردة، وأحاطت الهالات السوداء بعينيها. تعانقنا عناقا حارا حتى أنهكت قوانا.
سألتني سارة وهي تنظر إلى قدمي: «هل أنت بخير؟» - «أنا بخير، كان من الممكن أن يسوء الأمر عن ذلك.»
نزعت الشال عن رأسي، ومررت أصابعي بين خصلات شعري فوجدتها قد التصقت بعضها ببعض. لم أكن بمثل تلك القذارة في حياتي من قبل.
سألتني سارة: «لم كتب اسمك على جبينك؟» - «ماذا؟» - «اسمك مكتوب على جبينك بقلم أسود.»
تحسست جبيني، وطلبت من سارة أن تحضر لي مرآة، لكنها أخبرتني أنه لا توجد مرايا هنا، وأنها منذ أن دخلت «إيفين» لم تر أحدا كتب اسمه على جبينه. لم أستطع أن أتذكر كيف حدث ذلك. ثم سألتني عن الكدمة في رأسي، فأخبرتها بأمر الإغماء في دورة المياه.
حدقت سارة في عيني على نحو لم أره من قبل؛ كأنها كانت تهيم على وجهها عدة أيام في فلاة بلا ماء وأني نافورة تتدفق منها المياه، وسألت: «مارينا، كيف حال والدي؟ متى كانت آخر مرة رأيتهما فيها؟»
أخبرتها عن مدى قلق والديها ومحاولاتهما لرؤيتها هي وسيرس، وسألتها هل تعلم شيئا عن مكان سيرس وأحواله، فأجابت بالنفي، ثم سألتها هل تعرضت للجلد.
في الليلة التي ألقي القبض فيها على سارة وسيرس، أجبرها الحرس على مشاهدته وهم يجلدونه. كانوا يريدون أسماء أصدقائه، لكنه رفض أن يخبرهم بشيء. أغلقت سارة عينيها كي لا تشاهد ما يفعل بأخيها، لكنهم ضربوها وركلوها وأجبروها على المشاهدة. ثم حلوا وثاقه، وقيدوها هي في الفراش، وأخبروا سيرس أنهم لن يجلدوها إذا أخبرهم بالأسماء، لكنه لم يتفوه بكلمة، وتعرضت سارة هي الأخرى للتعذيب. سألوها هل تعرف أصدقاءه، لكنها لم تكن تعرف أيا منهم، فسألوها عن أصدقائها هي.
قالت: «أخبرتهم باسمك يا مارينا ... أنا آسفة ... لكني لم أحتمل.»
لم ألمها على ذلك. كنت سأخبر حامدا بكل الأسماء التي يرغب في معرفتها إن زاد في تعذيبي قليلا.
أخبرتها بأمر القائمة، ولم تصدق أن الحراس عذبونا كي نخبرهم بشيء يعرفونه بالفعل، وسألتني لم لم أخبرها بأمر القائمة من قبل، فأوضحت لها أني لم أكن أعرف الأسماء التي تضمها القائمة تحديدا، وأني لم أكن أرغب في إثارة قلق أحد.
سألتها: «هل رأيت جيتا؟» - «قبل أن يعذبني الأخ حامد، أخبرني أن جيتا أعطتهم اسمي وعنواني، فصدقته وغضبت منها، وظننت أنها السبب في إلقاء القبض علي. بعدها جلدني حامد وانتهى الأمر بي وأنا أخبره بكل ما أعرف. كرهت نفسي لأني غضبت من جيتا.»
غطت سارة فمها بيدها كي تكتم الألم الذي لا بد أن يجد مخرجا، فطوقتها بذراعي، وصرخت في صدري.
أخيرا رفعت رأسها وقالت: «قبل أن يرسلني حامد إلى هنا مباشرة، أخبرني أن جيتا قد أعدمت الليلة السابقة، وأن سيرس سيلقى نفس المصير إن لم يتعاون معهم. وهكذا تأكدت أن حامدا كذب علي عندما أخبرني بأن جيتا أخبرتهم باسمي وعنواني، فلو كانت جيتا اعترفت، لما أعدموها. لا بد أنها رفضت الاعتراف. لم يكن هذا ذنبها.» - «جيتا ماتت؟»
أومأت سارة برأسها.
لا يمكن أن يكون ذلك حقيقيا.
دوى هاتف في رأسي: «ما زلت على قيد الحياة، وأنت لا تستحقين ذلك.»
أتذكر جيدا اليوم الذي تعرفت فيه على جيتا. كان هذا منذ ثلاثة أعوام ونصف، في صيف 1978، في شمال البلاد، في المنزل الصيفي الذي تمتلكه أسرتي، وهو نفس الصيف الذي تعرفت فيه على أراش.
الفصل السابع
في العام الذي ولدت فيه، اشترى والداي منزلا صيفيا في مدينة صغيرة تدعى «غازيان»، تقع في الجانب الآخر من جسر يمتد من «بندر بهلوي» على ضفاف بحر قزوين، حيث كانت الحياة الهادئة المزهرة. ومع أن امتلاك منزل صيفي على ضفاف بحر قزوين كان دليلا على الثراء في ذلك الوقت، فإن عائلتي لم تكن ثرية. كان والدي يحب الهدوء والجمال اللذين يتميز بهما شمال طهران، حتى إنه قرر شراء المنزل الصيفي هناك بدلا من أن يشتري منزلا في طهران. ولكنه لم يكن يملك أموالا كافية، فاشتراه مناصفة مع أحد أصدقائه، وهو رجل روسي أرمني مرح جهوري الصوت، اسمه بارتيف، يملك مصنعا للصلب في طهران. لم يكن العم بارتيف - كما كنت أدعوه - متزوجا، وكان مشغولا طوال الوقت، ولم يكن يأتي إلى المنزل الصيفي إلا نادرا، وهكذا احتفظنا به لأنفسنا معظم الوقت.
كان المنزل يقع في منتصف قطعة أرض كبيرة محاطة بالأشجار خلف الميناء في شارع هادئ يؤدي إلى الشاطئ، وكان مالكه الأول طبيبا روسيا وصديقا مقربا لوالدي، وبناه بنفسه مستخدما الخشب الروسي المتين. كان يضم أربع حجرات نوم وحجرة للمعيشة ومطبخا صغيرا وحماما؛ جدرانه الخارجية مدهونة باللون الأخضر الفاتح، وبه اثنتا عشرة سلمة حجرية تؤدي إلى الباب الأمامي.
كانت الرحلة من طهران إلى المنزل الصيفي تستغرق نحو خمس ساعات بالسيارة. كنا نتجه غربا ونواصل سيرنا في الأراضي المنبسطة حتى نصل إلى مدينة قزوين، ثم ينعطف الطريق نحو الشمال باتجاه جبال «ألبرز» التي تبدو سدا منيعا يفصل بين صحاري وسط إيران وبحر قزوين. كنا نمر بأنفاق وممرات ضيقة شديدة الانحدار ومنعطفات مقفرة يتخذها الطريق عبر سلسلة الجبال متبعا وادي «النهر الأبيض»، حيث تغطي الغابات الكثيفة التلال، وتهب الرياح حاملة شذا حقول الأرز.
كان سور معدني شفاف مدهون باللون الأزرق السماوي ويفوق طوله طول أخي يحيط بمنزلنا. وعند وصولنا كان أبي يوقف سيارتنا الزرقاء من طراز أولدزموبيل عند البوابة، وأخرج من السيارة وأفتح البوابة كي تمر السيارة. كان الممر الطويل غير المرصوف يمتد نحو المنزل الصيفي ويختفي خلف أشجار القيقب والصنوبر والحور والتوت، وتحت قدمي يبرز الحصى الملون من بين الثرى ويلمع في ضوء الشمس الذي يخترق الغطاء الكثيف من الأشجار. يؤدي الممر إلى فتحة تبدو ساطعة الإضاءة دقيقة، ثم يظهر فجأة الدرج الحجري الأبيض المؤدي إلى المنزل.
كان المنزل دوما يستقبلنا برائحة رطبة مألوفة ملأت الهواء الراكد في المكان خلال أشهر غيابنا. كانت هناك سجادة باللون الأخضر الداكن تغطي الأرض، وقبل دخولنا المنزل، تأمرنا أمي بخلع أحذيتنا وتنظيف أقدامنا حتى لا نجلب الرمال معنا إلى الداخل. أثث والداي غرفة المعيشة الصغيرة بطاقم حديدي اشترياه من مزاد متنقل. كان مطليا باللون الأبيض، وبه وسادات أرجوانية مخملية ومائدة ذات سطح زجاجي، أما عن غرف النوم فكانت غاية في البساطة، فلم تكن تحتوي إلا على أسرة عادية وخزانات خشبية قديمة، والستائر المعلقة في النافذة مصنوعة من القماش المزين بالورود الزاهية الألوان. وعندما أخلد للنوم ليلا كنت غالبا أترك النوافذ الثلاث في غرفتي مفتوحة كي تتسلل منها صيحات الديوك في الصباح. وعندما تمطر السماء يصيح البط ويلعب في البرك الموحلة، ويفوح عبق أشجار الليمون البرية من أوراقها السميكة.
كان هناك مكان خاص في المنزل الصيفي أتلو فيه الصلاة كل صباح كما علمتني جدتي. من مسافة يبدو ذلك المكان صخرة ضخمة مكسوة بالطحالب، ولكن كلما اقتربت منها تبينت أنها تتكون من العديد من الأحجار الصغيرة. بلغ ارتفاع الصخرة نحو متر، وعرضها نحو مترين، وبها قضبان معدني سميك صدئ يبرز من أحد جوانبها. تعود تلك الصخرة إلى العصور القديمة، عندما كان البحر يغطي معظم الأرض، وكانت ذات يوم مكانا يربط فيه الصيادون زوارقهم، وبدت لي غريبة الشكل وفي غير موضعها عندما اكتشفتها في ركن مهمل من المكان. كنت أحب أن أقف عليها وأفتح ذراعي للنسيم العليل وأغلق عيني، وأتخيل أن البحر يحيط بي، وسطحه الشفاف يضطرم بالحياة ويمور محولا أشعة الشمس إلى سائل ذهبي ينسل نحو الشاطئ، حيث تبدو التلال الرملية كبثرات على الأرض الساخنة. أطلقت على هذا الأثر الغريب اسم «صخرة الصلاة».
كنت عادة أستيقظ مع شروق الشمس وأتجول بالخارج. نهر من الضباب يتدفق بين الأشجار ويرتفع فوق العشب الطويل ويغطي ساقي. عندما أصل إلى «صخرة الصلاة» يبدو وكأن الشمس أطلقت أنفاسها في الضباب فأكسبته اللون الوردي. كان السطح العلوي للصخرة جزيرة تستقر فوق بحر براق. كنت أرقد على الصخرة وأدع أشعة الشمس تغطي جسدي وتشعرني بالخفة؛ كأني مخلوقة من ضباب وضوء.
كل صيف أقضي أنا وأمي نحو شهرين في المنزل الصيفي، لكن لم يكن باستطاعة أبي الحصول على إجازة طويلة كهذه من العمل، فلم يكن يقضي معنا سوى أسبوعين فقط، ثم يزورنا في عطلة نهاية الأسبوع. ولعدة أعوام ظللت أقضي أيامي في المنزل الصيفي ما بين ركوب الدراجة، وبناء قصور من الرمال، والسباحة، ومطاردة البط، واللعب مع الأطفال الذين يسكنون المكان. كنت أفعل ما يحلو لي بحرية طوال النهار، ولم أكن أعود إلى المنزل إلا لتناول العشاء والنوم. وبمرور الأعوام كبرت، وظلت أيامي الصيفية كما هي، فيما عدا أن مغامراتي اليومية قد اتسع نطاقها وأخذت تبعدني عن المنزل أكثر؛ ففي سن الثانية عشرة كنت أقضي نصف النهار أستكشف المدينة على ظهر الدراجة. كنت أسلك الشوارع القديمة الضيقة التي تصطف على جانبيها المنازل البيضاء الصغيرة في طريقي إلى السوق. كان كعك الأرز والكعك المحشو بالجوز المفروم والسكر يقيم صلبي في الأيام العديدة التي أفوت فيها وجبة الغداء. كانت أسواق السمك تغص بأصوات الباعة المرتفعة ورائحة السمك النفاذة وعبق الأعشاب الطازجة.
من بين أماكني المفضلة ذلك الجسر الذي يصل بين جانبي الميناء. كنت أقف على الجسر، وأشاهد القوارب والسفن وهي تعبر المياه، والمياه الزرقاء تمتد نحو الأفق، والسفن الضخمة تشق سطح المياه مخلفة وراءها الزبد الأبيض، بينما الهواء المشبع بالمياه المالحة يملأ رئتي. كنت أحب الضباب على وجه التحديد، فهو يضفي هيئة حالمة غير حقيقية على الميناء. عندما يكون الضباب كثيفا يمنعني من الرؤية، كنت أسمع صوت مجاديف الزوارق وهي تشق عباب المياه، ثم يظهر الزورق نفسه كأنه وجد من العدم.
عندما كنت في سن العاشرة من العمر اشترت خالتي زينيا منزلا صيفيا يبعد نحو أربعة أميال عن غازيان، ويقع في منطقة سكنية حديثة مجهزة بملاعب التنس وكرة السلة، والمطاعم، وحمامات السباحة. كانت المنازل باهظة الثمن محاطة بحدائق خلابة وأسوار معدنية بيضاء يبلغ ارتفاعها الخصر، تلمع بطلاء حديث الدهان، والأطفال يركبون دراجاتهم في شوارع نظيفة.
لم تكن خالتي زينيا تشبه أحدا من عائلتنا، فهي شقراء ذات عينين زرقاوين، وكل ما لديها كان كبيرا؛ فلديها منزل كبير في طهران، وسيارة كبيرة، بل وسائق كبير أيضا. كان زوجها الذي توفي في حادث سيارة بعد وفاة جدتي بعامين يملك مصنعا للحوم المصنعة في مدينة «رشت» التي تبعد اثنين وعشرين ميلا عن منزلنا، وبعد وفاته تولت خالتي إدارة شئون العمل، وقامت بها على خير وجه. كانت ابنتها التي تدعى مارينا أيضا، ويناديها الجميع باسم ماري، أثيرة عند أمي. كانت تكبرني بعشرين عاما، وكانت ضئيلة الحجم، يبدو عليها التوتر دائما عند وجود أمها بالقرب منها. كانتا عنيدتين صعبتي المراس، تتشاجران باستمرار على كل شيء.
عام 1978 وعندما كنت في الثالثة عشرة، قضت ماري وزوجها فترة الصيف بأكملها في منزل خالتي الصيفي، وكنت أنا وأمي نزورهما كل يوم تقريبا. لم تكن خالتي زينيا تمكث في المنزل إلا لماما، وكانت تقضي معظم وقتها إما في المصنع، حيث أعدت مكانا صغيرا مريحا للسكن، أو في منزلها بطهران.
أثناء رحلاتي اليومية بالدراجة لاحظت أن المراهقين يقضون وقتهم في أحد ملاعب كرة السلة، وكل يوم يجتمعون نحو الخامسة مساء، حيث يلعب الفتية كرة السلة بينما تجلس الفتيات في الظل يثرثرن ويشجعنهم. قررت ذات يوم أن أقترب منهم. كانت نحو خمس عشرة فتاة يجلسن على العشب في مجموعات من اثنتين أو ثلاث. تركت دراجتي بجوار شجرة ودنوت منهن، ولكن بدا أن أحدا لم يلاحظ وجودي. وقعت عيناي على فتاة تجلس بمفردها فوق مائدة رحلات، وجلست بجوارها، فنظرت لي وابتسمت. كان شعرها البني الفاتح الناعم يصل حتى خصرها، وترتدي سروالا أبيض قصيرا، وقميصا أبيض بلا أكمام. بدا وجهها مألوفا، فقدمت نفسي لها، واتسعت عيناها ترحيبا بي. اكتشفنا أننا كنا نذهب إلى نفس المدرسة، ولكنها تكبرني بعامين، ولم نتبادل الحديث من قبل قط. كانت خالتها تملك منزلا صيفيا في الجوار مثلي، وتقضي بعض الوقت هي وأسرتها مع خالتها. كان اسمها جيتا.
أحرز أحد الفتية هدفا، فصفقت الفتيات وهللن، واستدار الفتى ينادي فتاة تجلس بجوارنا: «نيدا، هلا أحضرت لي زجاجة من الكولا؟ أكاد أموت عطشا.»
كان الفتى يبلغ من الطول نحو مائة وستين سنتيمترا، ذا عينين سوداوين تعلوان عظمتي خد قويتين، وشعره الأسود الناعم يتطاير وهو يجري. وقفت نيدا على مضض، ونفضت العشب العالق بسروالها الأبيض. كان شعرها البني الذي يصل إلى كتفيها مدسوسا خلف أذنيها.
نادت نيدا على الفتيات: «من ستأتي معي؟» فانضمت إليها بعض الفتيات، وسرن إلى الجانب الآخر من الشارع الضيق حيث مطعم الوجبات السريعة «موبي ديك».
أشارت جيتا إلى شاب يقف في الجانب الآخر من الملعب. كان طوله نحو مائة وثمانين سنتيمترا، ويزن نحو تسعين كيلوجراما، ويبدو في العشرين من عمره على الأقل. لم تكن الفتاة الشقراء ضئيلة الحجم التي تقف بجواره تصل ولو إلى كتفه. أخبرتني جيتا أن اسمه رامين، وأنه أكثر الرجال الذين رأتهم وسامة.
قالت: «سوف أحظى به يوما ما، إنه لي.»
كانت صديقاتي دوما يماثلنني في العمر، وخبرتي مع الفتيان محدودة؛ لم أفكر يوما في أن «أحظى» بفتى.
ارتفع صوت من خلفنا: «مرحبا جيتا. ألن تعرفينا بصديقتك الجديدة؟»
كانت هذه نيدا، وقدمتنا جيتا إحدانا للأخرى. اكتشفت أن نيدا لها ابنة عم أعرفها جيدا، فهي تذهب إلى نفس مدرستنا. وفي نهاية حديثنا، دعتني نيدا إلى حفل عيد ميلادها في اليوم التالي. •••
كان لدي الفستان المناسب لحفل عيد ميلاد نيدا، فمنذ بضعة أشهر كانت أمي قد قررت أن تطلب بعض الملابس لنفسها من أحد الكتالوجات الألمانية، وعرضت علي أن تطلب لي بعض الملابس معها. اخترت فستانا أبيض ليس باهظ الثمن ولكنه جميل. كانت فتحة عنقه كبيرة، وقماشه حريري خفيف. كانت خطة حفل عيد ميلاد نيدا تقتضي أن نذهب للسباحة أولا، ثم نذهب إلى منزلها لتناول العشاء والرقص، وطلبت مني جيتا أن أرتدي ثوب السباحة تحت ملابسي العادية، وأن أحضر فستاني معي.
في يوم الحفل استيقظت مبكرا عن المعتاد، وقضيت ساعات في دورة المياه أجرب ارتداء كل ثياب السباحة التي أملكها، وكل مرة كنت أحدق في صورتي في المرآة منزعجة من العيوب التي أراها، فذراعاي نحيفتان، وفخذاي ممتلئتان، وصدري مستو للغاية. وأخيرا قررت أن أرتدي ثوب السباحة الأبيض ذي القطعتين الذي أهدته لي ماري. كانت ماري قد ذهبت في رحلة إلى أوروبا واشترت لنفسها مجموعة من أثواب السباحة الجديدة، وأعطتني مجموعتها القديمة. لففت حذائي الأبيض في كيس بلاستيكي، ووضعت كل شيء في حقيبة بحر مصنوعة من الخيش. كانت الساعة العاشرة صباحا، ونحن نذهب إلى منزل ماري نحو الساعة العاشرة والنصف في أغلب الأيام. لم تكن أمي تجيد القيادة، ودائما كنا نستقل سيارة أجرة عندما لا يكون أبي موجودا. كان بوسعي أن أسمع صوت أمي وهي تعبث بالأشياء في المطبخ، وهو أمر غريب، فهي لم تكن تدخل المطبخ في هذا الوقت من اليوم.
قلت لها وأنا أقف عند باب المطبخ وأحمل حقيبة البحر في يدي: «أمي، أنا جاهزة.»
كان الجو يعبق برائحة السمك، وأمي تغسل لوح تقطيع كبير، ونظرت لي بطرف عينها. - «جاهزة لأي شيء؟ لن نذهب لأي مكان اليوم.»
كانت طاولات المطبخ مغطاة بأوعية وقدور ومقال مختلفة الأحجام. - «ولكن ...» - «من دون اعتراضات! خالك إسماعيل وزوجته قادمان من طهران لزيارة ماري، وخالتك زينيا هنا أيضا. وسوف يأتون جميعا لتناول الغداء والعشاء ولعب الورق معنا اليوم، وربما يبيتون معنا الليلة. - «لكني مدعوة إلى حفل عيد ميلاد اليوم!» - «حسنا، لا يمكنك الذهاب.» - «ولكن ...»
استدارت كي تواجهني، وشعرت بغضبها يملأ المكان. - «ألا تفهمين معنى كلمة «لا»؟»
استدرت، وذهبت إلى غرفتي، واستلقيت على فراشي. كان بإمكاني أن أستقل سيارة أجرة بمفردي، فقد كنت أملك النقود اللازمة، لكن أمي لم تكن لتسمح بذلك. ربما كان بوسعي أن أتسلل من المنزل، لكن سيتعين علي أن أعود قبل حلول الظلام، وأنا ممنوعة من التأخر خارج المنزل ما لم تكن أمي على علم بالمكان الذي أكون فيه. سمعت صوت سيارة تتوقف أمام منزلنا وإطاراتها تصدر صريرا على الرمال المبتلة. نظرت من النافذة فرأيت مرتضى سائق خالتي زينيا - وهو رجل مهذب في أواخر العشرينيات من العمر - يفتح الباب الخلفي لسيارتها الشيفروليه الجديدة. أسرعت أمي إلى الباب الأمامي، وهبطت الدرج، وعانقت شقيقتها. فتح مرتضى صندوق السيارة وأخرج حقيبة صغيرة، ثم توجهوا جميعا إلى المنزل. ظللت بجوار النافذة وقلبي يخفق من شدة الإحباط.
سمعت خالتي زينيا تقول لأمي بصوتها الحاد الآمر: «عزيزتي، أحضري لي كوبا من الماء البارد. ذهبت ماري مع إسماعيل وكامي إلى المدينة، وسيأتون بعد قليل. أين مارينا؟ لقد أحضرت لها مفاجأة.» - «إنها هنا. لا بد أنها عابسة في غرفتها.»
انفتح باب غرفتي فجأة. - «ما الأمر يا مارينا؟ ألن ترحبي بخالتك؟»
تقدمت نحوها، وعانقتها وقبلتها، ومع أن بشرتها كانت رطبة مبللة بالعرق، فإنها كانت تفوح بعطر «شانيل رقم 5». عانقتني عناقا حارا، ووجدت نفسي أغرق في أحضانها. وعندما أطلقت سراحي أخيرا، أخرجت سوارا جميلا من حقيبتها ألبستني إياه. كانت دوما تهديني هدايا جميلة. مسحت عيني بظهر يدي. - «كنت تبكين؟ لماذا؟» - «أنا مدعوة إلى حفل الليلة، ولا أستطيع الذهاب.»
ضحكت وقالت: «ولم لا تستطيعين الذهاب؟» - «الأمر ...» - «لأني هنا؟»
أطرقت برأسي، وقلت: «نعم.» - «ربما أكون كبيرة في السن، لكنني كنت صغيرة يوما ما. كنت صغيرة وجميلة. وما زلت أذكر ذلك الشعور.»
كتمت أنفاسي. - «سوف يصطحبك مرتضى إلى ذلك الحفل ويعيدك مرة أخرى.» - «حقا؟» - «نعم أيتها السندريلا. يمكنك الذهاب، ولكن عودي إلى المنزل قبل منتصف الليل.» •••
شكرت مرتضى عندما أقلني إلى منزل نيدا، ووعدته أن أكون في انتظاره عند منتصف الليل، ولوحت له وهو يبتعد. خطوت على الأحجار الرمادية الناتئة بين العشب في الفناء الأمامي لمنزل نيدا، ووجدتها تقف في الشرفة المحيطة بالمنزل ذي الطابق الواحد تتبادل الحديث مع فتاتين. كان الجانب الخلفي من المبنى يواجه البحر، واستطعت سماع صوت الأمواج وهي تضرب الشاطئ الرملي، وسرعان ما وصل الجميع. تركت الفتيات حقائبهن في غرفة نيدا، وترك الفتيان حقائبهم في غرفة أخيها، واندفعنا جميعا نجري نحو الشاطئ. لعبنا المساكة وكرة الماء حتى تضور الكل جوعا، ثم عدنا إلى المنزل. عندما فتحت حقيبتي في غرفة نيدا كي أرتدي فستاني، أدركت أنني لم أحضر معي ملابس داخلية. سوف أظل مرتدية ثوب السباحة. لا مشكلة في ذلك؛ فمع أنه مبتل قليلا، فهو أبيض اللون ولن يظهر.
بعد أن تناولنا العشاء المكون من اللحوم الباردة والخبز الطازج والسلطات ، نحينا كل قطع الأثاث الموجودة في غرفة المعيشة جانبا، وانطلقت موسيقى «بي جيز» في المكان. رقصت نيدا مع أرام، وهو لاعب كرة السلة الوسيم الذي طلب منها أن تحضر له زجاجة الكولا عندما قابلتها لأول مرة. بدا جسد نيدا البرونزي جميلا في فستانها الأبيض، ولاحظت أن أرام همس بشيء ما في أذنها جعلها تضحك. وسرعان ما انقسم الجميع إلى ثنائيات، ووجدت نفسي أجلس وحيدة في أحد الأركان أحتسي زجاجة من الكولا. وعندما فرغت، شغلت نفسي بفتح زجاجة أخرى وملء طبق برقائق البطاطس. استمرت الأغاني واحدة تلو الأخرى، والتهمت الكثير من البطاطس حتى آلمتني معدتي، ولكن لم يدعني أحد للرقص. رقصت جيتا مع رامين؛ ذلك الفتي ممتلئ الجسم من ملعب كرة السلة، ورأيته يمرر يده على ظهرها فتورد وجهها خجلا. نظرت في ساعتي فوجدتها العاشرة. أقف هكذا منذ ساعة دون أن يوجه أحدهم لي كلمة واحدة. شعرت بالعزلة والارتباك والحرج والحزن في آن واحد، وأردت أن أخرج من الغرفة.
كان الباب المؤدي إلى الشرفة الخلفية يبعد عني خطوة واحدة، ففتحته وألقيت نظرة أخرى على الغرفة، ولكن لم يبد أحدهم أي رد فعل، فخرجت من الغرفة. كان الهلال قد نشر أشعته الفضية على البحر، والجو دافئ، وكنت بحاجة لفعل شيء. ربما بإمكاني أن أسبح قليلا، فالسباحة تجعلني دائما في حال أفضل، وقد مارست السباحة ليلا عدة مرات من قبل. في ضوء القمر يتحد البحر مع السماء ويتحول إلى كتلة فضية دافئة من الظلام. هبطت الدرج الذي يصل بين الشرفة وفناء المنزل وبدأت أخلع فستاني، ولكنني جفلت عندما فاجأني صوت أحدهم والفستان ينزلق على الأرض: «ماذا تفعلين؟»
رأيت شابا يقف بجوار كرسي الحديقة في أحد جوانب الفناء ويغطي عينيه بيديه.
قلت وقلبي يخفق: «لقد أخفتني! لماذا تختبئ هكذا؟» - «لست مختبئا. كنت جالسا هنا على هذا المقعد أشم بعض الهواء النقي، وفجأة أتت فتاة وبدأت تخلع ملابسها أمامي!» المضحك في الأمر أنه بدا مذعورا أكثر مني. كان يبدو على الأكثر في السادسة عشرة، ولا يزال يغطي عينيه بيديه. - «هل ارتديت فستانك؟» - «ماذا دهاك؟ أنا لست عارية، بل أرتدي ثوب السباحة، وسوف أسبح قليلا.»
قال وهو يرفع يديه عن عينيه: «هل جننت؟ تريدين أن تسبحي في منتصف الليل في تلك المياه المظلمة؟» - «ليست مظلمة تماما، ثم إن القمر بازغ!» - «لا، لا، سوف تغرقين، ولن أسامح نفسي أبدا.» - «لن أغرق.» - «لكني لن أسمح لك بالذهاب.»
كان قد اقترب مني، فلم يعد يفصلنا سوى نحو نصف متر.
قلت وأنا أرتدي فستاني: «حسنا، لن أذهب.»
نظر إلي بعينين داكنتين واسعتين تعلوان عظام خده الناتئة قليلا. كان فمه الطفولي الصغير متناقضا مع بقية قسمات وجهه التي تشي بالقوة، وكان أطول مني بنحو خمسة سنتيمترات، وشعره بني قصير. أدهشتني نظرة عينيه التي جعلتني أشعر بأنني مميزة، واستثنائية، وجميلة. كان اسمه أراش.
قررت أن أجلس في الخارج ما دمت لا أستطيع السباحة، فجلست على أحد كراسي الحديقة الوثيرة، لكني كنت مع أراش بكل حواسي، حتى إنني كنت أسمع صوت أنفاسه. بعد نحو عشر دقائق نهض واقفا، فوثبت فزعة من مكاني. - «هل تستمتع بإخافتي؟» - «آسف، لم أقصد ذلك، ولكن علي أن أذهب. لا تسبحي بعد أن أرحل، اتفقنا؟» - «اتفقنا.»
راقبته وهو يبتعد ويدخل المنزل، وبعد دقيقة خرجت نيدا وطلبت مني الدخول لأنها ستقطع كعكة عيد ميلادها. •••
بعد الحفل ببضعة أيام كنت أركب دراجتي متجهة إلى الشاطئ كي أقابل جيتا، وكانت هناك بعض الرمال في الطريق نظرا لأعمال البناء، فانعطفت بسرعة كبيرة، فما كان من الدراجة إلا أن انزلقت على أحد جانبيها وسقطت على الأرض. تمكنت من الوقوف، لكن وجدت أن الدماء تسيل من ركبتي ومرفقي. كانت الساعة نحو الثانية ظهرا، والجو شديد الحرارة، ولذلك كان الشارع خاليا. على الأقل لم يرني أحد وأنا أسقط هكذا. وبينما كنت أحاول جذب دراجتي بعيدا عن الطريق شعرت بأحدهم يقف خلفي، فاستدرت. رأيت أراش، وبدا مندهشا مثلي.
سألته: «هل تظهر دائما على حين غرة؟»
فضحك وهو يتفحص جروحي، وقال: «وهل أنت رعناء؟ علينا أن نطهر جروحك . هذا منزل عمتي.» وأشار إلى منزل صيفي في جانب الطريق.
حمل أراش دراجتي وتبعته. كانت جروحي تؤلمني، واغرورقت عيناي بالدموع، لكني أخذت نفسا عميقا ولم أفتح فمي بالشكوى؛ إذ لم أكن أرغب في أن يظنني فتاة ضعيفة.
قال: «كنت جالسا في الشرفة أراقب الطريق، ثم أتيت أنت بسرعة هائلة ووقعت. من حسن حظك أن عنقك لم ينكسر.»
كست الزهور الوردية وزهور الكوبية الزرقاء حوائط المنزل البيضاء، ولامست الأغصان الخضراء الفضية لشجرة صفصاف عملاقة السقف الأحمر.
فتح أراش باب المنزل، ودخلت. كانت رائحة الكعك الطازج تنبعث من المكان.
صاح أراش: «جدتي، لدينا ضيفة.»
دخلت عجوز حسنة المظهر ذات شعر أشيب الحجرة آتية من المطبخ. كانت ترتدي فستانا أزرق اللون وتجفف يديها المبللتين بمئزرها الأبيض، وتبدو شديدة الشبه بجدتي.
نظرت إلي ولاحظت الدم، فسألت بالروسية: «ماذا حدث؟» لم أصدق أذني؛ كانت تتحدث مثل جدتي تماما. أخذتني من ذراعي وقادتني إلى المطبخ بينما كان أراش يخبرها بما حدث. كانت تهتم بأدق التفاصيل مثل جدتي، وسرعان ما أدركت أنها طهرت الجرح وعقمته وضمدته. بعدها بقليل وضعت فنجانا من الشاي وكعكة أعدتها بنفسها أمامي على المائدة.
قالت بالفارسية ولكن بلكنة روسية واضحة: «تفضلي.»
أجبتها بالروسية: «شكرا.»
اتسعت عيناها دهشة، وقالت بابتسامة عريضة: «فتاة روسية! هذا رائع! لديك الآن حبيبة، وليست حبيبة عادية، بل فتاة روسية جميلة!»
احمر وجه أراش خجلا. - «جدتي! يكفي هذا! إنها ليست حبيبتي!»
فضحكت.
قالت جدته: «قل ما تشاء، لكنه أمر لطيف للغاية. عظيم جدا. سأترككما وحدكما.» ثم رفعت صوتها وهي تبتعد عن المطبخ: «يا له من أمر رائع!» عدة مرات.
قال أراش: «رجاء أن تعذري جدتي، فهي عجوز، وفي بعض الأحيان تختلط عليها الأمور.»
صاحت جدته من غرفة أخرى: «هل أريتها نايك؟»
تغير لون وجه أراش مرة أخرى. - «أي ناي؟» - «لا تشغلي بالك، فأنا أعزف على الناي من أجل التسلية فحسب.» - «لم يسبق لي أن تعرفت على شخص يعزف على الناي من قبل. هلا عزفت من أجلي؟»
أجابني: «بالطبع.» لكن دون أن يبدو عليه الحماس.
اتبعته إلى غرفته حيث أخرج نايا فضيا من صندوق أسود مستطيل ومرر أصابعه على الآلة الملساء، وسرعان ما امتلأ المكان بصوت أغنية حزينة. جلست على فراشه واتكأت على الحائط، ووقف أمامي يتحرك جسده مع الموسيقى كأنها جزء منه. حدقت عيناه إلى الأمام كأنه يحلم، ويرى ما لا يستطيع أحد غيره رؤيته. تراقصت الستارة القطنية البيضاء أمام النافذة المفتوحة، محدثة دوامات يمتزج فيها ضوء الشمس بالظل. لم أستمع إلى موسيقى عذبة هكذا من قبل. نظر في عيني عندما انتهى، لكني لم أقل شيئا. عرفت أنه قد كتب تلك المقطوعة الموسيقية بنفسه، لكنه كان شديد التواضع بشأن ذلك الأمر. سألني هل أستطيع العزف على أي آلة موسيقية، فأجبت بالنفي. ثم سألني عن عمري، وصدم عندما أخبرته بأنني في الثالثة عشرة، فقد كان يظن أني في السادسة عشرة على الأقل، ودهشت عندما علمت أنه في الثامنة عشرة.
راقت لي الطريقة التي ينظر بها إلي عندما أتحدث معه، فقد كان يجلس مسترخيا في مقعده مستندا بمرفقه على ذراع المقعد، واضعا يده أسفل ذقنه ويبتسم، وعيناه تنظران لي باهتمام شديد. توقفه لحظات قبل أن يجيب عن أسئلتي كان يشعرني بأن حديثنا مهم له. عرضت عليه أن يذهب معي في نزهة سيرا على الأقدام في الصباح التالي، ووافق. •••
في الصباح التالي لوحت لنا جدته من شرفة المنزل. - «إنها تدفعني نحو الجنون، فهي ما زالت تظن أنك حبيبتي وترغب في دعوتك على الغداء اليوم.» - «بكل سرور إذا لم تكن لديك مشكلة.»
نظر لي بعينين متسائلتين. - «أعني أنه إذا كانت دعوتي فكرة جدتك وحدها وأنت لا ترغب في حضوري، فبإمكانك أن تخبرني بذلك.» - «بالطبع أود أن تأتي.» - «عظيم، لأني أريد سماع عزفك على الناي مرة أخرى.»
سرنا حتى وصلنا مكانا هادئا منعزلا من الشاطئ. من بعيد كنت أرى عددا من الناس مستلقين على الرمال وآخرين يسبحون. كانت الأمواج البيضاء ترتفع وتنكسر على الشاطئ، فخلعت حذائي وتركت مياه البحر تتخلل أصابع قدمي. كانت المياه لطيفة وباردة. طلبت منه أن يخبرني المزيد عن عائلته، فأخبرني أن والده رجل أعمال ووالدته ربة منزل، وأنهما يذهبان إلى أوروبا كل صيف، بينما يأتي هو وشقيقه وجدته كي يقيموا مع خالته في منزلها الصيفي. وذكر لي أن شقيقه الذي يصغره بعامين يدعى أرام.
قلت وقد أخذتني المفاجأة: «لا بد أنك تمزح! أرام شقيقك؟» - «نعم، هل تعرفينه؟» - «نعم، لقد قابلته. يبدو اجتماعيا، فهو دائما يخرج بصحبة الفتيان الآخرين، أما أنت فلم أرك قبل حفل عيد ميلاد نيدا. أين كنت مختبئا؟»
أخبرني أنه ليس منبسطا مثل شقيقه، فهو يفضل قراءة الكتب أو العزف على الناي، وأنه أتى إلى حفل عيد ميلاد نيدا لأنها كانت جارته في طهران ولأنها صديقة شقيقه فحسب.
كان أراش من المتفوقين في المدرسة الثانوية، وقد أنهى للتو عامه الأول في كلية الطب بجامعة طهران. أخبرته أنني متفوقة أيضا، وأنني أرغب في دراسة الطب مثله، ودعوته للسباحة معي، ولكنه أخبرني بأنه يفضل الجلوس على الشاطئ والقراءة.
كانت جدته إيرينا قد أعدت وليمة للغداء، وكان الجو جميلا، فوضعت المائدة في الفناء الخلفي تحت شجرة الصفصاف متهدلة الأغصان. كانت المائدة مغطاة بمفرش أبيض مكوي بعناية. راقبتها وهي تصب عصير الليمون في كأسي بينما نسيم البحر يداعب خصلات شعرها الفضي، ثم ملأت طبقي بالأرز طويل الحبة والسمك المشوي والسلطة متجاهلة اعتراضاتي. - «عليك أن تكثري من تناول الطعام يا مارينا، فأنت نحيفة جدا. يبدو أن والدتك لا تطعمك جيدا.»
منذ أن اكتشفت إيرينا أنني أتحدث الروسية، لم تتفوه معي بكلمة واحدة بالفارسية. كانت مثل جدتي معتدة بنفسها، ومع أنها تعرف الفارسية، فقد كانت ترفض الحديث بها إلا عند الضرورة القصوى. لم أعد أجيد الروسية كما كنت من قبل. فمع أن والدي يتحدثان الروسية في المنزل، فإني رفضت استخدامها منذ وفاة جدتي، لأني شعرت أنها شيء خاص نتشارك فيه أنا وهي، ولم أكن أرغب في مشاركته مع أحد غيرها. لم تكن مهارات أراش اللغوية أفضل مني كثيرا، وهكذا لم أكن أشعر بالحرج، وشعرت بالسعادة لاستخدامي الروسية مرة أخرى في الحديث مع إيرينا التي كانت تذكرني بأيام طفولتي المبكرة.
بعد الغداء ذهبت إيرينا كي تغفو قليلا، وذهبت أنا وأراش إلى المطبخ كي نغسل الأطباق. ملأت الحوض بالأطباق المتسخة بينما أراش يضع بقايا الطعام في أوعية بلاستيكية داخل الثلاجة. عندما انتهى من حفظ بقايا الطعام وقف بجواري وفي يده قماشة لتجفيف الصحون. وعندما ناولته أول طبق انتهيت من غسله كي يجففه التقت أعيننا، وقاومت الرغبة الملحة بداخلي في أن أمد يدي وألمس وجهه. •••
أخبرني أراش ذلك المساء ونحن جالسان في الفناء الخلفي لمنزله: «علي أن أصلي قبل غروب الشمس.» - «أيمكنني مشاهدتك؟»
قال لي: «يا لأفكارك الغريبة!» لكنه وافق، وراقبته دون أن أتفوه بكلمة. توجه نحو القبلة وشرع يؤدي الصلاة، فأغلق عينيه، وتمتم بأدعية باللغة العربية، ثم ركع، ووقف، ولمس حجر الصلاة بجبهته.
سألته بعد أن انتهى من صلاته: «لماذا أنت مسلم؟»
قال وهو يضحك: «أنت أغرب من قابلت في حياتي!» لكنه أوضح لي أنه مسلم لأنه يعتقد أن الإسلام بإمكانه أن ينقذ العالم.
سألته: «وماذا عن روحك؟»
فوجئ بسؤالي، وأجابني: «بالطبع سوف ينقذ روحي أيضا. هل أنت مسيحية؟» - «نعم.» - «لماذا؟ هل لأن والديك مسيحيان؟»
أوضحت له أن والدي ليسا مسيحيين ملتزمين.
أصر على سؤاله: «لماذا إذن؟»
أدركت أنني لا أعرف الإجابة تحديدا. أخبرته أني درست الإسلام ولم أجده مناسبا لي، ولست أدري لم راودني هذا الشعور. ربما كنت أعرف عن محمد أكثر مما أعرف عن المسيح، وقرأت من القرآن أكثر مما قرأت من الإنجيل، لكن المسيح كان أقرب إلى قلبي، كان وطنا لي. ابتسم أراش. أعتقد أنه كان يتوقع مني حجة قوية، لكنه لم يجد شيئا. كان الأمر في نظري مسألة عاطفية.
سألته هل والداه متدينان، فأخبرني أن والده ينحدر من عائلة مسلمة ويؤمن بالله، لكنه لا يؤمن بالرسل سواء محمد أم المسيح أم غيرهما. أما جدته إيرينا فتنحدر من عائلة مسيحية، لكنها ليست متدينة على الإطلاق، وزوجها الذي توفي منذ عامين كان ملحدا، وهو جده لوالدته المسيحية التي كانت تصلي في المنزل ولم تذهب إلى الكنيسة قط. كنت أرغب في معرفة رأي عائلته في معتقداته الدينية، فأخبرني أنه يحرص على أداء الصلوات بانتظام منذ أن بلغ الثالثة عشرة، لكنهم ما زالوا يعتقدون أنه يمر بمرحلة عابرة سوف تنقضي.
وفي مساء اليوم التالي جلست على السلالم الحجرية المؤدية إلى منزلنا الصيفي كي أشاهد الغروب. تحولت السحب في الأفق إلى اللون الأحمر لما مرت بها الشمس، ثم تحول اللون الأحمر إلى أرجواني حالم مع اقتراب الليل. لم أتوقف عن التفكير في أراش. كنت أشعر بالسعادة عندما يكون معي؛ سعادة دافئة مبهجة تسمو على كل ما عداها وتجعل العالم بأسره يبدو ضئيلا تافها. أغلقت عيني وأنصت إلى صوت الليل، سمعت رفرفة أجنحة الخفافيش وهي تبحث عن عشائها وبوق سفينة في الميناء. كان أراش قد قرأ لي بعض الأشعار، وصوته الرخيم الرقيق جعل أشعار حافظ وسعدي والرومي تبدو أكثر روعة مما لو قرأتها بنفسي. كان يلقي الشعر بثقة كأنه شعره، كأنه صاغ كل كلمة فيه مثل لحن رائع. ربما يكون هذا هو الحب؛ ربما أحببته.
أردت أن يرى أراش الصخرة التي أصلي عليها، فدعوته إلى منزلنا ذات صباح.
سألني ونحن نجتاز البوابة باتجاهها: «لماذا تطلقين عليها «صخرة الصلاة»؟» - «لأني صليت هناك مرة عندما كنت طفلة صغيرة، وراودني شعور مميز للغاية، فعاودت المجيء، وأصبح مكاني المفضل.»
وسرعان ما بلغنا الصخرة. لم أكن قد أريتها لأي شخص من قبل، وللحظة لم أكن على يقين مما إذا كنت قد فعلت الصواب، فالمكان في النهاية ليس سوى مجموعة غريبة من الصخور المكسوة بالطحالب.
سألته: «هل تظنني مجنونة؟» - «كلا، بل أعتقد أنك في أمس الحاجة مثلي إلى القرب من الله، وبينما أستخدم الناي وسيلة لذلك، فأنت تصلين على هذه الصخرة.»
قلت: «دعنا نصلي معا. ربما يراودك نفس شعوري. إنها أشبه بنافذة تفتح على السماء.»
تسلقنا الصخرة ورفعنا أيدينا نحو السماء، ورددت جزءا من المزمور الثالث والعشرين من مزامير داود: «الرب راعي فلا يعوزني شيء . في مراع خضر يربضني. إلى مياه الراحة يوردني. يرد نفسي. يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه. أيضا إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني.»
قال عندما انتهيت: «جميل! ما هذا؟»
أوضحت له أن مزامير داود جزء من الإنجيل. لم يكن قد سمع عنها من قبل، فأخبرته أن جدتي كانت تقرؤها لي، وبأن ذلك المزمور هو المفضل لدي.
جلسنا على الصخرة وأمعن أراش النظر إلى الأمام، ثم سألني: «هل تساءلت من قبل عما يحدث لنا بعد الموت؟»
أجبت بالإيجاب، فأخبرني بأن الموت لغز لا يمكن حله، فهو المكان الوحيد الذي لو زرناه لن نتمكن من رواية ما جرى لنا فيه، ولا أحد يمكنه الفرار منه.
قلت: «أكره موت من نحب، فألم فراقهم لا ينقطع.» - «الواقع أني لم أفقد أحدا من قبل، فقد توفي جدي وأنا صغير، ولا أذكر أي شيء عن ذلك.» - «لكني أتذكر وفاة جدتي.»
رأيت الدموع تترقرق في عينيه، ومرة أخرى راودتني الرغبة في أن أمس وجهه وأتحسس خطوطه بأصابعي، بل راودتني الرغبة في تقبيله. غمرني هذا الشعور، فنهضت واقفة، ووقف هو الآخر، وللحظة تلاقت شفاهنا، ثم تباعدنا كأن صاعقة برق ضربتنا. - «أنا آسف.» - «علام؟» - «من المخالف للشريعة أن يمس رجل امرأة هكذا ما لم يكونا متزوجين.» - «لا مشكلة.» - «كلا، هناك مشكلة. أريدك أن تعلمي أنني أخاف عليك وأحترمك، ولم يكن علي فعل ذلك، ثم إنك أصغر مني كثيرا، وعلينا أن ننتظر.» - «هل تقصد أنك تحبني؟» - «نعم أنا أحبك.»
لم أفهم تحديدا سبب شعوره بالذنب بسبب تلك القبلة، لكني أدركت أن للأمر علاقة بمعتقداته الدينية. كنت قد رأيت في ذلك الصيف بعض الشباب والفتيات يتبادلون القبلات في أماكن هادئة، وطالما تساءلت عما يشعرون به. لو كان الأمر بيدي لقبلته مرة أخرى، ولكنني لم أرد أن أرتكب خطأ أو أن أغضبه. كان هو الأكبر سنا والأكثر خبرة، وكنت أثق به. •••
قضيت تلك الليلة أنا وأمي في منزل خالتي زينيا. استيقظت في السادسة صباحا وتسللت على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أعد لنفسي كوبا من الشاي. حملت الكوب في يدي وتوجهت إلى غرفة المعيشة، لكني فوجئت بوجود خالتي زينيا تجلس على مائدة الطعام وقد اختفت خلف كومة من الأوراق. تقدمت قليلا نحوها. كانت ترتدي ثياب نوم وردية قطنية مطرزة تناسب فتاة صغيرة وليس امرأة كبيرة في الستينيات من عمرها، وكانت منشغلة بالكتابة في مفكرتها الصغيرة. ترددت في إلقاء تحية الصباح عليها، إذ بدت مستغرقة تماما فيما تفعله.
سألتني بصوت مرتفع حتى كدت أسقط الشاي: «لماذا استيقظت مبكرا هكذا يا مارينا؟ أهو الحب؟»
تمتمت: «صباح الخير خالتي زينيا.»
قالت دون أن تتوقف عن الكتابة: «أيبدو هذا صباح خير لك!» ثم سألتني: «هل تنوين الخروج؟» - «نعم.» - «أين؟»
نادرا ما كانت أمي تسألني إلى أين أذهب. - «في الجوار.» - «هل تعرف أمك أنك تخرجين مبكرا هكذا؟» - «لا أدري.»
نظرت إلي بعينيها الزرقاوين الشاحبتين، ثم قالت: «الأمر عسير، لكنك أهل له.»
نظرت إليها بنظرة متسائلة. - «لا تتظاهري بالغباء، ولا تنظري لي هكذا، فأنت تعلمين قصدي جيدا. أمك وابنتي من نفس النوعية. أحضري لي فنجانا من الشاي.»
استدرت، وفعلت ما طلب مني. وضعت الشاي على المائدة أمامها بيد مرتعشة قليلا.
أمرتني أن أجلس وعيناها تتفحصني من رأسي إلى أخمص قدمي، ثم سألتني: «كم عمرك الآن؟» - «ثلاثة عشر.» - «ما زلت عذراء، أليس كذلك؟»
همست: «معذرة؟»
ابتسمت وقالت: «هذا جيد. إنني أفهمك أكثر من أمك، فأنا أنظر وأرى؛ أما هي فتنظر وترفض أن ترى. أظن أن هذا أول يوم أراك دون كتاب في يدك. أتريدين أن أذكر لك أسماءها؟» - «أي أسماء؟» - «أسماء الكتب التي قرأتها.»
كنت أتصبب عرقا. - «هاملت، روميو وجولييت، ذهب مع الريح، نساء صغيرات، آمال عظيمة، دكتور زيفاجو، الحرب والسلام، وغيرها كثير. ماذا تعلمت إذن من كل هذه الكتب؟» - «تعلمت الكثير.» - «لا ترتكبي أفعالا حمقاء. لست متورطة في تلك الثورة، أليس كذلك؟» - «خالتي زينيا، ما الذي تتحدثين عنه؟ أي ثورة؟» - «أتحاولين خداعي؟»
هززت رأسي نفيا. لم يكن لدي أدنى فكرة عما تتحدث عنه. - «أنا سعيدة لأنك تسمعين هذا الكلام مني، فأنا أعلم الكثير عن الثورات. والآن اسمعيني جيدا. هناك شيء مفزع يحدث في هذا البلد؛ يمكنني أن أستشعره، فهو يفوح برائحة الدم والكوارث. هناك احتجاجات ومظاهرات ضد الشاه منذ فترة. منذ سنوات وآية الله الذي لا أذكر اسمه هذا يعارض الحكومة، وأؤكد لك أنه لا ينوي خيرا، فسوف يرحل نظام دكتاتوري كي يحل محله نظام دكتاتوري آخر أسوأ مثلما حدث في روسيا مع اختلاف الأسماء، بل إن الأمر سيكون أكثر خطورة، لأن تلك الثورة تتخذ من الدين قناعا تختبئ خلفه. المثقفون يتبعون آية الله هذا، بل إن ماري وزوجها معجبان به. إنه في المنفى الآن، ولكن ذلك لم يثنه عن عزمه. عليك أن تبتعدي عنه. إنه يقول إن الشاه فاحش الثراء، لكن الشاه هو الشاه؛ هو ليس مثاليا، ولكن من منا هكذا؟ يقول آية الله أيضا إن هناك الكثير من الفقراء في إيران، لكن الفقراء موجودون في كل مكان. لا تنسي ما حدث في روسيا، فقد قتلوا القيصر، ولكن هل تظنين أنهم أصبحوا أفضل حالا الآن؟ هل تعتقدين أن أهل روسيا أصبحوا جميعا أحرارا أغنياء سعداء؟ الشيوعية ليست حلا للمشاكل الاجتماعية، ولا الدين أيضا. هل تفهمين؟»
أومأت وأنا أشعر بالصدمة، ثم عادت خالتي تكتب في مفكرتها مرة أخرى. •••
في وقت لاحق من هذا الصباح عندما شرعت أنا وأراش في نزهتنا سيرا على الأقدام، نادانا أرام من الشرفة وسألنا إلى أين نذهب.
سأله أراش: «لماذا تريد أن تعرف؟»
أجاب أرام أنه يشعر بالملل ويرغب في أن يرافقنا، فطلب منه أراش أن يخلد إلى النوم، لكن أرام أصر على المجيء، فاستسلمنا في نهاية الأمر. وبينما كنا نسير نحو الشاطئ سأل أرام عما أفعله أنا وأراش طوال اليوم كل يوم، وهو ما أغضب أراش وأسفر عن مشادة بينهما جعلتني أستغرق في الضحك.
وعلى الشاطئ جاء أرام ليسبح معي، لكن أراش لم يكن يحب البحر، بل دائما كان يقرأ بينما أسبح . أخذت أراقبه وأنا في البحر، فوجدت أنه غير منتبه للكتاب الذي يقرؤه، ولكنه يراقبني أنا وأرام.
ظل أراش هادئا طوال اليوم، وفي المساء ذهبنا لغرفته، وأنصت إليه وهو يعزف على الناي. أغلقت عيني، لكنه توقف فجأة في منتصف مقطوعته المفضلة، ففتحت عيني ونظرت إليه في دهشة.
سألته: «ما الأمر؟» - «لا شيء.»
أطرق برأسه متفاديا النظر إلي. - «أراش، أخبرني ما الأمر.»
جلس بجواري على الفراش وسألني: «هل تحبينني حقا؟» - «نعم أحبك. أخبرني ماذا هناك.» - «بدوت سعيدة للغاية مع شقيقي اليوم. كنت تستمتعين بوقتك، فخطر لي أنه ربما ... لا أدري ...» - «خطر لك أني معجبة به.» - «هل هذا صحيح؟» - «من المفترض أنك تعرفني جيدا الآن. إنه مرح، لكنه ليس النوع الذي يروق لي.» - «ماذا تقصدين بالنوع الذي يروق لك؟» - أنت من تعجبني وليس هو. أنا لا أحب شقيقك، بل أحبك أنت.» - «آسف. لا أدري ماذا دهاني. طالما كان أرام يتمتع بشعبية كبيرة، وكل الفتيات يحببنه، ولا أريد أن أفقدك.» - «لن يحدث هذا.»
ولكنه لم يبد سعيدا، فسألته: «ألا تصدقني؟» - «بلى.»
ثم وقف وتوجه نحو النافذة. كانت الرياح عاصفة والأمواج تهدر لتطغى على كل الأصوات الأخرى، وفجأة قال إنه يريد أن يخبرني بأمر مهم. لم يكن لدي أي توقعات عما يريد أن يخبرني به، فقال إن هناك حركة كبيرة ضد الشاه، وإن هناك ثورة في مهدها، وهناك العديد من الاحتجاجات والاعتقالات. أخبرته أن خالتي زينيا حدثتني عن الثورة في صباح ذلك اليوم.
سألته عن السبب الذي يدعو الناس للثورة ضد الشاه، فأوضح لي أن الشاه وعائلته وأفراد الحكومة كلهم فاسدون، وأنهم يزيدون غنى في الوقت الذي يصارع فيه الشعب الإيراني الفقر. أخبرته أيضا أن خالتي زينيا تعتقد أن نفس السيناريو الذي حدث في روسيا سوف يتكرر في إيران.
قال أراش: «لكن الثورة الروسية لم تستند على أسس صحيحة؛ فالشيوعية كانت الحل الخاطئ لمشاكلها، فضلا عن أن قادتها ما كانوا يؤمنون بالله، فسرعان ما طالتهم يد الفساد هم أيضا.» - «إذن كيف تجزم بأن من يحل محل الشاه سيكون أفضل منه؟»
سألني هل سمعت عن آية الله الخميني. - «أخبرتني خالتي عن شخص يدعى آية الله، ولكنها لم تكن تذكر اسمه. من يكون الخميني؟»
أخبرني أن الخميني رجل دين أمر الشاه بنفيه، وأنه يريد لشعب إيران أن يحيا وفقا للشريعة الإسلامية، وأن توزع ثروات البلاد على الجميع، وألا تستأثر بها فئة صغيرة، وهو يقود الحركة المضادة للشاه منذ عدة أعوام.
أخبرت أراش أنني لا أشعر بالارتياح حيال تلك الثورة. على حد علمي لم تكن عائلتانا موسرتين، وآباؤنا لا يشغلون مناصب مهمة في الحكومة، لكننا نحيا حياة كريمة ونتلقى تعليما جيدا مجانيا، وهو على وشك الالتحاق بالجامعة كي يصبح طبيبا، فلم نحتاج الثورة إذن؟
أجابني متحمسا: «لا يتعلق الأمر بنا فحسب يا مارينا، ولكنه يتعلق بمن يعانون من الفقر، فالحكومة تجني أموالا طائلة من بيع النفط الذي هو ملك للشعب الإيراني، ثم ينتهي الأمر بمعظم تلك الأموال في الحسابات الشخصية للشاه ومسئولي حكومته. هل تعلمين أنه منذ عدة أعوام والسافاك - البوليس السري - يلقي القبض على معارضي الشاه ومنتقدي حكومته ويخضعونهم للتعذيب، بل الإعدام؟» - «كلا.» - «حسنا، تلك هي الحقيقة.» - «كيف علمت بكل ذلك؟» - «قابلت بعض هؤلاء السجناء السياسيين. إنهم يتعرضون لأنواع وحشية من التعذيب في السجن؛ سماعها وحده يصيبك بالغثيان.» - «يا للبشاعة! لم تكن لدي فكرة عن ذلك.» - «حسنا، الآن أصبحت لديك فكرة.»
سألته هل يعلم والداه بدعمه للثورة، فأكد لي أنه لا يستطيع إخبارهما بذلك، لأنهما لن يتفهما الأمر.
قلت: «كثير من الناس يموتون في الثورات.» - «سأكون بخير، عليك أن تتحلي بالشجاعة يا مارينا.»
شعرت بالقلق، ولم أكن أرغب في أن يصيبه مكروه. بدا علي الشعور بالخوف، فأمسك يدي. - «مارينا، أرجوك لا تقلقي. سأكون بخير، أعدك بذلك.»
حاولت أن أصدقه، وأن أتحلى بالشجاعة، غير أني لم أكن سوى فتاة في الثالثة عشرة من عمرها. ***
لم أدخل في أي نقاش سياسي مع أراش ما تبقى من الصيف. كنت أرغب في نسيان أمر الثورة. ظل أراش يعزف لي على الناي كل يوم، وظللنا نذهب في نزهات طويلة سيرا على الأقدام، ونركب الدراجات على الشاطئ، ونقرأ الشعر ونحن جالسان على الأرجوحة في الفناء الخلفي بمنزله.
رحل أراش إلى طهران قبلي بأسبوعين. كنت أنا وأمي غالبا ما نعود إلى طهران في بداية سبتمبر كي أتيح لنفسي وقتا كافيا للاستعداد للدراسة التي تبدأ في الحادي والعشرين من سبتمبر؛ أول يوم من أيام الخريف. راقبت أراش وهو يقود سيارة والده البيكان البيضاء مبتعدا عن منزل عمته، حيث تجلس جدته في المقعد الأمامي وشقيقه في المقعد الخلفي. لوحوا لي يودعونني، فلوحت لهم بدوري حتى اختفوا عن ناظري. •••
وصلت إلى طهران يوم الخميس السابع من سبتمبر، واتصلت بأراش على الفور، وقررنا أن نلتقي في إحدى المكتبات يوم التاسع في العاشرة صباحا.
وفي يوم التاسع استيقظت قبل الفجر، ولما كنت أشعر بالقلق فقد خرجت إلى الشرفة. في تلك الساعة المبكرة، كان الشارع المزدحم دوما مهجورا، والنسيم العليل يداعب الأوراق المتربة لشجر القيقب محدثا حفيفا. أردت أن أتصل بأراش وأطلب منه الحضور مبكرا، ولكن هذا الأمر كان ضربا من الجنون. كان علي أن أنتظر. ثم سمعت صوت صفير غريب، فحدقت في الظلام، ولمحت في الجانب الآخر من الشارع شيئا يتحرك. دققت النظر، فوجدت شبحا مظلما يتحرك في ضوء الشارع ويكتب شيئا ما على الحائط القرميدي لأحد المحلات مستخدما علبة من الطلاء الرشاش. صرخ أحدهم: «توقف!» لم أدر من أين أتى الصوت، وذلك لأن الكلمة تردد صداها بين المباني. أخذ الشبح المظلم يجري، ثم سمعت صوتا مدويا كقصف الرعد، واختفى الشبح في الجوار، ثم ظهر شبح جنديين مسلحين، فجريت أختبئ بالداخل.
وبعد شروق الشمس عدت إلى الشرفة، فرأيت الحائط القرميدي الرمادي في الجانب الآخر من الشارع وقد كتب عليه بحروف حمراء كبيرة: «ليسقط الشاه!»
وصلت إلى المكتبة مبكرا عن موعدي بضع دقائق وأخذت أتصفح الأرفف، وفي العاشرة والربع أخذت أتلفت حولي. لم يتأخر أراش عن مواعيده من قبل. ظللت أنظر في الساعة باستمرار، وفي كل مرة يفتح فيها الباب ويدخل أحدهم يراودني بصيص من الأمل، ولكنه لم يأت. انتظرت حتى الحادية عشرة، وظللت أؤكد لنفسي أن الأمر على ما يرام، وربما يكون الزحام المروري هو ما منعه من الحضور أو ربما تعطلت سيارته.
عدت إلى المنزل واتصلت بأراش على الفور، فأجاب أرام على الهاتف، وعرفت من صوته أن ثمة خطبا ما. أخبرته أني كنت على موعد مع أراش في إحدى المكتبات لكنه لم يأت.
سألته بأقصى ما استطعت من الهدوء: «أرام، أين هو؟»
أخبرني أرام أنه لا يعرف. كان أراش قد خرج في صباح اليوم السابق، ومن المفترض أن يعود لتناول العشاء، لكنه لم يعد. اتصل والداه بكل من يعرفونه، لكنهما لم يجدا أحدا يدلهما على مكانه. كانت هناك مظاهرة احتجاجية حاشدة ضد الشاه في ذلك اليوم في ميدان «جاله»، نظمها مؤيدو الخميني، وأطلق الجيش النار على المتظاهرين مما أدى إلى إصابة الكثيرين. أحد أصدقاء أراش أخبر والده أنه ذهب مع أراش إلى ميدان «جاله» لكنهما افترقا هناك. اتصل والدا أراش بجميع مستشفيات طهران، بل إن والده ذهب إلى «إيفين»، لكنه لم يتمكن من العثور عليه. «السجناء السياسيون يتعرضون لأنواع وحشية من التعذيب في السجن؛ سماعها وحده يصيبك بالغثيان.» أبعدت تلك الفكرة عن ذهني، وحصلت على وعد من أرام بأن يتصل بي فور أن تصله أي أنباء.
شعرت بمسافة قاسية باردة بيني وبيني الغرفة التي أقف فيها، وكأن الحياة ذاتها قد دفعتني بعيدا. بدت الأصوات المكتومة للسيارات وهي تسير في الطريق غريبة غير مألوفة. كنت أعرف ذلك الألم؛ إنه الحزن. •••
في صباح اليوم التالي قرعت جرس منزل أراش، وانتظرت. فتح أرام الباب. تعانقنا طويلا، ثم فتحت عيني لأجد إيرينا تحدق إلينا. كان علي أن أتحلى بالقوة، فتركت أرام وعانقت إيرينا، ثم ساعدتها في السير إلى غرفة المعيشة والجلوس على الأريكة. دخل والد أراش وعرفني أرام به. كان أراش يشبه والده تماما.
قال لي والد أراش: «شكرا لمجيئك. أخبرني أراش بكل شيء عنك. كنت أتمنى أن ألقاك في ظروف أفضل من هذه.»
جلست بجوار إيرينا وأمسكت يديها وهي تبكي، ثم دخلت والدة أراش فنهضت وقبلتها. كان وجهها باردا وعيناها منتفختين. رأيت صورا عائلية في كل مكان. لم أكن أملك أي صور تجمعني بأراش.
طلبت من أرام أن يريني غرفة شقيقه. كانت بسيطة للغاية بلا صور أو ملصقات على الجدران. رأيت صندوق نايه الأسود على المكتب، وبجواره علبة مجوهرات بيضاء صغيرة أخذها أرام وأعطاها لي.
قال: «لقد اشترى هذه لك منذ بضعة أيام.»
فتحت العلبة فوجدت عقدا ذهبيا جميلا بها، فأغلقتها مرة أخرى، وأعدتها مكانها على المكتب.
قال أرام وهو يناولني ورقة: «وجدت خطابا في درج مكتبه. لم أكن أقصد التطفل على خصوصياته، ولكن كان علي أن أبحث عن أي شيء يدلنا على مكانه.» تعرفت على خط أراش، وكان الخطاب موجها إلى والديه وجدته وشقيقه ولي، وكتب في الخطاب أنه مقتنع بضرورة الدفاع عما يعتقد أنه صواب، وأن عليه فعل شيء من أجل التصدي للشر، وأوضح أنه يساند الثورة الإسلامية ضد الشاه بكل ما أوتي من قوة، وأنه مدرك تماما أنه متورط في أمر خطير. وكتب أيضا أنه لم يكن شجاعا من قبل قط، لكنه يشعر الآن بضرورة تنحية خوفه جانبا، وأنه يدرك أنه قد يفقد حياته دفاعا عن معتقداته. وفي النهاية ذكر أن قراءة هذا الخطاب تعني أنه غالبا قد مات، وطلب منا السماح والمعذرة لأنه تسبب لنا في الشعور بالألم.
نظرت إلى أرام، فقال لي: «لم يكن والداي على علم بتورطه في تلك الثورة اللعينة، لكني كنت أعلم، وحاولت أن أثنيه عن عزمه، غير أنك تعرفينه جيدا؛ فهو لا يستمع إلى قط، فأنا الشقيق الأصغر الذي لا يعلم أي شيء.»
جلست على فراش أراش وأعدت الخطاب لأرام. كان هناك قميص أزرق على وسادة أراش، فأمسكت به. كان أحد قمصانه المفضلة التي ارتداها مرارا في ذلك الصيف. شممت القميص، ووجدته لا يزال يحمل رائحته. كنت أتوقع دخول أراش غرفته وعلى وجهه ابتسامته الدافئة وهو ينطق اسمي بصوته الدافئ الحنون.
كنت قد شاهدت الأخبار الليلة الماضية، ولم تكن هناك أي إشارة لمظاهرة ميدان «جاله»، فكل قنوات التلفاز مملوكة للدولة، ومن ثم تجاهلت معظم الأحداث والنكبات الأخيرة. لم أفهم لم قد يعطي الشاه أوامره للجيش بإطلاق النار على المتظاهرين. لماذا لم يستمع إلى مطالبهم ويتحدث إليهم؟
توجهت إلى النافذة ونظرت للخارج، وتساءلت هل فكر أراش في من قبل وهو يقف في النافذة يراقب الشارع الهادئ. وقف أرام بجواري يحدق إلى الشارع، وتمزق قلبي حزنا لأجله. كان هو وشقيقه شديدي الاختلاف، لكن أيضا شديدي القرب أحدهما من الآخر.
وفي غرفة المعيشة، جذبت انتباهي صورة لهما معا: طفلان صغيران في عمر السابعة والتاسعة تقريبا وذراع كل منهما تحيط بعنق شقيقه وهما يضحكان.
الفصل الثامن
قالت لي سارة: «حان دور مبنانا في الحصول على المياه الساخنة الليلة.» كانت أول ليلة لي في «246». أوضحت لي أننا نحصل على الماء الساخن مرة كل أسبوعين أو ثلاثة، وكل مرة لا تدوم أكثر من ساعتين أو ثلاث، وسوف يحين دور غرفتنا في الاغتسال نحو الثانية صباحا. وأضافت: «لكل منا عشر دقائق تغتسل فيها. سوف أوقظك عندما يحين الموعد.»
حان وقت النوم، وكانت أنوار الغرف تطفأ في الحادية عشرة كل ليلة، بينما تبقى أنوار الممرات مضاءة طوال الوقت. عرفتني سارة بالفتاة المسئولة عن «الأسرة»، وحصلت كل منا على ثلاث بطاطين. كان جميع الفتيات ينمن على الأرض جنبا إلى جنب، وكل منا لها بقعة مخصصة تتغير باستمرار. كان عدد الفتيات كبيرا جدا، حتى إن البعض كان ينام في الممرات. وجدت مكانا بجوار سارة في الغرفة، وطويت إحدى البطاطين ثلاث مرات كي أنام عليها واستخدمت الثانية وسادة والثالثة غطاء. وعندما استقر الجميع في أماكنهن، لم يعد هناك مكان خال. كان الذهاب إلى دورة المياه في منتصف الليل تحديا كبيرا؛ إذ كاد يستحيل الوصول إلى دورة المياه دون أن تطأ إحداهن بقدميك. في عهد الشاه كان «246» بطابقيه العلوي والسفلي يضم نحو خمسين سجينا، أما الآن فقد وصل العدد إلى نحو ستمائة وخمسين.
أيقظتني سارة كما وعدتني. شعرت في بادئ الأمر بالارتباك ولم أدر أين أنا، ثم أدركت أنني لست في فراشي بالمنزل، بل في «إيفين». اختلط صوت المياه المتدفقة من الأدشاش بأصوات الفتيات، وساعدتني سارة في النهوض، فنهضت وأنا أعرج. كانت غرفة الاغتسال أسمنتية الجدران والأرضية مطلية باللون الأخضر الداكن، وتقسمها ألواح بلاستيكية سميكة إلى ست حجيرات منفصلة، وعلى كل فتاتين مشاركة نفس الحجيرة مدة عشر دقائق. كان الجو مشبعا بالبخار ورائحة الصابون الرخيص، وأخذت أنظف جسدي وأنا أبكي.
في تلك اللحظة التي خلعت فيها العصابة عن عيني في ليلة الإعدام تغيرت حياتي تماما. كنت قد مررت بالعديد من التجارب الصعبة من قبل، ولكنها لم تؤثر في كنه حياتي؛ فقدت أحبائي، وألقي القبض علي، وتعرضت للتعذيب، لكن تلك الليلة أخذتني إلى آفاق أبعد بكثير. كان وقتي في هذا العالم قد انتهى، لكنني ما زلت على قيد الحياة. ربما يكون هذا هو الخط الفاصل بين الحياة والموت، وأنا لا أنتمي لأي منهما.
ذهبنا إلى أماكن النوم بعد الاغتسال. كان المكان ضيقا للغاية، حتى إنني إذا استلقيت على ظهري فسوف أضايق المجاورات لي، فواجهت سارة وحافظت على ركبتي مفرودتين قدر الإمكان. فتحت سارة عينيها، وابتسمت. - «مارينا، لا أقصد إزعاجك، وأعلم أن كلامي هذا قد يبدو غبيا، لكني سعيدة بوجودك هنا معي، فقد كنت أشعر بوحدة شديدة قبل أن تأتي.» - «أنا أيضا سعيدة لأننا معا.»
أغمضت عينيها، فأغمضت عيني أنا الأخرى. أردت أن أخبرها بأمر ليلة الإعدام، لكنني لم أستطع. لا يوجد من الكلمات ما يصلح لوصفها، ولم أرد إخبارها أيضا بحكم السجن مدى الحياة، لأنه سوف يثير حزنها. هل سيحتجزونني في «إيفين» إلى الأبد حقا؟ هذا يعني أنني لن أعانق أمي، أو أرى أندريه، أو أذهب إلى الكنيسة، أو أرى بحر قزوين مرة أخرى. كلا، إنهم يودون إخافتي وبث اليأس في نفسي فحسب. علي أن ألح في الدعاء والتضرع إلى الله كي ينقذني أنا وسارة. سنعود أنا وهي إلى المنزل قريبا.
بدا لي كأننا لم ننم سوى دقائق عندما ملأ صوت المؤذن الغرفة عبر مكبرات الصوت: «الله أكبر، الله أكبر ...» كان الوقت قد حان لصلاة الفجر. نهضت سارة ومعظم الفتيات واتجهن إلى الحمام كي يؤدين فرائض الوضوء من غسل اليدين والذراعين والقدمين، وهو أمر يسبق كل صلاة. أخيرا يمكنني النوم على ظهري. لمست إحداهن كتفي، ففتحت عيني ووجدتها سهيلة.
سألتني: «ألن تقومي إلى الصلاة؟»
ابتسمت، وقلت: «أنا مسيحية.» - «أنت أول مسيحية أقابلها هنا! كان لدي ... أقصد لدى جيران مسيحيون في الشقة المجاورة لنا واسم عائلتهم جالاليان، وأنا صديقة ابنتهم نانسي، وقد دعوني ذات مرة إلى منزلهم كي أحتسي القهوة التركية معهم. هل تعرفين آل جالاليان؟»
أجبتها بالنفي.
اعتذرت لإيقاظي، وسألتني هل يصلي المسيحيون، فأوضحت لها أننا نصلي، ولكن ليس كصلاة المسلمين، فالصلاة لدينا لا ترتبط بأوقات محددة. •••
كان علينا أن نرتب الغرفة في السابعة صباحا، ودهشت من السرعة التي تم بها ذلك، وكيف رصت البطاطين المطوية في أحد أركان الغرفة. فردت الفتاتان المسئولتان عن الطعام مفارش رقيقة من البلاستيك يسمونها «السفرة»، عرضها نحو نصف المتر على الأرض، ووزعتا الملاعق المعدنية والأطباق والأكواب البلاستيكية، ولم يكن لدينا أي شوك أو سكاكين، ثم ذهبت الفتاتان إلى الردهة وعادتا حاملتين دورقا معدنيا أسطواني الشكل كبيرا يحتوي على الشاي. كان الدورق ثقيلا، وكل واحدة منهما تمسك بإحدى يديه وهي تلهث. أحضرتا معهما أيضا حصتنا من الخبز وجبن الفيتا. انتظمنا في صفوف كي نحصل على طعامنا، ثم جلسنا حول السفرة وأخذنا نتناول الطعام. كنت أتضور جوعا، فالتهمت طعامي في ثوان معدودة. كان الخبز طازجا، وعلمت أن السجن به مخبز خاص، وكان الشاي ساخنا ولكن رائحته غريبة. أخبرتني سارة أن هذه الرائحة بسبب الكافور الذي يضعه الحرس في الشاي، وأنها سمعت أن الكافور يوقف الطمث لدى السجينات؛ فمعظم الفتيات هنا قد انقطع الطمث لديهن تماما، لكن الكافور له أعراض جانبية، منها تورم الجسم والاكتئاب. سألتها عن السبب الذي يدعو الحرس لإيقاف الطمث لدينا، فأخبرتني أن الفوط الصحية باهظة الثمن. بعد الانتهاء من الطعام وضعت الفتاتان المسئولتان عن غسيل الأطباق الأطباق المتسخة في صناديق بلاستيكية، وأخذتاها إلى غرفة الاغتسال، وغسلتاها بالماء البارد.
سرعان ما ألممت بالقواعد العديدة للمكان؛ لم يكن مسموحا لنا تخطي الأبواب ذات القضبان الحديدية الموجودة في نهاية الممر ما لم تنادنا إحدى الأخوات عبر مكبر الصوت، وهو ما لا يحدث إلا في حالة استدعائنا للتحقيق أو للزيارة. الزيارات مسموح بها مرة واحدة في الشهر، وموعد الزيارة التالية سيحل بعد أسبوعين. لم تستقبل سارة أي زائر بعد، لكنها كانت تأمل في أن يسمح لوالديها بزيارتها قريبا. علمت أيضا أن أفراد العائلة المقربين فحسب هم المسموح لهم بالزيارة وبإحضار ملابس لنا. في كل غرفة يوجد جهاز تلفاز، لكن البث يقتصر على البرامج الدينية. توجد كتب أيضا، لكن كلها تتحدث عن الإسلام.
كان الغداء يتكون عادة من القليل من الأرز أو الحساء، أما العشاء فيتكون من الخبز والتمر. من المفترض أننا نحصل على بعض الدجاج مختلطا بالأرز والحساء، لكن من كانت تعثر على قطعة صغيرة من اللحم في طعامها تعتبر محظوظة وتتباهى بها أمام زميلاتها. كانت مندوبة الغرفة - التي تختارها الفتيات أحيانا وأحيانا أخرى يعينها الحرس - تنظم توزيع الطعام، ومهام التنظيف، وتبلغ الإدارة عن أي مرض أو مشكلة خطيرة.
ذات يوم، بعد نحو عشرة أيام من القبض علي، جلست في ركن من الغرفة وأخذت أراقب الفتيات وهن يؤدين صلاة الظهر، ويقفن في صفوف تجاه الكعبة. كانت أول مرة أرى فيها صلاة المسلمين عن قرب عندما راقبت أراش وهو يصلي في منزل عمته. أحببت أن أراه وهو يركع ويسجد ويهمس بكل الأشياء التي يؤمن بها. هل كان سيوافق على تلك الحكومة الجديدة وما ترتكبه من أعمال وحشية باسم الدين؟ كلا، لقد كان أراش طيبا حنونا، وما كان سيتقبل ذلك الظلم. وربما كان سينتهي المطاف بكلينا في «إيفين.»
خاطبتني إحدى رفيقاتي في الغرفة، فتحركت فزعة. كان اسمها ترانه؛ فتاة نحيلة في العشرين من عمرها، عيناها عسليتان واسعتان، وشعرها أصفر قصير، وتجلس في أحد جوانب الغرفة معظم الوقت تقرأ القرآن، وفي كل مرة تقف فيها للصلاة تغطي وجهها بالشادور، وعندما تخلعه نجد عينيها حمراوين منتفختين، لكن الابتسامة لم تكن تفارقها.
قالت لي: «تجلسين كالتمثال منذ وقت طويل حتى دون أن يطرف لك جفن.» - «كنت أفكر.» - «فيم؟» - «في أحد الأصدقاء.»
سألتها لم ألقي القبض عليها، فأجابتني: «قصة طويلة.» - «حسنا، يبدو أن لدينا الكثير من الوقت.» - «ليس لدي وقت.»
ملأني شعور بالرهبة، كانت سارة قد أخبرتني أن فتاتين من غرفتنا محكوم عليهما بالإعدام، لكن ترانه لم تكن إحداهما. - «لكن سارة أخبرتني ...»
همست: «لا أحد يعلم ذلك.» - «ولماذا لم تخبري أحدا؟» - «وما الفائدة؟ حينها سيقلق الآخرون عليك ويشعرون بالأسى تجاهك، وأنا أكره ذلك. أرجوك لا تخبري أحدا.» - «ولماذا أخبرتني؟» - «صدر بحقك حكم بالإعدام أنت أيضا، أليس كذلك؟»
انقبض قلبي. لم أستطع أن أكذب عليها، فاستجمعت شجاعتي وأخبرتها عن ليلة الإعدام وكيف أنقذني علي في اللحظة الأخيرة، فسألتني عن السبب الذي دفعه لإنقاذي، فأخبرتها أني لا أدري. حينها صارحتني أخيرا بما تود الاستفسار عنه. - «هل لمسك من قبل؟» - «كلا، ماذا تقصدين؟» - «تعرفين ماذا أقصد؛ فمن المفترض ألا يمس رجل امرأة ما لم يكونا متزوجين.» - «كلا!» - «غريب!» - «ما الغريب في ذلك؟» - «سمعت كلاما.» - «أي كلام؟» - «أخبرتني فتاتان أنهما تعرضتا للاغتصاب، وتلقتا تهديدا بالإعدام إذا ما أخبرتا أحدا.»
كانت فكرتي عما يعنيه الاغتصاب مبهمة. كنت أعلم أنه فعل مروع يرتكبه الرجل بحق إحدى النساء؛ شيء لا يجب أن يتحدث عنه الناس. ومع أنني كنت أرغب في معرفة المزيد، فلم أجرؤ على السؤال.
سألت ترانه: «وماذا عما سبق ليلة الإعدام؟ لم يلمسك أحد حينها؟» - «كلا!»
اعتذرت مني على إزعاجي. حاولت ألا أبكي، وأخبرتها كم هو مؤلم أن أحيا في الوقت الذي لاقى فيه الآخرون حتفهم، فقالت إن موتي لم يكن ليغير مصيرهم في شيء. - «كيف عرفت عن حكم الإعدام الذي صدر بحقي؟» - «عندما جئت إلى هنا، كان اسمك مكتوبا على جبهتك.»
لم أفهم شيئا.
قالت: «بعد أن ألقي القبض علي تعرضت للضرب مدة يومين، لكني رفضت التعاون معهم، وذات ليلة سحبني المحقق للخارج ونزع العصابة عن عيني ... رأيت جثثا ... مغطاة بالدم. هؤلاء أعدموا ... كانوا نحو عشر أو اثنتي عشرة جثة. تقيأت، وأخبرني بأنني سألقى نفس المصير ما لم أعترف. كان يحمل مصباحا يدويا في يده، فسلطه على وجه أحد الموتى. كان شابا، وكان اسمه مكتوبا على جبهته: مهران كبيري.»
مع أنني أعلم جيدا أن كل ما حدث ليلة الإعدام كان حقيقيا، فقد تعاملت معه كأنه كابوس، وحاولت جاهدة إبعاده عن ذاكرتي قدر الإمكان، ولكنه عاد الآن حيا. تثاقلت أنفاسي. قد تشاهد ترانه ما شاهدته أنا تلك الليلة، ولم يكن بوسعي أن أساعدها بأي وسيلة.
أخبرتني ترانه أنها سمعت أن الحرس يغتصبون الفتيات قبل إعدامهن لأنهم يعتقدون أن العذارى يذهبن إلى الجنة بعد الموت.
قالت: «مارينا، يمكنهم أن يقتلوني إذا أرادوا، لكني لا أريد أن أتعرض للاغتصاب.» •••
كانت لدينا سجينة حبلى في غرفتنا تدعى شيدا. كانت في العشرين من عمرها تقريبا، وعليها حكم بالإعدام أيضا، لكن تنفيذ الحكم تأجل، لأنه من المخالف للشريعة إعدام الحبلى أو المرضع. كان لها شعر بني فاتح طويل، وعينان بنيتان، وزوجها ينتظر تنفيذ حكم الإعدام أيضا. لم نكن نتركها وحدها قط كي لا ندع لها فرصة للقلق. فتاتان على الأقل كانتا تلازمانها معظم الوقت. وبالرغم من هدوئها الدائم كانت الدموع تنهمر من عينيها في صمت من حين لآخر. كان بوسعي أن أتخيل قدر معاناتها، فهي لم تكن قلقة على نفسها فحسب، بل أيضا على زوجها وجنينها. ***
ذات ليلة استيقظنا على صوت إطلاق النيران. نهضت جميع الفتيات، وجلسن في أسرتهن، وحدقن في النوافذ. كل رصاصة كانت تعني حياة ضائعة؛ نفسا أخيرا؛ عزيزا تمزقت أشلاؤه بينما أسرته تنتظره وتأمل في عودته. سوف يدفنون في قبور مجهولة بلا شواهد تحمل أسماء من فيها.
همست سارة: «سيرس ...»
كذبت عليها: «سيرس بخير؛ أعلم أنه بخير.»
امتلأت عينا سارة السوداوان بالدموع، وأخذت تنشج وصوتها يعلو شيئا فشيئا. طوقتها بذراعي وعانقتها، لكنها دفعتني بعيدا وأخذت تصرخ.
اقتربت منها بعض الفتيات محاولات تهدئتها: «اهدئي يا سارة. خذي نفسا عميقا.»
لكنها بدأت تضرب رأسها بيديها. حاولت أن أمسك معصميها، لكنها كانت قوية جدا. تمكن أربع منا من إيقافها، لكنها ظلت تقاومنا. أضيئت الأنوار، وبعد دقيقة اندفعت الأخت مريم وإحدى الحارسات وتدعى الأخت معصومة إلى غرفتنا.
سألت الأخت مريم: «ماذا يحدث هنا؟»
قالت سهيلة: «إنها سارة. كانت تبكي وتصرخ، ثم بدأت تضرب نفسها بقوة.»
صاحت الأخت مريم في الأخت معصومة: «أحضري الممرضة!» فاندفعت الأخت معصومة خارج الغرفة.
وصلت الممرضة في أقل من عشر دقائق وحقنت سارة في ذراعها، وسرعان ما توقفت سارة عن المقاومة وأغشي عليها. أمرت الأخت مريم بإيداع سارة مستشفى السجن كي لا تؤذي نفسها. وضعت الأختان والممرضة سارة فوق بطانية وحملنها إلى الخارج. تدلت يدها الصغيرة من جانب البطانية. توسلت إلى الله ألا تموت سارة، فأسرتها تتوقع عودتها مثلما كانت أسرة أراش تتوقع عودته.
الفصل التاسع
انتظرنا كلنا عودة أراش، مع أننا كنا نعلم أنه لن يعود.
ظل الشاه يقيل رئيس الوزراء ويعين مكانه آخر محاولا استعادة السيطرة على البلاد، وأخذ يلقي الخطب ويخبر الشعب أنه قد سمع صرختهم من أجل تحقيق العدالة، وأنه سيعمل على إحداث بعض التغييرات، ولكن بلا فائدة. تزايدت التجمعات والاحتجاجات ضد الشاه يوما بعد يوم، وفي العام الدراسي 1978 / 1979 شعر الجميع بالقلق حيال المستقبل. العالم الذي نشأت فيه والقواعد التي كنت أحيا وفقها وأظن أنها ثابتة كما الصخر بدأت تتهاوى أمام عيني. كرهت الثورة، فقد تسببت في العنف وإراقة الدماء، وكنت واثقة أن هذه مجرد بداية. سرعان ما فرض حظر التجول العسكري، وظهر الجنود والشاحنات العسكرية في كل الشوارع. هكذا أصبحت غريبة في عالمي.
وذات يوم اهتز منزلنا مصحوبا بصوت ضجيج مدو هزني من الأعماق، فنظرت من النافذة ورأيت دبابة تتحرك في الشارع، فانتابني الخوف الشديد. لم أكن أعلم أن الدبابات تصدر صوتا مرتفعا مخيفا كهذا، وعندما رحلت لاحظت أن عجلاتها تركت آثارا واضحة على الشارع المرصوف.
وبمرور الأسابيع ازداد الخوف ، ورحل العديد من شاغلي المناصب الحكومية أو العسكرية المهمة عن البلاد، وأخيرا أغلقت المدارس في أواخر خريف 1978. كان شتاء باردا، ونظرا للإضرابات في معامل تكرير النفط وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، حدث نقص في وقود السيارات والتدفئة، وهكذا لم نتمكن إلا من تدفئة غرفة واحدة فحسب. في محطات الوقود اصطفت الطوابير أميالا، وكان الناس يقضون الليل في سياراتهم ينتظرون دورهم في التزود بالوقود. تركت وحدي في المنزل لا شيء لدي أفعله طوال النهار سوى الارتجاف والتحديق من النافذة والشعور بالقلق. شارعنا - شارع «شاه» - الذي كان يكتظ غالبا بالزحام المروري صار مهجورا معظم الوقت، وخلت الأرصفة التي كانت فيما مضى تعج بالمارة ومرتادي المتاجر والباعة، بل ورحل المتسولون أيضا. من حين لآخر تظهر مجموعات ما بين عشرة وعشرين رجلا يشعلون النار في إطارات السيارات، ويكتبون «الموت للشاه» و«يحيا الخميني» على الحوائط مخلفين وراءهم الجو ملبدا بالدخان وممتلئا برائحة الإطارات المحترقة. امتلأ الشارع بضع مرات بالمتظاهرين الغاضبين. كان الرجال يتقدمون المسيرة والسيدات يتبعنهم مرتديات الشادور الأسود، ويلوحون جميعا بقبضات أيديهم في الهواء مرددين شعارات ضد الشاه والولايات المتحدة، وحاملين أعلاما عليها صور آية الله الخميني.
كنت أذهب أسبوعيا لزيارة أرام وأسرته. كنت أسير ملتصقة بالمباني التماسا للأمان - فالرصاصات الطائشة كانت تصيب وتقتل الكثيرين - وأقطع الشارع بأقصى سرعة ممكنة بينما أتوخى الحذر كيلا أقترب من المتظاهرين أو الجنود. وفور أن أركب الحافلة، أحاول الجلوس في مكان آمن. كان أرام شديد الخوف من نزولي الشارع؛ نادرا ما كان يخرج من منزله، وطلب مني أن أبقى في المنزل، لكني أوضحت له أن الشعور بالملل من الحبس في المنزل كفيل بأن يودي بحياتي، فطلب مني أن أتصل به على الأقل قبل أن أغادر منزلي.
سألته: «وما الفائدة من اتصالي قبل مغادرة المنزل؟» - «كي أفعل شيئا إن لم تحضري في الموعد.» - «مثل ماذا؟»
حدق إلي وعلت وجهه نظرة مرتبكة. - «سآتي وأبحث عنك.» - «أين؟»
امتلأت عيناه بالألم، وأدركت كم كنت قاسية عليه. كان قلقا علي، ولم يشأ أن يعيد التاريخ نفسه.
أمسكت بيديه وقلت: «أرام، أنا آسفة! سامحني! لست أدري ماذا حل بي، أنا غبية! سوف أتصل، أعدك بذلك.»
فعلت وجهه ابتسامة مرتبكة.
طلبت من إيرينا أن تعلمني الحياكة كي أشغلها فحسب. عندما كنت أزورهم، كنا جميعا نجلس في غرفة المعيشة نحتسي الشاي، ولأن محطات الإذاعة والتلفاز المحلية كانت خاضعة للرقابة، كنا نستمع إلى إذاعة «بي بي سي» لنتعرف على ما يحدث في بلادنا. أحيانا كنا نسمع صوت إطلاق الرصاص بعيدا، فيجعلنا الصوت المدوي نتوقف وننصت. أصاب الوهن إيرينا، وبدت والدة أرام أكثر هزالا كل مرة، أما والده الذي كان يبلغ من العمر ستة وأربعين عاما فقد بدا عليه الهرم فجأة، إذ ابيض شعره وظهرت التجاعيد واضحة على جبهته.
كنت أنا وسارة نتحدث في الهاتف يوميا، ونتبادل الزيارات أحيانا. وعلى النقيض من والدي، كان والداها يؤيدان الثورة، بل إنهما اشتركا في عدد من الاحتجاجات، لكنهما لم يصطحبا معهما سارة أو سيرس. أخبرتني سارة أن والدتها ترتدي شادورا أسود عندما تخرج في المظاهرات. كان من الصعب أن أتخيل والدة سارة وهي ترتدي شادورا، فقد كانت أكثر النساء اللواتي عرفتهن في حياتي أناقة. أخبرتني أيضا أن سيرس ينوي التسلل من المنزل ذات يوم كي ينضم إلى إحدى المظاهرات، وأنها طلبت منه أن يصطحبها معه، لكنه رفض بحجة أنها صغيرة وأن في الأمر خطورة عليها. توسلت إلى سارة ألا تذهب، وذكرتها باختفاء أراش، لكنها قالت إنه حري بالناس أن ينبذوا الخوف ويقفوا في وجه الشاه الذي استغل نفط بلادنا لتكديس المزيد من الثروات وبناء القصور وإقامة الحفلات المترفة وزيادة أرصدته في بنوك الدول الأجنبية، إضافة إلى أنه سجن وعذب من انتقدوه.
قالت سارة: «عليك أن تأتي أنت أيضا من أجل أراش. الشاه لص وقاتل، ولا بد أن نتخلص منه.»
ذات يوم اقتحم مجموعة من الناس المطعم الصغير الذي يقع أسفل منزلنا وهم يصرخون «فليسقط الشاه»، وحطموا جميع النوافذ وأخذوا كل علب الجعة والمشروبات الكحولية الأخرى التي وجدوها، ووضعوها في منتصف الطريق وأضرموا فيها النيران، فانفجرت علب الجعة، واهتزت نوافذ منزلنا إثر ذلك. كنت أعرف أصحاب المطعم جيدا؛ كانوا أسرة أرمنية تسكن بجوارنا منذ أعوام. لم يصابوا بجروح في الحادث، لكنهم شعروا بالذعر الشديد. •••
تدريجيا قل وجود رجال الجيش في الشوارع، وأكد الجميع أن السبب في ذلك هو إدراك الشاه أخيرا أن استخدام القوة المفرطة لن يؤدي إلا إلى إشعال المزيد من نيران الثورة. وذكر البعض أيضا أن العديد من الجنود بدءوا يرفضون الأوامر بإطلاق النيران على المتظاهرين. الآن، ومع أن الشاحنات العسكرية لا تزال تمر أحيانا، لم أعد أرى جنودا يصوبون بنادقهم نحو الحشود المتظاهرة.
لم يبد على والدي الاهتمام بما يحدث في البلاد، ولم يأخذا الحركة الإسلامية على محمل الجد، بل اعتقدا أنها فترة اضطراب وليست ثورة، وأن الشاه أقوى من أن يهزم على يد حفنة من الملالي ورجال الدين. وهكذا مع أن أمي كانت تؤكد علي دائما ضرورة التزام الحذر عند الخروج من المنزل، فإنها كانت تقول إن السحب المظلمة سوف تنقشع قريبا. •••
نفي الشاه من إيران في السادس عشر من يناير عام 1979. أطلق سراح السجناء السياسيين، وأقيمت الاحتفالات في جميع الشوارع. راقبت من نافذتي الناس وهم يرقصون والسيارات وهي تطلق أبواقها ابتهاجا. عاد الخميني إلى البلاد في الأول من فبراير بعد رحلته الطويلة في المنفى ما بين تركيا والعراق وفرنسا. ومع اقتراب طائرته من إيران سأله أحد الصحفيين عن شعوره تجاه العودة للديار، فأجاب أنه لا يشعر بشيء. أصابني الاشمئزاز من كلماته؛ كيف لا يشعر بشيء وقد فقد الكثيرون حياتهم ليمهدوا الطريق لعودته أملا في أن تصبح إيران بلدا أفضل؟ بدا لي وكأن ماء باردا يجري في عروقه بدلا من الدم.
فور عودة الخميني سمعت أن الجيش ما زال مخلصا للشاه. بقيت الدبابات والشاحنات العسكرية منتشرة في الشوارع، وظل مستقبل البلاد غامضا تماما مدة شهر أو نحو ذلك. تولت حكومات الطوارئ العسكرية إدارة معظم المدن، واستمر حظر التجول العسكري، بينما طلب الخميني من الناس أن يصعدوا إلى أسطح المنازل في التاسعة من كل ليلة ويصيحوا «الله أكبر» لمدة نصف ساعة متواصلة تعبيرا عن تأييدهم للثورة. لم أشترك أنا ووالداي قط في جلسات التكبير هذه، لكن معظم الناس فعلوا، حتى أولئك الذين لم يكونوا داعمين حقيقيين للثورة. ساد البلاد شعور بالتضامن، وتطلع الشعب إلى مستقبل أفضل ترفرف فيه أعلام الديمقراطية. •••
وفي العاشر من فبراير عام 1979 نزل الجيش على إرادة الشعب الإيراني، وفي الحادي عشر من فبراير أعلن الخميني عن قيام حكومة مؤقتة يرأسها مهدي بازركان.
سرعان ما انتشر الحرس الثوري المسلح وأفراد من الجماعات الإسلامية في كل مكان ينظرون في ارتياب إلى الجميع، وألقي القبض على مئات الأشخاص بتهمة انتمائهم إلى السافاك - البوليس السري التابع للشاه - وزج بهم في السجون وصودرت متعلقاتهم، وأعدم البعض بدءا من كبار المسئولين في النظام السابق الذين لم يغادروا البلاد، ونشرت صور مفزعة للجثث المغطاة بالدماء في الصحف. في تلك الأيام، تعودت ألا أرفع بصري وأنا أسير بجوار أكشاك الصحف.
لم يمر وقت طويل على اندلاع الثورة حتى أعلن تحريم الرقص وحظره، وفقد والدي وظيفته في وزارة الثقافة والفنون، ليعمل بعدها مترجما وسكرتيرا في مصنع الصلب الذي يملكه العم بارتيف. كان يعمل لساعات طويلة في اليوم ويعود إلى المنزل مرهقا حزينا، وكالعادة لم أكن أراه إلا لماما، بل أقل مما سبق. وأثناء وجوده بالمنزل كان يقرأ الجريدة ويشاهد التلفاز وعلى وجهه نظرة جادة يطالبني فيها بعدم الإزعاج، ولم نكن نتحدث إلا نادرا.
فتحت المدارس أبوابها من جديد واستأنفنا الدراسة، لكننا وجدنا مديرة المدرسة البارعة التي كانت على صلة وثيقة بوزير التعليم السابق في زمن الشاه قد رحلت، وسمعنا أنها أعدمت. لقد أثبتت تميزا في إدارة المدرسة أعواما عديدة، وشعرنا بغيابها من كل النواحي. انتشرت الشائعات عن استبدال معلمين مؤيدين للحكومة بمعظم معلمينا، وما زاد الأمر سوءا أن مديرتنا الجديدة - محمودي خانم - كانت فتاة متعصبة في التاسعة عشرة من عمرها تنتمي إلى الحرس الثوري، وترتدي الحجاب الإسلامي الكامل. لم يكن الحجاب إلزاميا حينها، لكن بدا أن القواعد على وشك أن تتغير. والحجاب هو الغطاء المناسب لجسد المرأة، وقد يتخذ أشكالا عديدة أحدها الشادور. بعد أن أصبح ارتداء الحجاب إلزاميا في المدن الكبرى وخاصة طهران، كان معظم النساء يرتدين - بدلا من الشادور - ثوبا طويلا فضفاضا يسمى العباءة، ويغطين رءوسهن بأوشحة كبيرة؛ وهو ما كان شكلا مقبولا من أشكال الحجاب لو ارتدته المرأة على نحو لائق.
ظلت حرية التعبير قائمة بضعة أشهر بعد اندلاع الثورة؛ ففي المدرسة كانت مختلف الجماعات السياسية تبيع صحفها بحرية، وأثناء الاستراحة تدور المناقشات السياسية في فناء المدرسة. لم أكن قد قابلت أي ماركسيين من قبل، ولكنهم أصبحوا الآن في كل مكان، وهناك أيضا منظمة «مجاهدي خلق». كانت كل تلك الجماعات السياسية محظورة في زمن الشاه، لكنها ظلت تعمل سرا عدة سنوات. لم أكن أعلم أي شيء عن المجاهدين، وبدا لي أن هناك الكثير لأعرفه عنهم. أخبرتني صديقة ماركسية أن المجاهدين كانوا في الأصل ماركسيين ضلوا الطريق وآمنوا بالله واعتنقوا الإسلام؛ كانوا مسلمين اشتراكيين يؤمنون بأن الإسلام بوسعه أن يقود إيران نحو العدالة الاجتماعية ويحررها من التغريب. كانوا قد نظموا صفوفهم وتسلحوا في الستينيات، وقاتلوا من أجل الإطاحة بالشاه، ولكنهم لم يكونوا أتباعا للخميني؛ فقبل أن يسطع نجم الخميني بعدة سنوات كانوا قد شنوا العديد من الاحتجاجات ضد الشاه، وتعرض أعضاؤهم - الذين كان معظمهم من طلبة الجامعة - للتعذيب والإعدام في «إيفين»، لكن كونهم جماعة إسلامية كان سببا كافيا لأقرر عدم الانضمام إليهم.
كان أرام يذهب إلى مدرسة فتيان مجاورة لمدرستي اسمها «ألبرز»، وذات ظهيرة بعد أسبوع من استئناف الدراسة كنت عائدة إلى المنزل عندما سمعته يناديني. كاد قلبي يتوقف، فقد ظننت أنه يحمل أخبارا عن شقيقه، لكنه أخبرني أنه أراد رؤيتي فحسب، وعرض علي أن يسير معي إلى المنزل، فتنفست الصعداء. بالرغم من يقيني أن أراش قد مات، فقد كنت أخشي سماع ذلك.
سألني عن أخبار مدرستي، فأخبرته أن مديرتنا الجديدة تنتمي للحرس الثوري، وأنني لم أتفاجأ عندما سمعت أنها تحمل مسدسا في جيبها.
سألني: «لست متورطة مع أي جماعة سياسية، أليس كذلك؟» منذ اختفاء شقيقه ظهرت على أرام ملامح النضج المشوب بالحزن. قبل الثورة لم يكن يفكر إلا في كرة السلة والحفلات، ولكنه الآن أصبح يقلق من كل شيء، ويسديني النصح طوال الوقت، فقال: «أبي يؤكد أنها مرحلة خطيرة، وهو يعتقد أن الحكومة تتيح للجماعات السياسية أن تقول وتفعل ما تشاء حتى يتسنى للحرس الثوري تمييز الأصدقاء من الأعداء، وعاجلا أو آجلا سوف يلقون القبض على كل من فعل شيئا ضد الحكومة.»
كانت خالتي زينيا قد اتصلت بي قبل أيام، وأخبرتني نفس الكلام، وأكدت علي ضرورة توخي الحذر، لكن كان لدي الكثير من الفضول بشأن التعرف على الأيديولوجيات المختلفة؛ فكل يوم أثناء الاستراحة كنت أحضر الاجتماعات والمناقشات التي ينظمها طلاب الصف الحادي عشر أو الثاني عشر ممن يعملون مع الجماعات السياسية المختلفة.
وفيما عدا عدم إيمان ماركس ولينين بالله، كانت أفكارهما تروق لي كثيرا، فكلاهما أراد تحقيق العدالة للجميع وبناء مجتمع تقسم فيه الثروات بالتساوي، لكن أساليبهما أثبتت خطأها على أرض الواقع. كنت أعلم جيدا ما حدث في الاتحاد السوفييتي والمجتمعات الشيوعية الأخرى، فالشيوعية لم تنجح، ومن ناحية أخرى كنت أراقب شكل المجتمع الإسلامي، وأؤمن بأن الخلط بين الدين والسياسة أمر ينطوي على خطورة، فأي شخص ينتقد الحكومة الإسلامية سيعتبر مناهضا للإسلام، ومن ثم عدوا لله. وفي الإسلام - على حد علمي - لا يستحق هؤلاء الأشخاص الحياة ما لم يغيروا طريقة تفكيرهم.
قبل الثورة - على الأقل في الفترة التي عشتها - لم تكن معتقدات الناس وإيمانهم مشكلة قط. كان لدينا في المدرسة فتيات يعتنقن أديانا مختلفة، لكن كان يتوقع منا أن ينصب اهتمامنا على الدراسة، وأن نتحلى بالأدب والاحترام والرقي بعضنا مع بعض ومع المعلمين. أما الآن فيبدو أن العالم قد انقسم إلى أربعة تيارات مائجة: الإسلام الأصولي، والشيوعية، والإسلام اليساري، والملكية، ولم أكن أتفق مع أي منها. كان الجميع تقريبا ينتمون إلى تيار ما، ولكنني لم أنتم إلى أي منها، مما خلف لي شعورا بالوحدة والضياع.
كانت جيتا آنذاك في الصف الحادي عشر، وانضمت إلى حزب شيوعي يدعى «فدائيي خلق»، أما سيرس شقيق سارة فكان عضوا في المجاهدين الذين لاقت آراؤهم وأفكارهم تأييدا لدى سارة. ***
ذات ليلة من شهر مايو عام 1979، بعد نحو ثلاثة أشهر من نجاح الثورة الإسلامية، كنت وحدي في المنزل. ذهب والداي لزيارة أحد الأصدقاء ومكثت في المنزل كي أنهي واجباتي المدرسية. ونحو الثامنة فتحت التلفاز الذي لم يكن به سوى قناتين في ذلك الوقت. ومنذ قيام الثورة قلما كان يعرض فيهما شيء يستحق المشاهدة، لكن فيلما وثائقيا استرعى انتباهي. كان الفيلم يدور عن مظاهرة ميدان «جاله» المضادة للشاه التي وقعت في الثامن من سبتمبر، ومع أنني كنت أعلم جيدا أن أراش قد توفي، فما زلت غير قادرة على اعتبار هذا اليوم يوم وفاته، بل يوم اختفائه. اقتربت من الشاشة أكثر والدموع تملأ عيني. كان الفيلم ذا جودة ضعيفة، فالمصور يجري معظم الوقت ويقوم بحركات مفاجئة، وهكذا كانت الصورة عسيرة المتابعة. صوب الجنود بنادقهم نحو الحشود وأطلقوا النيران، فأخذ الناس يفرون، ورأيت بعضهم يسقط على الأرض. ألقى الجنود بالجثث فوق شاحنة عسكرية، وللحظة ... رأيته. كانت إحدى تلك الجثث لأراش. نهضت من مكاني وأنا أشعر بالألم والفزع، لم أستطع أن أنطق، ولا أن أبكي، فدخلت غرفتي، وجلست على فراشي، وحاولت أن أفكر. أخبرت نفسي أن ذلك ربما كان محض تخيل. ماذا يمكنني أن أفعل؟ علي أن أعرف الحقيقة. رفعت سماعة الهاتف على الفور، واتصلت بأرام الذي استشعر الذعر في صوتي، ولم أدر كيف أخبره بذلك. - «مارينا، ما الأمر؟»
لم أقل شيئا. «تكلمي، هل تريدين أن آتي إلى منزلك؟»
قلت: «كلا.» - «أرجوك أخبريني ما الأمر؟» - «كانوا يبثون فيلما وثائقيا عن مظاهرة الثامن من سبتمبر، وكان الجنود يلقون الجثث فوق إحدى الشاحنات، وأظن أن إحداها كانت جثة أراش.» هأنذا قد قلتها أخيرا.
لا شيء سوى الصمت الرهيب. - «هل أنت متأكدة؟» - «كلا، وكيف يمكنني أن أتأكد؟ كانت لحظة فقط، كيف يمكننا أن نتأكد من الأمر؟»
اقترح أرام أن نذهب إلى محطة التلفاز في اليوم التالي بعد انتهاء اليوم الدراسي. أردت الذهاب صباحا، لكنه أخبرني أننا إذا تغيبنا عن المدرسة فسوف يشعر أهلنا بالقلق، وهو لا يريد أن يقول أي شيء لوالديه حتى نتأكد من صحة ما رأيت.
وفي اليوم التالي ركبنا الحافلة إلى محطة التلفاز، ولم نقل كلمة واحدة طوال الطريق. قابلنا أولا موظفة استقبال في منتصف العمر، وشرحنا لها الموقف، فتعاطفت معنا كثيرا، وأخبرتنا أنها فقدت ابن عم لها في مظاهرة الثامن من سبتمبر. وبعد إجراء بضع مكالمات هاتفية اصطحبتنا إلى رجل ملتح يجلس في حجرة مكتب صغيرة. كان يرتدي نظارة سميكة ولم ينظر إلي قط ونحن نتحدث، بل ظل يومئ باستمرار، ثم اصطحبنا إلى غرفة كبيرة مليئة بمختلف أنواع المعدات حيث أخبرنا القصة لرجل في أواخر الأربعينيات يدعى أغا رضاي الذي وعدنا بأن يحضر لنا الشريط، وبالفعل أوفى بوعده.
حدقت أنا وأرام في الشاشة حتى رأيناه، فطلبنا من أغا رضاي أن يثبت الصورة. لم يكن لدينا شك في أنه أراش. كانت عيناه مغلقتين وفمه مفتوحا قليلا، وقميصه الأبيض ملطخا بالدماء.
شعرت أن صخرة قد سحقت صدري، وتمنيت لو كنت معه لحظة وفاته عندما كان خائفا وحيدا.
لم نستطع أن نحول بصرنا عن الشاشة فترة طويلة، وأخيرا نظرت إلى أرام فرأيت في عينيه نظرة خاوية ذاهلة، كأنه يحاول مثلي إدراك الهوة القاتلة التي خلفها الموت، والسقوط الرهيب في هاوية المجهول، والانتظار المفزع لأن تصطدم بالأرض الصلبة وتتمزق أشلاء صغيرة. لمست يده، فاستدار نحوي ونظر إلي، فتعانقنا وشاركنا أغا رضاي البكاء.
قال أرام: «علي أن أتصل بوالدي. يجب أن يعرفا في الحال.»
حضر كلاهما في غضون ساعة يبدو عليهما أثر الانكسار، فبعد ثمانية أشهر من المعاناة علينا مواجهة حقيقة موته. وجها لي الشكر. توقف عقلي ولم أستطع التفكير. عرضا علي أن يصطحباني إلى المنزل لكنني رفضت. كنت أرغب في البقاء وحدي.
ركبت الحافلة وجلست في مقعد هادئ في أحد الزوايا وأخذت أصلي، وهل كان بوسعي فعل أي شيء آخر؟ سأردد السلام الملائكي للعذراء مرارا وتكرارا؛ سأردده حتى أنال كفايتي؛ حتى أتمكن من تعويضه على أني لم أكن معه في تلك اللحظة. لكن هل سيكفي هذا؟ كان الأسى الذي يجتاح نفسي يتزايد سريعا دون أن يخالجني أي شعور بالصفح. علي أن أتقبله وأدعه يزداد ويفيض ويذهب إلى أي مكان يشاء، وإلا سيدمر روحي ويحولها إلى عدم.
وعند باب منزلنا الأمامي حاولت وضع المفتاح في الباب بيد مرتجفة، ولكنني لم أتمكن من ذلك، فقرعت الجرس، لكن أحدا لم يجب. كان الهواء الساخن المثقل بالغبار يختلط بأصوات السيارات ويجثم على صدري، فأخذت نفسا عميقا وحاولت إدخال المفتاح مرة أخرى، وفي تلك المرة فتح الباب، فأغلقته خلفي واتكأت عليه. كان الجو في مدخل البيت مظلما باردا ساكنا. كنت أشعر بالإنهاك، ومشيت بخطى متثاقلة نحو السلم وبدأت أصعد، لكنني انهرت بعد بضع درجات. بقيت فترة لا أشعر بشيء سوى برودة السلم الحجري الملامس لجسدي، ثم سمعت صوتا يناديني، وتحسس شيء دافئ وجهي، فرفعت بصري ووجدت أمي تحدق إلي، ثم أخذت تهزني. - «مارينا، انهضي!»
جذبت ذراعي، وأخيرا تمكنت من الوقوف على قدمي، واتكأت عليها حتى قادتني إلى غرفتي. كانت تخاطبني، لكني لم أكن أعي حرفا مما تقول، بل كانت كلماتها كالضباب؛ كدخان يتصاعد في الهواء، ويختفي في ضوء الشمس الذي يتسلل إلى غرفتي عبر النافذة. ساعدتني كي أجلس على فراشي. كنت بحاجة لأن أفهم ما حدث، ولماذا مات أراش. حدقت في السماء الزرقاء من النافذة.
وعندما استعدت إدراكي لما حولي أخيرا، وجدت أمي تقف بجواري حاملة في يدها طبقا من طعامي المفضل: يخنة اللحم بالكرفس والأرز. حل الظلام بالخارج، وأضيء المصباح في غرفتي. ألقيت نظرة على ساعتي، فوجدتها قد تجاوزت التاسعة. مرت ساعتان وأنا جالسة على فراشي، وكأن حزني قد فصلني عن العالم، مثل مقص يقتطع شكلا بسيطا من قطعة ورق.
قلت بصوت مرتفع: «لقد مات»، ولدي أمل في أن يساعدني قولها على فهم ما حدث.
قالت أمي وهي تجلس على حافة فراشي: «من؟» - «أراش.»
أشاحت بوجهها بعيدا عني. - «قتل في مظاهرة الثامن من سبتمبر. أطلق عليه الرصاص. مات.»
تنهدت وهزت رأسها: «يا للبشاعة! أعلم أنك كنت تحبينه. الأمر عسير للغاية، لكنك ستجتازينه، وستصبحين أفضل حالا. سأعد لك كوبا من الشاي.»
غادرت أمي الغرفة. من حين لآخر كانت تمنحني لحظات خاطفة من الحنان، ولكنها لم تكن تدوم طويلا، بل كانت تتوهج كالنجوم الساقطة ثم تختفي في الظلام.
استغرقت في النوم بعد احتسائي كوبا من شاي البابونج، غير أني استيقظت في منتصف الليل وأنا أشعر بحرقة في صدري. كنت أحلم بأراش. هرعت إلى خزانتي وأخرجت تمثالي الملائكي وتسللت أسفل الفراش. انطلقت من حلقي صرخات حادة، وكلما حاولت أن أهدئ نفسي ازداد الأمر سوءا، فسحبت وسادتي من فوق الفراش وغطيت بها وجهي. كنت أتمنى أن يأتي الملاك ويخبرني لم يموت الناس؛ أردته أن يخبرني لم يأخذ الموت أحباءنا، لكنه لم يأت مع أني ناديته. •••
في السادس من سبتمبر عام 1979 توفيت إيرينا بسبب أزمة قلبية. كنت قد فقدت اثنين من أحبائي قبلها، لكني لم أحضر جنازة في حياتي قط، فكانت جنازة إيرينا هي الأولى. وفي التاسع من سبتمبر ارتديت ملابس سوداء ونظرت في المرآة، فكرهت مظهري في الثياب السوداء؛ إذ بدوت نحيفة شاحبة مكسورة. حاولت أن أبدو قوية متماسكة، فخلعت الثياب السوداء وارتديت تنورتي البنية المفضلة وقميصا كريمي اللون. لا بد أن إيرينا كانت ستفضل هذه الثياب أكثر.
وفي طريقي إلى موقف الحافلات، ذهبت إلى محل الزهور واشتريت باقة من الزهور الوردية، وفي الحافلة جلست بجوار النافذة أشاهد الشوارع. اختفت كل الألوان ومظاهر البهجة من المدينة، فالناس لا يرتدون سوى الثياب الداكنة الألوان وينظرون للأسفل وهم يسيرون في الطريق كأنهم يتجنبون النظر بعضهم إلى بعض وإلى المناظر المحيطة بهم. كادت كل الجدران تعلوها شعارات تنمي الشعور بالكراهية.
لم يكن هناك قساوسة بالكنيسة الروسية الأرثوذكسية بطهران، فأقيمت الجنازة بالكنيسة اليونانية ودفنت إيرينا في المقبرة الروسية. شعرت بالغبطة لأنني تمكنت من حضور جنازة إيرينا، فقد أصبحت أقدر قيمة الحصول على فرصة بأن أقول وداعا.
وبعد الجنازة طلبت من أرام أن يساعدني في البحث عن قبر جدتي، إذ لم أكن أعرف مكانه بالتحديد. لم يصطحبني والداي إلى جنازتها، أو لزيارة قبرها قط. أردت أن أجد القبر وأصلي لأجلها. لم تكن المقبرة كبيرة، وكانت محاطة بجدران من الطوب الإسمنتي، بينما القبور متجاورة للغاية والأعشاب تنمو في كل مكان. رأيت العديد من شواهد القبور، وبدا لي أن العثور على شاهد جدتي سيكون صعبا. تحركنا بحذر بين شواهد القبور، وكان قبرها هو الخامس أو السادس. بدا كأنها هي التي عثرت علي. كنت قد احتفظت لها بزهرة وردية.
نظرت حولي، وبدا كل شاهد قبر كأنه غلاف كتاب أغلق إلى الأبد. تنقلت بينها أقرأ الأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة. بعض الناس توفوا كبارا والبعض الآخر صغارا. كنت أرغب في التعرف عليهم كافة، فهناك العديد من القصص التي لن تروى أبدا. هل يعرف الملاك كل هؤلاء الأشخاص؟ هل استطاع مساعدتهم ومعرفة ما في قلوبهم عندما كانوا يحتضرون؟ ما آخر شيء فكروا فيه قبل أن تغادر أرواحهم أجسادهم؟ ما أكثر شيء شعروا حياله بالندم؟ هل من الممكن ألا يندم الإنسان على شيء لحظة الوفاة؟ ما أكثر شيء سأندم عليه إذا أتاني الموت في تلك اللحظة؟
بدأت عائلة أرام وأصدقاؤه في مغادرة المقبرة، ولاحظت أن والديه ينظران باتجاهنا، وأدركت أنهما يفكران في أراش. من حقهما أن يعرفا أين دفن، ومن حقه أن يدفن في قبر لائق. كنت أرغب في غرس الورود من كل الألوان حول المكان الذي يحمل جسده، وما كنت سأدع الحشائش الضارة تنمو حول قبره أبدا. ها قد مر عام كامل على وفاته؛ أربعة مواسم من الفقد والحزن. •••
وفي الأول من نوفمبر عام 1979 طلب آية الله الخميني من شعب إيران التظاهر ضد الولايات المتحدة التي أطلق عليها «الشيطان الأكبر»، وأخبرهم أن الولايات المتحدة هي المسئولة عن كل أشكال الفساد على الأرض، وأنها هي وإسرائيل أشد أعداء الإسلام، فانطلق الآلاف من الناس في الشوارع وأحاطوا بسفارة الولايات المتحدة. شاهدت التغطية الإخبارية للمظاهرات في التلفاز، وتعجبت من أين أتت تلك الجماهير الغاضبة، فلم يشارك في تلك المظاهرات أحد أعرفه. تدفقت الحشود فملأت الشوارع المحيطة بالسفارة التي تحيط بها أسوار قرميدية.
وفي الرابع من نوفمبر عام 1979 سمعنا أن مجموعة من طلاب الجامعة الذين يطلقون على أنفسهم «أتباع الإمام» قد استولوا على مبنى السفارة الرئيسي واحتجزوا اثنين وخمسين من الأمريكيين رهائن. كانوا يريدون من الولايات المتحدة أن تعيد الشاه الذي ذهب إليها للعلاج من السرطان كي يحاكم في إيران. بدا الأمر لي ولكل من تحدثت معه جنونا مطبقا، فالجميع يعلمون أن الشاه مريض للغاية. لم يكن اختطاف الرهائن منطقيا على الإطلاق، لكن لم يكن هناك أي شيء منطقي منذ قيام الثورة.
الفصل العاشر
في يوم الزيارة كانت جميع السجينات مبتهجات، ولأول مرة منذ إلقاء القبض علي أرى الفتيات يضحكن بصوت عال. نادت الأخوات على أسماء السجينات حسب الترتيب الهجائي، وغالبا ما كن ينادين خمسة عشر اسما في كل مرة. وكانت الفتيات اللاتي تنادى أسماؤهن يرتدين الشادور ويذهبن إلى المكتب. لم أكن أنا وترانه نعلم هل مسموح لوالدينا برؤيتنا أم لا، فظللنا نذرع الممر جيئة وذهابا. ألقي القبض على ترانه منذ شهرين، ولكن لم يزرها أحد بعد. كان اسم عائلتها يبدأ بحرف الباء، ومن المفترض أن ينادى عليها قبلي. - «... ترانه بهزادي ...»
قفزت كلانا من مكانها وصرخت. كانت منفعلة، حتى إنني اضطررت إلى أن أجري وأحضر لها الشادور والعصابة. اختفت خلف الأبواب المدعومة بالقضبان الحديدية، وتابعت أنا ذرع المكان جيئة وذهابا. معظم الفتيات كن يعدن من الزيارة باكيات، لكن ترانه عادت بعد نحو نصف ساعة وهي هادئة رابطة الجأش.
سألتها: «هل رأيت والديك؟» - «نعم.» - «وكيف حالهما؟» - «بخير على ما أظن. يوجد حاجز زجاجي سميك في غرفة الزيارة، ولا توجد هواتف. لا يمكنك الحديث، لكننا استخدمنا شيئا أشبه بلغة الإشارة.»
نودي اسمي أخيرا، وأمرنا في حجرة المكتب بوضع العصابات على أعيننا. اتبعت طابور الفتيات للطابق السفلي ثم للخارج، وسرنا نحو مبنى الزيارات، وقبل أن ندخل أمرنا بنزع العصابات. وقف الحرس المسلحون في كل مكان، بينما قسم حاجز زجاجي سميك الغرفة إلى نصفين، وعدد من الرجال والنساء يقفون في الجانب الآخر منه، بعضهم يبكي وأياديهم فوق الزجاج يحاولون العثور على من جاءوا لزيارتها. وسرعان ما رأيت والدي، فاندفعا نحوي وشرعا في البكاء. كانت أمي ترتدي معطفا أسود يغطي كاحلها، وتغطي رأسها بوشاح أسود كبير يصل حتى كتفيها. لا بد أنها اشترت تلك الثياب خصيصا من أجل زيارة «إيفين»، فكل ما لديها من معاطف قبل إلقاء القبض علي قصير يصل إلى ما بعد الركبة بقليل، وأغطية الرأس أصغر أيضا.
قرأت شفاه أمي وهي تقول: «هل أنت بخير؟»
أومأت وأنا أحبس دموعي.
ضمت راحتي يديها كأنها تصلي وقالت شيئا.
قطبت جبيني متسائلة: «ماذا؟» وأنا أستميت من أجل فهم كل كلمة تقولها.
قالت ببطء أكثر كي أستطيع متابعة حركة شفاهها: «الجميع يصلون من أجلك.»
انحنيت قليلا وقلت: «شكرا لكم.»
سألتني: «متى سيسمحون لك بالعودة إلى المنزل؟» لكني تظاهرت بعدم الفهم، فلم يكن بوسعي أن أخبر والدي بأنني أقضي حكما بالسجن مدى الحياة، فربما يقضي عليهما هذا الخبر. كانا مذعورين منكسرين، لكن على الأقل لديهما أمل في عودتي إلى المنزل ذات يوم. لم أدر بم أخبرهما، وكنت أرغب في أن أعانق أمي ولا أتركها أبدا.
وبعد أن حدقت فيهما دقيقة، قلت أخيرا: «سارة بخير.» - «ماذا؟»
فكتبت بأصابعي على الزجاج «سارة»، وتابعت أمي حركة أصابعي بأصابعها.
سألت: «سارة؟» - «نعم.» - «هل هي بخير؟» - «نعم.»
وهنا صاح أحد الحرس: «انتهى الوقت!»
فقالت أمي: «تشجعي يا مارينا!»
دائما يكون السجن هادئا للغاية بعد أيام الزيارة. كانت كل واحدة تجلس في مكانها وحيدة، نحاول ألا نفكر في حياتنا قبل «إيفين»، لكن الأمر كان مستحيلا، فالذكريات هي كل ما نملك. لقد فقدنا أهلنا وحياتنا وما كنا عليه في السابق. لم يكن لدينا مستقبل؛ لا شيء سوى الماضي.
في اليوم التالي للزيارة تسلمنا لفافات صغيرة تحتوي على بعض الملابس أرسلتها لنا عائلاتنا . فتحت لفافتي فوجدت بها قمصانا وسراويل وملابس داخلية جديدة وسترة صوفية. كل الملابس كانت تفوح برائحة المنزل؛ رائحة الأمل. كانت ترانه تتحسس سترة من الصوف الأحمر أخبرتني أنها سترتها المفضلة، وأنها ستجلب لها الحظ، فقد حاكتها أمها منذ سنوات عندما تعلمت الحياكة. أرادت ترانه وكل شقيقاتها الحصول عليها، وعندما قررت الأم إعطاءها لترانه شعرت شقيقاتها بالحزن، فأوضحت لهن الأم أن عليها إعطاءها لإحداهن، وأن العدل يقضي بإعطائها للشقيقة الصغرى، ووعدت كلا من شقيقاتها الثلاث بأن تحيك لها سترة شبيهة تماما، لكنها لم تف بوعدها. كانت ترانه تؤمن بأن ارتداء تلك السترة يجلب لها الحظ كلما ارتدتها، وتساءلت هل ما زالت تحتفظ بسحرها. - «ترانه، سوف نعود إلى المنزل ذات يوم.» - «أعلم ذلك.» - «سنفعل كل الأشياء التي نحبها.» - «سنذهب في نزهات طويلة سيرا على الأقدام، أليس كذلك؟» - «نعم، وسوف نذهب إلى منزلنا الصيفي.» - «سوف نذهب للتسوق.» - «سوف نطهو ونخبز ونتناول كل ما نحب!»
وضحكنا معا.
جافاني النوم في تلك الليلة. فكرت كيف استطاع علي تخفيف عقوبتي؛ ربما بإمكانه تكرار الأمر مع ترانه، وربما يستطيع مساعدة سارة أيضا، لكنه أخبرني أنه راحل، والحقيقة أني لم أكن أرغب في رؤيته مرة أخرى. كنت أخشاه، وبصورة ما كان من الأيسر لي أن أتعامل مع حامد، لأنني مع حامد أعرف ماذا أتوقع. أما مع علي، فالأمر مختلف. صحيح أنه لم يؤذني قط، غير أني كنت أشعر بخوف شديد عندما يقترب مني. تذكرت ليلة الإعدام، وحاولت ألا أفكر فيها. كان عقلي يرفض استدعاء تلك الصور المخيفة، لكني كنت أعرف أنها موجودة في ذاكرتي لم تعبث بها يد الزمان. ما زلت أذكر النظرة التي رأيتها في عيني علي عندما أخذني إلى الزنزانة؛ نظرة لهفة جعلتني أشعر وكأني محتجزة في قاع محيط متجمد. مع كل هذا لا بد أن أتحدث معه من أجل ترانه.
ذهبت إلى حجرة المكتب في الصباح وقرعت الباب. كانت الأخت مريم تجلس خلف مكتبها تقرأ. نظرت إلي بعينين متسائلتين.
سألتها: «هل يمكنني مقابلة الأخ علي ؟»
حدقت في وتساءلت: «لماذا تريدين رؤيته؟»
أوضحت لها كيف أنه أنقذ حياتي وأني أود أن أطلب منه الآن إنقاذ حياة صديقة لي.» - «ومن هي؟»
ترددت. «ترانه؟» - «نعم.» - «الأخ علي ليس هنا. إنه في الجبهة يحارب العراقيين.»
كانت إيران قد اشتبكت في حرب مع العراق منذ سبتمبر من عام 1980. - «ومتى يعود؟» - «الله أعلم! لكنه حتى لو كان هنا، فلن يستطيع عمل شيء. أنت محظوظة للغاية، فعندما تصدر محكمة إسلامية حكما بالإعدام على أي شخص، فالأمر الوحيد الذي قد ينقذ ذلك الشخص هو عفو الإمام، لكن الإمام غالبا لا يتدخل في مثل تلك الأمور، فهو يثق في المحاكم وفي قراراتها. الوحيد الذي يمكنه مساعدتها هو المحقق الذي يتولى التحقيق في قضيتها. - «وهل هناك ما يمكننا فعله من أجلها؟» - «لندع لها.» •••
حاولت ألا أفكر في السعادة وفيما كانت عليه الأمور قبل الثورة وما تلاها من بشائع، وكأن استدعاء الذكريات السعيدة سيجعلها تبهت كصور قديمة تناولتها الأيدي عدة مرات. لكن أحيانا في منتصف الليل أشم عبير أشجار الليمون البرية، وأسمع حفيف أوراقها السميكة يحركها نسيم البحر المالح، وأشعر أيضا بالأمواج الدافئة لبحر «قزوين» وهي تداعب قدمي، والرمال المبللة اللزجة تغطي أصابعي. وفي أحلامي كنت أرقد في فراشي في المنزل الصيفي أراقب البدر وهو يطلع، ثم أخطو على الأرض دون أن تصدر صريرا، وأتجول في المكان ولكنني لا أجد أحدا، وأحاول أن أنادي أراش، لكن يأبى الصوت أن يغادر حلقي.
كنت أفكر في أندريه طوال الوقت. قبل إلقاء القبض علي كان حبي له ناشئا هشا، وكنت أخشى الاستسلام لمشاعر الحب تجاهه خشية فقدانه هو الآخر، فضلا عن أني لم أكن أرغب في خيانة أراش. الآن وبعد أن واجهت الموت أدركت أني أحب أندريه، ولا أتمنى شيئا من الدنيا سوى أن أكون معه. ولكن هل يحبني هو؟ أعتقد ذلك. إنه أملي، وعلي أن أحيا من أجله، فهو الشخص الذي أرغب في العودة إليه.
وذات ليلة في منتصف شهر مارس، جاء شيدا المخاض ونقلت إلى مستشفى السجن . وفي اليوم التالي عادت ومعها طفل جميل موفور الصحة أطلقت عليه اسم كاوه؛ تيمنا باسم زوجها. اجتمعنا حولها هي والطفل، وشعرنا بالفخر لأن معنا أما في الغرفة، ومنذ تلك اللحظة ونحن نطلق عليها «الأم شيدا». سرعان ما أصبح الطفل مدللا، فقد كان محاطا بالعديد من الخالات المتحمسات للاعتناء به. خفت نظرة القلق التي تعلو وجهها، وإن كانت لم تغادرها تماما. لقد منح هذا الطفل الأمل ليس لأمه فحسب، بل لكل من حوله.
وعندما أتم كاوه أسبوعين أو ثلاثة من عمره، نقلت نحو سبعين سجينة من «246» إلى «قزل حصار»، وهو سجن يقع بمدينة «كرج» التي تبعد خمسة عشر ميلا عن طهران. ذكرت معظم الفتيات أن ظروف المعيشة في «قزل حصار» أفضل قليلا منها في «إيفين»، ولذا كانت السجينات المقرر نقلهن سعيدات للغاية، بينما كنت سعيدة لأن صديقاتي المقربات لم يرحلن. بعدها أصبحت الغرفة أقل ازدحاما، لكن الوضع لم يدم كثيرا، فكل يوم تنضم إلينا بضع فتيات، وسرعان ما ضاقت أماكن النوم أكثر من ذي قبل.
كانت الموسيقى العسكرية تنطلق مرة في الأسبوع عبر مكبرات الصوت، يصاحبها إعلان بأن الجيش قد انتصر في إحدى المعارك الكبرى، وأن قواتنا على وشك إنهاء الحرب مع العراق وتحقيق النصر فيها، لكن أحدا منا لم يكن يهتم بالحرب، ليس لأنها لم تكن تمس طهران مباشرة فحسب، بل لأن «إيفين» بدا كأنه كوكب آخر؛ عالم غريب تحكمه قوانين مبهمة يمكن بموجبها تعذيب أي شخص أو الحكم عليه بالموت دون سبب. •••
ذات مساء ونحن نتناول عشاءنا من الخبز والتمر دخلت سارة الغرفة، ودون أن تنزع الشادور أو تقول شيئا أو تنظر لأي منا، ذهبت إلى ركن من الغرفة وجلست فيه، فذهبت إليها ووضعت يدي على كتفها. - «سارة!»
لكنها لم ترفع بصرها. - «سارة، أين كنت؟ كنا قلقات عليك.»
قالت بصوت هادئ: «مات سيرس.»
حاولت أن أجد كلمات مناسبة كي أقولها، لكنني لم أجد ما يمكن قوله.
همست لي: «معي قلمان.» - «ماذا؟» - «لقد سرقتهما، ولا أحد يعلم بذلك.»
أخرجت قلما أسود من جيبها ورفعت كمها الأيسر، وأخذت تكتب على معصمها: «سيرس مات. ذهبنا إلى «قزوين» ذات صيف ولعبنا الكرة على الشاطئ. كانت هناك ألوان متعددة، ورذاذ الأمواج يتناثر ...» لاحظت وجود المزيد من الكتابة على ذراعها. كانت الكلمات صغيرة لكنها مقروءة. لقد دونت ذكرياتها عن سيرس، وعائلتها، وحياتها.
سألتني: «هل لديك أي ورق؟» - «سوف أحضر لك الورق، ولكن أين كنت؟» - «قريبا لن أجد مكانا أكتب فيه، أرجوك أن تحضري لي بعض الورق.»
أحضرت لها ورقة، لكنها لم تكن كافية، فبدأت تكتب على الحوائط. كانت تكتب نفس الأشياء مرارا وتكرارا عن المدرسة الابتدائية والثانوية التي ذهبنا إليها، والألعاب التي كنا نلعبها، والإجازات الصيفية، ومعلمينا المفضلين، ومنزلها، والحي الذي كنا نقطنه، ووالديها، وكل ما كان سيرس يحب فعله.
عندما حصلنا على الماء الدافئ أخيرا ذات ليلة رفضت سارة الاستحمام. - «سارة، لا بد أن تستحمي؛ فسواء أستحممت أم لا سوف تتلاشى الكلمات. وإذا استحممت يمكنك كتابتها مرة أخرى، أما إذا لم تستحمي فسوف تصبح رائحتك كريهة.» - «الحبر ينفد من أقلامي.» - «سأحضر لك أقلاما جديدة إذا استحممت.» - «أتعدينني بذلك؟»
لم أشأ أن أعدها ما لم أكن متأكدة من قدرتي على الوفاء بالوعد، فذهبت إلى المكتب وشرحت الأمر للأخت مريم، وأخبرتها أن سارة لا تكتب أي شيء له علاقة بالسياسة، بل تدون ذكريات عائلتها فحسب.
أعطتني الأخت مريم قلمين، فهرعت إلى سارة وكأني عثرت على أعظم كنز في العالم.
عندما خلعت سارة ثيابها في غرفة الاغتسال، لم أصدق ما رأيت؛ فساقاها وذراعاها وبطنها مغطاة تماما بكلمات مكتوبة بخط صغير. - «لم أتمكن من الكتابة على ظهري، ولن أستحم إلا إذا وعدتني أن تكتبي لي على ظهري.» - «أعدك بذلك.»
غسلت سارة الكلمات عن جسدها؛ تلك الكلمات التي كانت كتابا حيا يتنفس ويشعر ويؤلم ويخلد الذكرى. •••
وبعد نحو ثلاثة أشهر من وصولي إلى «246»، نودي اسمي عبر مكبر الصوت، فتوجهت أنظار الجميع نحوي بقلق بالغ، بينما وضعت الشال على رأسي بيد مرتجفة.
قالت ترانه وعيناها تشعان أملا: «أنا واثقة أن هناك أخبارا جيدة.»
أخذت نفسا عميقا وفتحت الباب المؤدي إلى البهو. كانت الأخت مريم تنتظرني في المكتب، واستشعرت قلقها.
سألتها: «إلى أين سأذهب؟» - «أرسل الأخ حامد في طلبك.» - «هل تعرفين السبب؟» - «كلا، ولكن لا تقلقي، لا بد أنه يرغب في الاطمئنان عليك فحسب.»
وضعت العصابة على عيني، واتبعت إحدى الأخوات نحو المبنى الآخر، ثم انتظرت في الرواق حتى ناداني حامد، فاتبعته إلى إحدى الغرف. أغلق الباب خلفنا، وطلب مني أن أخلع العصابة. لم يتغير قط، فعيناه كانتا أشبه بكهفين باردين مظلمين. رأيت في الحجرة فراشا للتعذيب في أحد الأركان، ومكتبا ومقعدين، وسوطا أسود غليظا يتدلى من ظهر الفراش، فتسارعت أنفاسي.
قال لي مبتسما: «مارينا، كم جميل أن أقابلك. اجلسي وأخبريني كيف حالك.»
كانت كلماته كلدغات النحل.
قلت وأنا أبتسم: «أنا بخير.» - «لقد هربت مني في تلك الليلة، أتذكرين؟ هل تساءلت عما حدث لمن كانوا معك؟»
تسارعت دقات قلبي حتى شعرت بأن رأسي سينفجر. - «لم أهرب. علي هو الذي أخذني معه، وأعلم جيدا ماذا حل بالآخرين. لقد قتلتهم.»
كانت هناك بقع دماء على فراش التعذيب لم أستطع أن أبعد عيني عنها. - «مع أنك لا تروقين لي، أعترف بأنك تثيرين اهتمامي. هل تمنيت من قبل لو أعدمت معهم في تلك الليلة؟» - «نعم.»
لم تفارقه الابتسامة. - «تعرفين أنك تقضين حكما بالسجن مدى الحياة، أليس كذلك؟» - «نعم.»
إن بدأ في جلدي الآن، فلن يتوقف حتى يقتلني. - «ألا يزعجك هذا؟ أعني أنك لم تقض وقتا ممتعا منذ بضعة أشهر، أليس كذلك؟ ماذا لو استمر الوضع هكذا إلى الأبد؟» - «سوف يساعدني الله في تجاوز تلك المحنة.»
وقف، وسار في الغرفة دقيقة، ثم تقدم نحوي وصفعني على خدي الأيمن بظهر يده صفعة شعرت معها بأن عنقي قد انكسر، وظلت أذني اليمنى تصفر. - «علي ليس هنا ليحميك بعد الآن.»
غطيت وجهي بيدي. «لا تتلفظي باسم الله بعد ذلك، فأنت دنسة لا تستحقين ذلك. علي أن أغسل يدي لأنني لمستك. بدأت أعتقد أن الحكم بالسجن مدى الحياة أفضل لك ، فسوف تعانين طويلا بلا أمل.»
وهنا قرع الباب، ففتحه حامد وخرج. لم أستطع التفكير بوضوح. ماذا يريد حامد مني؟
ثم دخل الغرفة رجل لم أقابله من قبل، وقال: «أهلا مارينا. أنا محمد، وقد أتيت لأعيدك إلى «246».»
نظرت إليه مشدوهة، ولم أصدق أن حامدا قد أطلق سراحي بتلك البساطة.
سألني محمد: «هل أنت بخير؟» - «بخير.» - «إذن ضعي العصابة، وهيا بنا.»
تركني في حجرة مكتب مبنى «246» حيث طلبت مني الأخت مريم أن أخلع العصابة فور أن وصلت، وكانت الأخت معصومة جالسة خلف مكتبها تقرأ.
سألتني الأخت مريم: «لماذا وجهك أحمر هكذا؟»
رفعت الأخت معصومة بصرها، وأخبرتهما بما حدث.
قالت الأخت مريم: «حمدا لله أني تمكنت من العثور على الأخ محمد، فهو والأخ علي صديقان مقربان، عملا معا في نفس المبنى. اتصلت به وأخبرته أن حامدا استدعاك، فوعدني بأن يعثر عليك ويعيدك مرة أخرى.»
وهمست الأخت معصومة: «إنك محظوظة يا مارينا، فالأخ حامد لا يحتاج سببا ليمعن في إيذاء الآخرين إن أراد.»
استدارت نحوي الأخت مريم وقالت: «كما ترين، فالأخت معصومة ليست على علاقة طيبة بالأخ حامد، لكنها تعلمت أن تلتزم الصمت. ومع أنها كانت واحدة من «أتباع الإمام» الذين احتجزوا الرهائن في السفارة الأمريكية وتعرف الإمام معرفة شخصية، فإن لديها مشاكل مع حامد. الوحيدان اللذان يمكنهما التصدي له هنا هما الأخ علي والأخ محمد.»
قالت الأخت معصومة: «لا تقلقي يا مارينا، فالآن وبعد أن علم حامد أن الأخ محمد يحميك فلن يجرؤ على التعرض لك مرة أخرى.»
فرحت جميع السجينات في الغرفة «7» بعودتي، وأردن معرفة سبب استدعائي، لكن فور أن رأين الآثار الحمراء المتورمة على خدي أدركن أن لدي أخبارا سيئة. لم يكن لدي أمل في الحصول على إطلاق سراح مشروط، ولكنني لم أكن على استعداد لليأس، فهذا ما يريده حامد. إنه يحاول أن يسحق معنوياتي، وكاد أن ينجح في ذلك.
فكرت فيما قالته لي الأخت مريم عن الأخت معصومة. من الصعب أن أتخيل أنها كانت إحدى محتجزي الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، فما زلت أذكر أخبار احتجاز الرهائن التي شاهدتها في التلفاز عندما وقعت. حينها شعرت بالقلق على الرهائن، فلديهم عائلات في بلادهم وأشخاص يحبونهم ويحتاجونهم وينتظرون عودتهم، لكن احتجازهم استمر 444 يوما، وأطلق سراحهم في العشرين من يناير عام 1981. الآن وضعي أسوأ منهم بكثير؛ فقد كانوا مواطنين أمريكيين، ما يعني أنهم ذوو شأن، وعلى الأقل فقد حاولت حكومتهم إنقاذهم، وعرف العالم بأسره بأمر الحادث المروع الذي وقع لهم. هل يعرف العالم عنا أي شيء؟ هل يحاول أحد إنقاذنا؟ في أعماقي كنت أعلم أن الإجابة عن كلا السؤالين هي «لا». •••
كنت أفكر بالكنيسة دائما. كنت أشم رائحة الشموع تشتعل أمام صورة العذراء، وأضواؤها تتراقص على أمل استجابة الدعاء. هل نسيتني؟ أذكر أن المسيح قال إنه بأقل قدر من الإيمان يمكننا إلقاء جبل في البحر، لكني لم أكن أرغب في نقل جبل من مكانه، بل أرغب في العودة إلى المنزل فحسب.
في يوم عيد ميلادي استيقظت مبكرا للغاية، قبل موعد صلاة الفجر. لقد بلغت السابعة عشرة. عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تمنيت أن أصبح في مثل هذا العمر. اعتقدت وقتها أن ذوات السابعة عشرة يمكنهم فعل أي شيء، لكنني الآن سجينة سياسية محكوم عليها بالسجن مدى الحياة. لمست ترانه كتفي، فاستدرت إليها؛ إذ كانت تنام بجواري.
همست لي: «عيد ميلاد سعيد.» - «أشكرك، ولكن كيف عرفت أني مستيقظة؟» - «من صوت أنفاسك. بعد أن تنامي بجوار أحد كل تلك المدة يمكنك أن تعرفي متى يكون نائما بالفعل ومتى يتظاهر بالنوم.»
سألتني هل تحتفل عائلتي بأعياد الميلاد، فأخبرتها أن والدي كانا يحضران لي كعكة وهدية صغيرة، لكنها أخبرتني أن أعياد الميلاد تحظى بأهمية بالغة لدى عائلتها، فقد كانوا يقيمون حفلات كبرى ويغدقون الهدايا بعضهم على بعض. كانت تتنافس هي وشقيقاتها في حياكة الثياب بعضهن لبعض، وفي كل عام تزداد الثياب أناقة.
قالت لي: «مارينا، إنني أفتقدهم.»
فطوقتها بذراعي، وقلت لها: «سوف تعودين إلى المنزل، وسوف يعود كل شيء كما كان.»
وبعد الغداء أحاطت بي ترانه وسارة وبعض صديقاتنا الأخريات، وأعطتني سارة قطعة مطوية من القماش. فتحتها فوجدت غطاء وسادة مطرزا، شهقت لرؤيته إذ كان جميلا. تبرعت كل واحدة من صديقاتي بقطعة صغيرة من ملابسهن أو أغطية رءوسهن لصنعه. تعرفت على كل مربع فيه. كان من عادتنا في السجن أن نصنع حقائب صغيرة مخيطة تعلق في خطاف تحت الرف بالغرفة كي نخزن فيها متعلقاتنا الشخصية الصغيرة، وكنت أنا أول من تحصل على غطاء وسادة.
وبعد العشاء أعددنا كعكة عيد الميلاد من الخبز والتمر، وتظاهرت بإطفاء شموع وهمية.
قالت ترانه: «نسيت الأمنية!» - «سأتمناها الآن: أتمنى أن تحتفل كل منا بعيد ميلادها القادم في منزلها.»
صفق الجميع وهللن.
بعد يومين أو ثلاثة أعلن في مكبر الصوت أن على كل سجينات الطابق الثاني من مبنى «246» ارتداء الحجاب والتجمع في الساحة. ومع أننا كنا نستطيع الخروج في أوقات محددة من اليوم، فإن ذلك لم يكن إجباريا قط، وهو ما جعل الجميع يشعرن بالقلق. عندما وصلنا إلى الساحة أمرنا بالوقوف بعيدا عن منطقة محددة في المنتصف. خرج أربعة من الحرس الثوري من المبنى يرافقون فتاتين، إحداهما كانت رفيقتنا في الغرفة في التاسعة عشرة من عمرها، أما الأخرى فمن الغرفة رقم «5»، وكلاهما ترتدي الشادور. طلب منهما الاستلقاء على الأرض في منتصف الساحة، وقيد أحد الحرس أيديهما وأقدامهما بالحبال، ثم أعلن أنهما مارستا الشذوذ، ولذلك ستعاقبان طبقا للشريعة الإسلامية. شعر الجميع بالذعر، وشاهدنا اثنين من الحرس يجلدان ظهر الفتاتين. لم تستطع الكثيرات منا رؤية هذا المشهد، فغطين وجوههن بأيديهن وأخذن يدعين، لكني لم أغمض عيني، بل ظللت أشاهد السياط وهي ترتفع وتشق الهواء بصوتها الحاد الثاقب، ثم تأتي لحظة من الصمت يتوقف فيها قلب المرء وترفض الرئتان التنفس. لم تكن الفتاتان تصرخان، غير أني وددت لو صرختا. كان جسداهما الضئيلان يهتزان مع كل ضربة سوط. تذكرت الألم الرهيب الذي شعرت به عندما تعرضت للجلد بالسياط. وبعد ثلاثين ضربة سوط، حل وثاقهما واقتيدتا بعيدا بعد أن تمكنتا من الوقوف، وتركنا نحن لنفكر فيما حدث لرفيقتينا. من المفترض أن تزيدنا المعاناة قوة، لكن علينا أن ندفع الثمن أولا.
ذات يوم جاء دوري كي أساعد شيدا في غسل ملابسها، ولم يكن غسل الحفاضات القماشية بالماء البارد مهمة يسيرة. غسلنا الحفاضات في الصباح وتركناها معلقة لتجف في الساحة، ومع أنه كان على الجميع الانتظار حتى اليوم التالي كي يجمعن الغسيل الجاف، كانت شيدا الوحيدة المسموح لها بالخروج في المساء. تقدمتني ببضع خطوات، وكان الجو ربيعيا والطيور تغرد من بعيد، والشمس غربت لتوها، واصطبغت السماء باللون الوردي. كانت حبال الغسيل الخمسة في نهاية الساحة، وكل منها مربوط في قضبان نوافذ الطابق الأول، وتمتد من جهة إلى أخرى في الساحة، وكانت مغطاة بملابس متعددة الألوان. اختفت شيدا خلف صفوف الملابس، واتبعتها محاولة شق طريقي بذراعي بين السراويل والتنانير والقمصان والشادورات، وفجأة سمعتها تصرخ. - «مارينا! أسرعي، أحضري مقصا! أسرعي! الآن!»
لمحت شيدا تحمل شخصا يتدلى من بين قضبان إحدى النوافذ، فجريت إلى حجرة المكتب وقرعت الباب بقوة، ففتحت الأخت مريم. - «مقص! الآن! في الساحة!»
تناولت مقصا من مكتبها، وهرعنا إلى المكان الذي تركت فيه شيدا، فوجدناها ما زالت تحمل الفتاة التي اتضح أنها سارة. لقد شنقت نفسها بحبل قصير مصنوع من أغطية الرأس. كان الحبل معقودا فوق القضيب الأفقي العلوي لإحدى نوافذ الطابق الأول. ولو كانت سارة - القصيرة ضئيلة الجسم - أطول قليلا، لما استطاعت فعل ذلك. كان جسدها يرتجف، فقطعت الأخت مريم الحبل. كانت تتنفس، لكن وجهها تحول إلى اللون الأزرق. بقينا معها وذهبت الأخت مريم كي تحضر الممرضة. كانت فاقدة الوعي، فأخذنا نتحدث إليها ونلمس وجهها، ولكنها لم تبد أي رد فعل.
وهكذا أخذت سارة بعيدا مرة أخرى. •••
كنت أفقد بعض الأمل مع كل لحظة تمر. كنا في فصل الربيع، والنسيم العليل ينشر عبير الأزهار، والحياة مستمرة خارج أسوار «إيفين». هل لم أعد سوى ذكرى لأندريه؟ ربما نسيني. وضعوا لنا هواتف في منطقة الزيارة، وسألت والدي عنه، فأخبرتني أمي بأنه يزورهما دائما ويفكر في طوال الوقت، ولكن ربما يقولان ذلك كي لا أشعر بالحزن.
بدا كل يوم كسابقه، مما جعل الوحدة والإحباط اللذين نشعر بهما أشق من أن يحتملا؛ فكل يوم يبدأ بصلاة الفجر قبل شروق الشمس، والإفطار يبدأ في الثامنة صباحا، ثم نشاهد البرامج الدينية التعليمية في التلفاز، ويسمح لنا بقراءة الكتب التي تتحدث كلها عن الإسلام، أو السير جيئة وذهابا عبر الممرات الضيقة. لم نكن نتحدث في السياسة أو أنشطتنا السياسية قبل «إيفين» إلا لماما، فقد كانت بعض الفتيات يقمن بدور المخبرات مع أن عددهن لم يكن كبيرا؛ واحدة أو اثنتان فحسب في كل غرفة، وهكذا لم نكن نخاطر بقول أي شيء لا نرغب في أن يعرفه من يتولون التحقيق معنا.
ولمدة ساعة يوميا يسمح لنا بالخروج في الساحة الصغيرة المحيطة بالمبنى. كان يتعين علينا ارتداء الحجاب عند الخروج، لأن الحرس من الرجال منتشرون فوق الأسطح طوال الوقت يراقبوننا، ولكن لم يكن علينا ارتداء الشادور في الساحة، بل مسموح لنا بارتداء العباءات وأغطية الرأس. وأثناء وجودنا بالخارج لا يسمح لنا إلا بالسير في دوائر أو الجلوس بجوار الحوائط ومشاهدة السماء فوقنا. كانت تلك الرقعة الزرقاء الصغيرة هي الجزء الوحيد الذي يمكننا رؤيته من العالم الخارجي، وكانت تذكرنا بالمكان الآخر الذي عشنا فيه ذات يوم حيث بيوتنا والأماكن التي كنا ننتمي إليها. كنت غالبا أجلس مع ترانه بجوار الحائط متكئتين على سطحه الخشن نراقب السحب وهي تختفي عن ناظرينا وتذهب إلى أرض أخرى، كنا نتخيل أننا نجلس فوق سحابة نستطيع توجيهها في أي اتجاه، وتخبر إحدانا الأخرى عن الأماكن المألوفة التي يمكن رؤيتها من هناك؛ شوارع الأحياء التي كنا نسكن فيها، ومدارسنا، ومنازلنا حيث تنظر أمي وأمها من النوافذ تتساءل كل واحدة عن مصير ابنتها التي أخذت بعيدا عنها.
ذات يوم وبينما يغمرنا دفء شمس الربيع وتراودنا أحلام اليقظة عن البيت، سألتني ترانه: «كيف تورطت وانتهى بك الأمر هنا؟» لم نتحدث قط عن الأحداث التي أدت إلى إلقاء القبض علينا. كانت الساحة مليئة بالفتيات اللواتي يسير معظمهن بسرعة كأنهن يقصدن وجهة معينة، والمعاطف السوداء والزرقاء والبنية والرمادية يحتك بعضها ببعض، والخفاف البلاستيكية تتحرك بسرعة على الأرض المرصوفة. أدركت أن المشهد الذي أراه وأنا جالسة هناك مشابه للمشهد الذي يراه أحد المتسولين الجالسين في شارع مزدحم، ولكن المشهد الذي أراه أكثر محدودية وتواضعا عما يراه المتسول. في تلك اللحظة لم يكن عالمي إلا مبنى مربعا بلا سقف، به مستويان من النوافذ المدعومة بالقضبان الحديدية التي تطل على غرف مظلمة؛ عالم من الفتيات يسرن في دوائر. كان أشبه بقصة خيال علمي غريبة للغاية. قلت وأنا أضحك: «كوكب السجينات.»
سألت ترانه: «ماذا؟» - «يبدو لي الأمر وكأننا متسولات نجلس على الرصيف في كوكب آخر.»
ابتسمت ترانه، وقالت: «المتسول ملك إذا ما قورن بنا.» - «بدأت مشاكلي في اليوم الذي انسحبت فيه من درس التفاضل ...»
الفصل الحادي عشر
في مطلع عام 1980 أصبح أبو الحسن بني صدر أول رئيس منتخب للجمهورية في إيران. وقد شارك قبل نجاح الثورة في تحركات مناهضة للشاه عدة سنوات وسجن مرتين، ثم تمكن من الفرار إلى فرنسا والانضمام لآية الله الخميني. كانت الآمال تراودنا في أن يقود ذلك الرجل إيران نحو الديمقراطية، لكن أثناء العام الدراسي 1979 / 1980 شعرت كأني أغرق في الظلام، فكل شيء أخذ يتغير للأسوأ تدريجيا، وحلت الفتيات المتعصبات قليلات الخبرة محل معظم معلماتنا واحدة تلو الأخرى، وأصبح ارتداء الحجاب إجباريا، وأصبح حتميا على النساء إما ارتداء أثواب طويلة داكنة اللون وتغطية رءوسهن بأوشحة كبيرة أو ارتداء الشادور، وحظرت الجماعات السياسية التي تعارض الحكومة الإسلامية أو حتى تنتقدها، وأعلن أن ارتداء ربطات العنق واستخدام العطور ومساحيق التجميل وطلاء الأظافر «رجس من عمل الشيطان»، ومن ثم تعرض صاحبها للعقاب الشديد. وقبل دخول الفصول كل يوم يجبر الطلبة على الانتظام في صفوف والهتاف بشعارات مفعمة بالكراهية؛ مثل «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل».
كل صباح تقف محمودي خانم مديرة المدرسة ونائبتها كرخة خانم في مدخل المدرسة حاملتين دلوا من الماء وقطعة قماش، حيث تتفحصان وجوه كل الفتيات أثناء دخولهن المدرسة، فإن وجدتا فتاة تضع مساحيق التجميل فركتا وجهها حتى يؤلمها. وذات صباح أثناء التفتيش جذبت محمودي خانم إحدى صديقاتي وتدعى نسيم، واتهمتها بأنها نمصت حاجبيها لأنهما متساويان أكثر من اللازم، فبكت نسيم وأكدت أنها لم تمس حاجبيها قط، ولكن المديرة اتهمتها بالفجور. كانت نسيم جميلة بطبعها، ودافعت عنها الكثيرات منا وشهدن أن تلك هي طبيعتها، لكنها لم تتلق اعتذارا قط على ما حدث.
ويوما بعد يوم أخذ الغضب والإحباط يتزايدان بداخلي. كنت أعاني أثناء معظم الدروس، وخاصة درس التفاضل؛ فمعلمة التفاضل الجديدة فتاة من الحرس الثوري لم تكن مؤهلة لتدريس المادة، بل كانت تقضي معظم الوقت في الدعاية للحكومة الإسلامية والحديث عن الإسلام والمجتمع الإسلامي المثالي الذي يقاوم التأثيرات الغربية والفساد الأخلاقي. وذات يوم بينما كانت تسترسل في الحديث عن الأمور العظيمة التي فعلها الخميني من أجل البلاد، رفعت يدي.
سألتني: «ماذا هناك؟» - «لا أقصد الإساءة، آنسة، ولكن هل يمكننا من فضلك العودة إلى موضوعنا الرئيسي؟»
رفعت حاجبها وقالت بنبرة تحد: «إن لم يعجبك ما أقول، يمكنك مغادرة الفصل.»
نظر الجميع نحوي، فجمعت كتبي وغادرت الفصل، وبينما كنت أسير في الممر سمعت صوت وقع خطوات كثيرة من خلفي. استدرت فوجدت معظم زميلاتي في الفصل قد تبعنني، وأصبحنا نحو ثلاثين فتاة في الممر.
وبحلول استراحة الغداء عمت الفوضى المدرسة، وذكر الجميع أني أشعلت شرارة الإضراب. ألغيت معظم الدروس المسائية لأن نحو 90٪ من الطالبات ظللن في الفناء ورفضن العودة إلى الفصول، فخرجت محمودي خانم حاملة مكبر صوت وطلبت منا العودة إلى الفصول، لكن لم يستجب أحد، فأخبرتنا أنها ستتصل بأولياء أمورنا، لكننا لم نتحرك، وعندما هددتنا بالطرد، أخبرناها أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء. وأخيرا اختارتني الطالبات ومعي اثنتان أخريان كي نتحدث مع المديرة نيابة عنهن، فأخبرناها أننا لن نعود إلى الفصول ما لم تعدنا المعلمات بالالتزام بمناهج التدريس وتنحية السياسة جانبا.
عندما عدت إلى المنزل في ذلك اليوم نادتني أمي، وهو ما كان غريبا، فنادرا ما كانت تتحدث معي قبل وقت الطعام . كانت في المطبخ تفرم بعض البقدونس.
وقفت عند الباب وأجبتها: «نعم يا أمي.» - «لقد اتصلت مديرة مدرستك اليوم.»
لم تكن تنظر إلي، بل ظلت تنظر إلى لوح التقطيع. تحركت السكين بمهارة ودقة، وغطى البقدونس المفروم يدها كاسيا إياها باللون الأخضر.
سألتني وهي ترمقني بنظرة سريعة حادة كالسكين: «ماذا تظنين أنك فاعلة؟»
فأخبرتها بما حدث. - «من الأفضل لك أن تعالجي تلك المشكلة، فلا أريدها أن تتصل بي مرة أخرى. تعايشي معهم فحسب، فتلك الحكومة لن تدوم طويلا، والآن اذهبي لأداء واجباتك المدرسية.»
ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب خلفي. لا أصدق أني أفلت من غضبها بتلك السهولة. ربما كانت أمي تكره الحكومة الجديدة مثلما أكرهها، ولذلك لم تبد رد فعل عنيفا كما توقعت.
استمر الإضراب يومين، وظللنا نذهب إلى المدرسة دون أن ندخل الفصول، بل كنا نقضي الساعات نجوب الفناء سيرا أو نجلس في مجموعات صغيرة، وتدور معظم مناقشاتنا عما شهدناه في الشهور الأخيرة. لم نكن نصدق أن الحياة تغيرت تغيرا جذريا هكذا، فمنذ عام واحد فقط لم نكن نتخيل أن ملابسنا ستعرض حياتنا للخطر، أو أننا سنضرب عند الدراسة كي نتعلم التفاضل. وفي ثالث أيام الإضراب استدعت محمودي خانم المندوبات عن الطالبات إلى مكتبها.
كان وجهها محتقنا من الغضب، وأخبرتنا أنها توجه لنا إنذارا أخيرا، وأننا إن لم نعد إلى الفصول فلن يصبح لديها خيار سوى الاتصال بالحرس الثوري واستدعائهم إلى المدرسة كي يتولوا الأمر، وأنها على يقين من أننا نعلم أن الحرس لن يصبروا علينا، وأن ذلك الأمر خطير وقد يعرض البعض للأذى، وحذرتنا من أننا نعادي الحكومة الإسلامية، وأن عقوبة ذلك هي الإعدام، وأعطتنا مهلة مدتها ساعة كي نعود إلى الفصول.
لقد قالت ما لديها؛ الحرس الثوري سيئو السمعة، وخلال الأشهر الماضية ألقوا القبض على مئات الأشخاص الذين انقطعت أخبار العديد منهم، والذين تنوعت جرائمهم ما بين مناهضة الثورة أو مناهضة الإسلام أو مناهضة الخميني.
وهكذا انتهى الإضراب.
لم يكن الحرس الثوري الوحيدين الذين يثيرون القلاقل، فهناك أيضا «حزب الله»، وهم مجموعات من المدنيين المتعصبين مسلحين بالسكاكين والهراوات يهاجمون أي نوع من الاحتجاجات الشعبية. كانوا ينتشرون في كل مكان ويمكن حشدهم في غضون دقائق. كانوا أكثر عنفا مع النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب كما ينبغي، وقد تعرضت العديد من النساء للاعتداء والضرب لأنهن يضعن أحمر شفاه، أو لأن بضع خصلات من شعرهن تظهر من تحت غطاء الرأس.
بعد نحو شهر أو اثنين من الإضراب طلبت مني معلمة الكيمياء باهمان خانم الانتظار بعد انتهاء الدرس، وأخبرتني أنها رأت قائمة تضم بعض الأسماء، ومن بينها اسمي، على مكتب محمودي خانم. كانت باهمان خانم إحدى المعلمات القلائل اللاتي كن يدرسن لنا من قبل قيام الثورة واستمررن في المدرسة، وتعرفني جيدا. وبينما كانت تتحدث ظلت عيناها تراقبان الباب كي تتأكد أن أحدا لن يدخل فجأة. كانت تحدثني همسا، واضطررت أن أنحني كي أسمعها جيدا.
كنت أتوقع حدوث شيء كهذا. أدركت أني سأواجه المشاكل بعد كل ما قلت وفعلت، فبغضي للقواعد الإسلامية الجديدة لم يكن سرا، ووقتها لم يكن بوسع أحد الحديث بحرية دون أن ينال عقابه. وبالرغم من علمي بكل ذلك، فقد بدت الأخطار التي تتهددني بعيدة مبهمة. كنت أظن أن الأمور السيئة تحدث للآخرين فحسب.
شكرت باهمان خانم على إخباري بأمر القائمة، فأخبرتني بضرورة مغادرتي البلاد، وسألتني هل لي أي قريب في الخارج، فأوضحت لها أن أسرتي ليست ثرية ولا يمكنهم إرسالي إلى أي مكان، فقاطعتني وهي ترفع صوتها والدموع تلمع في عينيها. - «مارينا، أظن أنك لا تفهمينني جيدا. إنها مسألة حياة أو موت، ولو كنت مكان والدتك لحاولت إبعادك عن هنا حتى وإن اقتضى الأمر أن أموت جوعا.»
كنت أحبها ولم أكن أرغب في إثارة قلقها، فأخبرتها أني سأتحدث مع والدي في هذا الشأن، لكنني لم أكن أنوي ذلك. ماذا أقول لهم؟ أأخبرهم أنه سيلقى القبض علي قريبا؟
كان شقيقي وزوجته قد غادرا البلاد عقب قيام الثورة، وهاجرا إلى كندا بعد أن أدركا أن لا مستقبل أمامها في ظل الجمهورية الإسلامية ، وبعد رحيلهما بفترة وجيزة منعت الحكومة الإيرانية مواطنيها من الهجرة إلى الدول الأخرى. أحببت اسم «كندا»، فهي تبدو بلادا بعيدة قارسة البرودة ولكنها هادئة، وشقيقي وزوجته محظوظان لوجودهما هناك، فبإمكانهما أن يحييا حياة طبيعية، وألا يقلقا إلا بشأن الأمور العادية. فكر والداي في إرسالي إلى شقيقي كي أقيم معه، ولكن هذا الأمر لم يفلح، فكان علي أن أبقى وأحتمل المخاطرة.
وفي ذلك المساء وأنا في المنزل ظللت أراقب الطريق من شرفتي. لم يجلب النظام الجديد شيئا سوى الدمار والعنف، وتحولت المدرسة التي كانت فيما مضى أفضل شيء في حياتي إلى قطعة من الجحيم. كنت قد سمعت أن الحكومة تخطط لإغلاق كل الجامعات وإعادة هيكلتها فيما أطلقت عليه اسم «الثورة الثقافية الإسلامية»، كل هذا وقد مات أراش ولم يبق لي شيء. •••
كان معظم صيف عام 1980 هادئا، وسررت لأني سأبتعد عن المدرسة فترة وسأذهب إلى المنزل الصيفي. وفي شهر يوليو، كان أرام ووالداه يقضيان أسبوعين في المنزل الصيفي الذي تمتلكه عمته. كنت وحيدة أتطلع إلى مجيئهم، لكن عندما جاءوا وجدت نفسي أفكر في أراش وأفتقده أكثر من ذي قبل. كنت أنا وأرام نقضي معظم وقتنا بالمنزل نلعب الورق أو نمارس لعبته المفضلة «ماسترمايند»، وأحيانا نتنزه سيرا على الشاطئ، لكن لم يكن بوسعنا السباحة معا، لأن الفتيات أصبحن ممنوعات من ارتداء ملابس السباحة علنا. كان معظم أصدقائنا الذين تملك عائلاتهم منازل صيفية في المنطقة - بما فيهم نيدا - قد غادروا البلاد. قابلنا بعض الأصدقاء القدامى، لكننا كنا جميعا نخشى الحرس الثوري وأعضاء الجماعات الإسلامية الذين ينتشرون في كل مكان ويكرهون مرأى الفتية والفتيات معا، فطبقا للقوانين الجديدة التي تحكم البلاد كان هذا الأمر غير أخلاقي. •••
بدأت الحرب بين إيران والعراق في سبتمبر من عام 1980، وكنت قد عدت إلى المدينة. ذهبت في ذلك اليوم إلى منزل إحدى صديقاتي، وكنا نجلس في المطبخ نتناول الشاي وكعك الأرز بينما تريني حذاءها الرياضي الجديد الذي كان أبيض اللون بأشرطة حمراء على الجانبين. فجأة قطع حديثنا صوت دوي هائل تكرر مرتين، ويبدو كالانفجار. كنا في المنزل وحدنا.
ثم توالت المزيد من الانفجارات.
نظرنا من النافذة، ولكننا لم نتمكن من رؤية أي شيء. كانت صديقتي تقطن الطابق الأخير من بناية ذات خمسة طوابق تقع بالقرب من ميدان «جاله»، فقررنا الخروج سريعا إلى السطح، وفي الممر اصطدمنا ببعض الجيران الذين كانوا في طريقهم إلى هناك أيضا، وما إن بلغنا السطح حتى تمكنا من رؤية المدينة جيدا. كان اليوم صحوا مشمسا، وطبقة رقيقة من الضباب تغلف طهران، ثم سمعنا صوت الطائرات.
وهنا صرخ أحدهم: «انظروا هناك!»
على بعد بضعة أميال جنوبا كانت طائرتان نفاثتان مقاتلتان تحلقان باتجاه الشرق، وفي الأفق غربا تتصاعد أعمدة من الدخان في السماء. أحضر أحد الجيران مذياعا وفتحه، وسرعان ما أعلن مذيع منفعل أن طائرات ميج العراقية قد قصفت مطار طهران، وأن فرقا عسكرية من الجيش العراقي عبرت الحدود ودخلت إيران؛ لقد دخلت إيران الحرب.
قرأت عن الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الأهلية الأمريكية، وعن القنابل التي دمرت المدن ولم تخلف سوى الحطام والجثث، لكن تلك الحروب كانت في الكتب، حتى وإن كانت تلك القصص حقيقية فقد مر على حدوثها سنوات عديدة، أما الآن فقد اختلف العالم، ولن يسمح لأحد بتدمير المدن وقتل الآلاف من الأشخاص.
لوح صاحب المذياع بقبضته في الهواء وقال: «سوف نلقنهم درسا، سوف نستولي على بغداد ونرجم صدام بالحجارة. هؤلاء الأوغاد!»
أومأ الجميع.
عندما عدت إلى المنزل وجدت أمي تلصق أشرطة لاصقة على شكل علامة
X
كبيرة على النوافذ كي تحمي الزجاج من الانكسار في حالة حدوث قصف، وأوضحت لي أن الإذاعة تحث الناس على اتخاذ احتياطاتهم، وأنهم وعدوا ألا تستغرق تلك الحرب أكثر من بضعة أيام أو أسابيع بحد أقصى، وأن جيشنا سوف يهزم العراقيين في لمح البصر. اشترت أمي أيضا قطعا من الورق المقوى الأسود كي تغطي النوافذ ليلا بحيث لا ترى طائرات الميج أضواء منزلنا وتتخذنا هدفا. لكنني لم أشعر بالقلق الشديد، فلم يبد الأمر خطيرا إلى تلك الدرجة.
مرت الأيام، وإنذارات الغارات الجوية تنطلق مرتين يوميا، غير أنه نادرا ما كنا نسمع صوت انفجارات. كانت محطات الإذاعة والتلفاز تبث الموسيقى العسكرية طوال اليوم وتعلن أن قواتنا الجوية قد هاجمت بغداد وبعض المدن العراقية الأخرى، وأننا تمكنا من صد هجمات العراقيين، وبدأت حملة تشجيع لكل الرجال - صغارا وكبارا بل ومراهقين أيضا - على الانضمام للجيش والاستشهاد، فقد أعلنت الحكومة أن نيل الشهادة هو السبيل الأكيد للفوز بالجنة. كانت حربا للخير ضد الشر. أبيدت مدينة «خرمشهر» التي تقع بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية عن آخرها ثم اجتاحها العراقيون.
سرعان ما أغلقت كل الحدود، ولم يعد مسموحا لأي شخص بمغادرة البلاد دون تصريح خاص، ولكن هناك من كانوا يدفعون أموالا طائلة للمهربين كل يوم كي يغادروا إيران من أجل تجنب الخدمة العسكرية أو الهرب من الاعتقال على يد الحرس الثوري، وكانوا يخاطرون بحياتهم كي يعبروا الحدود إلى باكستان أو تركيا.
وفي أواخر الخريف سمعت من أصدقائي في المدرسة عن مظاهرة احتجاجية فقررت الانضمام إليها. ومع أنني أعلم خطورة ذلك الأمر فقد بدا لي أنه عين الصواب. كانت المظاهرة ستبدأ في الرابعة عصرا في ميدان «فردوسي» الذي يبعد مسيرة عشر دقائق عن المدرسة.
يوم المظاهرة وبعد انتهاء اليوم الدراسي خرجت أنا وجيتا وسارة من المدرسة فرأينا المئات من الأشخاص معظمهم من الفتية والفتيات صغار السن يملئون الشوارع. انضممنا إلى الحشد الذي ينطلق نحو ميدان «فردوسي». كان الجميع متنبهين ينظرون حولهم ويعرفون أن الحرس الثوري أو حزب الله أو كليهما معا سيهاجموننا في نهاية الأمر، وتسارعت نبضات قلبي. تحول الشارع إلى نهر ثائر يتدفق بالحياة، ولاحظت أن أصحاب المتاجر يغلقون متاجرهم ويرحلون. وفي ميدان «فردوسي» حملت فتاة مكبر صوت في يدها، وتحدثت إلى الحشد عن الهجمات العنيفة التي يشنها حزب الله على النساء متسائلة: «إلى متى سنسمح للمجرمين والقتلة بالاختباء تحت ستار الدين من أجل الهجوم على أمهاتنا وأخواتنا وصديقاتنا والإفلات بجرائمهم؟» وقفت بجوارنا عجوز تحمل في يدها لافتة من الورق المقوى أبيض اللون وقد ربطت الشادور الأبيض الذي ترتديه حول خصرها تاركة شعرها الأشيب الخفيف مكشوفا، واللافتة تحمل في منتصفها صورة فتاة على وجهها ابتسامة عريضة كتب تحتها: «أعدمت في إيفين».
وفجأة امتلأ الشارع بضجة صاخبة كدوي الرعد، وأخذ الناس يفرون.
صرخ أحدهم: «فوق أسطح المنازل!»
نظرت للأعلى فرأيت الحرس الثوري في كل مكان. سقط شاب كان يقف بجوارنا على الأرض متأوها واضعا يديه على بطنه، بينما تدفق خط أحمر رفيع من بين أصابعه فسال على الرصيف. حدقت إليه ولم أستطع التحرك. كان الناس يصرخون ويركضون في اتجاهات مختلفة والدخان يملأ الجو، وشعرت بآلام حارقة في عيني. انعزلت عن صديقاتي، ولم يكن بوسعي ترك الرجل المصاب هكذا، فانحنيت بجواره، ونظرت في عينيه، ورأيت سكون الموت. لقد مات أراش مثله وحيدا غريبا. لا بد أن هناك من يحب هذا الرجل وينتظر عودته.
عندها سمعت صوتا مألوفا: «مارينا!»
أمسكت جيتا بيدي وجذبتني معها. كان الهواء مشبعا بالغاز المسيل للدموع، ورجال ملتحون يرتدون ثيابا مدنية يلوحون بهراوات خشبية في الهواء يهاجمون بها الحشود الفارة، والناس يصرخون، ونحن نجري وسط هذا المشهد الجنوني.
عندما عدت إلى المنزل دخلت الحمام وأوصدت الباب خلفي، وتمنيت لو قتلت أثناء إطلاق النار. لم أكن أرغب في الحياة، وما جدوى كل هذا العذاب؟ ذهبت إلى غرفة والدي وفتحت درج الأدوية الذي كان يحفل بأشكال وأحجام مختلفة من الزجاجات والعلب، من أدوية السعال إلى مضادات الحموضة والأسبرين وأنواع مختلفة من مسكنات الآلام. تفحصتها كلها فوجدت زجاجة شبه ممتلئة من الحبوب المنومة، أسرعت بها مرة أخرى إلى الحمام. الموت في زجاجة. كل ما أحتاج إليه هو رفع الغطاء وابتلاع الحبوب، وسوف يأتي الملاك، وسوف أخبره أني شاهدت الكثيرين يموتون. ملأت كأسا بالماء وفتحت غطاء الزجاجة، لكن في أعماقي كنت أعلم أني أرتكب خطأ. ماذا لو قرر كل من يؤمن بالخير الانتحار من كثرة ما يلاقي في هذا العالم من معاناة؟ أغمضت عيني ورأيت عيني الملاك. تمنيت أن تفخر بي جدتي وأراش وإيرينا، وأن أفعل شيئا في حياتي ؛ شيئا صالحا ذا قيمة. لقد رأيت حياة شاب تسكب داخل دائرة من الدماء على الرصيف. لا يمكنني الاختباء؛ الموت ليس مكانا للاختباء. أغلقت الزجاجة وأعدتها إلى خزانة الأدوية. ربما يوجد ما أستطيع القيام به. هرعت إلى المتجر، وأحضرت لافتة من الورق الأبيض المقوى، وكتبت عن هجوم الحرس الثوري على المظاهرة السلمية.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة مبكرا عن العادة فوجدت الممرات خالية، وثبت اللافتة بشريط لاصق على أحد الجدران، ووقفت أمامها أتظاهر بقراءتها. بعد نحو نصف ساعة تجمعت الطالبات، وسرعان ما تجمع حشد كبير يحاول قراءة القصة، ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى ظهرت محمودي خانم التي اقتحمت الممر بخطوات سريعة غاضبة ووجهها أحمر من شدة الغضب.
صاحت: «تنحوا جانبا!»
أطعنا الأمر. قرأت بضعة أسطر ثم سألت عمن كتب هذا، وعندما لم يجبها أحد مزقت اللافتة وهي تصيح: «إنها أكاذيب!»
اعترضت: «ليست أكاذيب، لقد كنت هناك.» - «إذن أنت التي كتبتها.»
أخبرتها كيف أطلق الحرس الثوري النار على الأبرياء.
قالت وهي تشير بإصبعها نحوي: «أي أبرياء؟ وحدهم أعداء الثورة وأعداء الله والإسلام هم من يشتركون في تلك المظاهرات، وأنت أصبحت في مشكلة كبيرة.» ثم استدارت وغادرت المكان، فثارت ثائرتي. كيف تجرؤ على نعتي بالكذب!
بعد بضعة أيام اشتركت أنا ومجموعة من صديقاتي في إصدار صحيفة مدرسية صغيرة، وكل أسبوع نكتب بضع مقالات قصيرة عن القضايا السياسية اليومية التي تهمنا وننسخها بخط يدنا ونوزعها في المدرسة.
أغلقت الحكومة بعض الصحف المستقلة متهمة العاملين بها بالعداء للثورة الإسلامية، وشعرت كأن البلاد بأكملها تغرق تدريجيا، فالتنفس يصبح أكثر صعوبة كل يوم عن سابقه، ولكننا ظللنا متفائلين ومؤمنين بأنهم لا يستطيعون إغراق الجميع.
منذ بدء الحرب مع العراق والنظام الإسلامي يحملها مسئولية كل المشاكل، فقد تضاعفت الأسعار وقننت حصص اللحوم ومنتجات الألبان وأغذية الأطفال وزيت الطعام. كانت أمي غالبا تذهب إلى المتجر في الخامسة صباحا كي تنتظر دورها في الحصول على حصتنا من الغذاء وتعود في الظهيرة. كل السلع كانت موجودة في السوق السوداء ، لكن بأسعار باهظة لا تقوى عليها الأسر محدودة الدخل ومن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، بينما كانت الحصص التي توزع ضئيلة للغاية.
وفي طهران بدت الحرب بعيدة عنا، فلم نعد نسمع صوت صافرات الإنذار إلا نادرا. حتى وإن سمعناها فلم يكن يتبعها شيء. أما المدن القريبة من الحدود الإيرانية العراقية فقد دفعت الثمن غاليا، وكانت الخسائر تتصاعد، وكل يوم تعرض الصحف صور العشرات من جثث الشباب الذين قتلوا في الجبهة، وبذلت الحكومة قصارى جهدها كي تستغل عواطف الناس لحثهم على الأخذ بالثأر، وفي المساجد أخذ الملالي يصيحون عبر مكبرات الصوت معلنين أن الحرب لا تحمي إيران فحسب، بل إنها تحمي الإسلام أيضا، فلم يكن صدام مسلما بحق ولكنه من أتباع الشيطان.
شيئا فشيئا أصبحت كل الأشياء التي أحبها في قائمة المحظورات، حيث أعلن أن الروايات الغربية التي كانت ملاذي وسلوتي «رجس من عمل الشيطان»، وأصبح العثور عليها عسيرا، ثم أخبرتني محمودي خانم في أوائل ربيع عام 1981 أني أحتاج إلى الحصول على درجات إضافية في مادة التربية الدينية. كانت الأقليات الدينية معفاة من حضور دروس الدين الإسلامي أو الزرادشتي، ولكن الآن علي إما أن أحضر دروسا في الدين الإسلامي أو أن أحضر شهادة من الكنيسة أقدمها للمدرسة. ومع أنني حضرت دروسا في الدين الإسلامي في المدرسة طواعية من قبل فقد أصبحت أرفض ذلك الآن. لقد حصلت على ما يكفي من التعليم الإسلامي، وبدا الحصول على شهادة من الكنيسة فكرة مناسبة وعملية، ولكنها لم تكن كذلك في حالتي؛ إذ لم يكن هناك قساوسة بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية بطهران منذ وقت طويل. اتصلت أمي بإحدى صديقاتها اللاتي يذهبن للكنيسة بانتظام، فأرشدتني إلى كنيسة كاثوليكية. ومع أن تلك الكنيسة على بعد شارعين من منزلنا، فلم ألاحظ وجودها من قبل، لأنه من دون النوافذ الزجاجية الملونة التي تطل على الطريق، بدت الكنيسة كئيبة كالمكاتب الحكومية والسفارات الأجنبية المحيطة بها. وهناك عرض علي القساوسة المساعدة في دراستي وتقييم جهودي.
أخذت أذهب إلى الكنيسة مرة أسبوعيا لحضور دروس العقيدة ؛ كان علي قرع الجرس أمام الباب المعدني الذي يصل بين الساحة الخلفية للكنيسة والشارع وأنتظر حتى يسمح لي بالدخول، ثم أغلق الباب خلفي وأسير عبر ممر ضيق يقع بين الكنيسة والحوائط القرميدية التي تحيط بالساحة. كانت الأرض مغطاة بالأسفلت، وحجرة مكتب الكنيسة ومحل إقامة القساوسة يقعان في مبنى منفصل مجاور للكنيسة. كان القسيس يستقبلني بحفاوة شديدة، ثم نشرع في قراءة الإنجيل ومناقشته، وبعد انتهاء الدرس أفتح الباب الخشبي الثقيل الذي يصل بين الساحة ومبنى الكنيسة، والذي كان دائما يصدر صريرا يتردد صداه بين الجدران الشاهقة. كنت أحب الجلوس على أحد مقاعد الكنيسة والنظر إلى صورة العذراء بثوبها الوردي الطويل وغطاء رأسها الأزرق وابتسامتها الهادئة التي تعلو وجهها، بينما الشموع تتلألأ أمامها. لقد عرفت العذراء معنى الخسارة، وذاقت طعم الألم. هنا كنت أشعر أني في بيتي.
الفصل الثاني عشر
في وقت مبكر من مساء الأول من مايو عام 1982، استدعيت ترانه وخمس فتيات أخريات إلى حجرة المكتب عبر مكبر الصوت، فخيم شبح الصمت على السجن. الكل يعلم أن الفتيات الخمس الأخريات محكوم عليهن بالإعدام، بينما أنا الوحيدة التي تعلم بأمر ترانه. كانت ترانه تجلس كعادتها في أحد الأركان تقرأ القرآن، وهي الوحيدة التي استدعيت في غرفتنا، فتجمد الجميع في أماكنهن وحدقن إليها، ولكنها وقفت كأنها ذاهبة لتتجول في المكان قليلا. اتجهت نحوها، لكنها نظرت إلي وهزت رأسها، ثم أمسكت حقيبتها الصغيرة المعلقة في الخطاف وحقيبتها الكبيرة الموضوعة أعلى الرف، واتجهت نحوي وأعطتني إياهما. - «تعرفين أني لا أملك الكثير من الأغراض، فهذا كل شيء. أرجوك أن تجدي طريقة مناسبة لإيصال تلك الأغراض لوالدي.»
أومأت برأسي، فارتدت الشادور وخرجت من الغرفة. كنت أعلم أن صديقتي ذاهبة لتلقى حتفها، وإن صرخت حتى بح صوتي أو ضربت رأسي بالحائط حتى كسرته فلن ينقذها ذلك. وقفت في منتصف الغرفة حاملة حقائب ترانه في يدي فترة طويلة حتى خذلتني ساقي. لم تنطق إحدانا كلمة طوال اليوم، بل التزمنا الصمت وكأن بوسعه إنقاذ حياة أو تحقيق معجزة. انتظرنا، وصلينا ، وبكينا سرا، وتحركت شفاهنا دون أن يصدر عنها صوت، لكن انتهى اليوم، وامتلأ الأفق باللونين الأحمر والقرمزي، ثم تسلل الليل. أنصتنا كي نسمع صوت إطلاق النار، وسرعان ما سمعناه كأن سحبا زجاجية تتساقط من السماء.
الفصل الثالث عشر
بعد نحو أربعة أشهر ونصف من إلقاء القبض علي نودي اسمي في مكبر الصوت. - «مارينا مرادي بخت، ارتدي الحجاب وتعالي إلى المكتب.»
لم أدر سبب الاستدعاء؛ ربما افتقدني حامد مرة أخرى. غطيت شعري بالشال وذهبت إلى المكتب.
استقبلتني الأخت مريم بابتسامة وقالت: «لقد عاد الأخ علي، وسأل عنك.»
وضعت العصابة وتبعتها إلى مبنى آخر حيث انتظرت في الممر. شعرت بأن أنفاسي تقف كالحجارة في حلقي.
سمعت صوت علي: «مارينا، اتبعيني!» فتبعته. أغلق الباب خلفنا وطلب مني أن أجلس وأخلع العصابة. بدا لي أطول قليلا مما أتذكر؛ ربما لأنه فقد بعض الوزن.
نظرت حولي؛ كنا في غرفة بلا نوافذ، وبلا فراش للتعذيب، وعلى أحد الحوائط صورة آية الله الخميني؛ ذلك الرجل الذي أخبرني علي بأنه أعطى الأمر بإنقاذ حياتي؛ حاجباه الداكنان معقودان، يقطب جبينه وعيناه تحدقان في بغضب شديد. بدا لي عجوزا وضيعا. وبجوار صورة الخميني صورة أخرى للرئيس آية الله خامنئي الذي كانت ملامح وجهه تشي بالطيبة مقارنة بالإمام.
أحضر علي مقعدا من خلف مكتب معدني وهو يعرج، وأخذ يتفحص وجهي بعينيه. كدت أنسى شكله. كان مصابا بندبة حديثة على خده الأيمن. - «تبدين أفضل كثيرا من آخر مرة رأيتك فيها. كيف حالك؟» - «بخير. وأنت؟» - «هل هذا السؤال من باب الأدب أم أنك تودين أن تعرفي أخباري حقا؟»
قلت: «بل أود أن أعرف.» دون أن أعني ذلك. كل ما أردت هو الخروج من تلك الغرفة، والعودة إلى «246».
أخبرني أنه قضى أربعة أشهر في الجبهة يقاتل العراقيين، لكنه عاد بعدما أصيب في ساقه بطلق ناري. قلت إنني آسفة لسماع ذلك، وهو ما كنت أعنيه حقا. لم أتمن له أو لغيره الأذى قط.
تفحصني باهتمام، واتخذت ابتسامته طابعا جديا. - «مارينا، علي أن أتحدث معك في أمر مهم. أريدك أن تنصتي لي جيدا وألا تقاطعيني حتى أنتهي من كلامي.»
أومأت وقد اعترتني الحيرة. قال إن السبب الأساسي الذي دعاه لمغادرة «إيفين» هو رغبته في الابتعاد عني. كان يظن أن عدم رؤيتي سيغير من مشاعره تجاهي، لكن ذلك لم يحدث. أخبرني أيضا أن مشاعره تحركت نحوي منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها، وأنه حاول أن يتجاهل تلك المشاعر، لكن ذلك لم يزدها إلا قوة. وفي تلك الليلة التي اقتادني فيها إلى الحمام شعر أن عليه إنقاذي بأي ثمن، وهو ما جعله يشعر بالخوف الشديد. وعندما لم أخرج من الحمام ناداني لكنني لم أجب، فدخل كي يرى ماذا حدث فوجدني ملقاة على الأرض. وللحظة ظن أنني مت، ولكنه عندما تحسس نبضي أدرك أنني ما زلت على قيد الحياة. علم أن اسمي مدرج في قوائم الإعدام، وأن حامدا يكرهني. حاول التفاوض مع حامد، لكنه لم يستمع إليه. السبيل الوحيد كي ينقذ حياتي هو الذهاب إلى آية الله الخميني صديق والده المقرب منذ سنوات، وبالفعل ذهب إليه وتوسل إليه كي يعفو عني، موضحا له أني فتاة قليلة الخبرة أحتاج فرصة كي تتغير أفكاري. أخبره آية الله بأن التهم الموجهة لي خطيرة بما يكفي لأن تضعني على قائمة المحكوم عليهم بالإعدام، لكنه ظل يتوسل إليه، وفي النهاية وافق آية الله على تخفيف الحكم الصادر ضدي إلى السجن مدى الحياة، فهرع علي إلى «إيفين» وسأل الحرس عن مكاني، فأخبروه بأن حامدا اقتادني لتنفيذ حكم الإعدام، فدعا الله وأسرع إلى مكان تنفيذ الحكم.
شعرت بموجة من الذعر تجتاحني.
قال إنه بعد الحديث مع آية الله قرر أن يرسلني إلى «246» مرة أخرى ويرحل بعيدا. فما دمت قد حصلت على عفو الإمام، لن يستطيع حامد أن يؤذيني. حاول أن ينساني، لكنه وجد نفسه يفكر في طوال الوقت، وسر عندما أصيب بطلق ناري، لأنه وجد سببا كي يعود. كان والده يخبره دائما أن يؤجل اتخاذ القرارات المهمة في حياته حتى اليوم التالي ويفكر فيها جيدا، وقال إنه أجل قرار الزواج بي وظل يفكر فيه أكثر من أربعة أشهر، وفي نهاية الأمر اتخذ قراره.
قال: «أريد الزواج منك يا مارينا، وأعدك أن أكون زوجا صالحا وأن أعتني بك. لا تجيبي الآن. أريدك أن تفكري جيدا.»
حاولت أن أفهم ما سمعته، لكنني لم أستطع، فالكلام خلا من كل منطق. كيف يمكنه أن يفكر في الزواج بي؟ لا أود الزواج منه، بل لا أرغب في البقاء معه في نفس الغرفة.
قلت بصوت مرتعش: «عليك أن تفهم يا علي أنني لا أستطيع أن أتزوجك.» - «ولم لا؟» - «لأسباب عديدة.» - «أنا على استعداد لسماعها، ولا تنسي أنني فكرت في ذلك الأمر شهورا طويلة، ولكن من يدري، فربما نسيت شيئا. هيا أخبريني بكل الأسباب التي تمنعك.» - «أنا لا أحبك، ولست لك.» - «لا أتوقع منك أن تحبيني، فالحب سيأتي مع الوقت، بعد أن تمنحيني الفرصة. تقولين إنك لست لي، لمن أنت إذن؟ لأندريه؟»
تسارعت أنفاسي. كيف علم بأمر أندريه؟
أخبرني أني كنت نائمة ذات مرة وسمعني أتلفظ باسم أندريه أثناء نومي، فأجرى بعض البحث وعرف من يكون أندريه وأين يسكن. ومع أن أندريه لم يكن له ملف سياسي، فبوسع علي أن يعد له واحدا إذا اضطر إلى ذلك.
مع أني أعلم أني أتحدث أثناء نومي أحيانا، فلم أستطع أن أصدق ما قاله. ربما كان يراقبني قبل إلقاء القبض علي وهكذا علم بأمر أندريه. رباه! لقد تسببت في توريط أندريه في هذا الأمر. ماذا عساي أن أفعل؟
سألني علي: «هل تريدين رؤيته هنا؟ ربما تودين رؤيته على فراش التعذيب. دعيه يواصل حياته، وعليك أن تتقبلي حقيقة أن حياتك قد تغيرت تماما بعد القبض عليك. ولا تنسي والديك أيضا، فأنا على يقين أنك لا ترغبين في تعريضهما للخطر. لماذا تجعلينهما يدفعان الثمن؟ أعدك أنك ستنعمين بالسعادة معي، وستتعلمين كيف تحبينني.»
أخبرته بأنه لا يملك الحق في ذلك، ولكنه أجابني بأنه يملك هذا الحق، وأني ربما أكون قد نسيت أنه أنقذني من الموت المحقق. بوصفي عدوة للإسلام لم أكن أملك أي حقوق. كان يظن أنه يسدي لي معروفا، وأنني لا أدرك مصلحتي جيدا.
حاولت يائسة البحث عن مهرب. يبدو أن موتي سيحل مشاكل كثيرة.
انتزعني صوته من أفكاري: «أنا أعرفك جيدا، وأعرف فيم تفكرين الآن؛ تفكرين في الانتحار. يمكنني أن أرى ذلك في عينيك، لكنني أعلم أيضا أنك لن تفعلي ذلك، فلست ممن يستسلمون، فهذا ليس من شيمك. أنت مقاتلة بطبيعتك مثلي. تحرري من أسر الماضي، وسوف نحيا حياة رائعة معا. وعليك أن تعرفي أنك لو آذيت نفسك عن عمد، فسوف أعدم أندريه. سوف يدفع الثمن بدلا منك.»
كيف يمكنني أن أحيا حياة «رائعة» معه وهو يهددني بإعدام أندريه والقبض على والدي؟ - «سأمهلك ثلاثة أيام حتى تفكري، ولكن تذكري ألا ترتكبي أي حماقة، فأنا جاد بشأن كل كلمة قلتها.»
لقد عرضت أندريه ووالدي للخطر، وعلي أن أفعل كل ما بوسعي لحمايتهم، وعلي أن أتذكر أيضا أنني أقضي حكما بالسجن مدى الحياة، وليس لي من مهرب. كدت أتمنى لو أني لم أقابل أندريه قط.
الفصل الرابع عشر
قابلت أندريه أول مرة حضرت فيها قداس الأحد في كنيستي الكاثوليكية الجديدة. في ذلك اليوم وبعد انتهاء الصلاة ذهبت إلى حجرة المكتب الصغيرة كي أتحدث مع القساوسة، وفي أثناء انتظاري دخل أندريه عازف الأرغن. ومع أني كنت أجلس في مؤخرة الكنيسة أثناء القداس، فقد لاحظت أنه شديد الوسامة. والآن أدركت أني أنظر إلى النسخة المحتشمة من تمثال «داود» للفنان مايكل أنجلو. كان وجهه بيضويا وأنفه طويلا، وخصلات من الشعر الذهبي تغطي جبهته العريضة، وعيناه صافيتان كبحر «قزوين» في يوم صحو. كان جميلا؛ ولما كست حمرة الخجل وجهي أطرقت برأسي على أمل ألا يكون وجهي فاضحا لأفكاري كما أخشى. عرف كل منا نفسه للآخر.
كان المترددون على الكنيسة عددا صغيرا من الناس، وهكذا يسترعي أي وافد جديد الكثير من الانتباه والفضول. سألني هل أنا طالبة بالجامعة، فأجبته أني ما زلت بالصف العاشر، فتورد وجهه خجلا. أخبرته عن جذوري الروسية، وأخبرني أنه يدرس الهندسة الكهربائية في جامعة طهران، ولكن منذ أن أغلقت الجامعات من أجل «الثورة الثقافية الإسلامية» بدأ يعمل معلما للغة الإنجليزية والطبيعة والرياضيات في مدرسة أرمنية.
وبينما نتحدث إذ شعرت بموجة من الابتهاج تجتاحني، كان متزنا معسول اللسان، وأخبرته أني أستمتع بموسيقاه، فقال إنه مبتدئ. عندما استولت الحكومة بعد قيام الثورة على مدرسة الفتيان التابعة للكنيسة، نفي العديد من القساوسة الذين كانوا يديرون المدرسة بتهمة التجسس. كان أندريه يذهب لتلك المدرسة منذ اثني عشر عاما، وكان أحد القساوسة الذين ينتظرون الترحيل يشغل منصب عازف الأرغن التابع للكنيسة منذ فترة طويلة، فأعطى أندريه الذي لم يمارس العزف على أي آلة موسيقية من قبل بضعة دروس، وفور أن رحل تولى أندريه منصبه.
قال أندريه: «يجب أن تنضمي إلى الجوقة، فنحن نبحث عن أعضاء جدد الآن.»
أخبرته أني لا أستطيع الغناء. - «ولم لا تحاولين؟ فالأمر ممتع. تدريبنا القادم في السادسة مساء يوم الأربعاء. ألديك ما تنوين القيام به تلك الليلة؟» - «كلا.» - «حسنا، أراك مساء الأربعاء إذن.»
وقف، وصافحني.
ما إن انصرف حتى تمكنت من التقاط أنفاسي. •••
ظل أرام يرافقني سيرا على الأقدام إلى المنزل مرة في الأسبوع على الأقل، وكان في الصف الثاني عشر، أي في عامه الأخير بالمدرسة الثانوية.
أخبرني ذات مساء يوم ربيعي دافئ صحو أنهم يعتزمون الرحيل عن إيران خلال بضعة أشهر وينوون الذهاب إلى الولايات المتحدة. كنت أدرك أن هذا اليوم آت لا محالة. نحن أصدقاء منذ أكثر من عامين، ولا أود أن أخسره، لكني أدركت أن الأفضل له أن يرحل ويبدأ حياة جديدة بعيدا عن الذكريات المؤلمة التي تشاركناها.
أخبرته أنني سعيدة من أجله، فتوقف عن السير ونظر لي بعينين دامعتين، وقال إنه يتمنى لو أمكنني الذهاب معه لأنه يخاف علي، فقد ألقي القبض على العديد من زملائه في المدرسة وزج بهم في سجن «إيفين»، وقد سمع أن أحدا لا يخرج من هناك حيا. أخبرته أنه متشكك أكثر مما ينبغي، لكنه أكد لي أن الأمر لا علاقة له بالشك .
ألححت عليه: «أرام، لا داعي للقلق.» - «كان أراش يردد نفس الكلام ... انتظري ثانية؛ خطرت لي فكرة، لكن كلا، لا يمكن ... ولكن من ناحية أخرى ...»
توقف أرام في منتصف رصيف ضيق أمام متجر للمنتجات الغذائية، حيث الصناديق والسلال الملأى بالخضر والفواكه تسد جزءا من الرصيف، والرائحة القوية للبقدونس الطازج والشبت والكراث والريحان تملأ هواء تلك الظهيرة الحار.
فجأة سألني والدموع تكاد تسيل من عينيه: «أنت لا تفكرين في الانتحار، أليس كذلك؟»
أخبرته أني لا أملك أدنى نية للانتحار.
كانت هناك امرأة ممتلئة الجسم تحاول أن تتجاوزنا كي تدخل المتجر، ويبدو أنها سئمت من انتظار انتهاء حديثنا، فقالت بلهجة يائسة: «بعد إذنكما.» وكادت تدفعنا بصندوق كبير من البصل. عندما استعاد أرام توازنه نظر إلي، فابتعدت عن الطريق وطمأنته مرة أخرى أنني سأكون بخير. وعندما واصلنا السير مددت يدي كي أمسك يده، لكنه جذبها بعيدا، وقال وهو يتلفت حوله وقد احتقن وجهه: «ماذا تفعلين؟ سوف يقبض علينا!»
قلت وأنا أغالب دموعي: «أنا ... أنا آسفة، إنني حمقاء، لم أفكر في ذلك.» - «آسف يا مارينا، لم أقصد إزعاجك، لكن كيف أسامح نفسي لو تعرضت للجلد لأنك أمسكت يدي؟» - «آسفة.» - «أترين؟ هذا سبب آخر يدفعك لمغادرة البلاد، فإمساك الأيدي ليس جريمة، وإن أخبرت أي شخص يعيش في دولة طبيعية بذلك، فسيعتقد أنها مزحة سخيفة.»
بعد بضع دقائق تذكرت أنني أود سؤاله هل يعرف أي شخص يستطيع الترجمة من الروسية إلى الفارسية، وأوضحت له أن جدتي دونت قصة حياتها وأنها أعطتني إياها قبل وفاتها، وأني بحاجة إلى من يترجمها إلى الفارسية. سألني لم لم أعهد إلى والدي بتلك المهمة، فأخبرته بأن جدتي ائتمنتني على تلك القصة، وربما لم تكن تود أن تصل إلى أيديهما، وأني أرغب في أن يساعدني في ذلك الأمر شخص لا يعرفني. أخبرني أن إيرينا لديها صديقة غريبة الأطوار قليلا، ولكنها تعرف لغات عديدة وتتحدث الفارسية والروسية بطلاقة، ووعدني أن يتصل بها.
كدنا نكون في منتصف الطريق إلى المنزل عندما لاحظت أن عاصفة على وشك الهبوب، فقد غطت السحب السماء. كان غريبا أن يتبدل حال يوم مشمس جميل هكذا خلال بضع دقائق. سمعنا أول قصف للرعد، ثم بدأت الأمطار تهطل. كنا بعيدين عن المنزل، ولا يوجد مكان نحتمي به من المطر. أخذت الأمطار تتساقط ببطء في بادئ الأمر، واستطعت أن أرى كل قطرة من المطر وهي تسقط على الأرض. ربما كان بوسعنا بلوغ المنزل قبل أن تشتد العاصفة، ولكن كلا، فات الأوان. انطلق هزيم الرعد مدويا وامتزجت قطرات المطر الرائعة معا، وهبت رياح قوية أحنت الأشجار وحولت المطر إلى موجة عاتية من المياه. اضطررنا إلى التوقف، وتلاشت ملامح الشارع المألوف لنا، واختفت الألوان الدافئة. لم نستطع العثور على طريقنا، فوقفنا مرتبكين ندرك أنه لا بد من مواجهة العاصفة. كان لا بد من أن نغلق أعيننا، ونقنع أنفسنا أنها ليست سوى لحظة عابرة.
في اليوم التالي اتصل بي أرام، وأخبرني أنه تحدث مع صديقة لإيرينا تدعى آنا، وأنها وافقت على لقائي. وبعد يومين اصطحبني أرام إلى منزل آنا الذي يقع في شارع هادئ متفرع من طريق «تخت الطاووس». قرعنا الجرس، فنبح كلب من خلف الباب الذي يصل الساحة الأمامية بالشارع، وسمعنا صوت سيدة تقول بالفارسية: «من بالباب؟» عندما أجبنا، فتحت آنا الباب؛ امرأة نحيفة طويلة في السبعينيات من عمرها، شعرها أسود كثيف يصل حتى كتفيها، وعيناها رماديتان واسعتان، ترتدي قميصا حريريا أبيض اللون وسروالا من الجينز الأزرق. حيتنا بالروسية، بينما تبعها كلبها الألماني. كان منزلها الصغير المكون من طابقين مليئا بالنباتات الاستوائية من كل الأحجام، حتى إننا اضطررنا لدفع الأوراق بعيدا عن طريقنا كي نتمكن من اتباعها نحو غرفة المعيشة حيث وجدنا ببغاء زاهي الألوان، وزوجا من الكناري يغني في قفص، وقطة سوداء أخذت تتمسح في ساقي. كان الجو يعبق برائحة التربة الندية، وكل حائط في الغرفة مغطى بخزانة مملوءة بالكتب.
سألتني آنا وهي تجلس: «أين النص؟» فأعطيتها إياه. أخذت تتصفح الأوراق، ثم تابعت: «سوف أحتاج بضع ساعات لترجمة هذه الأوراق.»
ثم وقفت وأرشدتنا إلى الباب وهي تقول: «كانت إيرينا تحبك كثيرا يا مارينا. يمكنك العودة مساء غد في الرابعة والنصف.»
في اليوم التالي فتحت لنا آنا الباب فور أن قرعنا الجرس، وأعطتني مذكرات جدتي وترجمتها.
قالت وهي تغلق الباب خلفها: «ها هي يا عزيزتي. لقد كانت جدتك امرأة حزينة ولكنها قوية.»
قال أرام وهو ينفجر ضحكا: «قلت لك إنها غريبة الأطوار إلى حد ما.»
قرأت الترجمة فور عودتي إلى المنزل. كانت تقع في نحو أربعين صفحة، ومكتوبة بخط أنيق، وخالية من الأخطاء اللغوية. لو لم أكن أعلم مسبقا أن الفارسية ليست لغتها الأولى في الكتابة، لما تخيلت ذلك مطلقا.
في سن الثامنة عشرة أحبت جدتي - زينا موراتوفا - فتى وسيما في الثالثة والعشرين من عمره يدعى أندريه، كان شيوعيا ذا شعر أشقر وعينين زرقاوين واسعتين. توسلت إليه زينا ألا يخرج في المظاهرات والاحتجاجات ضد القيصر، ولكنه لم ينصت إليها. لقد أراد أن يرى روسيا أعظم مما هي عليه وأن يختفي الفقر. كتبت زينا أن أفكاره كانت جميلة ولكنها مستحيلة، وكان ساذجا. بدأت الذهاب معه في المظاهرات كي تحميه، وأثناء إحدى المظاهرات أمر الجنود المتظاهرين بالرحيل، ولكن أحدا لم يستمع إليهم، ففتح الجنود النار عليهم.
كتبت زينا:
أخذ الناس يفرون، واستدرت فوجدته ممددا على الأرض ينزف، فضممته بين ذراعي حتى مات. أشفق الجنود علي، وتركوني أحمله إلى أمه، فسحبت جثته عبر شوارع موسكو، وتطوع بعض الشباب كي يساعدوني، وحملوه نيابة عني. سرت خلفهم أشاهد دماءه تتقطر على الأرض. جافاني النوم الهادئ بعد ذلك اليوم، وما زلت أستيقظ لأجد دماءه على فراشي.
قابلت زينا زوجها المستقبلي - جدي عيسى - بعدها ببضعة أشهر. كان شابا طيبا يعمل صائغا، ولم تدر متى أو كيف وقعت في حبه، وسرعان ما عرض عليها الزواج ووافقت، وبالفعل تزوجا وأنجبا طفلة أطلقت عليها اسم تامارا. بعدها بقليل أجبرا على مغادرة روسيا والمجيء إلى إيران. كان الأمر شاقا على زينا لأنها كانت حبلى في طفلها الثاني؛ أبي. عندما وصلوا إيران ذهبوا أولا إلى مدينة «مشهد » حيث ولد أبي، ثم انتقلوا إلى مدينة «رشت» حيث كان لعيسى بعض الأقارب. لم تدم إقامتهم في «رشت»، وانتقلوا إلى طهران التي كانت تختلف تماما عن موسكو، وهو ما جعل زينا تشعر بالحنين إلى الوطن. كانت تفتقد أهلها وأصدقاءها، لكنها لم تهتم بذلك كثيرا لأنها كانت تنعم بالسعادة مع عيسى، ولكن سعادتها لم تدم طويلا، فقد غادر عيسى المنزل ذات صباح ولم يعد؛ قتله بعض اللصوص طمعا في المجوهرات التي كان ينوي بيعها كي يشتري منزلا.
بعدها أصبحت حياة زينا صعبة، وشعرت بالوحدة والحنين للعودة إلى روسيا، لكنها كانت قد فقدت كل شيء، حيث دمر منزلها ونمط حياتها بفعل ثورة متعطشة للدماء. لم تجد مكانا تأوي إليه، وراودها شعور بأنها ستظل غريبة إلى الأبد.
أنشأت زينا نزلا، وعملت فيه باجتهاد. مرت الأعوام وكبر أبناؤها، فتزوجت تامارا رجلا روسيا وعادت معه إلى روسيا، ثم قابلت زينا بيتر، وهو مجري كان يقيم في النزل الذي تمتلكه، فساعدها وظل برفقتها. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عرض عليها الزواج ووافقت، ولكنهما لم يحظيا بالفرصة قط، فقد انقسمت الدول في الحرب واتخذت المجر جانب هتلر، وأصبح كل المجريين الذين يعيشون في إيران أسرى حرب، وأرسلوا إلى معتقلات خاصة بالهند، وتوفي بيتر هناك إثر إصابته بمرض معد.
سالت دموعي عندما انتهيت من قراءة الترجمة، وأدركت كم كانت جدتي حزينة بائسة وحيدة. لقد دمرت الثورات حياتي وحياتها، وكلا الثورتين الشيوعية والإسلامية أسفرتا عن نظام دكتاتوري مريع. بدت حياتي كأنها نسخة مشوهة من حياتها. كل ما تمنيت أن يكون مستقبلي أفضل. وعلي أن أتذكر أنها كافحت من أجل البقاء، وهو ما سأفعله أيضا. •••
وفي مساء الأربعاء التالي ذهبت لتدريب الجوقة، فابتسم لي أندريه من موقعه أمام الأرغن، بينما وقفت بجوار سيدة ذات صوت ساحر. وبعد انتهاء التدريب تقدم أندريه نحوي، وكان يرتدي سروالا من الجينز الأزرق وقميصا عاديا، فتمنيت لو أني ارتديت ثيابا أكثر أناقة؛ فمع أن الحجاب أصبح إلزاميا وعدم ارتدائه قد يسفر عن الجلد والسجن، كان باستطاعة النساء ارتداء ما يشأن من ملابس تحت الحجاب؛ فعند ذهابي إلى الكنيسة أو لزيارة الأصدقاء أو الأقارب، كنت أخلع الحجاب لدى وصولي.
قال أندريه: «صوتك جميل.»
أجبت ضاحكة: «كلا، كنت واقفة بجوار السيدة مسعودي، وهذا الصوت الجميل لها.»
سألته عن جذوره، فأخبرني أن والديه مجريان، لكنه هو وشقيقته ولدا في طهران. شقيقته في الحادية والعشرين من عمرها، وانتقلت منذ قريب إلى «بودابست» كي تلتحق بالجامعة، أما هو ففي الثانية والعشرين من عمره.
صدفة غريبة أن يكون مجريا، لكن عندما فكرت في الأمر قليلا أدركت أنه ليس غريبا إلى ذلك الحد، فالمسيحيون أقلية في إيران، حتى إننا جميعا نرتبط بعضنا مع بعض بصلة ما.
سألني أندريه: «هل تودين العزف على الأرغن؟» - «هل هو صعب؟» - «إطلاقا! سوف أعلمك.» - «حسنا، متى نبدأ؟» - «ما رأيك أن نبدأ الآن؟» •••
بالرغم من الأحداث المخيفة التي وقعت في مظاهرة ميدان «فردوسي»، فإنني حضرت العديد من الاحتجاجات الأخرى التي نظمتها جماعات سياسية مختلفة من الشيوعيين إلى المجاهدين. كان هذا أقل ما يمكنني فعله كي أظهر رفضي للحكومة وسياساتها، ولم أتفوه بكلمة عن ذلك الأمر لوالدي أو لأرام أو لأندريه. كادت كل المظاهرات تكون متشابهة، حيث يجتمع الشباب في شارع رئيسي حاملين اللافتات التي تدين الحكومة، ثم يبدأ الحشد في التحرك ويهتفون بالشعارات، وبعد لحظات يملأ الغاز المسيل للدموع المكان فيدمع العيون ويحرق الحلوق، ثم ينطلق صوت الرصاص إيذانا بوصول الحرس الثوري، ويفر الجميع هاربين بأقصى سرعة ممكنة، خافضين رءوسهم، مع ضرورة تجنب أي زي عسكري أخضر، والابتعاد عن الرجال الملتحين. من الخطأ محاولة الهرب عبر الشوارع الضيقة، فاحتمال التعرض للاعتقال أو الضرب فيها أكبر بكثير. كلما زاد عرض الشارع زادت فرصة النجاة. اضطررت عدة مرات إلى الاختباء خلف صناديق القمامة كريهة الرائحة أو صناديق الطعام الفاسد كي أهرب من الحرس، وفيما عدا المرة الأولى في ميدان «فردوسي»، لم أر أحدا يصاب بطلق ناري، لكن أحدهم كان يخبرني دائما أنه رأى بعض الأشخاص يتساقطون قتلى أو بعض الدماء التي تلطخ الرصيف. وفي كل مرة أعود إلى المنزل سالمة بعد المظاهرة يخفق قلبي من شدة الانفعال. لقد فعلتها مرة أخرى. ربما كنت محصنة ضد الرصاص والهراوات.
ذات ليلة وقبل أسبوعين من بدء الإجازة الصيفية زارتني جيتا، وكانت قد تخرجت من المدرسة الثانوية منذ عام وما زالت تنتظر إعادة فتح الجامعات بعد «الثورة الثقافية الإسلامية»، وأخبرتني أن إحدى صديقاتها وتدعى شهرزاد ترغب في رؤيتي. كانت شهرزاد طالبة جامعية تعرضت للاعتقال السياسي ثلاثة أعوام في زمن الشاه، وقد سمعت عن الإضراب الذي أطلقت شرارته في المدرسة، وتعرف أيضا أني قرأت بضعة كتب خاصة بجماعتها، بل إنها قرأت بعض المقالات التي نشرتها في صحيفة المدرسة. سألت جيتا لم تود شهرزاد رؤيتي؟ فأخبرتني أنها ترغب في انضمامي إلى الفدائيين، لكني أخبرت جيتا أني لا أريد الانضمام إليهم، فأنا أؤمن بالله وأتردد على الكنيسة بانتظام، وأفكاري تختلف عن أفكارهم.
سألتني جيتا: «هل تؤيدين الحكومة؟» - «كلا.» - «إما أن تكوني معهم أو ضدهم.» - «حتى لو كنت ضد الحكومة فهذا لا يجعل مني شيوعية. إنني أحترمك وأحترم معتقداتك، لكني لا أريد أن أتورط في السياسة.» - «أعتقد أنك متورطة بالفعل، حتى وإن كنت تظنين غير ذلك. أعطيها فرصة فحسب، فهي لا تريد سوى الحديث إليك بضع دقائق. سوف نلحق بك في طريق العودة من المدرسة غدا.»
لم أرغب في الجدال مع جيتا، فوافقت على مقابلة شهرزاد. •••
ظهرت شهرزاد وجيتا بجواري فور أن خرجت من المدرسة في اليوم التالي، وقدمت جيتا إحدانا للأخرى ثم تركتنا في الحال متعللة بالذهاب إلى مكان ما. كانت شهرزاد تختلف عن أي فتاة عرفتها من قبل، فعيناها حزينتان للغاية، وتتلفت حولها في قلق طوال الوقت.
قالت لي ونحن نتوجه نحو منزلي: «سمعت أنك تتمتعين بروح الزعامة، وقليل من الناس من يمتلك تلك الموهبة، فالآخرون يستمعون إليك، وقد قرأت أيضا مقالاتك في صحيفة المدرسة ووجدتها جيدة. بوسعك أن تصبحي مؤثرة. تلك الحكومة الإسلامية سوف تدمر البلاد، ويمكنك القيام بشيء حيال ذلك.» - «شهرزاد، إنني أحترم معتقداتك ، لكن لا يربطنا شيء مشترك.» - «أرى عكس ذلك؛ فعدونا واحد، وهو ما يجعلنا أصدقاء.»
أخبرتها أني لا أستطيع النظر إلى الأمر من تلك الزاوية، فكل ما هنالك أني معتادة على أن أتكلم بلا خوف، ولو كان لدينا حكومة شيوعية بدلا من الحكومة الإسلامية لربما انتقدتها أيضا.
سألتني هل أرغب في إحداث التغيير، فأجبتها بأن التغيير الذي أنشده يختلف عما تريده هي. توقفت شهرزاد فجأة وحدقت في شاب كان قد مر بجوارنا لتوه، ثم ألقت علي تحية الوداع سريعا واختفت، ولم أرها مرة أخرى قط. •••
أردت شراء ملابس جديدة بدلا من سراويل الجينز الباهتة والسترات البالية وأحذية الجري، ولكن صادفتني مشكلة؛ فقد ارتفعت معدلات التضخم كثيرا بعد الثورة، وكنت أعلم أن والدي لا يملكان أموالا لذلك، ولم يكن عمل الفتيات المراهقات مألوفا، فكان علي أن أتوصل إلى طريقة مبتكرة كي أدبر المال اللازم، وخاصة أن الأحذية الأنيقة باهظة الثمن.
كان والداي وخالتي زينيا وعمي إسماعيل وزوجته يتقابلون مرة كل أسبوعين كي يلعبوا الورق، وكانوا يلعبون مقابل النقود ويأخذون الأمر بجدية شديدة، فراقبتهم مرارا حتى أتقنت قواعد اللعبة. ذات ليلة مرضت زوجة عمي ولم تتمكن من اللعب، فعرضت عليهم أن أحل محلها في اللعب، وهو ما اعتبرته خالتي زينيا فكرة رائعة وجعلت الجميع يعطونني بعض النقود كي أبدأ اللعب. مع انتهاء الليلة كانت المائة تومان التي بدأت بها قد صارت ألفين، وفي اليوم التالي ذهبت للتسوق، فاشتريت سراويل من القماش وبعض القمصان وثلاثة أحذية عالية الكعاب، وفي اليوم التالي ذهبت إلى الكنيسة وأنا أرتدي الملابس التي اشتريتها بالنقود التي ربحتها من القمار؛ سروالا من القماش الأسود وقميصا حريريا أبيض وحذاء أسود مدبب الطرف.
عندما كانت جدتي على قيد الحياة وكان والداي يلعبان الورق مع الأصدقاء والأقارب في منزلنا، كانت دائما تهز رأسها وتخبرني أن القمار خطأ، وأنه قد يؤثر بالسلب على الروابط العائلية والصداقات، ولهذا السبب فهو مكروه عند الله ويندرج تحت الآثام. كنت أعرف كل ذلك وشعرت بالذنب، لكني كنت واثقة أن الله مطلع على الموقف، ولمزيد من الحيطة قررت أن أعترف بلعب القمار عندما أذهب للاعتراف في الكنيسة المرة التالية.
أحببت الطريقة التي يقرع بها حذائي الجديد الأنيق الأرض وأنا أسير عبر ممر الكنيسة كي أصل إلى مقصورات الجوقة في المقدمة، وسررت عندما أخبرني أعضاء الجوقة همسا أني أبدو رائعة. وعندما رآني أندريه أطال النظر إلي، ولاحظت أثناء القداس أنه يختلس النظر إلي بطرف عينه.
كان أندريه مصرا على تعليمي العزف على الأرغن، لكنه كلما حاول أدركت أني لا أملك الموهبة الموسيقية. كان يقضي معظم وقت فراغه بالكنيسة يجري صيانة لمختلف الأشياء بدءا من الأرغن إلى الأجهزة وقطع الأثاث، وغالبا كان يطلب مني البقاء معه، وكنت أستمتع بذلك. حكى لي عن حياته وعائلته وأصدقائه؛ فقبل الحرب العالمية الثانية جاء والده الذي كان يعمل نجارا ويدعى ميهاي إلى إيران عندما كان شابا صغيرا كي يشارك في بناء قصر جديد للشاه، وترك خطيبته جوليانا في «بودابست» على أمل أن يعود بعد الانتهاء من مهمته، ولكن الحرب حالت دون عودته، فعندما اشتد أوار الحرب في أوروبا ووقفت المجر إلى جانب ألمانيا، دخل الحلفاء إيران كي يرسلوا إمدادات إلى روسيا عن طريق الجنوب، وعلى غرار ما حدث لخطيب جدتي المدعو بيتر، أرسل ميهاي إلى معسكر اعتقال في الهند، ولكن على النقيض من بيتر فقد نجا ميهاي، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى إيران بدلا من المجر التي أصبحت دولة شيوعية. لم يكن مسموحا للمجريين في ذلك الوقت بمغادرة البلاد، وهكذا لم تتمكن جوليانا من اللحاق به واضطرت إلى البقاء في المجر حتى اندلعت ثورة 1956 المضادة للشيوعية التي تسببت في فتح الحدود المجرية وأتاحت لها دخول النمسا لاجئة، ثم تمكنت من اللحاق بحبيبها القديم في إيران بعد ثمانية عشر عاما من الفراق، فتزوجا على الفور وأنجبا طفلين: أندريه وشقيقته التي تصغره بخمسة عشر شهرا. توفيت جوليانا عندما كان أندريه في الرابعة وشقيقته لم تتجاوز عامين ونصف، وبعد وفاتها جاءت إحدى شقيقات ميهاي - وهي امرأة عزباء في الستين من عمرها - إلى إيران كي تساعد شقيقها في تربية أطفاله، وبمرور الوقت أثبتت جدارتها في أن تحل محل الأم الراحلة.
ذات يوم ونحن جالسان على منصة الأرغن في الكنيسة الخالية أخبرت أندريه بالمشاكل التي أواجهها في المدرسة، مثل الإضراب والقائمة التي رأتها باهمان خانم في حجرة مكتب المديرة والصحيفة المدرسية وكراهية محمودي خانم لي، فاتسعت عيناه الزرقاوان الواسعتان رعبا.
هز رأسه كأنما لا يصدق ما قلت: «أنت فعلت كل ذلك؟» - «نعم، مشكلتي أني لا أستطيع التزام الصمت.» - «يدهشني أنهم لم يلقوا القبض عليك بعد.» - «وأنا أيضا.»
لمس يدي، فتوقف قلبي عن الخفقان لحظة. كانت يده باردة كالثلج. - «عليك أن تغادري البلاد.» - «أندريه، كن واقعيا، فمع كل تلك المتاعب التي أوقعت نفسي فيها من المحال أن يستخرجوا لي جواز سفر، وعبور الحدود بطريقة غير قانونية ليس خطرا فحسب، بل إنه يتطلب الكثير من النقود، ولن يستطيع والداي تحمل تلك النفقات.» - «هل يعلم والداك بكل ذلك؟» - «يعرفان بعضه.» - «إذن فأنت تعنين أنك في انتظار إلقاء القبض عليك؟» - «وهل لدي خيار آخر؟» - «يمكنك الاختباء.» - «سوف يعثرون علي، ثم أين يمكنني أن أختبئ؟ وهل من العدل أن أعرض الآخرين للخطر؟»
أدركت أن صوتي قد ارتفع؛ إذ تردد صداه عبر السقف. جلسنا صامتين هنيهة، ثم أحاط أندريه كتفي بذراعه، فاتكأت عليه وأنا أشعر بدفء جسده. عندما أكون معه يتملكني شعور عارم بالانتماء وكأنه وطني؛ كأني وصلت وجهتي بعد رحلة محفوفة بالمخاطر. هأنذا أقع في الحب مرة أخرى، وهو ما أورثني شعورا بالذنب. لم أكن أرغب في خيانة أراش، لكن للحب سلطانا على القلوب لا تقوى على معاندته. إنه كالربيع يتسلل إلى سطح الأرض في نهاية الشتاء، وكل يوم ترتفع درجة الحرارة قليلا، وتنمو البراعم الجديدة فوق أغصان الأشجار، ويطول بقاء الشمس في السماء دقائق عن اليوم السابق، وقبل أن يدرك أحد ذلك، يغمر العالم الدفء والألوان. •••
في أواخر يونيو من عام 1981، وبعد يومين من وصولنا أنا وأمي إلى المنزل الصيفي لقضاء الصيف هناك، اتصل بي أرام وسألني هل سمعت أن البرلمان اتهم الرئيس بني صدر بالخيانة بإيعاز من الخميني، وذلك بسبب معارضته لإعدام السجناء السياسيين وكتابته خطابات إلى الخميني يحذره فيها من الدكتاتورية. لم أكن سمعت بذلك، فليس لدينا في المنزل سوى مذياع قديم لا يعمل بكفاءة، وليس بإمكاننا الاستماع إلى إذاعة «بي بي سي»، ولم نكن نهتم بمشاهدة قنوات التلفاز المحلية. وبعد مرور بضعة أيام أخبرني أرام أن بني صدر تمكن من الهرب إلى فرنسا، لكن ألقي القبض على العديد من أصدقائه، ونفذت فيهم عقوبة الإعدام.
وفي الثامن والعشرين من يونيو فتحت أمي التلفاز قبل أن نجلس لتناول العشاء، فوجدنا أنه في وقت سابق من ذلك اليوم انفجرت قنبلة في مقر «الحزب الجمهوري الإسلامي» أثناء انعقاد اجتماع له، مما أدى إلى مصرع أكثر من سبعين من أعضاء الحزب معظمهم من مسئولي الدولة، بما فيهم آية الله محمد بهشتي رأس السلطة القضائية والأمين العام للحزب، وأعلنت الحكومة مسئولية «المجاهدين» عن الحادث.
وفي بداية شهر أغسطس تولى السلطة الرئيس محمد علي رجائي المعروف بأنه أحد قادة «الثورة الثقافية الإسلامية». استمرت فترة رئاسته أسبوعين فقط، ففي الثلاثين من أغسطس انفجرت قنبلة في حجرة مكتب رئيس الوزراء مما أدى إلى مصرع الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس شرطة طهران، وأعلنت مسئولية «المجاهدين» عن هذا الحادث أيضا، لكني سمعت شائعات عن أن كلا الانفجارين كان نتيجة للصراعات الداخلية بين الفصائل المتناحرة من داخل الحكومة.
بدا وكأن البلاد دخلت في حالة حداد دائم؛ ففي كل شارع تعلو مكبرات الصوت بالأناشيد والموسيقى الدينية، وتسير مجموعات من الرجال في الشوارع يلطمون صدورهم بأيديهم أو يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية على الطريقة الشيعية، بينما يتبعهن النساء باكيات منتحبات. أصبت بالصدمة من تلك الأحداث، واستغرقت أكثر في قراءة الكتب التي كانت تمنحني عالما أكثر اعتدالا ورحمة وقابلية للفهم.
وقبل نهاية الصيف قررت ألا أعود إلى المدرسة. ما الفائدة من عودتي؟ لقد عجزت عن التكيف مع القواعد الجديدة، وسأزج بنفسي في المزيد من المشاكل مع محمودي خانم والمعلمات.
فور عودتنا إلى طهران انتظرت اللحظة المناسبة كي أخبر أمي بقراري. كنت على يقين من صعوبة الحصول على موافقتها، فهي شديدة الفخر بحصول شقيقي على شهادة البكالوريوس، ودائما تمتدح أصحاب المؤهلات العليا، لكنها لا تستطيع إجباري على الذهاب إلى المدرسة، فأنا أعلم أن موقفي سيزداد سوءا إن قضيت يوما آخر هناك.
كنا قد اشترينا بعض قطع الأثاث للغرفة التي كانت فيما مضى استوديو الرقص الخاص بأبي؛ أربعة مقاعد كبيرة مغطاة بنسيج مخملي باللون الأخضر الداكن، ومائدتا قهوة باللون الأسود، ومائدة طعام حولها ثمانية مقاعد، وخزانة جانبية لأدوات الطعام، بينما بقيت صالة الانتظار كما هي، بها مائدة مستديرة في المنتصف حولها أربعة مقاعد جلدية سوداء، ومدفأة كيروسين بين مقعدين لتدفئة الغرفة في الشتاء. تحب أمي الحياكة دائما، ومنذ نجاح الثورة أصبحت تقضي معظم وقتها جالسة على المقعد الذي يقع إلى يسار المدفأة تحيك لنا السترات والمفارش وأغطية الأسرة. عندما دخلت الغرفة في ذلك اليوم كانت تجلس مسترخية في مقعدها المفضل ترتدي نظارتها، فجلست على المقعد المواجه لها، وظللت صامتة بضع دقائق أستجمع فيها شجاعتي كي أبدأ الحديث. - «أمي!»
أجابت دون أن تنظر إلي: - «ماذا هناك؟» - «لا يمكنني العودة إلى المدرسة، على الأقل هذا العام.»
تركت السترة التي تحيكها وحدقت إلي من خلف نظارتها. ومع أنها كانت في السادسة والخمسين من العمر والتجاعيد بدأت تظهر حول عينيها وعلى جبهتها، فإنها ما زالت جميلة. - «ماذا تقولين؟» - «لا يمكنني العودة إلى المدرسة.» - «هل جننت؟»
أخبرتها أننا لا ندرس شيئا مفيدا في المدرسة، وأنني إذا مكثت في المنزل فلن أضطر إلى التعامل مع معلمات الحرس الثوري، ووعدتها أني سأذاكر دروس الصف الحادي عشر في المنزل وأذهب إلى المدرسة لأداء الاختبارات فحسب. - «تعلمين أنني أستطيع القيام بذلك، فلدي من العلم ما يفوق هؤلاء المعلمات الجديدات.»
تنهدت وأطرقت برأسها.
أخذت أبكي وأقول: «أمي، لا تجبريني على العودة إلى المدرسة.» - «سأفكر في الأمر.»
ركضت إلى غرفتي.
وفي صباح اليوم التالي عندما دخلت أمي غرفتي، كانت عيناي قد تورمتا من البكاء طوال الليل، كأن شعوري بالحزن والإحباط قد تفجر. وقفت أمي بجوار باب الشرفة تشاهد الطريق.
قالت: «يمكنك البقاء في المنزل، ولكن لعام واحد فقط.» لقد تمكنت من الاتفاق مع والدي على ذلك الأمر. •••
اتصل بي أرام ذات ليلة في بداية شهر سبتمبر كي يودعني، لأنه سيغادر البلاد في اليوم التالي. شعرت بأنه يبكي، لكني قلت بصوت متماسك: «سوف أفتقدك، اعتن بنفسك جيدا.» لم أكن قد أخبرته بأمر أندريه، وشعرت بأن ذلك هو الوقت المناسب كي يعلم، فأوضحت له أنني تعرفت على فتى في الكنيسة وأنني أحبه كثيرا.
دهش وسألني متى بدأ ذلك، فأخبرته أني تعرفت على أندريه في الربيع. - «ولم لم تخبريني من قبل؟ ظننت أننا لا يخفي أحدنا شيئا عن الآخر.» - «لم أكن متأكدة من مشاعري، ولم أرغب في الاقتراب من أي شخص أبدا.»
تفهم أرام الأمر.
كان لزاما على كل الذكور أداء الخدمة العسكرية بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية ما لم يتمكنوا من الالتحاق بالجامعة أو يحصلوا على إعفاء رسمي من الحكومة لأسباب طبية أو لأي سبب آخر، وكان والد أرام قد حصل لابنه على إعفاء من الخدمة العسكرية، لأن شقيقه استشهد وهو الابن الوحيد لوالديه، وهكذا لم يكن يتعين عليه الذهاب إلى الحرب، لأن عائلته ضحت بأحد أبنائها بالفعل. المفارقة هنا أن شقيق أرام المتوفى هو من أنقذ حياته؛ وهكذا أصدرت الحكومة جواز سفر لأرام وسمح له قانونا بمغادرة البلاد. •••
اتصلت بي سارة ذات يوم في نوفمبر من عام 1981 وأخبرتني أنها تود رؤيتي في الحال. كان صوتها يرتجف، ولكنها رفضت إخباري بالمزيد عبر الهاتف، فركضت إلى منزلها ووجدتها تنتظرني أمام الباب. لم يكن والداها وشقيقها بالمنزل، فاصطحبتها إلى غرفتها واستلقت على فراشها. كانت عيناها حمراوين متورمتين من أثر البكاء.
أخبرتني سارة أنه منذ يومين ذهب الحرس الثوري إلى منزل جيتا لإلقاء القبض عليها، ولكنها لم تكن في المنزل فألقوا القبض على أمها وشقيقتيها وأخبروا والدها أنه لو لم تسلم جيتا نفسها في غضون أسبوع فسيعدمون إحدى شقيقتيها، وهكذا ذهبت جيتا إلى «إيفين» وسلمت نفسها كي يطلقوا سراح أمها وشقيقتيها. - «مارينا ... تعرفين كم هي عنيدة. سيقتلونها، فهي لا تمسك لسانها. وعلى الأرجح سوف يحين دورنا. مؤكد أن سيرس هو التالي، لكنه يقول إن كل من جاهر بانتقاد الحكومة معرض لخطر الاعتقال.»
كان سيرس محقا؛ كنت أعرف أنهم سوف يأتون للقبض علينا عاجلا أم آجلا، فلديهم أسماؤنا وعناويننا. لم أكن قد أخبرت أحدا بأمر القائمة لأنني لم أكن أعلم بقية الأسماء بها، ولم أرغب في إثارة ذعر الآخرين أو جلب المشاكل لباهمان خانم. - «نعم، على الأرجح سيحين دورنا في المرة القادمة. إنها مسألة وقت لا أكثر، وليس بوسعنا فعل أي شيء. لا يمكننا الهرب، فسوف يلحقون الأذى بآبائنا إن فعلنا.» - «ولكن لا يمكننا الجلوس والانتظار.» - «ماذا تريدين أن تفعلي؟» - «يمكنني على الأقل أن أخبر والدي.» - «سوف يصيبهما الذعر، ولن يكون بوسعهما فعل أي شيء ما لم تتمكنوا جميعا من الاختفاء. إذا أخبرت والدي فلن يأخذا كلامي على محمل الجد. هدئي من روعك، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذا السوء؛ هناك قدر من المبالغة حتما. نحن لم نفعل شيئا، لكن جيتا متورطة مع جماعتها، فلم يشغلون أنفسهم بنا؟» - «أحسبك على حق، علينا ألا نشعر بالذعر، فنحن لم نفعل شيئا.»
الفصل الخامس عشر
بعد أن عرض علي الزواج بي أعادني مجددا إلى «246». أحاطت بي صديقاتي فور أن دخلت الغرفة، وأردن معرفة ما حدث، فأخبرتهن بأن عليا عاد وأراد معرفة أخباري فحسب. أدركت من النظرة التي علت وجوههن أنهن لم يصدقنني. كن يشعرن بالقلق علي، لكن لا تستطيع إحداهن مساعدتي.
لم أرغب في إخبار رفيقات الغرفة بأمر عرض الزواج، فقد شعرت بالإثم والخجل؛ لقد عرضت أندريه ووالدي للخطر، ولم يكن لدي شك في جدية تهديدات علي، وهكذا علي أن أوافق على ما يطلبه مني.
تذكرت اللحظة التي قبلت فيها أراش، كان أروع شعور في العالم لأني أحببت أراش. هل سيقبلني علي؟ مسحت فمي بكمي، وتصبب العرق البارد من جسمي .
كانت ترانه قد قالت لي: «يمكنهم أن يقتلوني إذا أرادوا، لكني لا أريد أن أتعرض للاغتصاب.»
مع أنني لم أكن أعرف معنى الاغتصاب تحديدا، فقد أقنعت نفسي أن هذا ليس اغتصابا، فعلي يرغب في أن يتزوجني. حسنا، لا بأس في ذلك ... كلا ... لم أفكر في هذا الأمر من الأساس؟ لا خيار لي سوى الموافقة.
يفترض بالزواج أن يكون أبديا، فهل يمكنني الحياة مع علي إلى الأبد؟ ربما يقصد زواجا مؤقتا، فقد سمعت عن نكاح عند الشيعة، وهو زواج مؤقت قد تتراوح مدته ما بين دقائق معدودة إلى أعوام، وأعلم أيضا أن المرأة في الزواج المؤقت ليس لها أي حق، ولكن ذلك الأمر ما كان ليشكل أي فارق لي، فأنا سجينة وليس لي أي حق على أي حال. ربما يرغب في الزواج مني فترة وجيزة ثم يتركني. إن كان الأمر كذلك فلا داعي لأن أخبر أحدا؛ علي أن أبقي هذا الزواج سرا لأطول فترة ممكنة.
مرت الساعات، ولم أستطع تناول الطعام أو التفكير أو الحديث مع أي شخص، بل إنني لم أستطع البكاء. كل ما استطعت فعله هو أن أذرع الممر جيئة وذهابا أثناء النهار حتى يغشى علي من الإرهاق ليلا.
وأخيرا في اليوم الثالث ذهبت كي أتحدث مع الأخت مريم. كانت تعلم بأمر عرض الزواج الذي تقدم به علي، وهكذا لم أقلق بشأن إفشاء سري. أخبرتها أني لا أرغب في الزواج من علي، ولكنها أجابتني بأن كل الزيجات في عائلتها كانت تقليدية، وبأن كل الفتيات لا يرغبن في الزواج من الرجل الذي يختاره لهن آباؤهن، وأن والدتها كانت تكره الرجل الذي اختاره لها والداها، ولكن انتهى بها الحال لأن تصبح في غاية السعادة معه، فقلت لها إنني لا أدري كيف تولد السعادة في مثل تلك الظروف، وأوضحت لها أن الفتيات في عائلتي يخترن أزواجهن بأنفسهن، لكنها قالت إنني لم أعد أعيش مع عائلتي، وعلي أن أتذكر دائما أن عليا قد أنقذ حياتي. كنت من وجهة نظرها صعبة المراس إلى حد كبير. ***
انتهت الأيام الثلاثة التي منحها لي علي للتفكير، وفي اليوم الرابع استدعيت عبر مكبر الصوت، وكان علي ينتظرني في المكتب. - «لست بحاجة إلى العصابة، فسوف نتحدث في سيارتي.»
خرجنا من حجرة المكتب ودخلنا ممرا بلا نوافذ تملؤه المصابيح الفلورية. لم أكن حتى تلك اللحظة قد رأيت «إيفين» من الداخل فيما عدا «246» وغرفة الاستجواب. كان كابوسا مخيفا من الأصوات الغاضبة والجلد بالسياط والصراخ وإطلاق النيران وأصوات الخفاف المطاطية وهي تحتك بالأرض المغطاة بالمشمع والأرض الصخرية، غير أن الممر الذي سرنا فيه كان عاديا شبيها بأي مبنى حكومي أو مدرسة. نزلت الدرج خلف علي. مر بنا اثنان من الحرس الثوري في طريقهما إلى أعلى وانحنيا قليلا أمام علي قائلين: «السلام عليكم» متجاهلين إياي تماما، فانحنى علي بدوره لهما وحياهما. وفور أن وصلنا إلى نهاية الدرج فتح علي بابا حديديا رمادي اللون وخرجنا. بدا كل شيء طبيعيا، حتى إني شعرت بالصدمة، فقد ذكرني «إيفين» بحرم «جامعة طهران» الواقعة في شارع «انقلاب». الفرق بينهما أن «إيفين» يضم كثيرا من الأماكن المفتوحة، وأن الجامعة محاطة بسور حديدي يتيح الرؤية من خلاله، أما «إيفين» فمحاط بأسوار قرميدية شاهقة الارتفاع وأبراج مراقبة وحرس مسلحين، ومجموعات من أشجار القيقب العتيقة هنا وهناك، وجبال «ألبرز» تطل علينا من كل جانب.
قادني علي عبر طريق ضيق مرصوف، ودرنا حول مبنى رمادي اللون حتى وصلنا إلى سيارة مرسيدس سوداء تقف في ظل بعض الأشجار، ففتح الباب الأمامي ودخلت. بدت السيارة جديدة، وتحدر العرق على جبيني. جلس علي في مقعد السائق ووضع يديه على عجلة القيادة، فلاحظت أن أصابع يديه طويلة نحيلة وأظافره نظيفة مقلمة. كانت يداه أشبه بيدي عازف بيانو، لكنه كان محققا.
سألني وهو يحدق بمسبحة كهرمانية اللون تتدلى من مرآة الرؤية الخلفية: «إلى أي قرار توصلت؟»
في تلك اللحظة حلق عصفور فوق إحدى الأشجار واختفى في السماء الزرقاء الفسيحة الخالية من السحب.
سألته: «هل سيكون هذا زواجا مؤقتا؟»
نظر إلي في دهشة. - «شعوري نحوك ليس انجذابا جسديا عابرا . أريدك إلى الأبد.» - «علي، أرجوك ...» - «هل توافقين أم ترفضين؟ ولا تنسي العواقب؛ أنا جاد للغاية بشأن ما قلت.»
قلت وأنا أشعر أني أدفن حية: «... سأتزوجك.»
ابتسم، وقال: «أنت فتاة عاقلة. كنت أعلم أنك ستتخذين القرار الصائب، وأعدك ألا تندمي على هذا القرار. سوف أعتني بك جيدا. والآن علي عمل الترتيبات اللازمة وإخبار والدي. سوف يستغرق الأمر بعض الوقت.»
تساءلت عن رأي والديه في زواجه من سجينة مسيحية، وماذا عن عائلتي؟ كيف سيكون رد فعلهم؟
قلت: «علي، لا أريد أن تعلم أسرتي بأمر هذا الزواج الآن. لم أكن يوما قريبة من والدي، وأعلم أنهما لن يتفهما الموقف، وسوف يزيدان الوضع سوءا.»
لم أستطع مغالبة الدموع أكثر من ذلك. - «مارينا، أرجوك لا تبكي. لست مضطرة لإخبار أحد حتى تكوني مستعدة لذلك، ولا يهم كم يستغرق هذا الأمر من وقت. أدرك أن الأمر صعب عليك، وسوف أبذل كل ما بوسعي كي أجعله يسيرا.»
ما دام أصدقائي وعائلتي لن يعرفوا بأمر هذا الزواج، فهناك فرصة لنجاة الفتاة التي كانوا يعرفونها قبل دخولي «إيفين»؛ يمكنها أن تبقى وتحلم وتأمل وتحب مع أنها مضطرة للاختباء داخل تلك الفتاة الجديدة: زوجة المحقق. لم أكن متأكدة كم ستصمد الفتاة الأولى أمام هذا الوضع، لكني قررت أن أحميها؛ فهي ذاتي الحقيقية التي يحبها والداي وأندريه وينتظرون عودتها.
أعادني علي إلى «246»، وطلبت من الأخت مريم أن تنقلني إلى إحدى الغرف بالطابق السفلي؛ إذ لم أرغب في تفسير أي شيء لرفيقاتي. كان الطابقان العلوي والسفلي منفصلين تماما بحيث لا تستطيع السجينات التعامل معا، وأنا أرغب في البقاء وحيدة حيث لا يعرفني أحد، فوافقت وطلبت من مندوبة الغرفة «7» أن تحضر متعلقاتي إلى المكتب، وهكذا انتقلت إلى الغرفة «6» في الطابق الأول، وكانت على غرار غرفتي القديمة في الطابق الثاني تضم نحو خمسين فتاة.
وسرعان ما بدأت صحتي تتدهور، فأخذت أتقيأ كلما تناولت طعاما، وهاجمتني نوبات الصداع المبرحة الآلام، وقضيت معظم وقتي أنام في أحد جوانب الغرفة وأنا أغطي وجهي ببطانية ولا أستطيع الحديث . كانت أفكاري تتداخل وتتجه دائما نحو ترانه، كم أفتقدها! منذ أن اقتادوها للموت وأنا أتجنب التفكير فيها تماما، لأني لم أكن أرغب في تخيل تفاصيل الساعات الأخيرة من حياتها. لماذا ندير ظهورنا للواقع حين يصبح أشد قسوة من أن نحتمله؟ كان علي أن أخبر الأخت مريم أني أود الموت مع ترانه. كان لا بد من محاولة إيقاف إعدامها. أعلم أني لم أكن لأفلح في ذلك، لكن كان حريا بي أن أحاول. ألا تساوي حياة إنسان بريء خوض الحرب من أجلها، حتى ولو كان مآل تلك الحرب الفشل؟ كنت مسئولة عن موتها لأني قبلت الاستسلام لمصيرها، لكن لماذا التزمت الصمت؟ هل كنت أخشى الموت؟ لا أعتقد ذلك. ربما يكون الأمل؛ كنت آمل في العودة إلى المنزل ذات يوم، فوالداي وأندريه ينتظرونني. كيف أختار الموت إذا كان دوري لم يحن بعد؟ اختلط الصواب بالخطأ، ولم أدر أي طريق أسلك. •••
وقفت وسط بقعة مظلمة؛ ساحة مفتوحة تحيط بها تلال سوداء، ووقفت ترانه بجواري ترتدي سترتها الحمراء التي تجلب لها الحظ وتحدق أمامها. لمست يدها، فنظرت إلي بعينيها العسليتين. ظهر علي من وسط الظلام، وسار نحونا ثم صوب بندقية إلى رأسي. شلت حركتي، بينما قبضت ترانه بيدها الصغيرة على معصمه، وقالت: «كلا!» فصوب البندقية إلى رأسها وجذب الزناد. غطت دماء ترانه جسدي فصرخت.
استيقظت على صرخة محبوسة في حلقي، وعجزت عن التقاط أنفاسي. ظهر وجه أحدهم فوقي مبهما غير واضح المعالم، وامتلأت الغرفة بأصوات مرتفعة غير مفهومة، لكن عندما ينعدم الهواء، يكون أهم شيء هو العثور عليه. حاولت أن أمد يدي وأمسك بأي شيء ينقذني من الاختناق؛ حاولت أن أقول إنني لا أستطيع التنفس. رأيت وجه الأخت مريم؛ كانت تقول شيئا، لكن كلماتها بدت وكأنها تأتي من مسافة بعيدة. تلاشت معالم الغرفة وكأن أحدهم أطفأ النور.
فتحت عيني فوجدت عليا يتحدث مع الطبيب الشيخ الذي كان يرتدي الزي العسكري الكاكي. يمكنني التقاط أنفاسي الآن. كنت في غرفة محاطة بالستائر البيضاء أنام على فراش نظيف مريح وأرتدي وشاحا أبيض وجسدي مغطى بملاءة بيضاء سميكة، وسائل شفاف ينساب من كيس بلاستيكي معلق في خطاف معدني إلى أنبوب شفاف متصل بيدي.
أول من لاحظ أنني أفقت هو الطبيب الشيخ.
قال: «مرحبا مارينا، كيف حالك؟»
لم أتذكر شيئا مما حدث، ولم أدر أين أنا، فأخبرني الطبيب أني أصبت بالجفاف الشديد ونقلت إلى مستشفى السجن، ثم اختفى عبر فرجة صغيرة في الستارة. نظرت إلى علي، فابتسم. - «سأذهب إلى المنزل كي أحضر لك بعض الطعام الذي تطهوه أمي، فطعامها يشفي كل الأسقام. والآن خذي قسطا من الراحة، وسوف أوقظك عندما أعود. هل تريدين أي شيء آخر؟ هل أحضر لك أي شيء من الخارج؟» - «كلا.» - «لماذا لم تخبري أحدا أنك مريضة للغاية هكذا؟» - «الواقع أني لا أعرف ماذا حدث.» - «أخبرت رفيقاتك الأخت مريم أنك تعانين من القيء منذ عدة أيام.»
امتلأت عيناي بالدموع، وقلت: «لطالما عانيت من مشاكل في المعدة، لا جديد في ذلك، ولكن تلك المرة كان الأمر أسوأ قليلا من المعتاد، لكنني لم أكترث. ظننت أن هذه المرة ستمر بسلام كسابقاتها. الكوابيس ونوبات الصداع ... لقد حاولت ...» وبدأ صدري يضيق.
انحنى علي بالقرب مني، واستند بيديه على حافة الفراش وقال: «لا تقلقي، كل شيء على ما يرام، أنت مريضة، وهذا كل ما في الأمر. والآن يمكنك أن تستريحي وستكونين أفضل حالا. خذي نفسا عميقا؛ عميقا جدا.»
فعلت كما طلب مني. - «سوف يعطيك الطبيب دواء منوما، فأنت بحاجة إلى الراحة. لن تعاني صداعا أو كوابيس بعد الآن.» •••
استيقظت على صوت علي. كان يناديني وهو يحمل وعاء من حساء الدجاج الذي تفوح منه رائحة الليمون. كنت دائما أضيف الليمون لحساء الدجاج في منزلي. أخبرني علي أن الطبيب يؤكد أن الهواء النقي وتغيير المكان مفيد لصحتي، وعرض علي أن يصطحبني في نزهة بالسيارة، فسألته هل يعني خارج أسوار «إيفين»، فأجاب بالإيجاب، وطلب مني أن أنتهي من تناول الحساء كي نذهب.
فور أن انتهيت من تناول طعامي ساعدني كي أجلس في الكرسي المتحرك، وجذب الستارة البيضاء التي تحيط بنا، فاكتشفت أننا في غرفة كبيرة بها العديد من الستائر البيضاء التي تقسمها إلى أجزاء. اثنتان من تلك الستائر كانتا مفتوحتين وخلفهما فراشان، أحدهما خال والآخر ترقد عليه فتاة في مثل عمري تقريبا ترتدي غطاء رأس أزرق داكنا، وتغطي جسدها بملاءة بيضاء سميكة، ولم تكن بالغرفة نوافذ. دفعني علي بالكرسي المتحرك عبر الباب، واجتزنا ممرا ضيقا، ومرة أخرى لم يضع على عيني العصابة، وفتح بابا فبهرتني حدة ضوء الشمس في العالم الخارجي، وأخذ يدفع الكرسي نزولا على منصة منحدرة.
بدت السماء كبحر مقلوب؛ موجات من السحب مكسوة بالزبد تطفو فوق الأفق. مررنا ببعض الفتيات معصوبات الأعين يرتدين الشادور الأزرق الداكن ويتبعن رجلا من الحرس الثوري في طابور واحد، وكل منهن تتشبث بشادور الفتاة التي تسبقها، والحارس الذي يقودهن يمسك حبلا في يده ربط طرفه بالقيد الذي يكبل يد أولاهن ساحبا إياها والأخريات يتبعنها. منذ بضعة أيام كنت مثلهن، ولكنني الآن أتمتع بحماية علي، وأوضاعي تغيرت. شعرت بالخجل، فقد خنتهن، لقد خنت الجميع.
على يميننا كانت أشجار القيقب العملاقة تحجب الرؤية، وعلى اليسار مبنى من القرميد مكون من طابقين تقبع خلفه سيارة علي، وفور أن وصلنا إلى السيارة أدركت أنني لا أرغب في أن ينفرد بي علي أبدا، وتسلل إلي دبيب الخوف.
قال لي وهو يأخذ بذراعي الأيسر ويحاول مساعدتي على الوقوف: «دعيني أساعدك.» فدفعت ذراعه. - «مارينا، لا تخافي مني. لم ولن أؤذيك.»
كان محقا؛ فهو لم يؤذني قط. - «ثقي بي. حتى عندما نتزوج، سوف أحترم مشاعرك، فلست وحشا.»
لم يكن لدي خيار سوى الوثوق به. كانت عضلاتي واهنة، وشعرت بالدوار عندما وقفت، لكني تمكنت من ركوب السيارة دون أن أفقد توازني. وعند باب الخروج أشار علي للحرس، ففتحوا البوابات، وخرجنا من «إيفين». صدمت من سهولة الطريقة التي أخرجني بها؛ ربما يشغل منصبا مرموقا أكثر مما ظننت.
كان الشارع خاليا مقفرا، ولكن بعدما تحركنا بعيدا عن السجن بدأت الحياة تدب فيه تدريجيا، فظهر الناس والبيوت والمتاجر، وفي قطعة أرض فضاء كانت مجموعة من الأطفال يركضون خلف كرة بلاستيكية ووجوههم مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار، والنساء تحمل مشترياتهن من البقالة عائدات إلى المنزل، والرجال ينتشرون هنا وهناك يتحدث بعضهم مع بعض. بدت لي كل تلك الأمور البسيطة التي يقوم بها الناس كأنها معجزات.
سألني علي بعد نصف ساعة: «ما هذا الهدوء الشديد؟ فيم تفكرين؟» - «في الحياة التي تبدو طبيعية للغاية هنا.» - «مع أن الأمر سيستغرق بعض الوقت، أعدك أننا سنحيا في نهاية الأمر حياة طبيعية. سوف أعمل كي أعولك، وسوف تباشرين شئون المنزل وتذهبين للتسوق وتزورين الأصدقاء والأقارب، وسوف تصبحين سعيدة.»
كيف يمكنه أن يتحدث عن عمله بهذه البساطة؟ إنه ليس معلما أو طبيبا أو حرفيا. - «أصدقائي إما متوفون أو في السجن، ولست متأكدة هل سترغب عائلتي في رؤيتي مرة أخرى.» - «سوف تكونين صداقات جديدة. ولم تظنين أن عائلتك سترفض زواجنا إلى هذه الدرجة؟» - «لسبب واحد، وهو طبيعة عملك.» - «مارينا، ثقي بي، هناك أمل. سوف يرون الاهتمام الذي سأغدقه عليك. لقد تخطيت العديد من المصاعب كي أبقيك على قيد الحياة، والعديد من الأشخاص يعارضون زواجنا، ولا يزال هناك المزيد من العقبات التي يجب علي تخطيها، لكنني سأتعامل مع كل تلك المشاكل، وسوف ترى عائلتك الحياة الكريمة التي سأوفرها لك وعندها سيغيرون رأيهم. سنواجه عائلتك معا عندما تصبحين مستعدة لذلك.»
لماذا اختارني أنا؟ لقد كنت تجسيدا لكل ما يعارضه؛ فأنا مسيحية ومناهضة للثورة وسجينة. كان عليه أن يصارع من قبل كي ينقذني من الموت، والآن عليه أن يصارع مجددا كي يتزوجني. لماذا يفعل هذا؟ •••
ظللنا فترة نخرج في نزهة بالسيارة كل ليلة. عندما أكون معه في السيارة أحاول أن أتظاهر بأني إنسانة طبيعية. حاولت أن أمنع نفسي من التفكير في الماضي أو المستقبل، وحاولت التركيز في طنين المحرك والمقاعد الجلدية الوثيرة والشوارع التي تمتلئ بمظاهر الحياة التي تبدو خالية من الهموم. ومع أن المدينة ظلت كما تركتها، فقد بدت لي كل المعالم وكل الروائح وكل الأصوات غريبة. ارتفع صوت علي مغطيا على كل شيء وهو يخبرني عن عائلته؛ هو ابن وحيد وله شقيقة واحدة متزوجة وتبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما. والدته حملت مرتين بعد أن وضعت شقيقته، لكنها أجهضت في كلا المرتين. طبقا للشريعة الإسلامية يحق للرجل الزواج بأكثر من امرأة، لكن والد علي، السيد حسين موسوي، ظل مخلصا لزوجته الوحيدة وطفليه؛ فالسيد موسوي رجل متدين، ساعد آية الله الخميني لأعوام عديدة، وهو فخور بعلي لكونه جنديا شجاعا في الجهاد ضد الشاه، وهو أيضا رجل أعمال ناجح كون ثروة كبيرة، لكنه لم ينقطع عن مساعدة المحتاجين. منذ أعوام ووالدا علي يلحان عليه كي يتزوج، لكنه في الثامنة والعشرين ولم يتخذ تلك الخطوة بعد.
قال علي أثناء إحدى جولاتنا الليلية بالسيارة: «لقد أخبرت والدي عنك.»
سألته: «وماذا قالا؟»
أجابني ضاحكا: «لقد أصيبا بالذعر.»
ربما كان هناك أمل في ألا أتزوجه بالرغم من كل ذلك.
تابع: «ولكنني أخبرتهما أنك شريكة حياتي المناسبة، وأنني أريدك أكثر من أي شيء في العالم. لطالما كنت ابنا بارا مطيعا لهما، لكني صاحب القرار هذه المرة، ولا يمكنني القبول بأقل من ذلك. إنني في الثامنة والعشرين من العمر، وقد مررت بالعديد من التجارب في حياتي واتخذت قراري. أريدك زوجتي وشريكة حياتي وأما لأبنائي.» - «علي، نحن ننتمي لعالمين مختلفين، ولن يحبني والداك أبدا، بل سينتقدانني لاختلافي عنهما.»
أخبرني أن والديه يتمتعان بالطيبة والكرم، وأنه لا يشك في أنهما سيحبانني.
أغمضت عيني وحاولت ألا أفكر في شيء.
بعد بضع دقائق أخبرني أن هناك أمرا آخر يود مناقشته معي، وأنه يعلم أنني لن أرحب بذلك الأمر، ولكنه أصر على أنه إجراء شكلي فقط. «أخبرني والدي أنك إذا أسلمت فلن يعارض زواجنا، بل إنه سيشجعه، وسوف يفخر والداي بأن تصبحي ابنتهما ويقدمان لك الدعم والحماية. مارينا، هذا ما أتمناه، أريدك أن تنتمي لي، وأريد لعائلتي أن تحبك. منذ اللحظة التي رأيتك فيها أدركت أننا يجب أن نظل معا.»
فقدت عائلتي، والرجل الذي أحبه، وحريتي، وبيتي، وآمالي، وأحلامي، والآن علي أن أتخلى عن إيماني.
لم يبد علي اهتماما هل سأظل مسيحية في داخلي. رجوته أن يدعني وشأني، لكنه أكد لي أن ذلك مستحيل.
سألته: «وماذا لو رفضت؟»
قال: «لا تصعبي الأمر على نفسك، فهذا لمصلحتك. مؤكد أنك لا ترغبين في تعريض من تحبين للمعاناة من أجل كبريائك. ما زلت في السابعة عشرة، وما زال هناك العديد من الأمور التي لا تفهمينها جيدا في العالم، وأعدك أنك ستعرفين معي معنى للسعادة لم تعرفيه من قبل.»
كيف يمكنني أن أجعله يفهم أني لن أصبح سعيدة معه أبدا؟
أوقف علي السيارة في شارع هادئ. كنت أعرف تلك المنطقة، فهي قريبة من منزل عمتي زينيا. سألته هل يدرك أنني سأضطر إلى نسيان أهلي وأصدقائي وكنيستي وأنهم سيكرهونني إلى الأبد، فأخبرني بأنهم إذا كرهوني لأنني اعتنقت الإسلام فذلك يعني أنهم لم يحبوني قط.
خرج علي من السيارة وفتح الباب، فسألته: «ماذا تفعل؟» - «تعالي، لقد اشتريت لنا منزلا.»
صعدنا بضع درجات قادتنا إلى الباب الأمامي لمنزل قرميدي كبير من طابق واحد. فتح الباب ودخل، بينما ترددت في الدخول.
قال: «ماذا تنتظرين؟ ألا ترغبين في رؤيته؟»
تبعته إلى الداخل؛ بالمنزل غرفة استقبال، وغرفة معيشة وطعام، وأكبر مطبخ رأيت على الإطلاق، وأربع غرف نوم، وثلاثة حمامات. كانت الحوائط مدهونة حديثا بألوان محايدة، لكن لا يوجد أثاث. في غرفة النوم الكبرى وقفت أمام الباب المنزلق الذي يؤدي إلى الفناء الخلفي، كان العشب أخضر كثيفا، وأزهار الجيرانيوم والبنفسج والأقحوان تنمو في مجموعات من الأزهار الحمراء والبيضاء والبنفسجية والصفراء، وفراشة بيضاء تطير من زهرة إلى أخرى وتجاهد كي تحتفظ باتزانها في وسط الرياح الشديدة، وحائط قرميدي مرتفع يفصل الفناء عن الشارع. كيف يمكن لكل هذا الجمال أن يوجد في هذا العالم القاسي؟
فتح علي الباب المنزلق، وقال: «هيا بنا نخرج، فالأزهار بحاجة إلى المياه.»
عندما خرجنا إلى الفناء شمر عن ساعديه وفتح الصنبور وأمسك الخرطوم. كانت الرياح تحمل الرذاذ البارد فيلامس وجهي. روى علي النباتات وهو يحرص على ألا يبعثر التربة . ظهرت قطرات كبيرة من المياه على أوراق النباتات فحبست أشعة الشمس الذهبية في جسمها اللؤلؤي. وأخذ يقتلع الأزهار الذابلة وهو يدندن لحنا ويبتسم. يبدو طبيعيا كأي رجل آخر. هل قتل أحدا في «إيفين» - وليس في الحرب - من قبل؟ هل سبق له أن جذب الزناد وأنهى حياة أحدهم؟
سألني: «هل يعجبك المنزل؟» - «جميل.» - «زرعت تلك الأزهار من أجلك.» - «علي، أنا أقضي عقوبة السجن مدى الحياة، فكيف يسمح لي أن أعيش هنا؟» - «أقنعت المسئولين في «إيفين» بأن تبقي معي هنا كأنك قيد الإقامة الجبرية ووافقوا. مارينا، هذا منزلنا أنا وأنت.»
منزلنا! لم أعد حتى أعرف من أنا. هذا المنزل ليس إلا امتدادا لسجن «إيفين».
قلت: «إذن سأكون سجينة هنا.» - «علينا أن نقوم بذلك بالطريقة الصحيحة، فأنت تعلمين جيدا أن هناك بعض المعارضين لزواجنا مثل حامد وأنهم يراقبوننا، فلا يجب أن نرتكب أي أخطاء. لقد حكم عليك بالإعدام في محكمة إسلامية و...» - «لكني لم أحاكم قط!»
أخبرني علي ليلة الإعدام أني محكوم علي بالسجن مدى الحياة، لكني افترضت أن حامدا، وربما آخرون غيره، قرروا إعدامي فحسب؛ فالمحاكمة في اعتقادي هي ما قرأت عنه في الكتب وشاهدت في الأفلام: قاعة كبيرة بها قاض ومحلفون ومحام للدفاع ووكيل للنيابة.
أخبرني علي أني حوكمت غيابيا، ثم حصلت على عفو الإمام، وخفض الحكم الصادر ضدي إلى السجن مدى الحياة. أخبرني أيضا أنه لن يكون من اللائق أن يذهب للإمام مرة أخرى، ولكن يحق له طلب إعادة المحاكمة، وهو يعتقد أنه إذا أعيدت محاكمتي بعد اعتناق الإسلام والزواج به فلن يزيد الحكم الصادر ضدي عن عامين أو ثلاثة.
سألته لم يكرهني حامد إلى هذا الحد، فأوضح لي أن حامدا وكثيرين غيره لا يهتمون لأمر من يختلف عنهم.
تنهدت. لم يكن بوسعي فهم هذا المجتمع الإسلامي الغريب.
تابع علي: «سيكون كل شيء على ما يرام. لم أشتر أي أثاث بعد، لأني اعتقدت أنك قد ترغبين في تجهيز البيت بنفسك. يمكننا البدء بالتسوق لشراء ما تحتاجينه للمنزل غدا، وغالبا سوف يصبح جاهزا في موعده. أعلم أنك ما زلت قلقة بشأن رد فعل عائلتك، ولكن ثقي بي؛ عندما يرون الحياة التي سأوفرها لك سوف يسعدون.»
ربما كان محقا؛ فنحن لم نكن أغنياء، ومنزل كهذا هو من أحلامنا بعيدة المنال. لم يؤمن أبي بالله قط، ودائما يسخر من معتقداتي الدينية، لكن المال مهم له، والأشياء الثمينة القيمة تبهره دائما. ربما يحب عليا يوما ما، فأبي يحب السيارات الفارهة، وعلي يملك سيارة مرسيدس من أحدث طراز، أما أمي فلا تملك أي شيء ثمين، بل إنها تقيم في منزل بالإيجار منذ زواجها، وهكذا ستحب هذا المنزل. هل أملك أي فرصة في الشعور بالسعادة مع علي؟ هذا الأمر يعتمد عليه، ويعتمد علي أيضا. إنه يحبني بطريقته، ومع أن تلك الطريقة تختلف عن طريقتي تماما، فبوسعي أن أرى الحب يطل من عينيه كلما نظر إلي. •••
قال علي ونحن ننطلق عائدين إلى «إيفين»: «أعتقد أنك يجب ألا تعودي إلى «246»؛ زنزانات «209» ستكون أفضل في الوقت الحالي، فسوف أستطيع التردد عليك أكثر وإحضار الطعام لك من المنزل. ما رأيك؟»
أومأت.
وفي طريقنا للعودة توقفنا عند مطعم صغير، حيث أحضر علي لكل منا شطيرة من البيض وزجاجة من المياه الغازية. كنت أحب البيض، ولم أتناوله منذ عدة أشهر. تناولنا الطعام في السيارة. كان الخبز طازجا ومدهونا بالزبد، وبه شرائح من الطماطم بين شرائح البيض المسلوق. عندما انتهيت من شطيرتي لم يكن علي قد أنهى نصف شطيرته بعد، وعرض علي أن أتناول شطيرة ثانية، فوافقت، ثم اشترى لكل منا شطيرة أخرى.
عندما وصلنا «إيفين» أوقف علي السيارة أمام أحد المباني ودخلناه. امتد أمامنا ممر طويل خافت الإضاءة به العديد من الأبواب المعدنية على الجانبين. تقدم أحد الحرس نحونا. - «السلام عليكم أخ علي، كيف حالك؟» - «بخير أخ رضا، الحمد لله. كيف حالك أنت؟» - «بخير، الحمد لله.» - «هل الزنزانة التي طلبتها جاهزة؟» - «نعم، تفضل من هنا.»
تبعناه نحو باب يحمل الرقم «27» حيث أدخل مفتاحا في القفل وأداره، فأصدر الباب صريرا مرتفعا تردد صداه في الممر. دخل علي الزنزانة وتفحصها، ثم خرج وطلب مني أن أدخل ففعلت. كانت مساحة الزنزانة تبلغ نحو ثلاثة أمتار في مترين، وبها مرحاض وحوض صغير كلاهما من الصلب المقاوم للصدأ، والأرض مغطاة بسجادة مهترئة بنية اللون، والنافذة الوحيدة التي يبلغ كل من طولها وعرضها ثلاثين سنتيمترا مدعومة بقضبان حديدية وبعيدة عن متناول يدي. وقف علي عند الباب. - «ستكونين على ما يرام هنا، وسوف أحضر لك الإفطار في الصباح، والآن يمكنك الخلود إلى النوم.»
راقبت الباب وهو يغلق، وسمعت صوت المفتاح وهو يدور مغلقا القفل، وبدا صوت إغلاقه كأنه يقول «خائنة».
انطلقت الموسيقى العسكرية عبر مكبرات الصوت؛ يبدو أن هناك انتصارا آخر. لو أن كل تلك «الانتصارات» حقيقية لكانت إيران قد غزت العالم بأكمله الآن.
نزعت غطاء رأسي، وذهبت إلى الحوض، وغسلت وجهي فشعرت بتحسن، وكررت ذلك نحو ثلاثين مرة حتى شعرت بالخدر في وجهي. كان صوت المياه الجارية وبرودتها يشعرانني بالراحة؛ فالمياه تصلني بالعالم بصورة ما، غير أن تلك الصلة - وإن كنت أشعر بها على بشرتي - بدت كذكرى بعيدة. الارتياح الذي أشعر به عندما تلامس المياه جسدي لم يكن ينتمي إلى الحاضر وإنما إلى الماضي؛ ارتياح بطعم الحنين والحزن.
شعرت بالإرهاق، ووجدت بطانيتين عسكريتين مطويتين في أحد الأركان، فبسطتهما على الأرض ورقدت. كانت حوائط الزنزانة مطلية باللون البني الفاتح، ولكن بعض الطلاء كان متساقطا كاشفا عن الجص تحته، وبقية الطلاء مغطى ببصمات الأصابع وعلامات غريبة زلقة بأشكال وأحجام مختلفة، وبعض البقع باللون الأحمر الداكن التي اشتبهت أنها دماء، بالإضافة إلى بعض الكلمات والأرقام المحفورة في الحوائط ومعظمها غير مقروء. تتبعت النقوش بأصابعي كأنها كتبت بطريقة برايل. قرأت أحدها: «شيرين هاشمي، الخامس من يناير 1982. هل يسمعني أحد؟»
يوم الخامس من يناير كنت في منزلي بينما تلك الفتاة هنا. ترى أين هي الآن؟ ربما لقيت حتفها. كم كان قدر ما لاقت من عذاب عندما كتبت هذه الكلمات: «هل يسمعني أحد؟» - «كلا شيرين، لا أحد يسمعنا، فنحن هنا وحدنا.»
قرأت أسماء أخرى : مهتاب، وباهرام، وكتايون، وبيروز، بالإضافة إلى المزيد من التواريخ: 2 ديسمبر 1981، 28 ديسمبر 1981، 12 فبراير 1982، وغيرها. تمكنت أيضا من قراءة جملة تقول: «أحبك يا فيروز جان.» ترك السجناء السابقون بصماتهم على الجدران المحيطة بي. تتبعت خطا وهميا - كطريق على الخريطة - يصل بين الكلمات والتواريخ والعبارات التي تحيط بي كشواهد القبور. الموت حاضر هنا يلقي بظلاله على كل كلمة ليخلص إلى عبارة واحدة: «هل يسمعني أحد؟»
أنا خائنة، وأستحق هذه المعاناة، وهذا الألم، وهذه الزنزانة. في اللحظة التي دخلت فيها «إيفين» حكم علي بخيانة نفسي. حتى الموت أدار ظهره لي. سوف يكرهونني؛ والداي، وأندريه، والقساوسة، وأصدقائي. وماذا عنك يا الله؟ هل تكرهني أيضا؟ كلا، لا أعتقد ذلك، وإن كنت لا أستبعده. ما هذا العبث؟ من أكون حتى أقرر كيف تفكر؟ لكنك من وضعني هنا، أليس كذلك؟ كان من الممكن أن تتركني أموت، لكنني بقيت على قيد الحياة. هذا إذن قرارك وليس قراري. ماذا كنت تتوقع مني؟ أرجوك، أتوسل إليك، قل شيئا ...
لكن الله لم يقل شيئا. ***
كما وعدني، أحضر علي إفطارا في الصباح مكونا من خبز البربري ومربى الكرز الحامض المعدة في المنزل. كان الشاي موضوعا في كوب بلاستيكي وتفوح منه رائحة زكية ليست كرائحة الكافور. قضيت النهار أفكر فيما يفعله أندريه ووالداي الآن. أكاد أجزم أن أمي تجلس الآن في مقعدها المفضل تحيك الملابس أو تحتسي الشاي، وأن أبي في العمل، أما أندريه ... حسنا لا أدري ماذا يفعل. كنا في أواخر فصل الربيع والدراسة انتهت، فلم يكن يعمل بالتدريس في ذلك الوقت بالتأكيد. هل أصبحت ذكرى لديهم؟ أم ما زلت أتمتع بحضور حي، يدعون لي ويسامحونني؟
هل يسمعني أحد؟ •••
تلك الليلة اصطحبني علي في السادسة مساء، وأخبرني أننا ذاهبان لمقابلة والديه. لم يكن المنزل بعيدا عن «إيفين»، وعندما وصلنا أوقف السيارة في الشارع الهادئ. كانت الحوائط القرميدية العتيقة ترتفع على جانبي الطريق، وخلفها تقبع أشجار القيقب والصفصاف والحور العتيقة الشاهقة، ولكنها تتضاءل كالأعشاب أمام ضخامة جبال «ألبرز» في الخلفية. كان حلقي جافا ويداي باردتين مبللتين بالعرق، ومع أن عليا طمأنني لطيبة والديه الشديدة، فلم تكن لدي فكرة عما قد أتوقعه. تبعته إلى باب معدني أخضر اللون، وانتظرت حتى قرع الجرس، ففتحت لنا الباب امرأة ضئيلة الحجم ترتدي شادورا أبيض اللون، خمنت أنها فاطمة خانم والدة علي مع أنني توقعتها أكبر من ذلك.
قال علي وهو يقبل جبينها: «السلام عليكم يا أمي. أعرفك بمارينا.»
ابتسمت وقالت: «السلام عليكم عزيزتي. أهلا بك.» كانت عيناها البنيتان الصغيرتان تدققان في وجهي بفضول، ووجهها يشي بالطيبة.
دخلنا عبر الباب إلى الفناء الأمامي، فرأيت ممرا ضيقا مفروشا بحصى رمادية ينحرف إلى اليمين ثم يختفي بين أشجار الجوز والقيقب العتيقة، وسرعان ما ظهر المنزل الكبير والكروم يغطي جدرانه. أحاطت الأصص الفخار المزروعة بأزهار الجيرانيوم والأقحوان بالدرج العريض الذي يؤدي إلى الشرفة الواسعة.
داخل المنزل رأيت السجاجيد الفارسية الجميلة الثمينة تغطي الأرض، وكانت شقيقة علي - أكرام - هناك مع زوجها مسعود. كان وجهها مستديرا وعيناها بنيتين واسعتين ووجنتاها متوردتين. ترددت بين معانقتها أو مصافحتها أو عدم فعل شيء على الإطلاق؛ بعض المسلمين المتعصبين يعتبرون المسيحيين غير طاهرين، ولذا قررت ألا ألمسها كي لا تشعر بالضيق. عانق علي والده وقبله على وجنتيه. كان أطول من علي بنحو خمسة سنتيمترات، ونحيلا ذا لحية رمادية مهذبة. حيتني الأسرة أحسن تحية، لكني استشعرت عدم ارتياحهم، فهم لا يرون في فتاة مسيحية وسجينة سياسية عروسا مناسبة لابنهم، ولم أكن ألومهم على محاولة معرفة ما جذب ابنهم في تلك الفتاة الغريبة شاحبة الوجه.
انتقلنا إلى غرفة المعيشة التي كانت فسيحة ومزخرفة على نحو جذاب، وعلى كل موائد القهوة وضعت بعض الفواكه والحلوى في أطباق كبيرة من الفضة والكريستال. جلست على أريكة بجوار أكرام، وقدمت لنا والدة علي بعض الشاي المعطر، ولاحظت أنها تراقبني معظم الوقت، وشعرت بنظرة شفقة في عينيها. أخذت أحتسي الشاي الذي صب في أكواب زجاجية أنيقة مذهبة الحواف، وبدأت أشعر بالارتياح قليلا. بدا الأمر وكأني ذهبت إلى منزل أحد معارفي في زيارة عادية. قدمت لي أكرام بعض كعك الأرز فتناولت واحدة، ثم شرع السيد موسوي يتحدث عن آخر أنباء عمله مع علي. كان يملك متجرا في سوق طهران، ويعتمد على استيراد البضائع وتصديرها مثل السجاد الإيراني والفستق. وسرعان ما قدم العشاء المكون من الأرز طويل الحبة بالزعفران والدجاج المشوي ويخنة اللحم بالأعشاب والسلطة، ومع أن رائحة الطعام كانت شهية، لم أشعر بالجوع. ربما يتناول والداي العشاء أيضا.
وبعد أن فرغنا من تناول الطعام قال السيد موسوي: «إنه موقف صعب يا مارينا، وعلي أن أخبرك برأيي، فأنت بحاجة إلى إدراك حقيقة موقفك لا سيما وأنك ما زلت صغيرة.»
كان السيد موسوي بوصفه مسلما متدينا يتبع عادة غض البصر عن النساء من غير المحارم، فلم ينظر في عيني مباشرة.
اندفع علي معترضا: «أبي، لقد ناقشنا هذا الأمر آلاف المرات من قبل.» - «هذا صحيح، لكني لا أذكر أن مارينا كانت معنا في أي مرة من تلك المرات، فأرجو أن تصبر قليلا ودعني أتحدث مع من ستكون زوجة لابني.» - «حسنا يا أبي.» - «ابنتي العزيزة، لا بد أن تعرفي أني أتفهم الصعوبات التي تواجهينها. سأسألك بضعة أسئلة وأريدك أن تصدقيني القول في الإجابة عنها. هل توافقين؟» - «نعم سيدي.» - «هل أحسن ابني معاملتك؟»
أجبت وأنا أنظر نحو علي: «نعم يا سيدي.» فابتسم لي. - «هل ترغبين في الزواج منه؟» - «لا أرغب في الزواج منه، لكنه يرغب في الزواج مني، وقد تحمل متاعب عديدة كي ينقذ حياتي، وأنا أتفهم وضعي الحالي، وقد وعدني أن يعتني بي جيدا.»
تمنيت ألا أكون قد أخطأت في شيء.
قال السيد موسوي إنني فتاة ذكية، وأبدو أكثر نضجا مما يقتضيه عمري، وأخبرني بأنني كنت عدوة لله وللحكومة الإسلامية وكنت أستحق الموت، ولكن عليا تدخل لإنقاذ حياتي، لأنه آمن أنني قد أتعلم من أخطائي وأتغير. تمنى السيد موسوي أيضا أن أدرك أن مارينا التي كنت أعرفها قبل دخول «إيفين» قد ماتت، وأني سأبدأ حياة جديدة على دين الإسلام، وأن اعتناقي الدين الإسلامي سوف يمحو ذنوبي وآثامي، وأخبرني أيضا بأنه يحمل ابنه مسئولية وعوده لي، فقد حاول أن يثنيه عن عزمه على الزواج مني، لكن عليا رفض الاستماع له. لطالما كان علي ابنا بارا ولم يفعل أي شيء ضد رغبة والده قط، لكنه لم يصر من قبل على شيء كهذا، وهو ما جعل السيد موسوي يوافق على هذا الزواج شريطة أن أعتنق الإسلام. كان يدرك أن عائلتي قد تنبذني إن تخليت عن ديني، فوعدني أن يعاملني كابنته، وأن يحميني شخصيا، ويعمل جاهدا على تحقيق ما فيه الخير لي ما احترمت ديني الجديد واتبعت السلوك الإسلامي الحسن وكنت زوجة مخلصة لابنه.
بعد أن أنهينا الحديث تساءل السيد موسوي: «هل اتفقنا جميعا على هذا الأمر؟»
أجاب الجميع: «نعم.»
فوجئت بالجهود التي يبذلها والد علي لحل هذا الموقف الصعب، ومع أن منظورينا للأمور يختلفان تماما، فقد وجدت أني أحترم السيد موسوي. واضح أنه يحب عليا ويهتم بسعادته. لو كان أخي هو الذي يرغب في الزواج من فتاة لا يوافق عليها والداي، ما كان والدي ليدعو إلى انعقاد اجتماع عائلي، لكنه على الأغلب كان سيخبر أخي بأنه إن تزوج تلك الفتاة فلن يرغب في رؤيته مرة أخرى.
قال السيد موسوي: «هكذا يا مارينا، أرحب بك فردا في عائلتنا. لقد أصبحت ابنتي الآن، ونظرا للظروف الاستثنائية فسوف نقيم حفل زفاف محدودا هنا في منزلنا. لا تقلقي يا عزيزتي، فلست مضطرة إلى إخبار عائلتك الآن، فنحن عائلتك الجديدة وسوف نقدم لك كل ما تحتاجين. وأنت يا بني، لطالما كنت ابنا بارا ونتمنى لك السعادة في هذا الزواج. مبارك عليك يا ولدي.»
وهنا نهض علي وقبل والده وشكره، بينما عانقتني والدته وهي تبكي. •••
سألني علي أثناء عودتنا إلى «إيفين»: «ما رأيك في أسرتي؟ هل أحببتهم؟» - «إنهم يحبونك كثيرا. أسرتي مختلفة.» - «ماذا تقصدين بكلمة «مختلفة»؟»
أخبرته أني أحب والدي وأفتقدهما، لكنهما طالما كانا بعيدين عني، فلم نتناقش جديا بشأن أي موضوع قط، فقال إنه يأسف لسماع ذلك، وإن والده جاد للغاية فيما يتعلق بانضمامي إلى أسرتهم، ثم قال : «في غضون أسبوع سنقيم مراسم إشهارك للإسلام في إيفين، وسنقيم حفل زفافنا يوم الجمعة بعدها بأسبوعين.»
كانت الأحداث تتوالي سريعا بطريقة لا يمكنني ملاحقتها، لكنه أكد لي أن لا داعي للقلق، وأن كل ما علي أن أفكر فيه هو تجهيز أثاث المنزل. كان ينوي اصطحابي للتسوق في اليوم التالي، لكنني لم أفهم كيف يمكن أن أذهب للتسوق.
كنت قد توقعت أن تعاملني أسرته معاملة قاسية دونية، لكنهم كانوا ودودين للغاية، بل كانوا تجسيدا لكل ما أفتقده في أسرتي. كان من الصعب علي أن أتخيل عليا ابنا، لكني الآن أدرك أنه قد أحب ونال حبا في المقابل.
قال: «بالمناسبة، كل من يعتنق الإسلام عليه أن يتلقى دروسا في الدين الإسلامي والقرآن، وأن يختار اسما إسلاميا، وأنت قد درست الإسلام بالفعل منذ إلقاء القبض عليك، وهكذا لا ينقصك سوى الاسم. أريدك أن تعرفي أني أرى اسمك جميلا وأحبه ولن أناديك بأي اسم آخر، لكن عليك أن تختاري اسما من أجل الأوراق الرسمية فحسب.
وصل الحال بي إلى أني سأحمل اسما جديدا. بدا الأمر وكأنه يمزقني قطعة قطعة؛ كأنه يشرحني وأنا على قيد الحياة. يمكنه أن يسميني ما يشاء.
قلت له: «يمكنك أن تختار لي اسما.» - «كلا، أود أن تفعلي ذلك بنفسك.»
أول اسم خطر ببالي هو فاطمة، فقلته بصوت مسموع. - «اسم أمي! كم سيسعدها ذلك!»
سوف أولي ظهري للمسيح، لا مفر من ذلك. خطر في بالي يهوذا، فقد خان المسيح أيضا. هل أسير في نفس الطريق؟ لم يدرك يهوذا الخطأ الفادح الذي ارتكبه إلا في نهاية الأمر، فأنهى حياته بيده. لقد فقد الإيمان والأمل واستسلم للظلام. ألم يكن ذلك خطأه الأكبر؟ ربما لو واجه الحقيقة، ربما لو سأل الله العفو والمغفرة، لأنقذت روحه. عندما قبض على المسيح أنكر القديس بطرس معرفته به ثلاث مرات، لكن القديس بطرس آمن بعفو المسيح وسأله إياه. الله محبة، والمسيح خبير بمعنى العذاب، ولذا لن أوضح له أي شيء، فهو يعلم كل شيء.
علي أن أودع أندريه ؛ أودعه فقط دون أن أقول شيئا. علي أيضا أن أخبر والدي، لكن يمكنني البدء بإخبارهما بأمر اعتناقي الإسلام وأرى كيف سيكون رد فعلهما. أرغب أيضا في رؤية الكنيسة مرة أخيرة، وعندها ربما يمكنني الانتقال لحياتي الجديدة.
وفي اليوم التالي أحضر لي علي بعضا من خبز البربري والجبن للإفطار، وسألني بعد الانتهاء من تناول الطعام: «هل أنت مستعدة للتسوق؟» - «نعم، ولكن أود أن أطلب منك شيئا قبل أن نذهب.» - «ما هو؟» - «أتود حقا مساعدتي كي أحبك؟»
بدا مندهشا، وقال: «نعم.» - «إذن اصطحبني إلى الكنيسة مرة أخيرة كي أودعها.» - «حسنا سوف أصطحبك إلى هناك، وماذا أيضا؟»
أخبرته أن هناك أمرا آخر لن يعجبه، وأوضحت له أني أدرك أننا عقدنا اتفاقا وأني سألتزم بوعودي، وسأبذل كل ما بوسعي كي أكون زوجة مخلصة له، لكني بحاجة لأن أودع أندريه. إن لم أفعل، فلن يتركني شبح الماضي أبدا.
استشعرت من نظرة عينيه أنه لم يكن غاضبا. - «حسنا، علي أن أقبل حقيقة أن قلبك لن يتغير بين عشية وضحاها. سوف أدعك ترينه مرة واحدة، ولكن أريدك أن تعلمي أنني أفعل ذلك مرغما لكي أسعدك فحسب.» - «أشكرك.» - «سأجري الترتيبات اللازمة، وسوف يسمح له بزيارتك في موعد الزيارة، ربما ليس في المرة القادمة ولكن في المرة التي تليها.»
شكرته وأخبرته أني أنوي إخبار والدي عن اعتناقي الإسلام في الزيارة القادمة. - «وهل ستخبرينهما بأمر الزواج أيضا؟» - «كلا، ليس الآن. سأمهد للأمر أولا.» - «كما تشائين.» ***
أشهرت إسلامي بعد ذلك بأسبوع. أقيمت المراسم بعد صلاة الجمعة التي تقام في الخلاء في منطقة هادئة محاطة بالأشجار في «إيفين». كانت السجاجيد تغطي الأرض العشبية، وجلس الموظفون والحرس في صفوف الرجال يتقدمون النساء، لكن أغلب الحاضرين كانوا من الرجال. جلس الجميع في مواجهة منصة خشبية حيث يفترض أن يلقي آية الله جيلاني، إمام الجمعة في ذلك اليوم، الخطبة ويؤمهم للصلاة. تبعت عليا إلى آخر صفين حيث تجلس النساء، كان الجميع جلوسا ما عدا امرأة طويلة القامة كانت واقفة تتلفت حولها. نظرت لها فوجدتها الأخت مريم. ابتسمت وأمسكت يدي، ودعتني للجلوس بجوارها، وسرعان ما وصل آية الله جيلاني وبدأ يلقي الخطبة، حيث تحدث إلى الجمع عن شرور الولايات المتحدة، وأثنى على الجهود التي يبذلها الحرس الثوري وموظفو محاكم الثورة الإسلامية من أجل حماية الإسلام، وبعد الصلاة نادى اسمي وطلب مني الذهاب إلى المنصة، فضغطت الأخت مريم على يدي. نهضت من مكاني وأنا أشعر بالدوار، وأخذ الجميع يحدق إلي. سرت بخطوات مرتجفة وتقدمت نحو آية الله، وطلب مني أن أنطق جملة بسيطة: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»، وصاح الحاضرون «الله أكبر» ثلاث مرات، معبرين عن استحسانهم. وهكذا لم أعد مسيحية.
ظلت العصافير تزقزق على فروع الأشجار المحيطة، ونسيم الجبل يداعب أوراق الشجر لتهتز أشعة الشمس في طريقها إلى الأرض، وظلت السماء زرقاء كما هي. كنت أنتظر غضب الله؛ تمنيت أن تضربني صاعقة من البرق وأنا واقفة في مكاني. كان علي جالسا في الصف الأول ونظرة الحب في عينيه تضربني أسوأ من أي صاعقة برق وتثقل قلبي بالشعور بالذنب. قال المسيح: «أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم»، فهل كان يتوقع مني أن أحب عليا؟ كيف يمكنه أن يتوقع شيئا كهذا؟
نهض علي وأعطاني شادورا أسود مطويا. - «لقد بكت أمي فرحا ودعت لك وهي تحيك هذا الثوب. كلنا فخورون بك.»
تمنيت لو شاركتهم نفس الشعور. •••
في الزيارة التالية أخبرت والدي بأمر اعتناقي الإسلام. لم أتوقع منهما أن يسألاني عن السبب، وبالفعل لم يفعلا؛ فلم يكن أحد يجرؤ أن يسأل عما يحدث في «إيفين». كل ما فعلاه أنهما حدقا إلي وانفجرا بالبكاء. أعتقد أنهما كانا يدركان أن السجين في «إيفين» ليس ابنا أو بنتا، ولا زوجا أو زوجة، ولا أما أو أبا، بل هو سجين فحسب.
أوفى علي بوعده واصطحبني إلى الكنيسة بعدها ببضعة أيام، وأتى معنا صديقه محمد، لأنه - كما أخبرني علي - لم يذهب إلى كنيسة قط، ولديه فضول كي يرى واحدة من الداخل. أوقف علي السيارة أمام المبنى، ووجدتها لم تتغير على الإطلاق، لكني شعرت بأني غريبة تماما عن المكان. خطوت خارج السيارة وسرت نحو الباب الرئيسي فوجدته مغلقا، فذهبت إلى الباب الجانبي وقرعت الجرس.
سمعت صوت القس الأب مارتيني عبر نظام الاتصال الداخلي يتساءل: «من بالباب؟»
انقبض قلبي وأنا أقول: «مارينا.»
اقتربت خطوات متسارعة من الباب، وفتح. وقف الأب مارتيني هنيهة بلا حراك من أثر الصدمة والذهول.
وأخيرا قال: «مارينا، إنني سعيد جدا لرؤيتك. تفضلي ...»
تبعته عبر الساحة إلى حجرة المكتب الصغيرة، وسار علي ومحمد خلفنا.
سأل الأب مارتيني عليا: «هل يمكنني الاتصال بوالدتها وصديقها أندريه كي يحضرا لرؤيتها؟»
تبادلت أنا وعلي النظر، وكاد قلبي يتوقف.
أجاب علي: «نعم يمكنك ذلك.» وطلب من محمد أن يخرج معه.
عاد محمد بعد لحظة، ولكنني لم أر عليا، ربما كان ينتظر في السيارة، وأغلب الظن أنه لا يريد رؤية أندريه. سألني الأب مارتيني عن أحوالي، وأخبرته أنني بخير. ظل ينقل بصره بيني وبين محمد، وأدركت كم أصبح وجودي مخيفا في هذا المكان. لم أفكر من قبل في الخوف الذي يفرضه وجودي، ومع أني أعلم أني لم أعرض القساوسة للخطر، فهم لا يعلمون ذلك. توقعت أن أشعر بالسعادة والأمان هنا، ولكن بوسعي الآن أن أدرك أن السعادة والأمان قد ماتا في اليوم الذي ألقي القبض علي فيه.
وصلت أمي ومعها أندريه خلال بضع دقائق. كم كنت أتمنى أن أخبرهما بالحقيقة كاملة، لكني أدركت أني قد لا أتمكن من ذلك على الإطلاق. هل يمكنني أن أصوغ كل هذا الألم في كلمات؟ لقد أتيت كي أقول وداعا، وهو الشيء الوحيد الذي ينبغي علي فعله. علي أن أمنحهما وأمنح نفسي فرصة للمداواة والنسيان، وعلي أن أغلق الأبواب المؤدية إلى الماضي.
كانت أمي ترتدي وشاحا أزرق كبيرا يغطي رأسها، ومعطفا أسود على الطراز الإسلامي، وسروالا أسود. عانقتني طويلا. كنت أشعر بأضلعها تحت أصابعي؛ لقد فقدت الكثير من الوزن، وكالعادة كانت تفوح منها رائحة السيجار.
همست في أذني: «هل أنت بخير؟»
ظلت يداها تتحسسان ظهري وذراعي محاولة أن تتأكد من سلامة أعضائي، وأخيرا ابتعدت عنها، وظلت عيناها تتفحصني من رأسي إلى أخمص قدمي، ولكن بسبب الشادور الأسود الذي أرتديه لم تستطع رؤية الكثير، فلم يظهر مني سوى وجهي.
أجبتها مبتسمة: «أنا بخير يا أمي.»
تكلفت الابتسامة وسألتني: «كيف حصلت على هذا الشادور؟»
أخبرتها أن صديقة أعطتني إياه.
وهنا ملأ صوت محمد الغرفة: «تعرفون أن مارينا اعتنقت الإسلام، أليس كذلك؟»
ردت أمي والأب مارتيني في صوت واحد: «نعم.»
فتحت أمي حقيبتها، وأخرجت منديلا ورقيا جففت به دموعها.
سألني أندريه وهو ينظر إلي ثم إلى محمد: «أأنت واثقة أنك بخير؟» - «أنا بخير.»
كان لدي الكثير مما أود قوله، لكني لم أستطع التفكير.
لمح أندريه الصراع في عيني، فسألني: «ماذا هناك؟»
تاهت الكلمات بداخلي، فقد تسببت الشهور الأخيرة من حياتي في خلق دائرة من الألم والارتباك حولي جعلتني أسيرة، ليس داخل جدران «إيفين» فحسب، بل داخل نفسي أيضا. فتحت فمي كي أتكلم، لكني لم أقل شيئا.
سألني: «متى ستعودين إلى المنزل؟»
همست: «لن أعود أبدا.»
قال بابتسامة ملؤها اليقين: «سوف أنتظرك.»
أحسست بالحب في عينيه على الرغم من كل شيء. لم أكن بحاجة إلى قول كلمة أخرى؛ أعلم أني لو توسلت إليه أن ينساني فلن يفعل. عندما ينتظرك أحدهم، يعني ذلك أن هناك أملا. كان أندريه حياتي قبل أن أدخل «إيفين»، وعلي أن أتشبث به كي أبقى على قيد الحياة. انهمرت الدموع من عيني، فاستدرت وخرجت من المكان. ركبت السيارة أنا ومحمد، وقادها علي لكنه توقف بعد بضع دقائق.
سألته: «لماذا توقفت؟» - «لم أرك شاحبة هكذا من قبل.» - «أنا بخير، وأشكرك على إحضاري إلى هنا. لم تكن مضطرا لإحضارهما كي يرياني. أنا ممتنة لك، وأعلم أن هذا الأمر لم يكن سهلا عليك.» - «أنسيت أني أحبك؟» - «لا أعرف كيف أشكرك.» - «بل تعرفين.»
الفصل السادس عشر
في يوم زفافنا، في الثالث والعشرين من يوليو 1982، اصطحبني علي بعد صلاة الفجر من الزنزانة الانفرادية في مبنى «209»، حيث قضيت نحو شهر دون أي اتصال بالسجينات الأخريات. جافاني النوم الليلة الماضية، وكان الخوف منقذي؛ إذ شل تفكيري وأفقدني الشعور بأي شيء. جلست في أحد الأركان أحدق إلى النافذة الصغيرة المدعومة بالقضبان وأراقب خطوطها المعدنية الرمادية وهي تتقاطع مع السماء الزرقاء الواسعة في الخلفية لتقسمها إلى مستطيلات مستوية صغيرة. لطالما أحببت الصباح الباكر عندما يمحو الضوء تدريجيا ظلام الليل. لون أزرق داكن يتسلل إلى ظلمة السماء كالمطر الذي يسيل في الصحراء، غير أن هذا الجمال بدا من هنا زائفا.
قرع علي الباب قرعا خفيفا، فارتديت الشادور بيد مرتجفة ووقفت. دخل وهو ينظر في عيني مباشرة وأغلق الباب خلفه، فنظرت للأرض.
اقترب مني أكثر، وقال: «لن تندمي على ذلك. هل نمت بالأمس؟» - «كلا.» - «ولا أنا أيضا. هل أنت مستعدة؟»
أومأت.
ذهبنا إلى منزل والديه صامتين، وفور أن وصلنا غادر علي ووالده المنزل. عانقتني والدته وقبلتني، وأصرت على أن تعد لي إفطارا شهيا. لم أكن أشعر بالجوع، ولكنها لم تقبل أيا من أعذاري. تبعتها إلى المطبخ، فطلبت مني الجلوس وأعدت لي طبقا من البيض المقلي. وعلى النقيض من مطبخ أمي كان مطبخها فسيحا مضيئا. أصدر القدر المعدني الكبير صوت أزيز قطع الصمت المزعج.
بعد دقيقتين قالت: «أراد أفراد العائلة والأصدقاء جميعا أن يحضروا حفل الزفاف. لدي ثلاث شقيقات وشقيقان، وكلهم رزقوا بالأبناء الذين تزوج معظمهم وأنجبوا أيضا، أما السيد موسوي فلديه ثلاثة أشقاء وشقيقة واحدة ولديهم أبناء أيضا، بالإضافة إلى العمات والخالات والأعمام والأخوال وأبنائهم وبناتهم وأصدقاء العائلة. جميعهم حزنوا عندما علموا أننا لن ندعو أحدا لحفل زفاف علي، لكننا أوضحنا لهم الأمر ومعظمهم تفهمه، وهم يرسلون إليك تحياتهم. عندما تصبحين أنت وعلي مستعدين لذلك سأدعوهم لمقابلتك.»
كانت تتحدث في تأن، وتوقفت عدة مرات تحاول انتقاء كلماتها بعناية.
وعاد الصمت المزعج يخيم على المكان ثانية، لا شيء غير صوت الملعقة الخشبية وهي تحتك بالمقلاة.
تنهدت والدة علي وتابعت وهي تقف أمام الموقد وتوليني ظهرها: «أعلم أنك خائفة. ما زلت أذكر يوم زفافي للسيد موسوي، كنت أصغر منك الآن، وكان زواجا تقليديا، فكنت أشعر بالذعر. أخبرني علي بأنك شجاعة، ومما سمعته ورأيته أعلم أنك كذلك، لكني أعلم أيضا أنك تشعرين اليوم بالخوف، ولديك كل الحق في ذلك، خاصة وأن عائلتك ليست بجوارك، ولكن تأكدي أن عليا طيب يشبه والده كثيرا.»
وعندما استدارت إلي كانت كل منا تبكي، فتقدمت نحوي وضمت رأسي إلى صدرها، وأخذت تداعب شعري. لم أشعر براحة كهذه منذ وفاة جدتي. جلسنا معا نتناول البيض، وأوضحت لي أنه من المعتاد أن تأخذ العروس حماما طويلا، وأخبرتني أيضا بأنها تتوقع وصول الماشطة - إحدى صديقاتها المقربات - في غضون ساعتين. لم أكن قد أخذت حماما منذ عدة شهور، بل كنت أكتفي بالاغتسال السريع. تذكرت الليلة التي لم يقدر لي أن أستحم فيها عندما ألقي القبض علي.
قبل أن ترشدني إلى الحمام اصطحبتني إلى إحدى الغرف التي أخليت كي يوضع بها مفرش الزفاف، وهو مفرش مائدة حريري أبيض يبسط على الأرض، وفي منتصفه مرآة كبيرة في إطار فضي، وعلى جانبيها شمعدان بلوري كبير به شمعة بيضاء، وأمام المرآة نسخة من القرآن، بالإضافة إلى صحف فضية ممتلئة بالحلوى والفاكهة تملأ بقية المفرش. علمت أن العادة تقتضي أن يؤدي الملا مراسم عقد الزواج بينما يجلس العروسان على مفرش الزفاف.
في الحمام وجدت السيراميك الفاخر يلمع. ملأت حوض الاستحمام وجلست مسترخية في المياه الساخنة، ومع أننا كنا في فصل الصيف فقد كنت أشعر بالبرد طوال النهار. عندما غمرني دفء المياه الساحر أخذت عضلاتي تسترخي شيئا فشيئا، فأغمضت عيني. لقد منحني الله موهبة أنقذتني كثيرا؛ إذ كان بوسعي التوقف عن التفكير عندما تصبح أفكاري عسيرة الاحتمال، وهكذا لم أفكر فيما سيحدث تلك الليلة.
بعد قليل عندما فترت المياه قليلا، قرع باب الحمام قرعا خفيفا، وأخبرتني أكرام أن الماشطة شيرين خانم قد وصلت، وأضافت: «لا داعي لارتداء الحجاب، فالرجال ما زالوا بالخارج، ولن يعودوا حتى المساء.» ارتديت ملابسي وخرجت من الحمام. في غرفة نوم أكرام القديمة، كانت امرأة ممتلئة الجسم تبسط ملاءة بيضاء على الأرض، وفور أن دخلت الغرفة تفحصتني عيناها من رأسي إلى أخمص قدمي، وأضافت وهي تهز رأسها: «فتاة جميلة، لكنها نحيفة جدا. عليك أن تعتني بتغذيتها جيدا يا فاطمة خانم، فسوف تزداد جمالا إذا امتلأ جسدها قليلا.» ثم تقدمت نحوي ووضعت إصبعها أسفل ذقني وتفحصت وجهي، وقالت: «بشرتها صافية، لكن حاجبيها بحاجة إلى بعض التهذيب.»
قالت والدة علي: «إذا احتجت أي شيء، فستجدينني أنا وأكرام في المطبخ.» وابتسمت لي وهما تغادران الغرفة.
جلست شيرين خانم على الملاءة وقالت: «حسنا يا عزيزتي، أنا جاهزة. اخلعي ملابسك واجلسي أمامي.»
لكني لم أتحرك من مكاني.
ضحكت وقالت: «ماذا تنتظرين؟ هيا! لا داعي للخجل، لا بد من القيام بذلك. ألا تريدين أن تتزيني لزوجك؟»
قلت في نفسي: «كلا، لا أريد.» لكني لم أنطق بها.
خلعت ملابسي ببطء وأنا أرتجف، وجلست على الملاءة وضممت ركبتي لصدري، فطلبت مني شيرين خانم أن أمد ساقي أمامي ففعلت. أمسكت خيطا طويلا، ولفت أحد طرفيه على إصبعها عدة مرات وأمسكت بالطرف الآخر بين أسنانها، ثم انحنت على ساقي، وأخذت تحرك الخيط كالمقص بسرعة مذهلة لإزالة الشعر الزائد. كان الأمر مؤلما، وعندما انتهت طلبت مني أن أغتسل بمياه باردة، وبعد الاغتسال ضفرت شعري الذي كاد يصل إلى خصري وجمعته خلف رأسي.
في الظهيرة علا صوت المؤذن قادما من المسجد داعيا المؤمنين إلى الاستعداد للصلاة الثانية في اليوم. توضأنا، وعندما انتهيت خرجت من الحمام لأجد والدة علي في انتظاري حاملة صرة حريرية بيضاء في يديها. أعطتني إياها، فوجدتها سجادة صلاة جميلة صنعتها بنفسها، وشعرت بأن حنانها يغمرني.
كان والدا علي قد خصصا غرفة للصلاة خالية من كل شيء إلا من السجاجيد الإيرانية السميكة التي تغطي الأرض. وقفنا نستقبل القبلة، وبسطت كل منا سجادتها من أجل الصلاة عليها. كانت سجادتي مزخرفة بخيوط وخرز فضي وذهبي. يبدو أنها قد قضت ساعات عديدة في صنع تلك السجادة.
وبعد الصلاة أعدت أكرام المائدة بالأطباق الخزفية الفاخرة، وجلسنا نتناول الغداء المكون من الباذنجان ويخنة اللحم بالأرز، وبعد الغداء احتسينا الشاي. وأنا أحتسي الشاي لاحظت أن والدة علي تحدق النظر إلي وكأنها تود مصارحتي بشيء مهم، لكنها لا تدري من أين تبدأ، فأطرقت برأسي.
وأخيرا قالت: «مارينا، هناك شيء أود إخبارك به عن علي، ولا أدري إن كنت على علم به أم لا. هل أخبرك من قبل أنه كان سجينا في «إيفين» في عهد الشاه؟»
صدمت مما سمعت، وأجبتها: «كلا، لم يخبرني قط.»
قالت: «ألقى السافاك القبض عليه قبل اندلاع الثورة بثلاثة أعوام وثلاثة أشهر. خارت قواي، ولم أصدق أنه قد ينجو، فقد كان مخلصا جدا للإمام ويكره الشاه وحكومته الفاسدة. توقعت أن يلقوا القبض على السيد موسوي أيضا، لكنهم لم يفعلوا. لكني فقدت عليا. كنت أعلم أنه يلاقي العذاب. ذهبنا إلى «إيفين» وطلبنا رؤيته، لكنهم لم يسمحوا لنا بالزيارة مدة ثلاثة أشهر، وعندما سمح لنا بالزيارة أخيرا، بدا ابني القوي الوسيم هزيلا واهنا.»
سالت الدموع من عيني فاطمة خانم وهي تتابع: «أطلق سراحه قبل نجاح الثورة بثلاثة أشهر دون أن يخبرونا أنهم سيطلقون سراحه. في ذلك اليوم كنت في المطبخ عندما سمعت جرس الباب يدق. كان يوما خريفيا غائما، وأوراق الشجر تساقطت لتفترش الفناء. هرعت نحو الباب أتساءل من الطارق، فلم يجبني أحد، لكني عرفت أنه هو. لا أدري كيف عرفت، لكن هذا ما حدث. فتحت الباب ووجدته هو، فابتسم وعانقني طويلا. كان نحيلا للغاية، حتى إنني أحسست بعظامه تحت أصابعي، وكانت ابتسامته مختلفة؛ إذ شابها الإرهاق والحزن. كنت أعرف أنه مر بتجارب مؤلمة، وأن الحزن المطل من عينيه سيلازمه فترة طويلة. استأنف حياته على الفور، لكنه تغير، فلم يفارقه الألم الذي يشعر به قط، وأحيانا كنت أشعر به يتجول في المنزل طوال الليل. ومنذ بضعة أشهر عاد من العمل ذات يوم وحزم حقائبه وذهب إلى الجبهة كي يحارب العراقيين دون أن يقدم لي أي تفسير. صدمت بذلك، فلم يكن هذا طبعه. لا تسيئي فهمي؛ لم يفاجئني ذهابه إلى الجبهة، فقد ذهب إلى هناك من قبل، لكن التوقيت كان غريبا. أدركت أن شيئا ما قد حدث، لكنه لم يخبرني ما هو. وفي الشهور الأربعة التي غاب فيها جافاني النوم، وأخيرا تلقيت اتصالا ذات يوم أخبرت فيه بأنه قد أصيب بطلق ناري في ساقه ويرقد في المستشفى، فحمدت الله آلاف المرات، وعندما ذهبت لرؤيته ابتسم لي كالأيام الخوالي وكأنه عاد طفلا صغيرا، وأخبرني أن شيئا رائعا قد حدث له، فظننت في بادئ الأمر أنه فقد عقله.»
إذن كان علي سجينا في «إيفين» وتعرض للتعذيب هناك، ربما لهذا السبب سألني بعد أن تعرضت للجلد واقتادني إلى الزنزانة الانفرادية هل أحتاج شيئا يساعدني في تخفيف الألم، وطلب من الطبيب أن يأتي لزيارتي؛ ربما فعل ذلك لأنه شعر بالمعاناة مثلي تماما.
بعد اندلاع الثورة رغب علي في الانتقام، فانضم للعمل في «إيفين»، وخلال الأشهر الأولى بعد الثورة كان معظم سجناء «إيفين» من عملاء السافاك السابقين، فحصل على فرصته كي ينتقم منهم؛ العين بالعين. لم يكونوا أعداء للإسلام فحسب، بل كانوا أعداءه الشخصيين أيضا، لكن الأمور تغيرت، ومن كانوا يحاربون معه في زمن الشاه من «المجاهدين» و«الفدائيين» أصبحوا هم الذين يلقى القبض عليهم. أنا متأكدة أنه لم يكن عسيرا عليه في بداية الأمر تبرير القبض عليهم، فقد أصبح رفاق الزنزانة السابقين وأتباعهم أعداء للدولة الإسلامية، أو كما قال الخميني أصبحوا أعداء لله ورسوله. نشأ علي مسلما متدينا، واعتاد اتباع الإمام حتى لو كلفه ذلك حياته. ربما بدأ يرى أن ما يحدث في «إيفين» باسم الإسلام خطأ، لكن واجه صعوبة في تقبل الحقيقة بسبب إخلاصه لدينه، ولم يدر كيف يتعامل معها. لقد أعماه إيمانه، غير أن تجربته الشخصية ربما تدفعه أحيانا لأن يرى الموقف من وجهة نظر السجناء. كان والداه فخورين بوجوده في الخط الأمامي للجبهة ضد أعداء الإسلام، ومن وجهة نظرهما كان عمله محققا من أشرف الأعمال التي يمكن للمسلم توليها، فكل ما حدث في «إيفين» بعد الثورة كان مبررا؛ كانوا يدافعون عن أسلوب حياتهم وقيمهم؛ كانوا ينظرون إليها على أنها حرب بين الخير والشر. •••
وبعد أن انتهينا من تناول الطعام وتنظيف المائدة سألتني والدة علي هل أعرف الطهي، فأجبتها: «نعم، ولكن ليس بنفس براعتك أنت وأكرام. تعلمت من كتب الطهي، فأمي لم تكن تحب دخولي المطبخ.» - «هل ترغبين في مساعدتنا في إعداد العشاء؟ علينا أن نبدأ في الحال، فسوف يحضر الملا أغا في الساعة الخامسة، وسوف نتناول العشاء بعد حفل الزفاف.»
ساعدتهما في المطبخ، ففرمت وطهوت أنا وأكرام البصل والبقدونس الطازج والثوم وبعض الأعشاب الأخرى، بينما قطعت والدة علي اللحم وسلقت الأرز طويل الحبة بعد أن تبلت قطع الدجاج في خليط من الزبادي وصفار البيض والزعفران. أعددنا أيضا يخنة اللحم بالأعشاب، والتاكين (خليط من الدجاج والأرز والزبادي وصفار البيض والزعفران).
وصل السيد موسوي وعلي ومسعود زوج أكرام نحو الساعة الرابعة، واقتادتني والدة علي إلى الحمام وطلبت مني أن أغتسل مرة أخرى، لأن رائحة البصل تفوح مني. وبعد الاغتسال ارتديت المعطف الإسلامي الأبيض، ووشاحا أبيض كبيرا، وسروالا أبيض، والشادور الأبيض الذي وضعته لي والدة علي على الفراش، وسرعان ما وجدت أحدهم يقرع باب الغرفة، ونادتني أكرام: «مارينا، لقد حان الوقت.»
فتحت الباب وخرجت دون أن أعطي نفسي فرصة للتفكير. كان علي جالسا على مفرش الزفاف، فجلست بجواره وأنا أتساءل هل لاحظ أحد منهم أنني أرتجف. دخل الملا الغرفة، وردد بعض الجمل باللغة العربية، ربما كنت سأفهمها لو كنت أكثر تركيزا، ثم سألني بالفارسية: «فاطمة خانم مرادي بخت، هل تقبلين السيد علي موسوي زوجا لك؟»
كنت أعلم أنه من المعتاد ألا تجيب العروس على هذا السؤال في المرة الأولى، وعلى الملا أن ينتظر الإجابة، وحين لا يحصل عليها يكرر السؤال مرتين أخريين، لكني أجبت في المرة الأولى؛ إذ لم يكن يعنيني سوى الانتهاء من ذلك. •••
بعد تناول العشاء ذهبت مع علي إلى المنزل الذي اشتراه لنا. ظل ممسكا بيدي اليسرى حتى وصلنا إلى المنزل، وكانت أول مرة يلمسني بتلك الطريقة.
وبينما أخطو إلى منزلي الجديد وحياتي الجديدة الغريبة، قطعت على نفسي وعدا بألا أنظر خلفي، وألا ألتفت إلى الماضي، لكنه وعد صعب الوفاء به. قادني علي إلى غرفة النوم حيث تكدست الهدايا على الفراش، وقال: «افتحيها، بعضها مني والبعض الآخر من العائلة.»
فتحتها فوجدت العديد من الحلي، والأواني والكئوس الكريستالية، والأطباق والصحون المطلية بالفضة، وجلس علي على الفراش بجواري ينظر إلي وأنا أفتح الهدايا. - «أصبحت زوجك الآن، ولا داعي لارتداء الحجاب.»
تمنيت لو كان بوسعي الاختباء، لكنه جذب الوشاح الذي يغطي شعري بعيدا، فحاولت أن آخذه منه مرة أخرى. - «أتفهم قلقك، ولكن لا داعي له، فسوف تعتادين علي.»
ثم حل شعري المضفور، وتخلله بأصابعه. - «شعرك جميل، إنه ناعم كالحرير.»
ثم ألبسني عقدا وأسورة، ونظرت إلى خاتم زواجي الذي تلمع به ماسة كبيرة.
قال علي وهو يطوقني بذراعيه ويقبل شعري وعنقي: «أردتك منذ أن وقعت عيناي عليك.» لكني دفعته بعيدا. - «مارينا، اهدئي قليلا. تعرفين كم انتظرت تلك اللحظة. الآن أصبحت لي أخيرا، ويمكنني أن ألمسك. لا داعي للخوف، فلن أؤذيك، أعدك بذلك.»
فك أزرار قميصه، فأغمضت عيني وقد تجمدت من الرعب، وسرعان ما شعرت بأصابعه تفك أزرار معطفي، ففتحت عيني وحاولت أن أقاومه، ولكنه ألقى بثقله علي فوق الفراش ومنعني من الحركة. رجوته أن يتوقف، لكنه قال إنه لا يستطيع. مزق ملابسي فصرخت. تماس جسدانا، وشعرت بدفء جسده الغريب وقد فاحت منه رائحة الشامبو والصابون. استجمعت قوتي وجاهدت كي أدفعه بعيدا عني، لكن بلا فائدة، فقد كان ضخما قويا. تنامى داخلي شعور رهيب بالغضب والخوف والإذلال كعاصفة لا تجد لها متنفسا، حتى لم يتبق لدي قدرة على المقاومة؛ حتى تقبلت حقيقة أن لا مهرب من الأمر؛ حتى استسلمت له. شعرت بالألم، لكنه كان مفزعا لا يشبه ألم الجلد بالسوط. عندما كنت أتعرض للتعذيب، تمكنت من الاحتفاظ بالشعور بالسيطرة؛ نوع غريب من القوة التي لا يمكن للعذاب البدني أن يقضي عليها، أما الآن فقد أصبحت له.
بكيت طوال الليل، وكنت أحترق في داخلي، بينما يحيطني بذراعه. وقبل الفجر استيقظ للصلاة ولكنني بقيت في الفراش.
جلس على حافة الفراش وقبل وجنتي وذراعي وقال: «يجب أن ألمسك كي أصدق أنك أصبحت زوجتي. هل آذيتك؟» - «نعم.» - «سوف تتحسن الأمور.»
استغرقت في النوم بعد أن غادر الفراش، فقد كان النوم ملاذي الوحيد. ***
نحو الساعة الثامنة ناداني علي من المطبخ: «الإفطار جاهز.» كانت الشمس قد تسللت عبر الأبواب المنزلقة، فنهضت وفتحتها. هب النسيم حاملا تغريد العصافير. كانت الساحة الخلفية جميلة، تفتحت فيها أزهار الجيرانيوم والأقحوان. نادت إحدى جاراتنا أطفالها كي يدخلوا لتناول الإفطار. شعرت كأني أحيا حياة شخص آخر. كان يوما صيفيا رائعا خلت فيه السماء من السحب، لكني تمنيت أن يغطي الثلج الأرض، فقد اشتقت للمسته الباردة على بشرتي الدافئة، وأردت أن يسري الخدر في أصابعي وأن تؤلمني من لمس الجليد، وأردت أيضا أن تختفي كل درجات اللونين الأخضر والأحمر تحت ثقل الشتاء بلونه الأبيض، كي أحلم وأؤكد لنفسي أن الأمور ستختلف في الربيع.
سمعته يقول من خلفي: «أنت هنا؟ الإفطار جاهز والشاي سيبرد، وهناك خبز طازج على المائدة.»
وجدت نفسي بين ذراعيه مرة أخرى، فهمس في أذني: «كم أنا سعيد!» أخبرني أنه عندما رآني أول مرة كنت جالسة على الأرض في إحدى الممرات، ولكن على النقيض من كل السيدات اللواتي يرتدين الشادور الأسود كنت قد غطيت رأسي بشال كشمير من اللون البني الفاتح، ومع أنني بدوت ضئيلة الحجم، فقد كنت جالسة وظهري مستقيم على الحائط مما جعلني أبدو أطول من كل من حولي. كنت أرفع رأسي نحو السقف، وشفتاي تتحركان برفق كأنني أردد دعاء ما، وبدوت هادئة وسط عالم الخوف واليأس المحيطين بي، وحاول أن يصرف نظره بعيدا عني ولكنه لم يستطع.
في الأيام التالية أخذ علي يدللني حتى شعرت بعدم الارتياح، فقد اعتدت الاعتماد على نفسي، ولم أرغب في أن أعامل كطفلة. الفتاة التي كنت عليها من قبل قد رحلت، وأنا الآن امرأة متزوجة. لم يعد بوسعي الاختباء أسفل فراشي كما كنت أفعل. ربما كان علي ابتلائي الذي يجب أن أرضى به، أو على الأقل يمكنني أن أحاول ذلك. كل ما أتمناه أن يتركني وشأني في الفراش، ففي كل مرة يخلع فيها ملابسه ويلمسني أتوسل إليه أن يتوقف، وفي بعض الأحيان يوافق والبعض الآخر يرفض ويقول لي إن علي الاعتياد على ذلك الأمر، فهو جزء مهم من الزواج، وإذا توقفت عن مقاومته فسوف يصبح الأمر أقل إيلاما.
وأخيرا بعد مرور أسبوع على زواجنا نهضت من الفراش عند الفجر، وقررت أن أحيا وأكف عن الشفقة على نفسي، فما حدث قد حدث وليس بإمكاني تغييره. شرعت في تنظيف المنزل وإعداد الإفطار، وأخبرت عليا أني أرغب في دعوة والديه وشقيقته على العشاء، فظن أنني جننت، وأخبرني أنه لم يفكر أني قد أكون على دراية بالطهو، لكني أكدت له أني تعلمت الطهو بالفعل، فاستسلم في نهاية الأمر.
قال: «حسنا، سوف أدعو والدي وشقيقتي، ثم نذهب لشراء بعض الخضراوات والفاكهة. وهناك أمر آخر يا مارينا.» - «ما هو؟» - «أود أن أشكرك.» - «علام تشكرني؟» - «على المحاولة.»
انشرح صدري قليلا عما كنت عليه منذ وقت طويل، وبدأت إعداد العشاء بعد تناول الغداء مباشرة. خرج علي مدة ساعتين، وعندما عاد كان المنزل يعبق برائحة اللازانيا، ويخنة اللحم وعيش الغراب، والأرز، وكنت قد بدأت للتو في إعداد كعك التفاح عندما دخل المطبخ وأخبرني أن رائحة الطعام أثارت شهيته. سألني هل علمتني أمي الطهو، لكني أخبرته أن أمي لم تكن صبورة لتعلمني أي شيء؛ كنت أحب الطهو، وتعلمت من الكتب. عرض علي أن يعد الشاي، ووضع الماء في إناء كي يغلي، وبعد أن وضع بعض أوراق الشاي في إبريق الشاي الخزفي تقدم نحوي وأنا أعد بعض البيض. ما زال يخيفني؛ ففي كل مرة يخطو فيها بقربي؛ في كل مرة أشعر بأنفاسه على جسدي؛ في كل مرة يلمسني فيها أرغب في الهرب. أحاط وجهي بيديه وقبل جبيني، وتساءلت هل سأعتاد على لمسته يوما.
وصل والدا علي وأكرام ومسعود، وسروا بكل ما أعددته. كانت والدة علي مصابة بالبرد، فأعددت لها بعض الشاي بالليمون بعد أن تناولنا العشاء والحلوى، وأحضرت لها بطانية كي ترتاح على الأريكة ، بينما دخلت أكرام المطبخ معي كي تساعدني في غسل الأطباق.
قالت أكرام بابتسامة متكلفة: «كان العشاء لذيذا.»
استطعت أن أشعر بعدم الارتياح في صوتها، لكنها حاولت التعامل معي بلطف، وقدرت لها ذلك. - «أشكرك، لست طاهية ماهرة، لكني أحاول. أنا على ثقة أنك أكثر مهارة مني في الطهو.» - «ليس إلى هذا الحد.»
ملأ الصمت الفراغ، وبدأت أضع بقايا الطعام في الثلاجة، وفجأة سألتني: «لماذا تزوجت أخي؟»
نظرت في عينيها مباشرة، ولكنها تهربت من نظرتي. - «هل أخبرك أخوك أي شيء عما حدث بيننا؟» - «لم يخبرني بالكثير.» - «ولم لا تسألينه؟» - «لن يخبرني، وأود أن أسمع منك أنت.» - «تزوجته لأنه أراد ذلك.» - «هذا ليس كافيا.» - «ولم لا؟ لم تزوجت أنت زوجك؟» - «كان زواجي تقليديا، فقد اتفق والداي مع والدي زوجي على أن أتزوج ابنهما عندما أكبر، لكنك تنتمين إلى عائلة مختلفة وثقافة مختلفة، ولو لم ترغبي في الزواج منه لكان بإمكانك الرفض.» - «ولم تظنين أني لم أرغب في الزواج منه؟» - «لا أدري؛ أعلم ذلك فحسب، فالمرأة يمكنها أن تشعر بتلك الأشياء.»
أخذت نفسا عميقا وقلت لها: «لا تنسي أنني سجينة، وقد هددني علي بأنني إن لم أتزوجه فسوف يلحق الأذى بمن أحب.» - «لا يمكن أن يفعل علي شيئا كهذا!» - «ولهذا السبب لم أرد إخبارك. كنت أعلم أنك لن تصدقيني لأنك تحبين أخاك.» - «هل تقسمين على المصحف بأنه قد فعل ذلك؟» - «نعم، تلك هي الحقيقة.»
انهارت على أحد المقاعد، وهزت رأسها. - «إنه أمر فظيع! هل تكرهينه لهذا السبب؟»
لم أدر ماذا أقول، ليس لأنني لا أرغب في قول الحقيقة، بل لأني أدركت أني لا أعرف الإجابة الحقيقية لهذا السؤال. منذ بضعة أيام كنت أستطيع أن أقول باقتناع تام إنني أكرهه، لكنني لم أعد متأكدة من حقيقة مشاعري. شيء ما تغير؛ ليس تغيرا جذريا، بل تغيرا طفيفا. لم أفهم سبب تغير مشاعري نحو علي قليلا، كل ما كنت أعرفه أن لدي كل الحق في أن أكرهه. - «كلا، لا أدري. كنت أكرهه، لكني لم أعد كذلك، فالكراهية كلمة كبيرة جدا.»
نظرت في عيني. - «وهل اعتنقت الإسلام مضطرة أيضا؟» - «نعم.» - «إذن لم تكوني مقتنعة؟» - «كلا، لكن لا تنسي أني صارحتك بالحقيقة لأنك أصررت على معرفتها، ولم أرغب في الكذب، لكن الأمر قد انتهى الآن. لقد أصبحت مسلمة وزوجة لأخيك، وقد قطعت وعدا بأن أكون مخلصة له وسأفي به. لا أرغب في الحديث عن ذلك الأمر، فما حدث قد حدث.» - «ليوفقك الله ويمدك بالعون؛ لا بد أنه أمر عسير عليك.» - «على الأقل يسعدني أن هناك من يفهم ذلك.»
أضاءت وجهها ابتسامة صادقة.
سألتها: «كم مضى على زواجك؟» - «سبعة أعوام.» - «وهل تحبين زوجك؟»
فوجئت بالسؤال، ونظرت لي وكأنها لم تفكر في مشاعرها نحوه قط.
قالت وهي تضحك وتحدق في خاتم زواجها متتبعة ماسته المتلألئة بأصابعها: «الحب كلمة كبيرة، ولا أعتقد أنه موجود إلا في القصص الخيالية. زوجي طيب ومخلص لي، وأحيا حياة كريمة. يمكنك القول إنني سعيدة فيما عدا ...» شردت نظرتها، وأدركت ألم الاشتياق الذي يشعر به من كابد آلام الحرمان، مما جعل قلبي يرتجف.
همست: «فيما عدا ماذا؟»
قالت: «أنا لا أنجب.» ثم تنهدت وكأنها أصعب جملة تلفظت بها على الإطلاق. «لقد جربت كل شيء. في بداية الأمر ظل الناس يسألونني عن الحمل، ولكن بعد مرور عامين أصابهم اليأس، والآن أصبحت المرأة العقيم، ولكن كما أخبرتك فإن زوجي طيب للغاية. ومع أني أعلم كم يتوق لأن يرزق بصبي، فإنه أكد لي أنه لن يتزوج امرأة أخرى.»
قاطعتنا والدة علي وهي تدخل المطبخ: «ماذا تفعلان هنا أيتها السيدتان؟ لن تنتهيا من الكلام أبدا، وزوجاكما يريدان المزيد من الشاي.»
فور أن دخلنا غرفة الجلوس دق جرس الهاتف وأجاب علي. شعرت بأن تلك المكالمة من «إيفين»، فقد ظل يستمع معظم الوقت وبدا عليه القلق، بينما خيم الصمت على الجميع. بعد انتهاء المكالمة سألته ما الأمر.
قال: «نعلم منذ فترة أن «المجاهدين» يخططون لاغتيال بعض الأفراد ممن يشغلون مناصب مهمة في «إيفين». كنا نحاول اكتشاف أصحاب تلك المؤامرة والقبض عليهم، وبالفعل ألقي القبض على عدد منهم مؤخرا وخضعوا للتحقيق. كان محمد هو من يحدثني الآن، وأخبرني أن المعلومات التي حصل عليها تفيد بأن اسمي مدرج في قائمة الاغتيالات. يعتقد زملائي وأصدقائي أن بقائي أنا ومارينا في «إيفين» فترة سيكون أكثر أمانا لنا. لست قلقا على نفسي، لكني لا أرغب في تعريض حياة مارينا للخطر.»
كنت قد خمنت أنه يشغل منصبا مهما في «إيفين»، والآن تأكد شعوري.
قال السيد موسوي وقد بدا عليه القلق: «أعتقد أن البقاء في «إيفين» فكرة جيدة، فمن الأفضل توخي الحذر.»
لم أكن في ذلك الوقت على علم باغتيال بعض المسئولين الحكوميين واتهام «المجاهدين» في جميع تلك الاغتيالات، وذلك لأنني لم أكن أشاهد التلفاز أو أستمع إلى المذياع أو أقرأ الصحف.
سأل علي: «مارينا، هل توافقين على أن نبقى في «إيفين» فترة؟ المكان هناك أكثر أمانا.»
قلت: «بالطبع» وأنا أعلم أن لا خيار لي حقيقة. - «سوف أعوضك عن هذا عندما تتحسن الأوضاع.» •••
ذهبنا للفراش بعد أن انصرف الضيوف. - «علي، هل ترى إلى أين يقود العنف الناس؟ أنت تقتلهم، وهم يقتلونك. متى سينتهي كل هذا؟ عندما يفنى الجميع؟» - «أنت ساذجة. هل تظنين أننا لو طلبنا منهم بأدب أن يكفوا عن مناهضة الحكومة فسيفعلون؟ علينا أن نحمي الإسلام والشريعة الإلهية والمسلمين من قوى الشر التي تعمل ضدها.» - «الله لا يحتاج حماية من أحد؛ ما أقصده أن العنف لا يؤدي إلا إلى مزيد من العنف. لست أدري ما الحل، لكني أعلم أن القتل ليس حلا.»
جذبني بين ذراعيه وقال: «ليس كل الناس في مثل طيبتك. إنه عالم شديد القسوة.» - «نعم، إنه كذلك لأننا نكون قساة عندما يعامل بعضنا بعضا.»
ضحك وقال: «لن تستسلمي، أليس كذلك؟» - «متى نعود إلى «إيفين»؟» - «صباح غد، وأرجو أن تتفهمي أنه عند عودتنا إلى «إيفين»، لن تتلقي أي معاملة مختلفة مع أنك زوجتي؛ فما زلت سجينة رسميا. هل ترغبين في البقاء في زنزانة انفرادية أم العودة إلى «246» مرة أخرى؟»
أجبته أنه لا فارق عندي بين كلا الأمرين، وأخبرني أنه يرى الزنزانة الانفرادية خيارا أفضل؛ نظرا لأنه سيستطيع قضاء المزيد من الوقت معي، ولم أجادله في ذلك؛ إذ لم أكن أرغب في تفسير أي شيء لرفيقاتي في «246».
سألته: «هل وقع المزيد من الاعتقالات في الفترة الأخيرة؟» - «نعم.» - «يا للمساكين، لا بد أنهم يشعرون بالذعر.» - «مارينا، العديد من هؤلاء إرهابيون.» - «ربما بعضهم كذلك، لكنك تعلم أن معظمهم ما زالوا أطفالا، والعديد منهم لم يرتكبوا أي أخطاء. إن دخلت زنزانة انفرادية، هل تسمح للفتيات الأصغر سنا بالبقاء معي أثناء فترة التحقيق معهم؟ فهناك مكان يكفي لاثنتين في تلك الزنزانات. علي، أكره أن أكون بلا فائدة؛ بإمكاني أن أساعدهم فأخفف عنهم وعن نفسي أيضا.»
ابتسم وقال: «سيكون هذا رائعا. حسنا، اتفقنا.» - «لا تخبرهم أني زوجتك وإلا سيشعرون بالخوف مني.»
لما لم يكن هناك خير حولي، فربما كان علي أن أبادر أنا بفعل الخير.
سألته: «علي، أين سارة فرحاني؟» - «كانت في مستشفى السجن منذ فترة طويلة، لكنه ليس نفس المستشفى الذي كنت فيه، فهناك مستشفى آخر للسجناء الذين يعانون مشاكل نفسية، وهي الآن في زنزانة بمبنى «209».» - «إنها بحاجة للذهاب إلى المنزل، فقد لاقت ما يكفي حتى الآن، وهي لم تفعل شيئا سوى أنها تكلمت أكثر من اللازم. إنها لن تبقى على قيد الحياة في «إيفين».» - «حامد هو المسئول عن قضيتها الآن، وتعلمين كم هو صعب المراس. لا أظن أن سارة ستذهب إلى أي مكان آخر قريبا.» - «هل أعدم شقيقها سيرس بالفعل؟»
قال كأنه يقرر حقيقة عادية: «نعم، لقد كان عضوا نشطا في جماعة «المجاهدين»، ورفض التعاون معنا على الإطلاق.» - «إذن فسياستك هي قتل كل من يقف في طريقك.» - «لو حانت لسيرس الفرصة، لأطلق النار علي.» - «كان بإمكانك أن تضعه في السجن بدلا من قتله.» - «لم يكن هذا قراري، ولا أود الحديث عنه.» - «هل يمكنني أن أرى سارة؟» - «سوف أصطحبك إلى زنزانتها ما إن نعود.»
كان علي أن أوجه له السؤال الذي ظل يشغل بالي منذ فترة، لم يسبق أن كان الوقت مناسبا لذلك، لكنه هكذا الآن. - «علي، هل قتلت أحدا من قبل؟ لا أعني في الجبهة، بل في «إيفين».»
نهض من الفراش وتوجه نحو المطبخ، فنهضت وتبعته. فتح الصنبور وملأ كوبا بالمياه، ثم ارتشف منه بضع رشفات. - «لقد فعلت، أليس كذلك؟» - «مارينا، لم لا تكفين عن الكلام في هذا الأمر؟» - «إنني أكرهك!»
شعرت بمدى وقع كلماتي، لكني لم أندم على قولها، فقد أردت إيذاءه. كان انتقاما يستحقه. لقد حاولت أن أتقبل موقفي وأن أتفهمه، لكني لم أستطع التظاهر بأني لا أعلم شيئا عن الفظائع التي ارتكبها.
وضع الكوب على المائدة ببطء وحدق إليه، وعندما رفع رأسه نحوي كانت تطل من عينيه نظرة فيها مزيج من الغضب والألم. تقدم نحوي، فتراجعت بضع خطوات للخلف حتى اصطدمت بإحدى الخزانات. حتى لو حاولت الهرب، فلن أستطيع الذهاب بعيدا. قبض على ذراعي بقوة حتى انغرست أصابعه في لحمي. - «أنت تؤذينني.» - «أنا أؤذيك؟» - «نعم، أنت تؤذينني منذ أن رأيتك أول مرة، وتؤذين الآخرين، وتؤذين نفسك أيضا.»
ثم حملني إلى غرفة النوم، وظللت أصرخ وأركل بلا جدوى. •••
وفي صباح اليوم التالي رفضت أن أنهض من الفراش. ناداني من المطبخ ثلاث مرات وقال إن الإفطار جاهز، لكني جذبت الغطاء على رأسي وظللت أبكي. أصدر الفراش صريرا، ففتحت عيني ورأيته عبر الملاءة القطنية الرقيقة يجلس بجواري على حافة الفراش ومرفقاه يستندان على ركبتيه ويداه معقودتان، لكني لم أتحرك.
مرت بضع دقائق قبل أن يقول: «مارينا.»
لكني لم أجب. «آسف لانفعالي عليك؛ لك كل الحق في أن تلقي باللوم علي، ولكن عليك أن تفهمي أن الأمور تسير هكذا. لا أحب ما أقوم به، لكن العالم مليء بالقسوة والعنف، وهناك بعض الأمور التي يجب علينا القيام بها. أعلم أنك تختلفين معي، لكن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئا، ولست أنا من جعل الأمور كذلك. يمكنك أن تكرهينني إذا أردت، لكني أحبك، ولم أقصد إيذاءك الليلة الماضية. هيا بنا نتناول الإفطار.»
لكني لم أبد أي رد فعل. - «هيا أرجوك، ماذا أفعل كي أرضيك؟» - «دعني أذهب إلى منزلي.» - «مارينا، أنت زوجتي، ومنزلك يكون حيث أكون. عليك أن تتقبلي تلك الحقيقة.»
ارتفع صوت بكائي ونشيجي، فجذب الملاءة عن وجهي وحاول أن يأخذني بين ذراعيه، لكني دفعته بعيدا. «عليك أن تعتادي الآن على حقائق الأمور. أهناك أي مطلب معقول أفعله لأرضيك؟»
كان علي أن أجد بعض الخير في هذا الألم وإلا أغرقني. - «قدم المساعدة لسارة.» - «حسنا.»
كان يرتدي سروال المنامة دون قميص، ورأيت خطوطا بيضاء دقيقة تغطي ظهره العاري. إنها ندوب، وهناك الكثير منها. إنها آثار الجلد بالسياط. لم أكن قد لاحظتها من قبل، لأنني كنت أغمض عيني كلما بدأ في خلع ملابسه.
لمست ظهره وقلت: «لديك ندوب ...»
وقف، وارتدى قميصه.
ولأول مرة شعرت برباط يشدنا معا؛ شعرت بصلة بيننا. لم أكن أرغب في وجود تلك الصلة، ولكنها كانت ملموسة كالملاءة التي تغطيني؛ حقيقية كالندوب التي يحمل أثرها جسدانا. كان إدراكا حزينا لا يحتاج كلمات كي تعبر عنه؛ إنما يقال كل شيء عنه من خلال نظرة صامتة أو لمسة حانية.
وأخيرا قال: «هيا بنا.» وذهبنا نتناول الإفطار.
بعد نحو ثلاث ساعات كنت في زنزانتي الانفرادية القديمة، ولا أستطيع القول إنني اشتقت إليها. أحضر لي علي مجموعة كبيرة من الكتب كلها عن الإسلام، وأخبرني أنه سوف ينشغل كثيرا في الفترة القادمة. ذكرته بالوعد الذي قطعه على نفسه بأن يجعلني أزور سارة، فاصطحبني إلى زنزانتها، لكنه حذرني من أنها تتعاطى جرعات مكثفة من الأدوية، وربما لا تستجيب لي كما ينبغي. - «يمكنك البقاء معها ساعة أو ساعتين على الأكثر، فلا أريد إغضاب حامد.»
كانت سارة تكتب على الحائط عندما دخلت زنزانتها، وقد فقدت المزيد من الوزن وازداد وجهها شحوبا. وضعت يدي على كتفيها، ولكنها لم تبد أي رد فعل. - «سارة، لقد افتقدتك كثيرا.»
كانت الجدران مغطاة بالكلمات التي أعادتني إلى حياتنا القديمة: منزل سارة الذي يضم مشتلا للأزهار، ووالدتها تجلس على أرجوحة في الساحة، ووالدها يقرأ أشعار حافظ، وسيرس يلعب كرة القدم مع أصدقائه، ومدرستنا ذات النوافذ المرتفعة، والعودة إلى المنزل سيرا على الأقدام من متجر روستامي أغا وأنا ألعق المثلجات. كتبت سارة المزيد والمزيد من الكلمات، حتى إنها لم تنس الكتابة عن حافظة أقلامي. لم أكن أرغب في استحضار كل تلك الذكريات، فالالتفات إلى الماضي يعصر قلبي ألما ويزيد اشتياقي للعودة إلى المنزل؛ المنزل الذي بدا كأنه بعيد آلاف الأميال، لكنه موجود في مكان ما بعيدا عن «إيفين»، حتى ولو كان أعلى قمة «إفرست» لتسلقتها، ولتسلقت عشر قمم مثلها كي أصل إليه. - «سارة، أعلم أنك تسمعينني، ومعظم ما كتبت من ذكريات تخصني أيضا. ما زالت بيوتنا موجودة، وعليك أن تنجي من «إيفين» حتى تعودي. ما زال منزلك هناك في انتظارك، ولا تنسي أن الغد يأتي دائما، لكن عليك أن تكوني موجودة لتعيشيه؛ حتى سيرس يريد منك ذلك. خوضي تلك المعركة لأجله، ولأجل أمك وأبيك.»
أمسكت كتفي سارة وأدرت وجهها لتواجهني. «حامد هو من يرغب في بقائك على تلك الحال كي تخسري، فلا تعطيه تلك الفرصة. سوف تعودين إلى المنزل. لو تعلمين ما فعلته أنا! النوم في فراش علي صعب، لكن عليا يختلف عن حامد، فبداخله طيبة، وهو يحبني ... لكنه أمر صعب؛ أصعب مما تتخيلين.»
طوقتني سارة بذراعيها أكثر فأكثر، وعانقت إحدانا الأخرى وانخرطنا في البكاء. •••
بعد نحو أسبوعين قضيت معظمهما في القراءة، فيما عدا الأوقات التي كنت أقضيها مع علي، انضمت إلي أول رفيقة في الزنزانة، وتدعى سيما. كانت عيناها بنيتين واسعتين، ومع أنها تبدو في الثالثة عشرة على أقصى تقدير، فقد فوجئت بأنها في الخامسة عشرة. طلب منها الحارس الذي أحضرها إلى الزنزانة أن تنزع العصابة قبل أن يغلق الباب خلفه، فنزعت العصابة وفركت عينيها وضيقتهما، ثم حدقت إلي بعينين يطل منهما الذعر.
سألتني من أكون، فأخبرتها باسمي، وبأني سجينة مثلها، فبدت عليها علامات الارتياح قليلا، ثم جلست وقد تركت مسافة كافية بيننا. كانت قدماها متورمتين قليلا، فسألتها هل تؤلمانها.
بكت، وقالت: «لقد عذبوني!»
اقتربت منها أكثر وأخبرتها أني تعرضت للتعذيب أيضا ولفترة أطول منها، فسألتني كم لبثت في «إيفين»، فقلت: «سبعة أشهر.» - «سبعة أشهر؟ إنه وقت طويل جدا. هل قضيت كل هذا الوقت في هذه الزنزانة؟»
أوضحت لها أني كنت في «246»، وأنها قد تذهب إلى هناك أيضا بعد انتهاء فترة التحقيق انتظارا لمحاكمتها. سألتني كم يستغرق ذلك الأمر من وقت، فأجبتها أنه قد يتراوح ما بين بضعة أيام إلى بضعة أشهر، فعادت تسألني هل مثلت للمحاكمة. - «نوعا ما.» - «وما الحكم الذي صدر ضدك؟» - «السجن مدى الحياة.» - «يا إلهي!»
أخبرتني أنها لا تتخيل حياتها في «إيفين» أكثر من أسبوع. سألتها من تولى التحقيق معها، فقالت إنه علي، وإنه كان دنيئا للغاية.
قلت: «هكذا يكون أحيانا، لكن هناك من هم أسوأ منه كثيرا.»
لم يكن إخبارها بالحقيقة ليفيد في شيء.
أرادت سيما معرفة الإجراءات في «إيفين» وكل شيء عن «246»، فأخبرتها بكل ما لدي من معلومات.
قرع علي الباب نحو الثامنة مساء ونادى اسمي، فحملت الشادور واتجهت نحو الباب.
قالت سيما همسا: «ماذا يريد منك؟»
أجبتها وأنا أرتدي الشادور وأخرج من الزنزانة: «لا تقلقي، لن يؤذيني.»
سألني علي عن أحوال سيما، فأخبرته أنها قد تحسنت قليلا. سألته لم أمر بجلدها، فقال إنه لم يكن لديه خيار آخر؛ إذ كان شقيقها عضوا في «المجاهدين» ومتورطا في اغتيال أحد المسئولين الحكوميين، وهو يبحث عنه ويحاول القبض عليه منذ عدة شهور، وعليه أن يتأكد أن سيما لا تعلم مكانه. - «أرجو أن تخبرني بأنك لن تأمر بجلدها مرة أخرى؟» - «لن أفعل، فهي لا تعلم أي شيء. سوف أرسلها إلى «246»، وسوف نطلق سراحها فور أن يسلم شقيقها نفسه.»
سألته إلى أين يأخذني، فقال: «أي زنزانة أخرى، فأنا منهك وأحتاج إليك.» •••
بعد صلاة الفجر عدت إلى الزنزانة فوجدت سيما مستغرقة في النوم.
سألتني فور أن استيقظت: «متى عدت بالأمس؟ لقد انتظرتك كثيرا، ويبدو أن النعاس غلبني.» - «الحقيقة أني تأخرت.» - «وماذا كنت تفعلين طوال هذا الوقت؟» - «الأمر ليس مهما.» - «ألا تريدين الحديث عن ذلك؟» - «نعم، لا تقلقي بشأني.»
كانت تبكي، فعانقتها وأخبرتها أن كل شيء سيصبح على ما يرام ما دامت لم تفقد الأمل، وأني سمعت أن عليا سيرسلها إلى «246»، حيث تقابل صديقاتي القدامى اللاتي سيساعدنها، وطلبت منها أن تخبرهن بأنني بخير.
في اليوم التالي أرسلت سيما إلى «246»، وشعرت بالسأم والوحدة يكادان يفترسانني، فطلبت من علي أن يحضر لي بعض دواوين الشعر، وأجابني إلى طلبي، وهكذا قسمت وقتي بين القراءة، وحفظ أشعار حافظ والسعدي والرومي، والنوم.
وبعد بضعة أيام اصطحبني علي من الزنزانة في المساء كي نذهب لتناول العشاء في منزل والديه. توقفنا عند بوابة السجن ننتظر الحرس كي يسمحوا للسيارة بالمرور. فتح علي النافذة كي يلقي التحية على الحرس الذين كانوا يتجاهلونني تماما بالرغم من ترحيبهم به، ولكن في تلك المرة بعد أن ألقى الحارس عليه التحية هز رأسه لي وقال: «مساء الخير يا سيدة موسوي.»
نظرت حولي في ارتباك، وبعد لحظة أدركت أنه كان يخاطبني. لمس علي يدي فانتفضت فزعة.
قال: «تبدو عليك الصدمة.» - «لطالما تجاهلوني.» - «لقد تقبلوك الآن، فهم يعلمون أننا متزوجان.»
فور أن وصلنا إلى منزل والدي علي عانقتني كل من شقيقته ووالدته التي وجهت اللوم لي وهي تهز رأسها وتقول: «ما زلت شديدة النحافة.» تبعتها إلى المطبخ كي أساعدها في إعداد العشاء. أخذت أكرام تعد اللحم المشوي في الفرن، وتولت والدة علي إعداد الشاي للرجال، وفي طريقها لغرفة الجلوس سألتني هل أستطيع إعداد السلطة. كان هناك بعض الخس والطماطم والخيار في مصفاة بجوار الحوض، فأمسكت بالسكين، وبينما أقطع الخضر تذكرت أنني حلمت بأكرام في الليلة الماضية.
قلت لها: «حلمت بك في الليلة الماضية.» - «وماذا كان الحلم؟»
توقفت محاولة أن أقرر هل علي أن أخبرها أم لا. «هيا، أخبريني. هل كان حلما سيئا؟» - «كلا، على الإطلاق.» - «إذن ما هو؟ إنني أؤمن بالأحلام. هل تذكرين تفاصيله؟»
أخبرتها أنه حلم غريب إلى حد ما؛ فقد رأيتها في الكنيسة تشعل شمعة، وأخبرتني أني طلبت منها أن تردد «السلام الملائكي» تسع مرات كل يوم مدة تسعة أيام كي ترزق بطفل.
علت الدهشة وجهها، وسألتني عن «السلام الملائكي »، فأخبرتها.
بعد أن تلوت عليها السلام سألتني: «هل تؤمنين حقا أن السيدة مريم هي أم الله؟»
أوضحت لها أن المسيحيين يؤمنون بأن الله أراد لابنه المسيح أن يتجسد في رحم السيدة مريم، وأنها ليست امرأة عادية، بل إنها قد خلقت من أجل هذا. - «نحن نؤمن بأن السيدة مريم امرأة عظيمة، لكنها ليست أم الله!» - «لا أطلب منك أن تؤمني بشيء. لقد سألتني عن الحلم الذي رأيته، وأخبرتك به.»
أطرقت برأسها تفكر، ثم قالت: «سأقوم بذلك؛ سأتلو هذا الدعاء، فليس هناك ما أخسره، أليس كذلك؟» •••
بعد يومين أتى علي إلى زنزانتي في فترة ما بعد الظهيرة، ولم يكن هذا معتادا، فهو يأتي دائما في المساء. كنت قد غفوت قليلا واستيقظت فزعة. جلس بجواري، واستند إلى الحائط، وأغمض عينيه.
سألته: «هل أنت بخير؟» - «نعم أنا بخير.»
وطوقني بذراعيه. - «ما الأمر؟»
تنهد وقال: «أحضر الحرس فتاة منذ يومين في السابعة عشرة من العمر تقريبا. ألقي القبض عليها وهي تكتب «الموت للخميني» و«الخميني قاتل» وعبارات مشابهة باستخدام علبة الطلاء على أحد الجدران في شارع «انقلاب»، وعندما ألقي القبض عليها اعترفت بأنها تكره الإمام لأنه تسبب في مقتل شقيقتها الصغرى، وما زالت تردد نفس الكلام هنا. أعتقد أنها فقدت عقلها. أغلظ حامد في ضربها، لكنها ما زالت تردد نفس الكلام، وسوف تعدم قريبا ما لم تلتزم الأدب وتتعاون معنا. هلا تحدثت معها؟ ربما تكون بحاجة إلى طبيب نفسي، لكن هذا لن يحدث. لا تقولي شيئا، أعلم أن هذا ليس عدلا، وأعلم أيضا أنك ربما لا تتمكنين من إقناعها. لا أحب أن أفعل هذا بك، ولكنني لا أرى حلا آخر.» - «سوف أتحدث معها. أين هي؟» - «في مبنى التحقيق. سوف أذهب لإحضارها.» •••
بعد نحو نصف ساعة دفع علي مقعدا متحركا إلى زنزانتي، وكانت الفتاة الجالسة عليه ترتدي شادورا من اللون الأزرق الداكن وتجلس مائلة إلى أحد جانبيه ورأسها يرتكز على أحد كتفيها.
قال علي: «مينا، يمكنك أن تنزعي العصابة الآن.» لكنها لم تتحرك. جذب العصابة من فوق وجهها، ففتحت عينيها قليلا. كانت وجنتها اليمنى زرقاء متورمة، وأدركت أنها لا ترى أو تسمع أو تفهم الكثير، وأن كل شيء يبدو لها كابوسا بلا معنى.
قلت وأنا أنحني أمامها: «اسمي مارينا، وأنا سجينة مثلك. أنت الآن في زنزانة، وسوف أساعدك كي تنهضي من المقعد. لا تخافي، فلن أؤذيك.»
جذبتها فانهارت بين ذراعي. ساعدتها على الجلوس على الأرض، فأخذ علي المقعد المتحرك وخرج من الزنزانة.
همست مينا: «ليلى ماتت.» - «ماذا؟» - «ليلى ماتت.» - «من ليلى؟» - «ليلى ماتت.»
وبينما أبسط بطانية على الأرض لتنام عليها، رأيت قدميها، فشهقت فزعا؛ كانتا متورمتين أكثر مما كانت عليه قدماي. - «سوف أنزع عنك الخف برفق شديد.»
بدا جلد قدميها كأنه بالون منتفخ، لكني تمكنت من انتزاع الخف بسهولة.
صببت بعض المياه في كوب بلاستيكي ورفعته إلى شفتيها الجافتين المتشققتين، فارتشفت منه بضع رشفات. - «تناولي المزيد.»
هزت رأسها نفيا، فساعدتها كي ترقد وخلعت عنها الشادور والوشاح. كانت ترتجف، فبسطت بطانيتين أخريين فوقها، وسرعان ما استغرقت في النوم، فجلست بجوارها أتأملها. كانت طويلة نحيلة، شعرها البني المجعد أشعث متسخ من تغطيته بالحجاب فترة طويلة منذ القبض عليها. فكرت في قدميها المنتفختين، فبدأت قدماي تؤلمانني. لم يكن الألم الذي تعرضت له في أيامي الأولى في «إيفين» ذكرى فقط، بل حاضرا يحيا داخلي.
وبعد نحو أربع ساعات بدأت مينا تتأوه، فأمسكت كوبا من المياه وساعدتها على الجلوس. - «اسمعيني جيدا. أعلم بما تشعرين به، وأن كل شيء يؤلمك الآن، لكني أعلم أيضا أنك ستصبحين في حال أفضل إذا شربت هذه المياه. لا تستسلمي.»
ارتشفت بضع رشفات وعيناها مثبتتان علي، ثم سألتني: «من أنت؟» - «أنا سجينة مثلك، واسمي مارينا.» - «ظننت أني قد مت وأنك ملاك.»
ضحكت وقلت: «أؤكد لك أنني لست ملاكا، وأنك ما زلت على قيد الحياة. لدي بعض الخبز والتمر. يجب أن تتناولي الطعام، فجسمك بحاجة إلى القوة كي تستعيدي عافيتك.»
تناولت بضع تمرات والقليل من الخبز، ثم قرع أحدهم باب الزنزانة فور أن رقدت مرة أخرى، وسمعت صوت علي من خلف الباب يقول: «مارينا، ارتدي الشادور واخرجي.» اصطحبني إلى زنزانة أخرى حيث تناولنا بعض الخبز والجبن اللذين أحضرهما معه، ولم يسألني عن مينا. - «ألا تريد أن تعلم ما حدث مع مينا؟» - «الحقيقة أني لا أريد أن أعرف شيئا الآن، بل أود أن أريح ذهني تماما وأخلد إلى النوم.» ***
عندما عدت إلى الزنزانة في الرابعة صباحا وجدت مينا نائمة، ولم تستيقظ إلا بعد شروق الشمس.
سألتها: «من ليلى؟»
سألتني كيف علمت بأمر ليلى، فأخبرتها بما قالته عند دخولها الزنزانة. - «ليلى شقيقتي.» - «وكيف ماتت؟» - «أصيبت بطلق ناري في مظاهرة احتجاجية.»
أخبرتني أن إحدى صديقات ليلى، وتدعى داريا، قد تعرضت للاعتداء من أفراد «حزب الله» ذات يوم بسبب ظهور خصلات من شعرها من تحت حجابها. كانت والدة مينا في طريقها إلى المتجر وشاهدت واقعة الضرب. بعدها أجبروا داريا على الركوب في سيارة وانطلقوا بها بعيدا. حاول والداها البحث عنها في كل مكان وكل مستشفى وكل جمعية إسلامية، ولكنها اختفت تماما. وبعد مرور شهرين سمعت ليلى عن مظاهرة احتجاجية وقررت أن تنضم إليها، وشجعت مينا على الانضمام إليها أيضا. حاولت مينا إقناعها بألا تذهب، لكن ليلى أكدت لها أنها ستذهب سواء انضمت لها شقيقتها أم لا، وسألتها ماذا لو أن ما حدث مع داريا قد حدث معها هي شخصيا، وأخيرا استسلمت مينا وقررت أن تذهب معها، لكن ليلى أخذت منها وعدا بألا تخبر والديهما بأمر المظاهرة.
قالت مينا: «وهكذا ذهبنا معا. كان هناك الكثير من الناس. بدأ الحرس الثوري بالهجوم علينا وإطلاق النيران، وبدأ الجميع يفرون. قبضت على يد ليلى وحاولت أن أصل بها إلى مكان آمن، ولكنها سقطت أرضا، واستدرت فوجدتها قد ماتت.»
أخبرت مينا بأمر المظاهرة الاحتجاجية في ميدان «فردوسي»، والشاب الذي أطلقت عليه النار، وقراري بالانتحار عندما عدت إلى المنزل بعد المظاهرة، لكني بدلا من أن أتناول حبوب أمي المنومة قررت أن أفعل شيئا إيجابيا بشأن ما شاهدته؛ قررت أن أفعل الصواب. - «وماذا فعلت؟» - «كتبت عن المظاهرة على لافتة من الورق المقوى ووضعتها على أحد حوائط المدرسة، ثم أنشأت صحيفة مدرسية.» - «اعتدت الخروج في وقت متأخر مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع والكتابة عما حدث لليلى على الحوائط بالطلاء. كنت أكتب شعارات مضادة للخميني والحكومة، فكلهم قتلة.» - «مينا، لقد كنت قاب قوسين أو أدنى من الإعدام، وسيعدمونك إن لم تتوقفي عن ترديد الشعارات المناهضة للخميني وللحكومة. لقد فقدت بعض أصدقائي وأقدر شعورك جيدا، ولكن موتك لن يفيد بأي شيء.»
ضيقت عينيها، وقالت: «إذن فقد تعاونت معهم ونجوت بحياتك!» - «ليس تماما، فقد هددوني بإيذاء عائلتي وأحبائي، ولم أتحمل تعريضهم للخطر.» - «فهمت، لكن عائلتي قد تحطمت على كل حال، فوالدي مصاب بمرض السكري والقلب، وهو يرقد في المستشفى منذ فترة، وأمي لم تتبادل كلمة مع أي شخص منذ وفاة ليلى، وقد انتقلنا حديثا للعيش مع جدتي التي تولت العناية بأمي. يمكن للحرس الثوري أن يهددوني كما شاءوا، فلا يمكن أن يسوء الأمر عن ذلك. ثم إني أتحمل جزءا من المسئولية أيضا؛ كان علي أن أمنع ليلى من الذهاب إلى تلك المظاهرة، فلولا ذهابها إلى المظاهرة لكانت بخير حتى الآن، ولكنا جميعا بخير.» - «لا تلقي باللوم على نفسك.» - «لكنه خطئي.» - «هل تظنين أن ليلى تريدك أن تعدمي؟» - «أظن أنها تريدني أن أفعل الصواب.» - «وهل الانتحار هو الصواب؟» - «أنا لا أنتحر.» - «إذا جادلت الحرس والمحققين فسوف يقتلونك، فلا تجادلي، أنقذي نفسك بقليل من التعاون.» - «لن أتعاون مع من قتلوا شقيقتي.» - «سوف يقتلونك أنت أيضا، وبم سيفيد قتلك؟» - «لن أستطيع الحياة بضمير مثقل بالذنب.» - «لا تتخلي عن حياتك.» - «لن تستطيعي تغيير رأيي. هل تعتقدين بالفعل أن تلك الحياة تستحق أن نحياها؟» - «لا يمكنك أن تعرفي أبدا ما يخبئه لك المستقبل، وما الذي قد يحدث خلال شهرين أو خمسة أو عشرة أشهر. يجب أن تمنحي نفسك فرصة، وقد منحك الله الحياة، فعليك أن تعيشيها.» - «لا أؤمن بالله، وحتى إن كان هناك إله فهو قاس.» - «حسنا، أنا أؤمن بالله ولا أعتقد أنه قاس، بل نحن من نمارس القسوة أحيانا، فسواء أكنت موجودة أم لا، كانت ليلى ستحيا وتموت بنفس الطريقة التي قدر لها أن تحيا وتموت بها، ولكن الله أنعم عليك بأخوتها ومحبتها وبالذكريات الجميلة التي شاركتها إياها، والآن يمكنك أن تتذكريها، يمكنك أن تعيشي وتفعلي الخير إحياء لذكراها الطيبة.»
أشاحت بوجهها بعيدا عني، وقالت: «لا أؤمن بالله.»
ظلت مينا نائمة بقية اليوم. كان بوسعي أن أتفهم شعورها بالمرارة، فقد تحول غضبها إلى كراهية تحرقها بنيرانها، أما أنا فقد أمدني إيماني بالله بالأمل وساعدني على الإيمان بوجود الخير بالرغم من الشر المحيط بي.
وفي المساء أتى علي إلى باب الزنزانة ونادى اسمي، فلم تتحرك مينا أو تفتح عينيها، بينما اقتادني علي إلى زنزانة أخرى كالمعتاد. حاولت أن أحدثه بشأن مينا، لكنه لم يكن راغبا في الحديث.
كان الجو ما زال مظلما وصلاة الفجر لم يحن موعدها بعد عندما أعادني لزنزانتي، وبعد أن أغلق الباب أصبح الظلام حالكا ولم أستطع رؤية أي شيء، فجلست على الأرض في الحال كي لا أخطو على مينا، ولكنني لم أسمع أي صوت، فتقدمت للأمام ببطء متحسسة طريقي بيدي، ولكن مينا لم تكن موجودة.
ناديت: «مينا!»
تسلل الضوء، وملأ صوت المؤذن المكان: «الله أكبر ...» - «مينا!» - «الله أكبر ...»
لقد اختفت مينا. كان علي معي في الزنزانة الأخرى طوال الليل. يا إلهي! لقد أخذها حامد دون علم علي. حاولت أن أفكر، ربما هي حية، وماذا يمكنني أن أفعل؟ كنت على يقين من أن عليا في طريقه لمبنى التحقيق، يمكنني أن أقرع باب الزنزانة وأطلب من أحد الحرس أن يناديه، لكن سيبقيه بعيدا عن مبنى التحقيق. كان علي أن أنتظر.
ظللت أذرع الزنزانة جيئة وذهابا، ولم تستغرق مني سوى خمس أو ست خطوات كي أقطع طولها، ولم يكن عرضها يزيد عن ثلاث خطوات. تدافعت في ذهني مشاهد من الليلة التي اقتادوني فيها لتنفيذ حكم الإعدام، كنت قد شهدت اللحظات الأخيرة في حياة شابين وفتاتين لم أكن أعرف أسماءهم. هل أخبر أحد عائلاتهم بأن أحباءهم قد أعدموا؟ أين دفنوا؟ ربما حدث لمينا نفس الشيء. قرعت باب الزنزانة بقبضتي بأقصى قوة.
جاءني صوت أحدهم يتساءل: «هل هناك خطب ما؟» - «هل يمكن من فضلك أن تبحث عن الأخ علي وتخبره أني أريد الحديث معه في الحال.»
وافق الرجل. ظللت أذرع المكان لبعض الوقت وقلبي يخفق بشدة. لم يكن لدي ساعة، ولم أدر كم مر من الوقت. لم يكن أذان الظهر قد حان موعده بعد، وشعرت بالدوار فأخذت أترنح وأرتطم بالحوائط. لا بد أن هناك المزيد مما يمكنني فعله، فبدأت أطلب العون من كل القديسين الذين أعرفهم: «أيها القديس بولس أغث مينا، أيها القديس مارك أغث مينا، أيها القديس متى أغث مينا، أيها القديس لوقا أغث مينا، أيتها القديسة برنادت أغيثي مينا، أيتها القديسة جان دارك أغيثي مينا.» لم أستطع أن أتذكر أسماء أي قديسين آخرين، فقرعت الباب مرة أخرى.
أجابني نفس الصوت: «لقد أخبرته.» - «وماذا قال؟» - «قال إنه سيأتي في أقرب وقت ممكن.»
جلست في أحد الأركان وأخذت أبكي.
وهنا ارتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر: «الله أكبر ... الله أكبر ...»
فتح باب الزنزانة، ودخل علي وأغلق الباب خلفه، ثم وقف يحدق إلي بضع ثوان.
وأخيرا قال: «تأخرت كثيرا، لقد ماتت بالأمس أثناء التحقيق.» - «كيف؟» - «قال حامد إنها تطاولت عليه في الرد فصفعها، فسقطت على الأرض وارتطم رأسها بشيء ما. - «يا إلهي! وهل صدقته؟» - «لا يهم هل صدقته أم لا.»
شعرت بحاجة إلى البكاء، لكني لم أستطع أن أبكي؛ وشعرت بحاجة إلى الصراخ، لكني لم أستطع أن أصرخ؛ وشعرت بحاجة إلى أن أوقف الأمور الرهيبة التي تحدث، لكني لم أستطع أن أوقفها.»
جلس علي بجواري.
قال: «لقد حاولت.»
بكيت وقلت: «لم تحاول بما يكفي.»
فغادر المكان. •••
لم يأت علي لرؤيتي خمسة أو ستة أيام قضيت معظمها نائمة يربكني موت مينا. وأخيرا ذات صباح أحضر امرأة شابة تدعى بهار إلى زنزانتي، وكانت تحمل طفلا رضيعا بين ذراعيها. لم يتبادل معي كلمة واحدة، ولكن أعيننا تقابلت، وشعرت أنه يرغب في الحديث معي ، ولكنه غادر المكان في الحال.
كان ابن بهار طفلا جميلا اسمه إحسان، ويبلغ من العمر خمسة شهور. كانت بهار من رشت، وهي مدينة تقع في شمالي إيران بالقرب من شاطئ بحر «قزوين»، في منطقة لا تبعد كثيرا عن منزلنا الصيفي. كان شعرها أسود قصيرا مجعدا، ومع أني استطعت أن ألمح القلق في عينيها فقد كانت تتحرك وتتكلم في ثقة وهدوء. كانت هي وزوجها عضوين في «الفدائيين»، وألقي القبض عليهما في منزلهما، وأرسلا إلى «إيفين»، لكن بهار لم تتعرض للتعذيب أو الجلد أثناء التحقيق.
في تلك الليلة نادى علي اسمي من وراء الباب المغلق، وقبل أن أغادر الزنزانة أمسكت بهار يدي بيديها وأخبرتني أنها واثقة أني سأكون بخير. كانت يداها أكبر من يدي أي امرأة رأيتها في حياتي، وشعرت بدفء ملمسهما في مقابل يدي الباردتين.
وكالمعتاد اصطحبني علي إلى زنزانة انفرادية أخرى، ولكنه ظل هادئا وجلس في أحد الأركان ينظر لي وأنا أخلع الشادور.
وفجأة قال: «لا تحكمي علي بتلك القسوة.» - «لقد ماتت مينا، ماتت فتاة بريئة، وكل ما تفكر فيه هو حكمي عليك؟ بالطبع سوف أحكم عليك بقسوة، وهل لدي خيار آخر؟ فأنت المسئول هنا.» - «لست المسئول، حاولت أن أكون كذلك، لكني لست المسئول.» - «من المسئول إذن؟» - «مارينا، أنا أفعل كل ما بوسعي، وعليك أن تثقي بي. الأمر ليس سهلا، وأريدك أن تفهمي أنني لا أرغب في الحديث عن ذلك.» •••
كانت الرابعة صباحا عندما عدت إلى زنزانتي، وكان المكان هادئا للغاية، فخطوت على أطراف أصابعي إلى مكاني.
قالت بهار بصوت ملأ الظلام: «هل أنت بخير؟» - «أنا بخير، وأعتذر لك إن كنت قد أيقظتك.» - «لا داعي للاعتذار، فقد كنت مستيقظة. هل ترغبين في الحديث؟» - «عن ماذا؟» - «عن أي شيء يخطر في بالك. حتى الآن كان معظم حديثنا يدور حولي أنا، والآن حان دورك، ولا تخبريني أنك على ما يرام، لأنني واثقة أنك لست كذلك.»
حاولت أن أغالب دموعي. لقد فاجأتني من حيث لا أتوقع. من أين أبدأ؟ - «أريد أن أخبرك، لكني لا أستطيع.» - «حاولي؛ ليس عليك أن تخبريني بكل التفاصيل.» - «أنا زوجة علي.» - «غير معقول!» - «إنها الحقيقة.» - «كيف يمكن ذلك؟ ألقى القبض على زوجته؟» - «كلا، لم أكن أعرفه قبل أن آتي إلى هنا، بل كان واحدا ممن حققوا معي، وعندما اقتادني المحقق الآخر حامد للإعدام، أوقفه علي ثم هددني بأني إذا لم أتزوجه فسيؤذي أحبائي. لم يكن لدي خيار آخر.» - «هذا اغتصاب!» - «لا تخبري أحدا بهذا الأمر، فأصدقائي في «246» لا يعلمون شيئا عنه.» - «أهو نكاح متعة؟» - «كلا، إنه زواج دائم.» - «في مثل تلك الظروف لا أدري ما إذا كان الزواج الدائم ميزة أم عيبا، ففي الزواج المؤقت على الأقل سيتركك وشأنك بعد فترة من الزمن، أما الآن ...» - «أنا بخير.» - «كيف يمكن أن تكوني بخير؟»
لم أستطع التحمل أكثر من ذلك، فأخذت أبكي حتى استيقظ الطفل. حملته بهار وأخذت تهدهده وتغني له أغنية من تأليفها عن بحر قزوين وغابات الشمال الكثيفة والأطفال الذين يلعبون هناك بلا هموم.
وجدت الحديث مع بهار سهلا، فأخبرتها عن جيتا وترانه ومينا وكراهيتي لنفسي بسبب عجزي عن مساعدتهن، وأخبرتني أنها فقدت أصدقاءها هي الأخرى، وألقت باللوم على نفسها لأنها ظلت على قيد الحياة.
سألتها عن الأحوال خارج «إيفين» قبل القبض عليها، فأخبرتني أن شيئا لم يتغير خلال العام الماضي، وأن الحكومة الإسلامية قد نجحت في إحكام قبضتها، وأن الجهلة وأنصاف المتعلمين يطيعون الخميني طاعة عمياء لأنهم يرغبون في دخول الجنة، بينما التزم المثقفون الصمت كي لا يتعرضوا للسجن والتعذيب والإعدام، وهناك أيضا من لا يصدقون الملالي والشائعات التي يرددونها، لكنهم يتبعونهم كي يحصلوا على فرص عمل أفضل ورواتب مجزية. •••
ذهبت بهار إلى «246» بعد أن قضت ثلاثة أسابيع معي في الزنزانة، وعاودني الشعور بالوحدة مرة أخرى، وذات ليلة في منتصف سبتمبر بينما كنا نتناول العشاء الذي أحضره علي، والمكون من الأرز والدجاج المشوي، طلبت منه أن يسمح لي بالعودة إلى «246» ووافق.
قال: «غدا إعادة محاكمتك.»
لم يشعرني ذلك بالسعادة أو الحماس، فأنا أعلم أني حتى لو حصلت على البراءة فلن يتغير الأمر كثيرا، فأنا زوجة علي ويجب أن أظل معه إلى الأبد.
ثم أخبرني بأن علي أن أحضر تلك المحاكمة. - «وهل علي أن أقول شيئا؟» - «كلا، ما لم يوجه لك سؤال مباشر. سوف أحضر معك، لا تقلقي.»
وكانت لديه بعض الأنباء الأخرى؛ فسارة تتحسن وأعيدت إلى «246»، وصدر ضدها حكم بالسجن ثماني سنوات. - «ثماني سنوات؟ لقد وعدتني أنك ستساعدها!» - «مارينا، لقد ساعدتها بالفعل، وموقفها كان سيصبح أسوأ من ذلك لولا أنني تدخلت في الأمر، وعلى أي حال فلن تظل هنا طوال مدة العقوبة؛ سأحاول إضافة اسمها لقائمة إطلاق السراح المشروط. - «أنا آسفة يا علي، معك حق. لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك.»
ضحك وقال: «أظن أن هذا ألطف ما قلت لي حتى الآن.» وأدركت أنه كان محقا. •••
في صباح اليوم التالي اصطحبني علي من الزنزانة إلى المحكمة التي تقع في مبنى آخر يبعد مسيرة عشر دقائق. كان الموظفون والحرس يتدافعون من مبنى إلى آخر يجرون بعض السجناء خلفهم أحيانا. وجه كل من قابلنا تقريبا التحية لعلي بانحناءة خفيفة وهم يضعون يدهم اليمنى على قلوبهم، ثم يهزون رءوسهم باتجاهي ناظرين في الأرض. يجب على النساء المسلمات أن يغضضن البصر عند رؤية الرجال فيما عدا أزواجهن وآباءهن وإخوتهن وبعض الأقارب الآخرين، وقد طبقت تلك القاعدة بكل سرور. انحنى علي أيضا لأصدقائه وزملائه وحياهم بكلمات ودية. دخلنا المحكمة؛ مبنى قرميدي مكون من طابقين ذوي نوافذ مدعومة بالقضبان وممرات مظلمة. قرع علي بابا مغلقا فأجاب صوت جهوري «تفضل.» دخلنا فوجدنا ثلاثة من الملالي جالسين خلف مكاتبهم. وقف الثلاثة وصافحوا عليا فور أن دخلنا الغرفة، وعندما حيوني نظرت إلى الأرض ولم أقل سوى «السلام عليكم»، وطلبوا منا الجلوس.
قال الملا الذي يجلس في المنتصف: «بسم الله الرحمن الرحيم، تنعقد الآن رسميا محكمة العدل الإسلامية. كان قد حكم على السيدة مارينا مرادي بخت بالإعدام في يناير من عام 1982، ولكنها حصلت على عفو الإمام وخفف الحكم الصادر ضدها إلى السجن مدى الحياة، ومنذ ذلك الحين تغيرت حالتها تغيرا جذريا؛ إذ اعتنقت الإسلام وتزوجت من السيد علي موسوي الذي طالما دافع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وأظهر قدرا كبيرا من التضحية على وجه التحديد في خدمة الإمام في مواقف عديدة. وفي ضوء كل تلك التغيرات أعادت المحكمة النظر في قضيتها ورأت تخفيف الحكم الصادر ضدها إلى السجن ثلاث سنوات قضت منها بالفعل ثمانية أشهر.»
وقف جميع الملالي وصافحوا عليا مرة أخرى، ودعونا إلى تناول الشاي، وهكذا انتهت المحاكمة. •••
بعد بضعة أيام عدت إلى الغرفة رقم «6» في الطابق الأول من «246»، وفور أن دخلت الغرفة وجدت شيدا وسارة تقفان أمامي. تعانقنا كأننا شقيقات لم ير بعضهن البعض منذ حين، وفجأة وجدت سيما وبهار تعانقاننا عناقا حارا، حتى إننا توسلنا إليهما أن تتركانا. لم أصدق كم كبر كاوه ابن شيدا، فعمره الآن ستة أشهر.
سألت شيدا عندما جلسنا في ركن هادئ: «ماذا تفعلين بالطابق الأسفل؟» - «لقد نقلت إلى هنا منذ أسبوعين. أين كنت؟» - «في الزنزانات الانفرادية بمبنى «209».» - «لماذا؟» - «كانت تنتابني الكثير من نوبات الصداع ولم أستطع احتمال الضوضاء هنا، فنقلت إلى «209».» - «حسنا.»
أعلم أنها لم تصدقني، ولكنها لم ترغب في توجيه المزيد من الأسئلة. أخبرتني أن الحكم الصادر ضدها قد خفف إلى السجن مدى الحياة، ولكن زوجها لا يزال في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام. - «أفكر في إرسال كاوه إلى والدي، مع أنه مسموح لي بإبقائه معي حتى يبلغ الثالثة من العمر، لكني أظن أن بقاءه معي سيكون فيه أنانية من جانبي، فهو لم ير شجرة أو وردة أو أرجوحة أو أي طفل آخر قط.»
كانت على حق، فالأسوار المرتفعة والأسلاك الشائكة والحرس المسلحون هي مفردات عالمه، ولم يكن يستحق ذلك. لكن في كل مرة تفكر شيدا فيها في إرساله إلى والديها ينفطر قلبها، ولم تدر هل ستقوى على البعد عنه. •••
بدأت أعمل مع سارة في مصنع صغير للحياكة افتتح في السجن لصناعة القمصان الرجالية، وسررنا بالعمل هناك لأنه أبقانا مشغولتين طوال اليوم. أخبرنا الحرس أننا سنحصل على أجر مقابل عملنا قبيل إطلاق سراحنا، لكن الأجر كان زهيدا للغاية، حتى إننا لم نفكر فيه. بدت علامات التحسن على سارة، ولكن كلما أتيحت لها الفرصة كتبت على جسدها وعلى كل الأسطح القابلة للكتابة عليها، بيد أنها كانت تركز في عملها أثناء فترة العمل.
في تلك الفترة ظللت أدعو أن يمل علي مني، ولكن ذلك لم يحدث، فقد استمر استدعائي عبر مكبر الصوت نحو ثلاث مرات في الأسبوع، وبعد قضاء الليل معه في إحدى الزنزانات بمبنى «209» كنت أعود إلى «246» وقت صلاة الفجر. لم تسألني معظم الفتيات قط أين أذهب طوال الليل، ولكن عندما توجه إحداهن لي هذا السؤال أخبرها بأنني أتطوع للعمل في مستشفى السجن. كانت ثلاث أو أربع فتيات أخريات في «246» يستدعين بانتظام ليلا، وكن يعدن أيضا قبل شروق الشمس. تجنب بعضنا الحديث مع بعض، لكني خمنت أن وضعهن مشابه لوضعي.
مرت بنا الأيام والأسابيع والشهور في «إيفين»، ومع كل لحظة تمر تتسرب حياتنا قبل السجن منا شيئا فشيئا، ومع أن الأمل في العودة إلى المنزل أخذ يتضاءل رويدا رويدا حتى أصبح أشبه بالحلم، فقد احتفظنا به في قلوبنا ورفضنا أن ندع ذلك الحلم يموت.
الفصل السابع عشر
ذات ليلة من شهر فبراير قال لي علي وابتسامة مشرقة طفولية تعلو وجهه: «لدي أنباء سارة؛ لقد اتصلت بي أكرام هذا الصباح وأخبرتني أنها حبلى!»
سررت من أجلها كثيرا. - «وأخبرتني أيضا عن الحلم والدعاء، وهي تعتقد أن الفضل في سعادتها يعود إليك، وأجبرتني على أن أعدها بأن أصطحبك إلى منزلها في الحال.»
لم أتفوه بشيء، فنظر إلي علي وهو يبتسم.
سألني: «وماذا فعلت أيضا دون علمي؟» - «لم أفعل أي شيء دون علمك.» - «ولم لم تخبريني بذلك؟» - «كان شأنا خاصا بين امرأتين.» - «لم تعودي خائفة مني، أليس كذلك؟» - «وهل يفترض أن أخاف منك؟» - «كلا، على الإطلاق. قد نختلف في التفكير، لكني نوعا ما أثق بك أكثر مما أثق بنفسي، وإن عاش هذا الطفل فستكون أكرام مدينة لك إلى الأبد.» - «لقد استجاب الله لدعوات أكرام، وليس للأمر علاقة بي.» •••
كانت أكرام تشعر بسعادة غامرة لم أرها على أحد من قبل.
قالت ونحن نعد العشاء: «عندما اتصل علي وأخبرني أنك قادمة لزيارتنا، طلبت من مسعود أن يذهب إلى المخبز ويشتري كعك الكريمة من أجلك، فما زلت أذكر أنك تحبينه كثيرا.» وأخرجت صندوقين كبيرين لونهما أبيض من الثلاجة. - «يا للهول! لديك ما يكفي لإطعام جيش كامل!» - «مسعود يشعر بالسعادة، حتى إنه قد يشتري المخبز بأكمله إذا طلبت منه ذلك.» - «هل أخبرته بأمر الدعاء؟» - «لقد أخبرت الجميع.» - «ألم يغضب مني؟» - «ولم يغضب منك؟» - «لا أدري، إنه دعاء مسيحي.» - «لا يهم، فقد نجح الدعاء، أليس كذلك؟ سوف نرزق بطفل، وهذا كل ما يهم، وقد أخبرني بأن السيدة مريم امرأة عظيمة ورد ذكرها في القرآن ولا حرج في طلب العون منها.»
كانت سعادة أكرام كصفعة على وجهي، ولكنني لم أرغب في أن أشعر بالتعاسة بسبب سعادتها. - «ماذا هناك يا مارينا؟ هل علي غاضب منك؟ إن كان كذلك فسوف ...» - «علي ليس غاضبا.»
بدأت أرص الحلوى في طبق التقديم، وكانت رائحتها طازجة شهية. لا يحق لأكرام أن تشعر بكل تلك السعادة في الوقت الذي تعاني فيه أمهات أخريات مثل شيدا في «إيفين». هذا ليس عدلا. - «لكن يبدو عليك الحزن الشديد يا مارينا، ماذا هناك؟» - «آسفة، إنني سعيدة للغاية من أجلك، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في صديقة لي تدعى شيدا. كانت حبلى عندما ألقي القبض عليها هي وزوجها وحكم عليهما بالإعدام. وضعت شيدا ابنها كاوه في السجن، وعما قريب سيصبح الطفل الجميل وحيدا. خفف الحكم الصادر ضد شيدا إلى السجن مدى الحياة، لكن زوجها لا يزال محكوما عليه بالإعدام، وهي ترغب في إرسال طفلها إلى منزل والديها، لكنها لا تستطيع الاستغناء عنه، فهو كل حياتها، أما الطفل المسكين قد تربى في «إيفين» ولم ير العالم الخارجي قط.» - «هذا أمر فظيع، ولم دخلت السجن؟» - «لا أدري تحديدا، فنحن لا نتحدث في هذا الأمر، وإن كنت أعتقد أنها من مؤيدي «المجاهدين».» - «لكن المجاهدين إرهابيون أشرار يا مارينا.» - «شيدا ليست شريرة، بل هي امرأة حزينة، وهي أم، بالإضافة إلى أن الاعتقاد بأن أحدهم شرير لا يعطينا الحق في فعل ما نشاء به أو ارتكاب الشر بدورنا، فالخطأ يظل خطأ مهما كانت الزاوية التي تنظرين إليه منها، وأنا على يقين من أن شيدا لا تستحق حكما بالسجن مدى الحياة.» - «سوف أخاطب عليا في هذا الشأن، فربما كان بوسعه أن يفعل شيئا من أجلها.» - «حسنا، لا ضرر من الحديث معه، لكني لا أظن أن بوسعه فعل أي شيء لها، فهو ليس المسئول عن قضيتها، وقد حاول أن يساعد البعض من قبل لكنه لا ينجح دائما.»
علا صوت الماء وهو يغلي. - «هيا يا مارينا، فلنتناول بعض الشاي والحلوى.»
عانقتها وأخبرتها أني أحبها كثيرا، وأن هناك الكثير من الألم والحزن في «إيفين»، حتى إني نسيت كيف يكون طعم الفرح. •••
بعد نحو أربعة أشهر دعانا والدا علي إلى منزلهما لتناول العشاء معهما في ذكرى زواجنا، وكنا نزورهما نحو مرتين شهريا في السنة الماضية، وظلا يعاملانني بمنتهى الطيبة واللطف. كان حمل أكرام على ما يرام، وكانت على وشك أن تضع مولودها خلال ثلاثة أشهر.
وبعد تناول العشاء سأل السيد موسوي عليا: «هل اشتريت هدية لزوجتك في ذكرى زواجكما؟»
قال علي إنه قرر أن يصطحبني لقضاء بضعة أيام على شاطئ بحر «قزوين».
سألته: «أليس هذا خطرا؟» - «لا يعلم أحد أننا ذاهبان سوى والدي، وسوف نقيم في منزل عمي الصيفي الذي يقع في منطقة منعزلة، وهو نفسه لا يعلم أننا سنذهب إلى هناك، بل إنه يظن أن والدي هما اللذان سيذهبان، ولن يذهب إليهما لأنه مسافر في رحلة عمل. ما رأيك إذن؟ هل ترغبين في الذهاب؟»
هززت رأسي بالموافقة، فأخبرني أننا نستطيع الذهاب في الحال، فقد أعدت لي والدته حقيبة السفر.
أخذنا سيارة السيد موسوي، وهي سيارة بيضاء من طراز بيجو، وبدأنا رحلة السفر قبل الساعة العاشرة.
سألته: «كيف توصلت إلى تلك الفكرة؟» - «لقد ذكرت لي مرة أنك تحبين بحر «قزوين»، وأنا أرغب في قضاء بعض الوقت معك وحدك. كلانا بحاجة للبعد عن «إيفين». هذا المنزل الصيفي كان ملكا لأحد وزراء الشاه قبل الثورة، وقد غادر الرجل وعائلته البلاد مع رحيل الشاه، فصادرت محاكم الثورة الإسلامية منزله - أو ربما يجدر بي أن أقول: قصره - في طهران، ومنزله الصيفي الذي يقع بالقرب من «رامسر» وعرضتهما للبيع، فاشترى عمي المنزل الصيفي بسعر مناسب.» - «لا بد أنه جميل.» - «هذا صحيح، وسوف ترينه بنفسك. لماذا تحبين شواطئ «قزوين» إلى هذا الحد؟»
أخبرته أني قضيت أوقاتا سعيدة هناك طوال أعوام. كان كل شيء في طهران باهتا فاقد الحياة، بينما كل شيء على شاطئ البحر كان مفعما بالحياة والحيوية.
ظل الهواء البارد يداعب وجهي عبر النافذة المفتوحة. في بداية الرحلة لم أكن أستنشق سوى الغبار وعوادم السيارات، لكن عندما سلكت السيارة الطريق المتعرج الذي يصعد مع جبال «ألبرز» امتلأ الليل برائحة جداول المياه الصافية وأشجار الحور والقيقب؛ كانت تلك رائحة العالم المفقود، رائحة الحرية والسعادة وكل المعاني الجميلة التي لم تعد موجودة. - «عندما كنت في الجبهة وكنت أنا في «246»، اكتشفت أن إحدى صديقاتي وتدعى ترانه بهزادي محكوم عليها بالإعدام.» - «ترانه بهزادي؟ لا يبدو لي الاسم مألوفا.» - «لم تكن أنت من يتولى التحقيق معها، فقد أخبرتني بأن المحقق يدعى حسينا من الفرقة الرابعة، وتخيلت أنك تستطيع مساعدتها، فطلبت من الأخت مريم أن تدعني أتحدث معك، ولكنها أخبرتني بأنك في الجبهة.» - «مارينا، لا يمكنني أن أتدخل في شئون الإدارات الأخرى، فمع أنني كنت أحد من يتولون التحقيق معك فلم يكن سهلا أن أخفف الحكم الصادر ضدك.» - «لكنها ماتت، أعدمت.» - «أشعر بالأسف من أجلها.» - «هل تشعر بالأسف حقا؟» - «نعم، أشعر بالأسف لأن الأمور وصلت معها إلى ذلك الحد. للإسلام قوانينه وهي خالفتها فلاقت جزاءها.» - «وهل كانت جرائمها خطيرة إلى درجة تبرر إعدامها؟» - «ليس من شأني أن أقرر ذلك، بل إني لا أعرفها أصلا ولا أعلم ماذا فعلت.» - «الله وحده هو من يمنح الحياة، وهو من يمكنه سلبها .» - «مارينا، لديك كل الحق في الشعور بالحزن، فقد كانت صديقتك وكنت ترغبين في مساعدتها، لكن حتى لو كنت موجودا وقتها ربما استحال علي إنقاذها، فالمحققون يرتكبون بعض الأخطاء، بل إن المحاكم ذاتها تفعل نفس الشيء. لقد تمكنت من مساعدة بعض الناس الذين شعرت أنهم حصلوا على أحكام قاسية، ولكنني لا أنجح طوال الوقت في ذلك. حاولت أن أساعد مينا، أليس كذلك؟ لكنني لم أستطع.» - «لم تكن ترانه تستحق الموت.»
لم أكن أرى أمامي سوى عيني ترانه العسليتين الواسعتين وابتسامتها الحزينة، بينما ظل علي منتبها للطريق. - «لقد سمعت شائعة مفزعة، وأود أن أتأكد من حقيقتها.» - «ما هي؟» - «هل تعتقد أن العذارى يدخلن الجنة بعد الموت؟» - «مارينا، أفهم إلام ترمين.» - «أرجو أن تجيب عن سؤالي.» - «كلا، لا أعتقد ذلك. الله وحده هو من يحدد أصحاب الجنة وأصحاب النار، وليس أنا، والفتيات الصغيرات لا يغتصبن قبل الإعدام. لا تصدقي كل ما تسمعين.»
كان الظلام حالكا، فلم أستطع رؤية وجهه بوضوح، لكن أنفاسه أصبحت متلاحقة. «أنت نفسك كنت على وشك أن تعدمي، فهل تعرضت للاغتصاب؟»
قلت: «كلا»، وتمنيت لو أضيف: «ليس قبل ليلة الإعدام، ولكن بعدها بستة أشهر»، لكني آثرت الصمت. - «مارينا، أتفهم حزنك على صديقتك، لكنني أؤكد لك أنها لم تتعرض للاغتصاب.»
غير أني لم أجد السلوى في كلماته. •••
وصلنا إلى المنزل الصيفي نحو الثانية صباحا، فخرج علي من السيارة وفتح بوابة حديدية كبيرة، ثم قاد السيارة عبر طريق مرصوف تظلله غابة من الأشجار. كانت المنطقة المشجرة أكبر كثيرا من تلك الموجودة في منزلنا، ولكنها مشابهة لها إلى حد يثير الدهشة. تسللت أصوات الحشرات عبر النوافذ المفتوحة، وهبت الرياح في دوامات بين أوراق الشجر وأغصانها تنشر موجات من الظلال الفضية على زجاج السيارة الأمامي. لم أسمع صوت البحر إلا عندما أوقفنا السيارة، حيث أخذت الأمواج ترتطم بالصخور وتملأ المكان بإيقاعها المألوف.
بلغت مساحة المبنى الأبيض المكون من طابقين ضعف مساحة منزلنا الصيفي، وكان به تمثال حجري لأسد بحجم كلب كبير على جانبي المدخل . فتح علي الباب الأمامي ودخلنا، فوجدت غرفة الجلوس قد زودت بمقاعد وموائد للقهوة ذات أسطح زجاجية على الطراز الفرنسي، والأرض مغطاة بالسجاد الإيراني المصنوع من الحرير، ورأيت درجا عريضا ذكرني بفيلم «ذهب مع الريح» يقود إلى الطابق الأعلى حيث وجدت ست غرف نوم اختار علي أكبرها وكانت تطل على البحر مباشرة، وفي منتصف الغرفة فراش كبير ومنضدة للتزين ذات أدراج بأحجام مختلفة، ومنضدتان صغيرتان بجوار الفراش. كان كل شيء نظيفا ولا توجد ذرة غبار واحدة، فخمنت أن عم علي وعائلته كانوا هنا مؤخرا. أزحت الستائر البيضاء وفتحت إحدى النافذتين، فداعب هواء البحر المالح شعري، وتساءلت عما حل بمالكي البيت الأصليين، فلا بد أنهم كانوا يحبون هذا المكان ويفتقدونه الآن كثيرا أينما كانوا.
قال علي وهو يقف خلفي: «لقد أضيف اسمك إلى قائمة إطلاق السراح المشروط.» - «وماذا يعني ذلك؟» - «يعني أنك سوف تصبحين حرة رسميا في غضون ثلاثة أشهر.»
حرة رسميا! يا لها من كلمة غريبة! هل سأنال حريتي حقا يوما ما؟ لم أستطع أن أفهم ما تعنيه كلمة «حرية» لي، فقد سلبني حريتي إلى الأبد، لكنني لم أتفوه بكلمة. «ألست سعيدة لسماع ذلك؟» - «لست أدري يا علي، فقد أصبحت عاجزة عن التفكير. وحتى لو أصبحت حرة رسميا، فلن أتمكن من الذهاب إلى أي مكان.» - «بل سنذهب إلى منزلنا؛ فالأوضاع تتحسن، وعندما يطلق سراحك سوف يصبح ذهابنا إلى المنزل آمنا.»
أمسك بكتفي وأدارني لأواجهه ولمس وجنتي. «لماذا تبكين؟» - «لا أدري. ربما تكون الذكريات. الأمر ليس بيدي.»
كانت نظرة عينيه غامضة معظم الوقت، لكن تطل منهما أحيانا نظرة غريبة تشي بالرغبة الشديدة التي تخيفني. أطرقت برأسي، وعندما رفعتها مرة أخرى كان ينظر من النافذة وظهره لي.
سألني وهو يستدير نحوي: «مارينا، أما زلت تكرهينني؟» - «كلا، كرهتك في البداية، لكن لم أعد كذلك الآن.» - «وهل هناك أمل أن تحبينني يوما؟» - «لا أدري، لكني أعلم أنك ما دمت تعمل في «إيفين» حيث يقتضي عملك إيذاء الآخرين فلن أستطيع أن أحبك، ولا تنس أنك أجبرتني على الزواج منك، فأنا أسيرتك.» - «لكني لا أود أن تفكري في الأمر هكذا.» - «إنها الحقيقة.» - «كلا، إنه تصورك عن الحقيقة.» - «ماذا تعني؟» - «ألا تفهمين؟ لقد كنت على شفا الموت، وأنا أنقذتك منه. هل تعتقدين أنه كان بإمكانك النجاة من ذلك الموقف؟ هل خطر لك أن حامدا والآخرين سوف يتقبلون ذلك؟ أنت ساذجة، صحيح أني أردتك، لكنني لست أنانيا إلى هذا الحد. لو كانت هناك طريقة يمكنني بها إطلاق سراحك لفعلت ثم أطلقت النار على نفسي. كلانا أسير بصورة أو بأخرى.» طوقني بذراعيه وتابع: «قبل الثورة، كنت سجينا سياسيا مدة ثلاثة أعوام، وأعلم معنى الرغبة في العودة إلى المنزل، لكن دعيني أخبرك بشيء؛ منزلك لم يعد كما تركته، وحتى لو كان، فأنت لم تعودي كما كنت، ولن تتفهم عائلتك موقفك. سوف تبقين وحيدة طوال حياتك. ربما أضيع وقتي بإخبارك بكل ذلك، لأنك ما زلت صغيرة وبريئة أكثر من اللازم، ولكن لا مكان لك تذهبين إليه، فالمكان الوحيد الذي تبقى لك في هذا العالم معي، ومكاني الوحيد معك.»
ذهبنا إلى الفراش، ولكنني لم أستطع النوم، فأخذت أراقب ضوء القمر وهو يفترش الأرض. استغرق علي في النوم وهو يوليني ظهره، وكان كتفه الأيسر يرتفع وينخفض مع كل نفس. كنت قد أخبرت ترانه أنني لم أتعرض للاغتصاب قبل ليلة الإعدام، وتلك هي الحقيقة، لكن حامدا وبقية الحرس كانوا يعلمون أنني مسيحية، ومن وجهة نظرهم سواء أكنت عذراء أم لا، فسوف أذهب إلى الجحيم على أي حال. كانت ترانه تعرف ذلك، لكنها سألتني هذا السؤال لأنها بالرغم من تقبلها لحكم الإعدام بنفس راضية كانت في أمس الحاجة إلى أن يطمئنها أحد أنها ستموت وكرامتها مصونة. أخبرني علي بأن الفتيات لا يتعرضن للاغتصاب قبل أن يعدمن رميا بالرصاص، ولكنه لا يرى أنه اغتصبني؛ من وجهة نظره فقد أجبرني على الزواج منه لصالحي. ربما يكون قد اغتصب فتيات أخريات باسم نكاح المتعة دون أن ينعم النظر في الأمر. وددت لو أصدق أنه لم يفعل شيئا كهذا من قبل، وأنني الوحيدة التي أجبرها على مثل هذا النوع من الزواج، لكن لم يكن بإمكاني معرفة الحقيقة.
تسللت من الفراش وتوجهت نحو البحر. كانت الأمواج الصغيرة تهمس للشاطئ الصخري، والنجوم تطفو بين السحب الفضية الرمادية وأضواؤها اللؤلؤية تنعكس على سطح المياه، وبحر «قزوين» يناديني كأنه صديق قديم. ظننت أني مستعدة؛ أني قد أتحمل ألم الخسارة الذي يثقل كاهلي، لكني لم أستطع تحديد الصواب. البحر يناديني، ولدي رغبة في تلبية ندائه. إنها الحاجة المخيفة، والرغبة العارمة في التلاشي. تقدمت خطوات وسط الأمواج، وكانت دافئة كما عهدتها. هنا بإمكاني أن أصبح ذكرى، لكن كل ما أحمله في قلبي سيضيع.
جاءني صوت الملاك: «الحياة غالية، فلا تستسلمي، بل عيشيها ثانية.» - «كنت بحاجة إليك، وناديتك، ولكنك لم تأت، والآن تطلب مني ألا أستسلم؟ ألا أستسلم من أجل ماذا؟»
الحياة غالية، فلا تستسلمي، بل عيشيها ثانية. «وماذا ستفعل إن نزلت تحت المياه واستنشقتها بدلا من الهواء؟ هل ستدعني أموت وتلومني على الاستسلام لليأس والحزن؟ أم ستبتسم وتجعلني أشعر بالذنب لما فعلت وما لم أفعل فتعيدني مرة أخرى إلى هذا العذاب؟»
داعبتني الرياح، وهبت وسط الغابات وفي وادي «النهر الأبيض»، ثم اندفعت في هدوء عبر سكون الصحراء كي تجد طريقها إلى المحيط.
عدت إلى المنزل مبللة فوجدت عليا واقفا عند البوابة المؤدية إلى الشاطئ يبكي. لماذا لا أقوى على حبه ونسيان الماضي؟ كان علي أن أستسلم كطفل يكتشف كيف يطفو على الماء للمرة الأولى.
قال: «استيقظت ولم أجدك.» ثم حملني من فوق الرمال المبللة إلى الداخل كأني طفلة. ***
عدنا إلى «إيفين» بعد أن قضينا خمسة أيام في المنزل الصيفي ولم نجد شيئا تغير. مرت أربعة أسابيع، وفي نهاية شهر أغسطس بدأت أشعر بالغثيان الشديد، وبعد أن ظللت أتقيأ بضعة أيام قرر علي أن يصطحبني إلى الطبيبة المعالجة لوالدته، فطلبت مني بضعة فحوصات ثم أخبرتني أنني حبلى في نهاية الشهر الثاني. لم تخطر ببالي مسألة الحمل، فعندما وافقت على الزواج من علي لم أفكر إلا في تداعيات هذا القرار على حياتي وحياة والدي وأندريه، لكني لم أفكر قط في الإنجاب. الآن هناك حياة أخرى ستتأثر؛ حياة طفل بريء، طفل يحتاج إلي ويعتمد علي، وسواء أأحببت ذلك أم لا فهو يحتاج إلى والده.
كان علي ينتظرني في السيارة، وطار فرحا عندما أخبرته بهذا النبأ السعيد.
سألني: «هل أنت سعيدة؟»
أزعجني سؤاله؛ إذ لم أكن سعيدة، وهذا ليس عدلا، فالطفل الذي في أحشائي لا يعلم شيئا عن حياتي، ولا يحتاج إلا إلى حبي واهتمامي، ونوعا ما كنت أنا ملاكه الحارس، فكيف يمكنني أن أتخلى عنه؟ - «سعيدة، لكني أشعر بالصدمة.» - «فلنذهب إلى منزل والدي؛ أريدهما أن يعلما في الحال.»
كنت أدرك أن والدي يجب أن يعلما، وأندريه أيضا. من الذي سيلقي بالحجر الأول؟
فور أن وصلنا إلى منزل والديه اتصل علي بأكرام. كاد والداه يطيران فرحا، وسررت لرؤيتهما سعيدين إلى هذا الحد، وطوال المساء ظلت والدته تعطيني نصائح ومعلومات عن مراحل الحمل المختلفة. شعرت أن علاقتي بوالدة علي قد توطدت أكثر من علاقتي بأمي. كنت في أشد الحاجة لأن أحيا حياة طبيعية سعيدة، حتى إنني تمنيت أن أنسى نفسي وأحب عليا، لكن هذا كان مستحيلا، فلا يمكنني أن أسامحه على ما فعله بي وبالآخرين.
قالت والدة علي: «يجب أن تبقي معنا هنا، فأنت بحاجة إلى الراحة والتغذية السليمة.»
رفضت العرض، ولكنها أصرت عليه، فتدخل السيد موسوي بقوله: «دعيها تقيم أينما تشاء. نرحب بها بالطبع، فهذا منزلها كما هو منزل علي، ولكنها ربما تود البقاء مع زوجها، والحمل ليس مرضا. لا تقلقي، فسوف تكون بخير.»
وصلت أكرام واستقبلتني بالعناق والقبلات. كانت على وشك الوضع خلال شهر، ونظرا لأنها ضئيلة الحجم فقد بدا بطنها كبيرا للغاية. ذهبنا إلى غرفتها القديمة كي نتحدث وحدنا. - «مارينا، لم أشعر بمثل تلك السعادة قط. يا له من أمر رائع! سوف يكبر طفلانا معا عاما بعد عام، وسيكونان في عمر واحد تقريبا.»
أشحت بوجهي بعيدا عنها. - «ماذا هناك؟» - «لا شيء، أشعر بالغثيان طوال الوقت فحسب.» - «ألست سعيدة بالحمل؟»
لم أكن أرغب في سماع ذلك السؤال ولا في الإجابة عنه، ففؤادي يعتصر ألما لأنني لا أشعر بالسعادة. حاولت أن أشعر بالسعادة، ولكنني لم أستطع. لم أكن أرغب في هذا الطفل، وكان شعورا مؤلما. - «ألا تريدين هذا الطفل؟» - «نعم، لا أريده، ولا يروق لي هذا الشعور. الله يعلم أنني حاولت.» - «إنه ليس خطأك، فأنت خائفة. ضعي يدك هنا واشعري بحركة الجنين.»
وضعت يدي على بطنها، فشعرت بالجنين وهو يتحرك. «سوف ينمو طفلك داخل أحشائك ويتحرك بداخلك هكذا، وهو أروع شعور في العالم. أعطي نفسك فرصة فحسب، وإنني على ثقة من أنك ستحبينه أكثر مما تخيلت، وسأبقى معك لمساعدتك في كل شيء. مارينا، لا داعي للقلق، فعلي يحبك كثيرا، وأنت كل شيء له.»
أصبحت أكرام أختا لي، وسواء أأحببت ذلك أم لا فقد أصبحت جزءا من عائلة علي. شعرت معهم بالحب والاهتمام أكثر مما شعرت به في حياتي السابقة، وجعلني حبهم أشعر بالإثم، لأنني أدركت أنني أحبهم بدوري. لا يفترض بالحب أن يورث المرء شعورا بالإثم، فهو ليس خطيئة، لكنه أصبح كذلك من وجهة نظري. هل يعني ذلك أنني يوما ما سأشعر بالحب تجاه علي؟ هل يعني ذلك أنني قد خنت أهلي وأندريه؟ •••
قضيت تلك الليلة أنا وعلي مستيقظين في الظلام في إحدى الزنزانات. - «مارينا، سأقدم استقالتي من العمل غدا.»
فوجئت بسماع ذلك، لكني كنت أتوقعه. مع أن عليا لم يكن يتحدث معي بشأن عمله إلا نادرا، فإنني كنت أعيش في «إيفين» وأرى بنفسي كم أصيب بالإحباط، خاصة بعد وفاة مينا. كنت قد وجهت له اللوم على ما حل بها، واعتقدت أنه كان عليه بذل المزيد من الجهد لإنقاذها، لكني شعرت بعجزه أيضا. لقد تعرض للهزيمة على يد حامد.
سألته: «لماذا؟»
لم يكن يرغب في الحديث بشأن هذا الأمر، لكني قلت إنه من حقي أن أعرف، فأخبرني أنه دخل في صدام كبير مع النائب العام بطهران أسد الله لاجيفاردي المسئول عن «إيفين». قال: «كنت أنا وأسد الله صديقين منذ عدة أعوام، وهو أيضا كان سجينا في «إيفين» في عهد الشاه، لكنه تجاوز المدى. لقد حاولت تغيير بعض الأمور في «إيفين»، لكني لم أستطع، فلم يكن يستمع إلي.»
رأيت لاجيفاردي مرتين؛ الأولى عندما أتى في جولة يتفقد فيها مصنع الحياكة الذي أعمل به، والأخرى عندما خرجت من سيارة علي وكان هو يهم بركوب سيارته، فتقدم نحونا وحيانا. قدمني علي له، وقال إنه قد سمع عني وإنه سعيد بمقابلتي، وتمنى لنا السعادة، وأكد لي أنه فخور باعتناقي الإسلام.
قال علي: «وعدتك بحياة كريمة عندما نتزوج، وهذا ما سنحققه بعيدا عن هذا المكان. سوف أعمل مع والدي، وسنحيا حياة طبيعية. لقد أثبت لي أنك قوية صبورة شجاعة كما عهدتك دائما، والآن حان وقت الذهاب إلى المنزل. يلزمني ثلاثة أسابيع فقط كي أرتب أموري.»
فجأة أصبحت مغادرة «إيفين» حقيقة، ولكنني لم أشعر بالسعادة؛ فما دمت زوجة علي فسوف أظل سجينة طوال الوقت.
قلت له: «علي أن أخبر والدي.» لم أكن أستطيع إبقاء زواجنا سرا إلى الأبد، وخاصة مع وجود الطفل.
سمعنا صوت إطلاق نيران بعيدا، وأخبرني علي أنه يفكر كثيرا في الليلة التي كنت فيها على وشك الإعدام. - «لو كنت وصلت متأخرا بضع ثوان فحسب لوجدتك ميتة. لم أخبرك بهذا قط، لكني أحيانا أرى كوابيس عن تلك الليلة، ونفس الكابوس يتكرر دائما: أصل إلى هناك متأخرا، فأجدك ميتة غارقة في دمائك.» - «هذا ما كان يجب أن يحدث.» - «كلا، لقد أعانني الله على إنقاذك.» - «وماذا عن الآخرين؟ كان هناك من يحبهم أيضا ويريدهم على قيد الحياة مثلما أردت أنت أن تبقيني على قيد الحياة.» - «لقد جلب معظمهم المتاعب لأنفسهم.»
وددت لو أهزه بعنف وقلت: «كلا، أنت مخطئ، فلست إلا بشرا. هل يمكنك القول إنك تعلم كل شيء عنهم؟ إن اتخاذ قرارات بشأن الحياة والموت يحتاج إلى فهم شامل للعالم لا نملكه نحن، والله وحده هو من يمكنه اتخاذ قرارات كهذه، لأنه الوحيد العليم بكل شيء.»
كانت دموعي قد سالت، واضطررت إلى الجلوس كي أتمكن من التقاط أنفاسي.
قال علي: «أنا آسف، لا أدافع عن العنف، ولكننا أحيانا لا نملك خيارا آخر، فإن صوب أحدهم بندقية إلى رأسك وحصلت على فرصة كي تطلقي الرصاص وتدافعي عن نفسك، فهل ستنتهزينها أم تفضلين الموت دون أن تقاومي؟» - «لن أقتل إنسانا مثلي.» - «إذن فسوف ينتصر الشر وتخسرين.» - «لو كان الفوز يقتضي القتل فأنا أفضل الخسارة. وحتى لو حدث ذلك فسوف يدرك من يشهدون وفاتي أو يسمعون عنها أنني مت لأني رفضت الاستسلام للكراهية والعنف، وربما يعثرون على طريقة سلمية لهزيمة الشر.» - «مارينا، إنك تعيشين في عالمك المثالي الذي لا تربطه بالواقع أي صلة.»
بقيت مستيقظة في تلك الليلة بعد أن استغرق علي في النوم. يبدو أنه قد بدأ يدرك أنه لا طائل من العنف، وأن تعذيب المراهقين وإعدامهم لن يؤدي إلى أي خير، ولا يرضي الله بأي حال. ربما يكون هذا هو السبب الذي جعله ينقذني من الموت ويتزوجني، فأنا وسيلته الغريبة اليائسة في التمرد على كل ما يحدث في «إيفين». •••
في يوم الاثنين السادس والعشرين من سبتمبر، ذهبت أنا وعلي إلى منزل والديه لتناول العشاء، وكان قد مر أسبوعان على استقالته. أخبرني أثناء تناول العشاء أننا سنغادر «إيفين» خلال أسبوع ونعود إلى المنزل الذي اشتراه من أجلنا.
وفي الحادية عشرة مساء ألقينا تحية المساء على الجميع وخرجنا من المنزل. كان الجو باردا، فلم يخرج معنا والداه لتوديعنا. أصدر الباب المعدني الذي يربط بين ساحة المنزل والشارع صريرا وعلي يدفعه، وأصدر القفل صوتا مرتفعا وهو يغلق خلفنا. توجهنا نحو السيارة على بعد نحو 25 مترا في مكان أكثر اتساعا. نبح كلب على بعد، وفجأة ملأ صوت دراجة بخارية المكان. رفعت رأسي فوجدتها قادمة نحونا من أحد الشوارع الجانبية وعليها شبحان. فور أن شاهدتها أدركت في الحال ما سيحدث، وأدرك علي أيضا في نفس اللحظة ما سيحدث، فدفعني جانبا. فقدت توازني وسقطت على الأرض، وسمعت صوت إطلاق رصاص، وللحظة قضيتها بين الحياة والموت لم أر سوى الظلام، ثم انتشر ضوء خافت في عيني وشعرت بألم في عظامي، وكان علي يرقد فوقي. استطعت التحرك بالكاد، والتفت نحوه. - «علي، هل أنت بخير؟»
تأوه وهو ينظر إلي بعينين ملؤهما الصدمة والألم، وشعرت بدفء غريب في جسدي وساقي كأنني متدثرة ببطانية.
هرع والداه نحونا.
صرخت: «الإسعاف! اطلبوا الإسعاف!»
هرعت والدته إلى الداخل وقد سقط الشادور الأبيض الذي ترتديه كاشفا عن شعرها الأشيب، وانحنى والده بجوارنا.
سألني علي: «هل أنت بخير؟»
كان جسدي يؤلمني قليلا، ودماؤه تغطيني. - «أنا بخير.»
أمسك بيدي، وقال بصعوبة: «أبي، أعدها إلى أهلها.»
عانقته وتركت رأسه يرتاح على صدري. لو لم يدفعني بعيدا لأصبت أنا أيضا. لقد أنقذ حياتي مرة أخرى.
صرخت: «يا إلهي، لا تدعه يموت!»
فابتسم.
لقد كرهته، وغضبت منه، وحاولت أن أسامحه، وعبثا حاولت أن أبادله الحب.
حاول جاهدا التقاط أنفاسه، وأخذ صدره يرتفع وينخفض حتى سكن تماما. كان العالم يتحرك من حولنا، لكن عالمنا قد توقف. وددت لو كان بوسعي الوصول إلى الأعماق المظلمة للموت كي أعيده مرة أخرى.
أضواء سيارة الإسعاف البراقة ... ألم حاد في بطني ... ثم اختفى العالم المحيط بي ولفني الظلام ... •••
وقفت في غابة مورقة حاملة طفلي بين ذراعي، كان صبيا جميلا ذا عينين واسعتين داكنتين ووجنتين متوردتين، مد يده الصغيرة وأمسك شعري وهو يقهقه فضحكت، ورفعت بصري فرأيت ملاك الموت، فجريت نحوه. حياني بابتسامته الدافئة المألوفة، وتسلل إلي عطره المحبب. شعرت كأنني رأيته في اليوم السابق؛ كأنه لم يفارقني قط.
قال لي: «هيا بنا نسير قليلا.» وسلك طريقا اختفت معالمه وسط الغابة، فاتبعته. كان يوما صحوا، وبدا كأن الأمطار قد توقفت للتو، فأوراق الأشجار المحيطة تلمع بقطرات المطر. أحاطت بنا شجيرات من الزهور الوردية في كل مكان، وكان الجو جميلا دافئا. كنت قد تخلفت عنه حتى اختفى خلف شجرة، فزدت من سرعتي كي ألحق به، ووجدته جالسا على صخرة الصلاة فجلست بجواره.
قال لي: «ابنك جميل.»
بدأ الطفل يبكي، ولم أدر ماذا أفعل.
قال الملاك: «ربما يكون جائعا، عليك أن تطعميه.»
أعطيت الطفل ثديي فالتقمه بفمه الدافئ الصغير، كأنني فعلت ذلك آلاف المرات من قبل. •••
فتحت عيني، فوجدت سائلا ينزل قطرة قطرة من كيس بلاستيكي شفاف إلى أنبوب. تابعت الأنبوب بعيني فوجدته متصلا بيدي اليمنى. كانت الغرفة مظلمة فيما عدا مصباحا ليليا خافتا، وأنا أرقد على فراش أبيض نظيف. رأيت هاتفا على مائدة صغيرة بجوار الفراش، فحاولت الوصول إليه بيدي اليسرى، فشعرت بألم حاد في بطني، فتراجعت وأخذت نفسا عميقا حتى خف الألم. وضعت السماعة على أذني لكنها كانت معطلة، فانهمرت الدموع من عيني.
فتح الباب وأضيء نور ساطع، ودخلت امرأة متوسطة العمر ترتدي وشاحا أبيض ومعطفا أبيض.
سألتها: «أين أنا؟» - «لا تخافي يا عزيزتي، فأنت في المستشفى. ماذا تذكرين؟» - «توفي زوجي.»
توفي زوجي! يا إلهي! لماذا يؤلمني هذا الأمر هكذا؟
غادرت المرأة الغرفة فأغمضت عيني. لقد مات؛ رحل، وأصبحت أشعر بالوحدة؛ أشعر بالوحدة القاتلة. إنه نفس الشعور الذي راودني عندما رأيت الجنود يقذفون بجثة أراش في الشاحنة، ولكنني أحببت أراش، ولم أحب عليا قط. ماذا دهاني؟
كان شعورا بالحزن أنكرته، لكنه كان حاضرا وقويا.
نادى أحدهم اسمي ففتحت عيني، ورأيت رجلا متوسط العمر ذا لحية رمادية ورأس أصلع. أخبرني بأنه الطبيب وسألني هل أشعر بالألم، فقلت لا، ثم أخبرني أنني قد فقدت جنيني، فانهار ما تبقى مني.
وطوال اليومين التاليين ظللت تائهة بين الكوابيس والأحلام والواقع، ولم أعد أفرق بينها. وذات مرة بين الصور الضبابية المشوهة والأصوات الغامضة رأيت السيد موسوي جالسا في فراشي. لمست كتفه ونظر إلي، ثم ملأ ضوء الشمس الغرفة.
قال لي وهو يبكي: «هذا يفوق احتمالنا جميعا، ولكن علينا أن نستسلم لإرادة الله.»
تمنيت لو استطعت أن أفهم إرادة الله، ولكنني لم أستطع.
واصل السيد موسوي حديثه، لكن صوته أخذ يخفت حتى اختفى تماما. حلمت بأنني أنا وأندريه نسير على الشاطئ وأحدنا ممسك بيد الآخر، ومعنا ترانه وسارة وجيتا وأراش. بعد دقيقة كنت أقف على باب منزل والدي الصيفي أنظر نحو الطريق، وعلي يسير مبتعدا عني ملوحا لي بالوداع ، فجريت مذعورة كي ألحق به وأنا أنادي عليه، لكنه اختفى.
استيقظت وأنا أشعر بشيء بارد على جبهتي؛ إنها أكرام تقف بجوار فراشي وتضع يدها الباردة علي، وهي تبكي في صمت والهالات السوداء تظلل عينيها. لم أستطع أن أتذكر أين أنا، فذكرتني بأنني في المستشفى، وسألتها هل مات علي بالفعل، فأكدت لي ذلك. تسللت بجواري في الفراش وهي تبكي، وطوقت كتفي بذراعها.
وعندما استرددت وعيي قليلا أخبرني السيد موسوي بأنه سوف يجري الترتيبات اللازمة لإطلاق سراحي، لكنهم أخبروه بأن عليه إعادتي إلى «إيفين» بعض الوقت، وأخبرني أيضا بأن عليا كتب وصية قبل وفاته ببضعة أيام ترك لي فيها كل ممتلكاته، لكني أخبرت السيد موسوي أنه ليس من حقي أن أرث أيا من ممتلكات علي.
سألني: «ألا ترغبين في إخبار عائلتك بأمر زواجك؟»
فلم أجبه. - «لقد منحت ابني السعادة، ومن حقك أن تبدئي حياة جديدة.»
جلس على مقعد بجوار فراشي ممسكا بمسبحة كهرمانية اللون في يده تعرفت عليها في الحال، فقد كانت تخص عليا. سألته عن أحوال فاطمة خانم، فأخبرني أنها رابطة الجأش.
سألته: «وكيف حال أكرام؟» - «لقد أتت لزيارتك منذ يومين وحاولت أن تتحدث معك، لكنك لم تكوني على ما يرام.»
فتذكرت: «نعم لقد كانت هنا ...»
علت وجهه ابتسامة خافتة فخورة وهو يقول: «لقد وضعت طفلها. إنه صبي.» - «متى حدث ذلك؟» - «جاءها المخاض بعد أن أخبرناها بوفاة علي.»
كانت أكرام في نفس المستشفى الذي كنت به، فقد نزفت كثيرا، لكنها الآن بخير؛ والطفل أصيب باليرقان، لكن حالته تتحسن.
قبل أن يعيدني السيد موسوي إلى «إيفين»، اصطحبني لأرى أكرام وطفلها الذي أطلقت عليه اسم علي، وفي طريقنا لغرفة أكرام مررنا بنافذة كبيرة الحجم يرقد خلفها نحو ثلاثين طفلا بعضهم نائم والبعض الآخر يبكي. أشار السيد موسوي إلى طفل ضئيل الحجم ذي وجه متغضن أحمر اللون يصرخ غاضبا؛ إنه علي الصغير. طلبت أن أحمله، فأحضرته لي الممرضة، وتوقف عن البكاء ما إن بدأت أهدهده بين ذراعي، وأخذ يمتص معطفي. إنه جائع. لم أتمكن من حبس دموعي، فأخذته إلى أكرام التي ألقمته ثديها.
لقد مات طفلي. كنت سأحبه إن بقي على قيد الحياة، لكنني الآن لن أطعمه أبدا، ولن أغير له الحفاضات، ولن ألعب معه، ولن أشاهده وهو يكبر. •••
عندما دخلت حجرة مكتب «246» ونزعت العصابة وجدت حارسة لم أقابلها من قبل تحدق إلي. كانت في منتصف الأربعينيات من العمر، وتعلو وجهها ابتسامة ساخرة. - «مارينا الشهيرة، أم أقول فاطمة مرادي بخت؟ أخيرا تقابلنا. تذكري أنني المسئولة هنا الآن، ومن الآن فصاعدا لن تحظي بأي معاملة مختلفة، بل ستعاملين على قدم المساواة مع الجميع. هل فهمت؟»
أومأت: «أين الأخت مريم؟» - «أعيد توزيع الأخوات التابعات للحرس الثوري في «إيفين». اسمي الأخت زينب، وأنا عضو في «اللجان الإسلامية»، ونحن المسئولات هنا. هل لديك أي أسئلة أخرى؟» - «كلا.» - «إذن اذهبي إلى غرفتك.»
كان للحياة سبلها في إثبات خطئي؛ فها هي الأمور قد تسوء أكثر وأكثر، لكنني كنت متعبة، حتى إنني لم أستطع أن أذرف دمعة واحدة. وفي الغرفة «6» التفت جميع الفتيات حولي، وارتفع صوت بهار حتى غطى على صوت الجميع. - «أيتها الفتيات، اتركن لها مساحة كي تتنفس. مارينا، هل أنت بخير؟»
نظرت في عينيها، ثم تلاشت كل الأصوات.
عندما استعدت وعيي، وجدت نفسي أرقد على الأرض في أحد الأركان وفوقي بطانية، وبهار تجلس بجواري تقرأ القرآن. - «بهار.»
ابتسمت، وقالت: «ظننتك في غيبوبة. أين كنت؟»
أخبرتها بأمر اغتيال علي، فصدمت.
قالت: «لقد نال جزاءه.» - «كلا يا بهار، لم يكن يستحق ذلك.» - «ألم تكرهيه لما فعله بك؟»
لماذا يسألني الجميع هذا السؤال؟ - «لم يكن الشر به خالصا، بل كان به بعض الخير. كان حزينا وحيدا؛ أراد أن يتغير وأن يساعد الناس، لكنه لم يكن يعرف السبيل المناسب لذلك، أو ربما كان يعرف لكنه لم يستطع، لأن أشخاصا مثل حامد لم يسمحوا له بذلك.» - «كلامك غير منطقي. لقد اغتصبك مرة بعد مرة.» - «كنت زوجته.» - «وهل كنت تريدين الزواج منه؟» - «كلا.» - «لقد أجبرك.» - «نعم.» - «لا يزال الاغتصاب تحت ستار شرعي اغتصابا.» - «بهار، ما من شيء منطقي في العالم. أشعر أن اللوم يقع علي في كل شيء.» - «لكنك لم تخطئي في أي شيء.»
سألتها عن ابنها إحسان، فقالت إنه نائم. لم تكن تعرف أي شيء عن زوجها. •••
بعد نحو أسبوعين استدعيت عبر مكبر الصوت، ووجدت السيد موسوي ينتظرني في المكتب. طلبت منه الأخت زينب أن يوقع تعهدا بإعادتي قبل العاشرة ليلا.
قال لي فور أن خرجنا من المكتب: «سوف أصطحبك إلى منزلي لتناول العشاء.» - «أولئك الأخوات الجديدات لسن ودودات مع الآخرين.» - «كلا، على الإطلاق.»
بدا السيد موسوي ذاهلا ونحن نتجه نحو السيارة.
عندما اجتزنا البوابات سألني هل أشعر بتحسن، فقلت نعم. أخبرني أنه هو وعائلته يشعرون بتحسن أيضا، فقد أمدهم الله بالقوة وشغلهم ابن أكرام، ثم أخذ نفسا عميقا وأخبرني أنه حصل على معلومات تؤكد أن اغتيال علي كان ترتيبا داخليا، فلم أصدق ما سمعته.
سألته: «حامد؟» - «نعم، إنه أحدهم، لكن لا يمكن إثبات ذلك.»
قلت إن عليا كان قد أخبرني بأنه يواجه بعض المشاكل مع أسد الله لاجيفاردي، وأكد لي السيد موسوي أنه يعتقد أن لاجيفاردي هو من أمر بتنفيذ عملية الاغتيال.
سألته: «وهل هناك ما يمكنك فعله كي تقدم المسئولين عن تلك العملية للمحاكمة؟» - «كلا، كما قلت لك لا يمكنني إثبات أي شيء، فلن يتقدم الشهود للإدلاء بشهادتهم أبدا.»
فقد السيد موسوي ابنه الوحيد، والقتلة - زملاء ابنه - سيفلتون من العقاب، وهو ما آلمه كثيرا. وجدتها مفارقة محزنة أن يموت علي بنفس الطريقة التي يعدم بها الشباب والفتيات في «إيفين»؛ نفس أعضاء فرقة إطلاق النار الذين أنهوا حياة كل من جيتا وترانه وسيرس هم من جذبوا الزناد الذي أنهى حياته.
قال السيد موسوي: «هناك أمر آخر يجب أن أصارحك به يا مارينا. إنني أحاول إطلاق سراحك، ولكنني لم أتمكن من ذلك حتى الآن.» - «لماذا؟» - «لأن المتشددين من أمثال لاجيفاردي الذين يتمتعون بنفوذ قوي في «إيفين» يؤكدون أنه ينبغي ألا يسمح لك بالعودة إلى نمط حياتك القديم، فهم يرون أن تلك الخطوة سوف تعرض إيمانك للخطر، ولأنك زوجة شهيد اغتيل على يد «المجاهدين» فعليهم أن يحموك من الكفار ويزوجوك من أحد المسلمين الصالحين في أقرب وقت ممكن.»
لم أصدق ما كنت أسمعه، فقلت: «ولكنني أفضل الموت على أن يحدث ذلك.»
فهز رأسه وقال: «لا داعي لذلك يا مارينا، فقد وعدت ابني بأن أعيدك إلى منزلك، وسوف أفي بوعدي. سأذهب لمقابلة الإمام، وأنا على يقين من أنني سأتمكن من إقناعه بإطلاق سراحك. سوف ينزعج البعض، ويبذلون كل ما بوسعهم من أجل تعقيد الأمر، وهكذا قد يستغرق الأمر وقتا أطول مما كنت أتوقع، لكنك ستكونين على ما يرام، وعليك أن تتحلي بالقوة. قد لا أستطيع تقديم قتلة علي للمحاكمة، ولكنني أتعهد بحمايتك لأن عليا أراد ذلك.»
سألته: «هل تصطحبني لزيارة قبر علي؟»
فوعدني بذلك.
فجأة سألني: «مارينا، هل شعرت نحوه بالحب في أي وقت؟»
فوجئت بهذا السؤال؛ إذ لم أكن أتوقع أن يحدثني بتلك الصراحة.
أجبته: «لقد سألني قبل وفاته بقليل هل أكرهه، فقلت لا. لا يمكنني القول إنني أحببته، ولكنني كنت أهتم لأمره.»
كانت هذه أول مرة أذهب فيها إلى منزل والدي علي دون أن يكون معي. كل بضع دقائق ينتابني شعور قوي أنه سيدخل الغرفة علينا.
بعد أن تناولنا العشاء أخبرتني والدة علي أنها ترغب في الحديث معي على انفراد، فذهبنا إلى غرفة أكرام القديمة. أغلقت الباب خلفنا، وجلست على الفراش، وأشارت لي أن أجلس بجوارها، ثم أخبرتني بأن السيد موسوي يبذل كل ما بوسعه كي يعيدني إلى أهلي، وأخبرتها أني على علم بذلك. - «أعلم أنه أخبرك، لكني أردت أن أخبرك بنفسي. لقد كانت أمنية علي الأخيرة أن تعودي إلى المنزل، وهذا يعني الكثير لنا.»
قالت إنها لم تكن تتوقع أن ينجو علي عندما ألقى «السافاك» القبض عليه وسجن في «إيفين» قبل الثورة. كانت تعلم أن استشهاد ابنها سيكون فخرا لها، لكنها شعرت بالذعر؛ إذ لم تكن ترغب في أن تفقد ابنها الوحيد. وعندما ذهب إلى الجبهة تسلل إليها الخوف مرة أخرى، وشعرت بالارتياح عند عودته ظنا منها أنه سيصبح آمنا في طهران.
قالت وهي تبكي: «لكن انظري ماذا حدث، فقد غدر به زملاؤه، أولئك الذين يفترض أن يقدموا له الحماية، أولئك الذين وثق بهم، ولا يوجد ما يمكننا القيام به الآن. لقد نجا في عهد الشاه وأثناء الحرب كي يلاقي حتفه بتلك الطريقة. كل ما يمكننا فعله الآن أن ننفذ أمنيته الأخيرة، وأعدك أننا سنفعل ذلك، وأؤكد لك أيضا أننا نعلم جيدا أن أكرام تدين لك بالفضل في إنجابها لهذا الطفل. علي الصغير هو معجزتنا، وهو أملنا الآن.»
وهنا قرع أحدهم الباب ودخلت أكرام حاملة عليا الصغير بين ذراعيها. كان قد كبر قليلا عما رأيته في المستشفى، وكانت له وجنتان متوردتان وعينان داكنتان واسعتان. إنه طفل جميل. حملته بين ذراعي وتذكرت طفلي، وشعرت بالامتنان لأنني حملته بين ذراعي، حتى وإن كان حلما. •••
بعد بضعة أيام اصطحبني السيد موسوي إلى مقبرة «بهشت زهرا» التي دفن فيها علي، وتقع جنوبي طهران بجوار الطريق السريع المؤدي إلى مدينة «قم» الشهيرة بالمدارس الدينية الإسلامية. رافقتنا أكرام، وجلست بجواري في المقعد الخلفي للسيارة، وطوال الطريق الذي استغرق ساعتين ظلت إحدانا تمسك يد الأخرى دون أن نتبادل كلمة واحدة. كان الطريق مظلما نظيفا يقسم الصحراء إلى نصفين، وكانت الأمطار قد هطلت في الليلة السابقة، لكن السماء صافية الآن. اتكأت برأسي على ظهر المقعد، وتركت أمواج الظلال والأضواء تغمرني. لقد فقدت أصدقاء وأحباء لي من قبل، لكن عليا لم يكن يشبه أيا منهم؛ لم يكن يشبه أيا ممن عرفتهم من قبل. لم يكن بوسعي تغيير ما فعله بي أو ما حدث بيننا. لكنه توفي بعدما بدأ يتغير ويتخلى عن هويته السابقة. لقد أزهقت العديد من الأرواح البريئة خلف أسوار «إيفين» ودفنت في قبور مجهولة، وكان علي مسئولا عن الفظائع التي ارتكبت هناك، ولكن الحقيقة أنه مات مظلوما، فقد قتله أولئك المتشددون لأنه أصبح مصدر تهديد لهم؛ لأنه حاول أن يغير الأوضاع إلى الأفضل؛ لأنه حاول التحرر من قيودهم.
عندما وصلنا إلى المقبرة لم أستطع أن أجمع شتات أفكاري، فقد أصبح العالم خليطا من الصور التي لا تربط بعضها ببعض صلة، لكنني استعدت انتباهي عندما أخبرتني أكرام أننا وصلنا إلى الناحية المخصصة للشهداء في المقبرة. كاد النهار ينتصف، وبالرغم من هبوب نسمات رقيقة باردة، كانت الشمس لافحة وأخذت أتصبب عرقا. تناثرت شجيرات صغيرة هنا وهناك، ولكن على امتداد البصر كانت الأرض مكسوة بشواهد قبور من الرخام والأسمنت وضعت أفقيا على القبور. أحاطت بنا النصب التذكارية المصنوعة من القصدير ذات النوافذ الزجاجية، وهي أضرحة للمتوفين. معظم من دفنوا هنا كانوا من ضحايا الحرب، ومعظمهم كانوا في سن صغيرة للغاية عند وفاتهم.
توقف السيد موسوي وأكرام أخيرا؛ لقد وصلنا إلى قبر علي. انحنى والده على ركبتيه ووضع يده على القبر، ثم أخذت كتفاه ترتجفان، وتساقطت دموعه على السطح الحجري اللامع حتى امتزجت بالكتابة المحفورة عليه:
السيد علي موسوي
جندي الإسلام الشجاع
21 أبريل 1954 إلى 26 سبتمبر 1983
وضعت أكرام يدها على كتف والدها وغطت وجهها بالشادور.
وداخل النصب التذكاري الذي شيد أمام القبر وضعت ثلاث صور لعلي. كان يبلغ من العمر في الصورة الأولى ثمانية أو تسعة أعوام ويقف مبتسما يضع قدمه اليمنى على كرة قدم ويديه على فخذيه. وفي الصورة الثانية كان في نحو السادسة عشرة تعلو وجهه لحية صغيرة وتبدو عليه علامات الجدية، أما في الصورة الثالثة فكان كما عرفته: رجلا ذا شعر داكن ولحية كثيفة مهذبة وأنف كبير وعينين داكنتين حزينتين. كانت بعض الورود الصناعية الحمراء قد ألصقت بالصور، وعلى كلا جانبي النصب التذكاري وضع أصيص من أزهار الأقحوان الحمراء. انهمرت دموعي بلا توقف، وجلست على الأرض المفروشة بالحصى بجوار القبر وتلوت «السلام الملائكي» عشرات المرات من أجله؛ من أجل زوجي؛ من أجل رجل مسلم دفن في «ساحة الشهداء». تمنيت لو أعفو عنه، ولكن العفو لا يأتي دفعة واحدة كهدية مغلفة بشريط أحمر؛ إنما يأتي تدريجيا. بالإضافة إلى ذلك فلن يمحو العفو عنه آثار الألم الذي سببه لي؛ سوف يلازمني هذا الألم ما حييت، لكن هذا العفو سيساعدني على أن أتسامى على الماضي وأواجه كل ما حدث. كان علي أن أصرفه عن ذهني كي أحرر نفسي من قيده.
وعلى بعد بضعة قبور إلى يميننا أخذت امرأة عجوز ضئيلة الحجم محدودبة الظهر تنظف شاهد قبر رخامي بإسفنجة صفراء اللون يقطر منها الماء والصابون، ثم صبت عليه الماء النظيف من زجاجة وجففته بقطعة قماش بيضاء اللون، وبعد أن أصبح شاهد القبر نظيفا انتقلت إلى القبر التالي وكررت نفس الشيء. جلس رجل مسن نحيف يرتدي قميصا أبيض وسروالا أسود من القماش في الجزء المتسخ بين القبرين وأخذ يردد شيئا ما وهو يحرك مسبحة في يده ويراقب السيدة.
لن يغسل أحد قبر ترانه أو سيرس أو جيتا أو يبني لهم أضرحة في مقبرة يتمكن فيها أصدقاؤهم وعائلاتهم وحتى الأغراب من زيارتهم والدعاء لهم، لكنني أتذكرهم، ولأنني بقيت على قيد الحياة فعلي أن أعثر على طريقة أحيي بها ذكراهم؛ فحياتي تخصهم أكثر مما تخصني.
وقفت وفتحت النافذة الزجاجية لنصب علي التذكاري، وأخرجت مسبحتي من جيبي وتركتها له هناك. نظرت أكرام إلى المسبحة، وسألت: «ما هذا؟» - «مسبحتي.» - «كم هي جميلة! لم أر مثلها قط.» - «أدعو بها العذراء.»
وبينما نتوجه إلى السيارة، نظرت إلى شواهد القبور التي نظفتها المرأة بعناية شديدة، فوجدتها قد رحلت هي والرجل المسن. كان أحد القبور يخص رضا أحمدي والآخر لحسن أحمدي، وقد ولدا وتوفيا في نفس اليوم؛ كانا توأما قتلا في الجبهة معا.
أدركت كم اعتدت على الموت، ووجدته يصيب صغار السن أكثر مما يصيب كبار السن في نطاق من أعرفهم.
وبعد أن أعدنا أكرام إلى منزلها أعادني السيد موسوي إلى «إيفين»، وأخبرني أنه سيبذل أقصى ما بوسعه كي يعيدني إلى منزلي في أقرب وقت ممكن. •••
وفي أواخر أكتوبر أرسلت شيدا ابنها كاوه خلال إحدى الزيارات إلى والديها. كان قد بلغ من العمر عاما ونصفا، وصار طفلا لطيفا مليئا بالحيوية أدخل البهجة إلى حياتنا. لم يكن يستطيع نطق اسمي بطريقة صحيحة، فكان يطلق علي الخالة مانا. عندما عادت شيدا من الزيارة بدونه بدت كأن روحها انتزعت منها، فجلست في أحد الأركان وظلت تهتز للأمام وللخلف عدة ساعات حتى استغرقت في النوم.
بعد بضعة أيام أعطيت كل متعلقات ترانه التي طلبت مني توصيلها لوالديها إلى صديقة أوشكت مدة عقوبتها التي تبلغ عاما ونصفا على الانتهاء، لأني فقدت الأمل في العودة إلى المنزل.
وفي ليلة عيد الميلاد من عام 1983 تساقطت الثلوج، وفي الصباح الباكر أخذت أشاهد الكتل الثلجية الخفيفة عبر النافذة ذات القضبان وهي تتراقص جيئة وذهابا بفعل الرياح. سرعان ما تجمدت الثياب المعلقة على حبال الغسيل، وعندما جاء وقت الخروج للساحة دخلت معظم الفتيات بعد جمع الملابس المغسولة في الحال، لأن البرد كان قارسا، ولم تكن الخفاف المطاطية التي نرتديها توفر لنا الحماية من الطقس القارس. تطوعت بإحضار ملابس بهار وسارة. كان الجو أشد برودة مما تخيلت، لكنني أحببت ملمس الكتل الثلجية على وجهي. لا يوجد أحد بالخارج؛ خلعت جوربي وخفي ووقفت ساكنة، احتوتني ثلوج الشتاء تماما، حيث غطتني وملأت الفراغات الصغيرة بين أصابع قدمي. إنه يوم عيد الميلاد؛ يوم ميلاد المسيح؛ يوم للفرحة والاحتفال؛ يوم لترديد الترانيم وإقامة الولائم الضخمة واستقبال الهدايا. كيف يواصل العالم حياته وكأن شيئا لم يحدث؟ وكأن كل هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا حياتهم لم يولدوا قط؟!
وبعد فترة بدأت قدماي تؤلمانني، ثم سرى الخدر فيهما. رأيت نفسي ليلة الإعدام عندما كنت مقيدة إلى عمود في انتظار الموت. لقد أخذني «إيفين» بعيدا عن منزلي، وانتزعني من هويتي، وأدخلني في عالم خارج نطاق الخوف شعرت فيه بآلام لا يطيقها بشر. عانيت الخسارة والحرمان من قبل، وعرفت الحزن، لكن الحزن هنا صار كيانا جامحا لانهائيا من الظلام، يبقي ضحاياه في حالة اختناق دائمة. كيف يفترض بالمرء أن يعيش حياته بعد أن يخرج من هنا؟
كان علي أن أتوقف عن التفكير، فلن تجلب لي تلك الأفكار سوى اليأس. علي أن أؤمن بأنني سأعود إلى منزلي يوما ما. •••
بعد نحو ثلاثة أشهر، في صباح السادس والعشرين من مارس عام 1984 استدعيت عبر مكبر الصوت. - «مارينا مرادي بخت، توجهي إلى المكتب.»
قد يعني هذا الاستدعاء أي شيء؛ فربما يطلقون سراحي أو يعدمونني رميا بالرصاص، وربما كان السيد موسوي يرغب في مقابلتي.
قالت بهار: «مارينا، سوف تعودين إلى منزلك؛ أشعر بذلك.» - «من الصعب التنبؤ بأي شيء هنا.»
قالت شيدا: «مارينا، بهار محقة.»
عانقتني سارة وهي تضحك والدموع تنهمر من عينيها، وقالت لي: «مارينا، اذهبي لأمي وأخبريها أني بخير وسأعود إلى المنزل يوما ما.»
وصاحت الفتيات وهن يدفعنني عبر الممر: «هيا يا مارينا، انطلقي!»
اجتزت الباب المدعوم بالقضبان، وقبل أن أصعد الدرج نحو حجرة المكتب التفت خلفي، فرأيت أيادي صديقاتي تمتد عبر القضبان ملوحات لي بالوداع، فبادلتهن التحية، وفور أن خطوت إلى حجرة المكتب استدعت الأخت زينب مندوبة الغرفة «6» عبر مكبر الصوت، وطلبت منها أن تحضر متعلقاتي.
قالت الأخت زينب: «لقد انتصرت أخيرا، لم أتخيل أنهم سيسمحون لك بالعودة إلى المنزل بهذه السرعة.» - «فقدت أصدقائي، وزوجي، وجنيني، وتظنين أنني انتصرت؟»
فأطرقت برأسها.
سأعود إلى المنزل. أخيرا سأعود إلى المنزل. •••
كان والدا علي وأكرام وطفلها بانتظاري في غرفة صغيرة عند البوابة. ابتسم لي السيد موسوي وقال: «لقد وفيت بوعدي لك، أليس كذلك؟» - «بلى، ولكن كيف تمكنت من ذلك؟» - «لقد تحدثت مع الإمام. كان لاجيفاردي قد سبقني وعارض ذلك الرأي، ولكنني أقنعت الإمام في نهاية الأمر بأن إطلاق سراحك هو عين الصواب.»
توقف قليلا ثم قال: «هل ستذكرينني بالخير؟» - «بالطبع، وماذا عنك؟ كيف ستذكرني؟»
أجاب وهو يمسح دموعه: «ابنة قوية شجاعة.» طلب مني أن أتصل به إذا واجهت أي مشكلة، وأخبرني أنه سيحتفظ بالمال الذي تركه علي باسمي في البنك مدة عام في حال إذا ما غيرت رأيي وقررت أخذه. ومع أنه حاول أن يهون الأمر علي، فقد أوضح لي أنني سأظل ممنوعة من السفر خارج البلاد بضعة أعوام، فهكذا جرت العادة على من يطلق سراحهم من «إيفين».
أخبرت السيد موسوي أن عليا وعدني بأن يساعد سارة، وطلبت منه أن يطلب من محمد الاعتناء بها، ووعدني بأن يفعل.
قال السيد موسوي: «أود أن أقدم لك نصيحة واحدة، لا تذهبي لزيارة كل أسر أصدقائك المسجونين، بل يمكنك أن تكتفي بزيارة أسرة واحدة أو اثنتين فقط. لن يكف حامد عن مراقبتك، وإن أعطيته أدنى سبب كي يلقي القبض عليك مرة أخرى فلن يتردد في ذلك، وإن حدث ذلك فلن أتمكن من مساعدتك مرة أخرى. عليك أن تمكثي في المنزل ولا تلفتي الأنظار إليك.» - «سأبقى في المنزل.»
عرض علي السيد موسوي أن يقلني إلى «لونا بارك» حيث تنتظرني أسرتي، لكنني شكرته على كرمه، وأخبرته أني أفضل السير، فقد كنت بحاجة إلى الهواء النقي وبعض الوقت كي أستعد نفسيا لمقابلة والدي.
كانت «لونا بارك» التي تقع على بعد ميل ونصف من «إيفين» مدينة للملاهي، وقد استولت الحكومة على جزء منها كي تستخدمه ساحة لإيقاف الحافلات التي تقل الزائرين إلى السجن، وعند إطلاق سراح أحد السجناء تنتظره أسرته هناك أيضا.
خرجت من السجن. كان أغرب شعور عرفته أن يصبح بإمكاني العودة إلى المنزل. ما زلت لا أجرؤ على الشعور بالسعادة. هبت في وجهي عاصفة من الرياح المحملة بقطرات المطر، فأعدت ضبط الشادور الأسود الذي أرتديه بإحكام وخطوت بحذر على الدرج المؤدي إلى الشارع الضيق الهادئ، ثم توقفت ورفعت بصري وراقبت السحب وهي تتحرك بفعل الرياح العاصفة، وللحظة ظهرت رقعة صغيرة من السماء الزرقاء. كان منظرا خلابا، ومع أن لون السماء كان باهتا، فإنه كان جميلا مقارنة بدرجات الرمادي المختلفة. تابعت الطريق بعيني، وظهرت سيارة بيضاء عند الناصية. هدأ السائق - رجل في منتصف العمر - من سرعته وحدق إلي، ثم واصل السير. كان جورباي قد تشبعا بالماء، وتجمدت قدماي من شدة البرد.
وقف حارس مسلح فوق أحد أبراج المراقبة يراقب الطريق، فناديته: «من فضلك يا أخي، أين الطريق المؤدي إلى «لونا بارك»؟» فأشار لي إلى الطريق.
انتشرت البرك الموحلة في كل مكان، وظهرت على سطحها أمواج صغيرة جعلت انعكاس كل شيء يرتعش ويهتز ويتلاشى. لا يوجد الكثير من المشاة ، ولكن من حين لآخر يمر أحدهم بخطوات سريعة ثابتة. ظهرت مظلة سوداء في الهواء تتحرك بعيدا عني، وفي ملتقى شارعين وقف رجل كبير نحيف رث الثياب أمام حائط قرميدي متهدم رافعا يديه المعروقتين بالدعاء.
ماذا أقول لوالدي؟ أقول إني في العامين الماضيين تعرضت للتعذيب، وشارفت على الموت، وتزوجت، وترملت، وفقدت جنيني؟ كيف يمكنني أن أصوغ كل ذلك في كلمات؟ وماذا عن أندريه؟ أما زال يحبني بالرغم من الهوة الزمنية التي باعدت بيننا؟
لاحظت فتاة تسير أمامي على مسافة قريبة حاملة حقيبة بلاستيكية مشابهة لتلك التي أحملها ومرتدية خفا بلاستيكيا أكبر من حجم قدميها بثلاثة قياسات على الأقل. كانت تتوقف كل بضع خطوات وتنظر للخلف نحو الجبل، ويبدو أنها لم تنتبه إلي. وعندما وصلت إلى الطريق السريع وأصبحت «لونا بارك» على مرمى البصر، ومع أن إشارة المشاة قد تحولت إلى اللون الأخضر، لم تعبر الفتاة الطريق، توقفت خلفها ببضع خطوات، ولكنها ظلت واقفة عند نقطة عبور المشاة تشاهد الإشارات وهي تتحول من الأخضر إلى الأحمر والعكس عدة مرات. انطلقت السيارات مسرعة ثم توقفت، ثم عادت للانطلاق مرة أخرى.
سألتها: «لم لا تعبرين الطريق؟» ففزعت، واستدارت نحوي وحدقت إلي وسط الأمطار، فابتسمت لها. - «أنا عائدة من «إيفين» إلى المنزل مثلك، ويمكننا عبور الطريق معا.»
علت وجهها ابتسامة مترددة، وأمسكت إحدانا بيد الأخرى وعبرنا الطريق السريع. كانت يدها أكثر برودة من يدي.
وعندما وصلنا إلى «لونا بارك» أوقفنا أحد الحرس الثوري وهو يلعن الأمطار الباردة، وسألنا عن اسمينا، ثم أخرج ورقة مبللة من جيبه وتأكد من وجود أسمائنا، ثم سمح لنا بالمرور. نظرنا حولنا؛ فيما عدا بعض الأكشاك الضخمة في الخلف بدا المكان كساحة خالية مخصصة لوقوف السيارات في حماية الحرس الثوري. لم أر أي وجه مألوف، لكن رفيقتي هرعت نحو رجل وامرأة قد وصلا للتو وكانا يبكيان. بعد مرور بضع دقائق رأيت والدي، فجريت نحوهما وعانقتهما طويلا، وبينما نتجه نحو السيارة حاولت أمي فتح مظلتها، لكنها لم تتمكن من ذلك. - «أمي، ماذا تفعلين؟» - «لقد علقت تلك المظلة اللعينة.» - «كدنا نصل إلى السيارة.» - «لكنك مبللة، وأخشى أن تصابي بالبرد.»
إنها ترغب في حمايتي من المطر؛ فطوال العامين الماضيين لم يكن بوسعها أن تفعل أي شيء لمساعدتي؛ كانت عاجزة، بل ربما كانت أكثر عجزا مني. وأخيرا فتحت المظلة، ومع أننا وصلنا إلى السيارة أخيرا فقد أخذتها منها.
ركبت السيارة وأنا غارقة في مياه الأمطار، فوجدت أندريه يجلس في مقعد السائق، واستدار نحوي وابتسم. كان وجوده يعني أنه قد وفى بوعده وانتظرني؛ أنه ما زال يحبني. أخيرا شعرت بالسعادة. أمر غريب أن أحدنا لم يدرك حقيقة مشاعره نحو الآخر قبل أن يلقى القبض علي؛ لم ندرك ذلك إلا بعد أن فقد أحدنا الآخر.
بدد صوت أمي الفراغ وهي تقول: «لماذا لم يسمحوا لنا بالحضور إلى بوابة السجن في هذا الطقس الرديء كي نصطحبك؟ انظري إلى نفسك! سوف تمرضين بلا شك، اخلعي جوربيك.» - «أمي، لا تقلقي، فأنا بخير، وسوف أبدل ملابسي فور أن نعود إلى المنزل.» - «لقد صنعت لك ملابس جديدة، وكلها معلقة في خزانتك.»
عندما كنت في السجن انتقل والداي إلى منزل صديقة قديمة لهما، وهي امرأة طيبة تدعى زينيا وتعيش بمفردها في منزل من طابق واحد به خمس غرف ويقع في حي راق. كان هذا الاتفاق مرضيا لكلا الطرفين، فمن ناحية لن تشعر زينيا بالوحدة بعد الآن، ومن ناحية أخرى لن يضطر والداي إلى سداد إيجار مرتفع القيمة في مقابل مساحة صغيرة، فقد ارتفعت أسعار المنازل كثيرا خلال الأعوام التالية للثورة، ووجد أفراد الطبقة المتوسطة الذين لا يمتلكون منازل خاصة بهم صعوبة في سداد إيجار المنازل.
سألت أمي: «كيف كان الانتقال؟» - «كل شيء سار على ما يرام. اضطررنا فحسب إلى بيع بعض الأشياء، فزينيا لديها الكثير من الأثاث، ولم يكن هناك مكان كاف لكل شيء. لم يتركنا أندريه قط، وساعدنا أثناء الانتقال. حمدا لله أن لديه سيارة كبيرة؛ لا أدري ماذا كنا سنفعل من دونه.
سألت أندريه: «أما زالت لديك نفس السيارة؟» - «نعم.»
فوجئت بذلك، لكنني أدركت عندئذ أنه مع أن الوقت الذي قضيته في «إيفين» قد بدا لي دهرا من الزمن، فإنه لم يكن يزد عن عامين وشهرين واثني عشر يوما فقط.
الفصل الثامن عشر
في منزل زينيا حصلت على غرفة نوم بها نافذة تكاد تكون بعرض الحائط تطل على الساحة الخلفية. كانت الحوائط مطلية باللون الوردي، وهو لوني المفضل، وهناك مقعدان بالقرب من النافذة. تحسست بأصابعي القماش الوثير الذي يغطي المقعدين، وتخيلت نفسي جالسة على أحدهما أقرأ رواية أو ديوان شعر. وجدت منضدة صغيرة للتزين، كانت جزءا من وحدة أثاث جدارية، وعليها صورتان لي موضوعتان في أطر يدوية الصنع من أصفهان. في إحدى الصورتين، كنت في الثامنة من العمر أتكئ على سيارة أبي طراز أولدزموبل الزرقاء اللامعة أرتدي ثوبا صيفيا وأحدق في آلة التصوير، وابتسامة غامضة متسائلة تعلو وجهي. هل كنت صغيرة هكذا يوما؟ وفي الصورة الأخرى كنت في الثالثة عشرة أركب دراجتي أمام منزل عمتي الصيفي، وأرتدي قميصا أزرق اللون وسروالا أبيض قصيرا، وأشتاق إلى الذهاب إلى الشاطئ كي أقابل أراش. كان أخي هو من التقط كلتا الصورتين.
وبدلا من فراشي القديم وجدت أريكة تفتح فراشا مغطاة بنسيج من الصوف التويدي في أحد الأركان. لمست كل قطعة أثاث، وبدا كل شيء حقيقيا. لماذا إذن أشعر وكأنني أحلم؟ بدا الأمر وكأن حياتي الحقيقية لا تزال في «إيفين»، وأن هذا العالم الآخر الذي انتقلت إليه؛ هذا المكان الذي كنت أدعوه منزلي وأتحرق شوقا للعودة إليه بدا لي غريبا غير حقيقي. «إنها الحقيقة، لقد عدت إلى المنزل، انتهى الأمر، انتهى الكابوس، جميل أننا انتقلنا إلى منزل آخر، إنها بداية جديدة، علي أن أنسى الماضي.»
أخرجت ملابسي المطوية من الحقيبة البلاستيكية التي أحضرتها معي من «إيفين»، وخطر في بالي أن ألقي بكل محتوياتها في صندوق القمامة، لكنني أدركت أني لا أستطيع القيام بذلك. كان وشاح الزفاف الأبيض يعلو كومة الملابس، وكنت قد لففته حول خاتم الزواج. أخذت نفسا عميقا وفضضت طيات الوشاح الحريري، ورأيت عليا بين ذراعي يحاول جاهدا التقاط أنفاسه. تمنيت لو كان العالم مكانا بسيطا كل الناس فيه إما أخيار أو أشرار. أعدت طي الوشاح على الخاتم وخبأته في ركن مظلم من خزانتي، ثم توجهت إلى النافذة. كان المطر قد توقف، وتدفقت أشعة الشمس عبر السحب على شكل شرائط ذهبية. كانت الساحة الخلفية شديدة الخصوصية والانعزال، فهي محاطة بأسوار قرميدية مرتفعة، وأحاطت بالمسبح الخالي الكثير من شجيرات الورد، وهنا سمعت أحدهم يقرع الباب برفق.
قلت وعيناي مثبتتان على الحديقة الهادئة: «تفضل.»
دخل أندريه ووقف خلفي ووضع يديه على كتفي، فشممت رائحة عطره وشعرت بدفء جسده. - «توقعت أن تعودي حاملة طفلا بين ذراعيك، ومع ذلك لم أكن لأتوقف عن حبك، ولم يكن شيء ليتغير.»
لم أتحرك من مكاني. لا يمكن أن يكون قد علم بأمر الطفل، لكنه قال ما أود سماعه تحديدا. أظن أنه سمع أن الفتيات يتعرضن للاغتصاب في السجن. حاولت أن أحبس دموعي. - «لا أحمل طفلا في أحشائي.» - «هل تعرضت للتعذيب؟» - «نعم. أتريد أن تعرف لماذا اعتنقت الإسلام؟»
كنت أود أن أخبره بما حدث، ولكنني لم أدر كيف. - «لا يهمني ذلك الأمر. أعلم أنك كنت مرغمة، أليس كذلك؟» - «نعم.» - «أنا أحبك.»
استدرت إليه وقلت: «وأنا أيضا أحبك.»
كانت تلك أول مرة نتصارح بحبنا، فطوقني بذراعيه وتلاقت شفتانا، ولبضع لحظات شعرت بأن «إيفين» لم يعد سوى ذكرى بعيدة؛ ذكرى لا يمكنها أن تبقيني أسيرة لها. •••
وفي تلك الليلة جلسنا جميعا حول مائدة العشاء، وكانت أمي قد أعدت يخنة اللحم بالكرفس، والأرز. في البداية خيم الصمت على الغرفة، فلم يكن يقطعه سوى صوت الملاعق وهي تحتك بالأطباق الخزفية، أو صوت أحدنا يسعل.
قطعت زينيا الصمت بصوتها الدافئ العذب وقالت: «حمدا لله على هطول الأمطار اليوم، فقد ظل الجو جافا فترة طويلة، والمروج ذابلة، ولكنها الآن تبدو أفضل كثيرا.» كانت زينيا امرأة متوسطة الحجم ذات شعر أشقر قصير وعينين داكنتين.
أضاف هوشانج خان، وهو صديق لعائلة زينيا، كان يتناول العشاء معنا: «كلما استمر هطول الأمطار تفتحت الزهور أكثر.»
قبعت سيسي - إحدى القطط الثلاث التي تمتلكها زينيا - تحت المائدة وأخذت تتمسح في ساقي، فربت على رأسها وهي تموء راضية.
تسمرت عينا أبي على طبقه معظم الوقت، لكن بين الحين والآخر كان يدور بنظراته حول المائدة ويستقر بها علي هنيهة. حاولت أن أفهم التعبير المرتسم على وجهه، لكنه كان خاليا من التعبير كالعادة. كان يبدو محطما عند زيارتي في السجن، لكنني الآن عدت وعادت الأمور إلى طبيعتها. ربما من الأيسر للجميع أن يتظاهروا بأن شيئا لم يحدث، وكأنني لم أسجن، لكن هل صمتهم هذا رغبة في حمايتي أم في حماية أنفسهم؟
كانت والدة علي قد صنعت يخنة اللحم بالكرفس والأرز في الليلة التي اغتيل فيها ابنها. كيف يمكنني أن أخبر عائلتي بأمر علي وزواجي منه ووفاته؟ شعرت كأنني ضيفة غريبة لا أحد يهتم لأمرها، وأنها دعيت إلى المنزل من منطلق الشعور بالواجب. عندما تنتهي الزيارة يفترض أن ألقي على الجميع تحية المساء وأعود إلى منزلي، ولكن أي منزل؟ منزل أسرة موسوي؟ أم «إيفين»؟
لم أذق طعم النوم في تلك الليلة، وظللت أراقب الظلال غير المألوفة على الحائط. لقد أنقذني علي مرتين في ليلة اغتياله؛ مرة عندما طرحني أرضا، وأخرى عندما طلب من والده وهو يحتضر أن يعيدني لعائلتي، ولولا دعم السيد موسوي لكنت قضيت بقية حياتي في «إيفين»، أو ربما حدث ما هو أسوأ من ذلك؛ فكما أخبرني السيد موسوي ربما زوجني حامد لأحد أصدقائه، وما كنت لأتمكن من فعل أي شيء حيال ذلك سوى الانتحار.
عندما عاد علي من الجبهة أخبرني أنني إن لم أتزوجه فسوف يلقي القبض على والدي وأندريه. صحيح أني صدقته حينها، أما الآن فتنتابني موجة من الشك. ماذا لو كان ذلك تهديدا فقط؟ كان بإمكاني عندئذ أن أرفض عرضه دون أن أعرض حياة أي شخص للخطر. ماذا لو رفضت؟
الآن وأنا أرقد آمنة في فراشي، من السهل أن أتحلى بالشجاعة. •••
في اليوم التالي بحثت عن كتبي، ومعظمها هدايا من ألبرت صاحب المكتبة العجوز، في كل مكان بالمنزل، وعن الصندوق الذهبي الذي يضم سيرة جدتي، لكنني لم أعثر على شيء، فذهبت إلى أمي وهي تجلس في غرفة المعيشة تدخن سيجارة. - «أمي، أين كتبي؟»
هزت رأسها ونظرت لي كأنها سمعت أكثر الأسئلة تفاهة على الإطلاق. - «أي كتب؟ يبدو أنك لم تتعلمي الدرس بعد، أليس كذلك؟ لقد كانت كتبك خطرة كقنبلة زمنية. هل تدركين مقدار الفزع الذي شعرنا به عندما ألقي القبض عليك؟ لقد تخلصت من كل الكتب التي لم يصادرها الحرس. استغرق الأمر مني أياما، لكني تخلصت منها كلها.»
لم تستطع إحراقها، لأنها لم تكن تملك مدفأة أو ساحة بالمنزل، وهكذا أخذت تمزق صفحاتها صفحة صفحة وتغسلها في المغسلة حتى تتحول إلى عجين، ثم تخلط ذلك العجين بالقمامة شيئا فشيئا.
تهاويت على أحد المقاعد وأنا أفكر في كتبي الجميلة التي تحولت إلى عجين قبيح الشكل.
لقد غسلت الكتب؛ غرقت الكلمات المكتوبة، وأخرست إلى الأبد.
كان أكثر ما أفتقده «سجلات نارنيا» التي تحمل توقيع ألبرت.
سألت أمي: «كان هناك صندوق ذهبي صغير تحت فراشي، ماذا حل به؟» - «تقصدين كتابات جدتك؟ فكري قليلا يا مارينا، لو كان الحرس قد أتوا إلى منزلنا مرة أخرى ووجدوا أوراقا مكتوبة بالروسية، ماذا كانوا سيفعلون؟ كان الأمر سيستغرق منا أعواما كي نثبت أننا لسنا شيوعيين.»
لم أستطع أن ألقي باللوم على أمي، فقد كانت خائفة. كل هذا كان نتاج الثورة الإسلامية.
الحزن أمر غريب! إنه يتخذ أشكالا وألوانا متعددة. تساءلت هل تمكن أحد من تحديدها كلها وإعطائها أسماء وهمية. •••
سرعان ما حل عيد ميلادي التاسع عشر، ودعت أمي بعض الأصدقاء والأقارب للاحتفال بتلك المناسبة. قبل وصول الضيوف تفحصت الملابس المعلقة في خزانتي، فوجدتها كلها كئيبة ذات أكمام طويلة بألوان سوداء وزرقاء داكنة وبنية. لم أبلغ الثمانين من عمري بعد. أردت أن أرتدي ثوبا زاهيا بلا أكمام، وأن أنظر في المرآة فأرى الفتاة التي كنت أعرفها من قبل؛ أردت ارتداءه واستئناف حياتي من حيث انقطعت عنها.
ذهبت إلى أمي وأخبرتها أن الملابس التي صنعتها من أجلي أنيقة وتعجبني، لكنني أرغب في ارتداء ثوب أكثر إشراقا لحفل عيد ميلادي، وطلبت منها أن تعطيني أحد أثوابها القديمة التي كانت ترتديها في الحفلات؛ فلديها ثوب وردي مفتوح الكتفين يعجبني كثيرا. لا بد أنه سيكون فضفاضا علي، لكن يمكنني ضبط مقاسه، فقد تعلمت الحياكة والتفصيل في «إيفين»، ووافقت أمي. وبعد أن قضيت نحو نصف ساعة أمام ماكينة الخياطة، أصبح الثوب مناسبا لي تماما، وانتعلت حذاء بكعب عال. كنت عازمة على استعادة حياتي مرة أخرى.
استقبلني الضيوف بالابتسام والعناق والقبلات، وأخبروني أنني أبدو رائعة. سعدت لرؤيتهم جميعا، ولكن ظلت تفصل مسافة ملحوظة بيننا؛ بين الفتاة التي رحلت بعيدا، وبين من عاشوا حياة طبيعية. تكررت فترات الصمت المزعجة في كل محادثة.
كان أحدهم يسأل: «مارينا، تبدين رائعة. كيف حالك؟»
فأجيب: «بخير.»
بعدها يتكلف الابتسام ويحاول إخفاء عدم الارتياح الذي يشعر به والذي يطل من عينيه واضحا كالشمس. - «تبدو تلك الفطائر لذيذة، هل أعدتها والدتك؟»
لم يكن الذنب ذنبهم، كانوا جميعا ودودين مهذبين معي، لكن الأمر كان ينتهي عند هذا الحد. انضم إلينا أحد القساوسة ويدعى الأب نيكولا، وكان يعزف الأغاني الشعبية الروسية على الأكورديون، وأخذ والداي يغنيان معه. كان جميلا أن أحاط بالوجوه المألوفة الباسمة للأقارب والأصدقاء والألحان التي تعود ذكراها إلى أيام طفولتي، لكن عليا كان محقا، فالمنزل لم يعد كما تركته، لأنني لم أعد كما كنت. اختفى العالم البريء الآمن الذي عشت فيه طفولتي إلى الأبد.
بعد تناول العشاء جلست أمي الروحية سيران بجواري. كانت امرأة عاقلة حكيمة، وطالما أحببت معرفة وجهة نظرها.
سألتني: «كيف حالك؟» - «في أحسن حال.»
ضحكت وقالت: «يسعدني أنك لم تفقدي تميزك عن الآخرين.» كانت متأنقة كالعادة في قميصها الأصفر الشاحب وتنورتها البنية الأنيقة. «يجب أن تفخري بنفسك، فمعظم من يخرجون من «إيفين» يوصدون الباب على أنفسهم ولا يخاطبون أحدا فترة طويلة، لكنك ورثت القوة عن جدتك.»
صدحت موسيقى الفالس وبدأ الناس يرقصون.
سألتها: «لم لا يسألني أحد عما حدث لي في العامين الماضيين؟» - «الإجابة بسيطة جدا، فنحن نخشى السؤال لأننا نخشى المعرفة. أظنه نوعا من الدفاع الطبيعي عن النفس. إن لم نتحدث نحن في هذا الشأن وتظاهرت أنت بأنه لم يحدث، فربما يدخل الأمر في طي النسيان تماما.»
توقعت أن تؤدي عودتي للمنزل إلى عودة الأمور لطبيعتها، لكن ذلك لم يحدث. كرهت الصمت المحيط بي، ورغبت في أن أشعر بحب من حولي، ولكن كيف يجد الحب طريقه إلي وسط كل هذا الصمت؟ إن الصمت والظلام يتشابهان إلى حد بعيد، فالظلام غياب للضوء، والصمت غياب للأصوات. كيف يمكن للمرء أن يجتاز كل هذا التجاهل؟ •••
بعد حفل عيد ميلادي قررت أن أحصل على شهادتي الثانوية؛ علي أن أواصل حياتي، ويمكنني أن أستذكر دروسي في المنزل وأذهب إلى المدرسة لأداء الاختبارات. ومع أن أندريه كان يستكمل دراسته في الهندسة الكهربائية فقد ظل يزورني كل يوم ويساعدني في دراسة التفاضل والفيزياء، ويقص علي أنباء محاضراته وأساتذته وأصدقائه، ويصطحبني أحيانا لحضور التجمعات وحفلات أعياد الميلاد في منازل أصدقائه، وبطريقة ما اعتبرنا تلك الفترة فترة خطبتنا.
في ذلك الوقت كانت لدى الحرس الثوري نقاط تفتيش في كل مكان بالمدينة، وكانوا يوقفون السيارات في أوقات مختلفة من اليوم، وخاصة أثناء الليل، ويجرون تفتيشا عشوائيا. ولما كان محرما على رجل وامرأة لا تربطهما صلة قرابة وثيقة أو خطبة أن ينفردا في السيارة، وكي نتخذ احتياطاتنا لهذا الأمر، ومع أننا لم نتحدث في موضوع الزواج قط، فقد طلب أندريه من القساوسة أن يعطونا ورقة رسمية تثبت أننا مخطوبان، واحتفظ بها في السيارة كي نستخدمها عند الضرورة.
كنت أستذكر دروسي عشر ساعات يوميا، سواء في غرفتي أو وأنا أذرع المكان جيئة وذهابا حول المسبح حاملة الكتاب في يدي. ربما أكون قد شغلت وقتي باستذكار الرياضيات والعلوم كي أتجنب التفكير في الماضي. كان أبي يمكث في العمل طوال اليوم ستة أيام أسبوعيا، فما زال يعمل موظفا لدى العم بارتيف، وأمي تقضي معظم وقتها في طوابير البقالة أو في المطبخ أو في الحياكة، وكنت أتجنب الاحتكاك بها قدر الإمكان.
وذات يوم دافئ ونحن نجلس في الساحة الخلفية، نقل أندريه مقعده بجواري وطوق كتفي بذراعيه. كانت العصافير تطير حولنا، والأزهار الحمراء والوردية والبيضاء تملأ الجو بعبيرها.
سألني: «متى سنتزوج؟»
كان محمد قد حذرني في «إيفين» من الزواج برجل مسيحي، فطبقا للشريعة الإسلامية لا يسمح للمرأة المسلمة بالزواج من رجل مسيحي، ولكن الرجل المسلم يسمح له بالزواج من مسيحية، أما حقيقة اعتناقي الإسلام مجبرة في ظروف استثنائية فلم تكن تشكل فارقا للحكومة. إن اعترفت بالارتداد عن الإسلام والعودة إلى المسيحية، فسوف أعاقب بالموت طبقا لقواعد الإسلام.
قلت له: «أنت تعلم أننا إن تزوجنا واكتشف الأمر، فسوف يحكمون علي وربما عليك أيضا بالإعدام.»
قلبت الرياح صفحات كتاب الرياضيات الموضوع على المائدة. - «هل تذكرين أول مرة التقينا فيها؟ يوم أن التقينا في حجرة مكتب الكنيسة؟ كان حبا من النظرة الأولى، ومنذ تلك اللحظة أدركت أنك فتاتي. شعرت بأنه علي الاعتناء بك، وعندما ألقوا القبض عليك كنت متأكدا من عودتك. كلانا ينتمي للآخر، تلك هي حقيقة الأمر.»
لمست شعره الأشقر الناعم ووجهه ثم قبلته. - «خلال كل تلك الأيام التي قضيتها في «إيفين» كنت أرغب في العودة إليك. ومع أنني كنت أعلم أن ذلك قد لا يحدث، فقد ظل الأمل يحدوني.»
أخبرني لأول مرة أنه في التاسع عشر من مارس؛ أي قبل إطلاق سراحي بأسبوع، تلقت عائلتي اتصالا هاتفيا من «إيفين» في الصباح الباكر يبلغونهم فيه بأنهم سوف يطلقون سراحي في ذلك اليوم. ذهب أندريه مع والدي إلى السجن في الحال وانتظروا طوال اليوم، ولكنهم أمروا بالانصراف دون أن يعطيهم أحد أي تفسير. صدمت لسماع ذلك، لم لم يخبرني أحد بهذا من قبل؟ هل كان هذا التأخير جولة أخرى من الصراع الذي دار بين لاجيفاردي والسيد موسوي؟ إذا كان الأمر كذلك بالفعل، فقد بذل السيد موسوي جهدا كبيرا، وأنا على يقين من أنه لم يكن سيربح ذلك الصراع لولا دعم آية الله الخميني.
قال أندريه: «شعرنا بالقلق الشديد ، ولم نعرف سبب تغيير رأيهم، ورفض الحرس الحديث معنا، ثم اتصلوا بنا مرة أخرى في السادس والعشرين من مارس فهرعنا إلى السجن، وعند البوابة طلبوا منا أن نذهب إلى حديقة «لونا بارك» وننتظرك هناك. أوقفت السيارة في ساحة مخصصة لوقوف السيارات بالقرب من الحديقة، وذهب والداك سيرا إلى هناك بينما بقيت في السيارة. شعرت بالانفعال الشديد، لكنني لم أكن على يقين من أي شيء، فحاولت ألا أعلو بسقف توقعاتي. وبعد أن غادر والداك المكان ببضع دقائق، اقترب مني رجل ملتح يرتدي ثيابا مدنية وحياني بقوله: «السلام عليكم»، فرددت التحية. تخيلت أنه يرغب في السؤال عن أحد الاتجاهات، لكنه مال علي وقال: «لا تنس أنك لا تستطيع الزواج من مارينا.» فسألته عمن يكون وكيف عرفني، لكنه أجاب بأن ذلك لا يهم، وأضاف: «إنني أحذرك، فهي مسلمة وأنت مسيحي، وهكذا لا يمكنكما أن تتزوجا.» ثم استدار وغادر المكان.»
بعد الحديث مع هذا الرجل، شعر أندريه بالصدمة والقلق؛ فمع أنه يدرك أن الحرس يعلمون بأمر علاقتنا منذ أن أتى لرؤيتي في الكنيسة عندما زرتها، فهو لم يدرك أن سلطات السجن تراقبه إلا في تلك اللحظة. بعدها استحال خوفه إلى غضب، فلم يكن زواجه بفتاة معينة شأنا يخص أحدا غيره. كان يحبني وهذا كل ما يهم في الأمر.
قال أندريه: «مارينا، إنني أتفهم الموقف، وأدرك أن زواجنا ينطوي على خطورة، لكني أريد أن أفعل ذلك. لا يمكننا أن نستسلم، فنحن لا نرتكب خطيئة. كلانا يحب الآخر ويرغب في الزواج منه. إلى متى سندعهم يتحكمون فينا؟ علينا أن نأخذ موقفا من ذلك الأمر.»
وكان محقا في ذلك.
أعتقد أن ذلك الرجل الملتحي كان محمدا. كنت أدرك جيدا أن ذلك الزواج قد يكون حكما بإعدامي، ولكن المفارقة تكمن في أن علي المخاطرة بحياتي كي أستعيدها مرة أخرى. لقد كنت على وشك الموت في «إيفين» وأنقذني علي، لكنه لم يعد حياتي إلي مرة أخرى، بل احتفظ بها لنفسه. كانت حياتي هي الثمن الذي دفعته للبقاء على قيد الحياة، وعلي أن أحارب كي أستردها مرة أخرى.
أخبرت والدي قراري بالزواج من أندريه، وظنا أنني قد فقدت عقلي، بل إن معظم القساوسة أكدوا أننا يجب ألا نتزوج، ولكننا حددنا موعدا للزواج في الثامن عشر من يوليو عام 1985؛ أي بعد نحو ستة عشر شهرا من إطلاق سراحي من «إيفين». حاول الأصدقاء والأقارب مرارا أن يثنونا عن عزمنا، وفي محاولة أخيرة طلب والداي من هوشانج خان أن يحدثني في ذلك الشأن، فقد كان رجلا طيبا حكيما، وكانا يدركان أنني أكن له احتراما كبيرا. عندما قرع باب غرفتي ذات مساء كنت جالسة على فراشي منهمكة في القراءة، فدخل وأغلق الباب خلفه وجلس على أحد المقاعد متكئا بمرفقيه على ركبتيه ونظر في عيني مباشرة. - «لا تفعلي ذلك.» - «ماذا؟» - «لا تتزوجي من أندريه. أعلم أن أحدكما يحب الآخر، لكننا نمر بأوقات عصيبة، وقد تدفعين حياتك ثمنا لذلك. تمهلي قليلا، فقد تتغير الأمور، ولا يستحق الأمر أن تفقدي حياتك من أجله.»
لكن كلماته أطلقت العنان للغضب الذي أكتمه بداخلي. - «أنتم لا تملكون الحق في أن تحددوا لي من أتزوجه؛ لا أنت ولا والداي ولا الحكومة بالطبع. سأقوم بما أريد أن أقوم به، سوف أفعل ما أراه صوابا، وكفى تنازلات!»
لم أكن قد رفعت صوتي هكذا من قبل، ولم أكن قد خاطبت أحدا أكبر مني بتلك الوقاحة. أدركت أنني أسأت التصرف، فقد امتقع وجه هوشانج خان وغادر الغرفة، بينما انفجرت باكية. لن أدع الحكومة تخطط لي حياتي، لقد ألقوا بي في السجن وعذبوني معنويا وبدنيا، وأجبرت على اعتناق الإسلام والزواج من رجل لا أعرفه، وشاهدت أصدقائي يلاقون العذاب ويموتون. كل ما يهمني الآن أن أفعل الصواب وأثبت لهم أنه مع أنني أجبرت على اعتناق الإسلام فسوف أتزوج من الرجل الذي أحبه حتى ولو كان ذلك سيعيدني إلى السجن ويعرضني لخطر حقيقي. لن أتنازل تلك المرة، فلم يتمكنوا من تحطيمي، ولن ينجحوا في ذلك أبدا.
وفي اليوم الذي ذهبت فيه مع أندريه لشراء خاتم الزواج، حاولت أن أخبره بشأن علي، وكنت على يقين من أنه سيتفهم الأمر. ظللنا ندور حول الواجهة الزجاجية لمحل المجوهرات نشاهد المعروضات. كان من حقه أن يعرف، وكنت أريد أن أخبره. لفت انتباهي خاتم ذهبي يبدو كأنه خاتمان متصلان، فطلبت أن أراه. أعجب كلانا بالخاتم، وعندما عدنا إلى السيارة وجدنا مخالفة على زجاج السيارة الأمامي، وأخبرني أندريه بأن تلك المرة الأولى التي يحرر له فيها مخالفة مرورية، واستغرقنا في الضحك.
وفي طريق العودة إلى المنزل، فكرت من أين أبدأ حديثي. كان علي أن أبدأ من البداية؛ منذ اللحظة الأولى التي خطوت فيها إلى «إيفين»، ثم أسترسل في سرد كل لحظة وكل حدث مر بي؛ لكن كلا، لا أستطيع القيام بذلك، لا يمكنني معايشة كل تلك الأحداث مرة أخرى. •••
في ذلك الصيف ذهب والداي لقضاء بضعة أيام في المنزل الصيفي، ورافقتهما أنا وأندريه. كان المنزل جميلا هادئا كما عهدته، ولكن السعادة التي كنت أستمدها من وجودي هناك لم تعد إلا ذكرى. وفي الصباح الباكر من اليوم الأول جريت إلى «صخرة الصلاة» بينما لا يزال الجميع مستغرقين في النوم. بدا كل شيء كما تركته؛ كانت الأشجار العتيقة تطاول عنان السماء وتتشرب أوراقها أشعة الشمس المشرقة. تبلل حذائي وسروالي بالندى، ورقدت على الصخرة أستشعر ملمسها الخشن الرطب على بشرتي، وتذكرت اليوم الذي صليت فيه أنا وأراش هنا. لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين. أخرجت خاتم زواجي الأول من جيبي، وانحنيت بجوار الصخرة وحاولت أن أنتزع أحد أحجارها، ولكنها لم تتزحزح، حاولت جاهدة مرارا وتكرارا، ولكن الأحجار كانت متماسكة جدا، فآلمتني أصابعي، جريت إلى المنزل، فلم أجد صوتا سوى غطيط أبي، مشيت على أطراف أصابعي إلى المطبخ وأحضرت سكينا ثم عدت مسرعة إلى الصخرة، وتمكنت أخيرا من اقتلاع ثلاثة أحجار، ووضعت الخاتم داخل التجويف المظلم وأعدت الأحجار مكانها، وتخيلت أن الخاتم محاط الآن بآلاف الدعوات. •••
عندما عدنا إلى طهران أخبرتني أمي بأن أبي قد تبرأ مني عندما اعتنقت الإسلام. كانت تغسل الأطباق وهي تتحدث إلي ولم تنظر لي مباشرة، لم أفاجأ بذلك، لكني شعرت بالإهانة، توقعت أن أجد الحماية والأمان في منزلي، ولكن الأبواب أوصدت في وجهي، ويبدو أن الهوة التي تفصل بيننا قد زادت اتساعا. جففت أمي يديها وخرجت من المطبخ. حتى لو كنت قد صارحتها بأسراري، لم تكن لتقدر على أن تمنحني ما أحتاجه منها، فهي بحاجة لأن تتفهمني. كانت تلك طريقتها؛ نظرتها إلى العالم وأولوياته تختلف عن نظرتي تماما، لم أجرؤ على القول إنني المحقة وهي المخطئة؛ كل ما هنالك أن إحدانا تختلف عن الأخرى. علي أن أتوقف عن توقع أن تفكر مثلي؛ علي أن أتقبلها كما هي، لأنني أريدها أن تفعل نفس الشيء معي. لم أفهم لم أخبرتني برد الفعل القاسي لأبي تجاه اعتناقي الإسلام، فلم يكن أبي قد تفوه لي بكلمة في هذا الشأن، لكني ظننت أنها قررت أني أحتاج إلى معرفة حقيقة مشاعره في تلك المسألة. •••
ساعدتني أمي في التزين يوم زفافي لأندريه، وصنعت إحدى خالاتي لي ثوب الزفاف. لم أستطع حبس دموعي وأنا أخرجه من خزانتي، ولم أصدق أنني عشت حتى أشهد ذلك اليوم. نظرت من نافذة غرفة نومي إلى الزهور الوردية في الساحة الخلفية، وتلوت صلاة من أجل كل أصدقائي الذين أحببتهم وفقدتهم. كنت أفتقدهم جميعا.
طويت ثوب الزفاف على مقعد بجوار النافذة، وتذكرت يوم زفافي لعلي وكم كنت خائفة، لكن اليوم كان مختلفا، فاليوم يومي أنا.
تساءلت هل سيقدر لي ولأندريه أن ننجب. كنت أخشى الحمل مرة أخرى، وفكرت كثيرا في اللحظات التي قضيتها مع طفلي في الحلم بعينيه الباسمتين وضحكاته ويده الصغيرة التي تقبض على شعري، وفمه الصغير الذي يمتص اللبن مني بنهم.
خرج أندريه في الصباح الباكر لشراء بعض الفواكه الطازجة والمشروبات الغازية كي نتناولها في الكنيسة. دعونا الضيوف للبقاء معنا بعد حفل الزفاف لتناول بعض الكعك والمرطبات في قاعة الكنيسة، وكي لا نلفت الأنظار قررنا أن أذهب إلى الكنيسة مبكرا وأرتدي ثوب الزفاف هناك.
وبينما كان لحن الزفاف يصدح، اقتادني أبي عبر ممر الكنيسة، وشعرت بأن تلك أسعد لحظة في حياتي على الإطلاق. كانت سلال الزهور الضخمة التي تفيض بأزهار الجلاديوس البيضاء قد وضعت على المذبح، وأحاطت بنا الوجوه الباسمة.
التقطنا بعض الصور داخل الكنيسة وفي ساحتها الخلفية، وتناولنا الكعك وتبادلنا الحديث مع الضيوف، وسرعان ما حان وقت الذهاب إلى الشقة التي استأجرها أندريه بعد وفاة والده ورحيل عمته التي ربته إلى المجر. كانت الشقة تطل على جبال «ألبرز»، وتقع شمال طهران في مبنى متعدد الطوابق على تلال جوردان، يقع في مواجهة طريق جوردان. وقبل أن أخرج من الكنيسة ارتديت الوشاح والمعطف الإسلامي فوق ثوب الزفاف، ثم توجهنا إلى سيارة أندريه الزرقاء من طراز فيات. كان كلانا يشعر بالسعادة والخوف، والأمل يحدونا في غد أفضل، لأننا قررنا أن نحيا حياتنا كما نشاء. ***
بعد زواجنا مباشرة حصل أندريه على وظيفة في مصنع الكهرباء بطهران، وبعد شهرين استأجرنا شقة مشتركة مع والدي كي نتقاسم النفقات. كانت وتيرة الحرب التي دخلت عامها الخامس بين إيران والعراق قد بدأت تتصاعد. منذ أن بدأت الاشتباكات في شهر سبتمبر من عام 1980 ظلت الحرب بعيدة عن طهران، فالمسافة التي تفصل بينها وبين العراق مصدر حماية لنا. تغيرت أسماء الشوارع في الأحياء المجاورة إلى أسماء الشهداء الذين لاقوا حتفهم على الجبهة. قبل أن أدخل «إيفين»، كانت عملية تغيير أسماء الشوارع تحدث رويدا وريدا ولم تكن ملحوظة، ولكن بعد إطلاق سراحي كان بوسعي أن أرى أن الكثير من أسماء الشوارع أصبحت تخليدا لذكرى شهداء الحرب.
قبل زواجي من أندريه بقليل بدأت الغارات الجوية على طهران وبعض المدن الكبرى الأخرى، وذات يوم، وقع الانفجار الأول في الصباح الباكر دون أي إنذار، فقد انفجر صاروخ في أحد الأحياء السكنية المجاورة التي تبعد عن منزل زينيا بأقل من ميلين، فأحدث ارتجاجا هائلا أيقظني من النوم، ومع أنني لم أكن أعلم وقتها مصدر هذا الصوت، فقد أدركت أن شيئا رهيبا قد حدث، ومنذ ذلك الحين ظلت صافرات إنذار الغارات الجوية تنطلق بضع مرات في اليوم وفي منتصف الليل ، ومع أنه لم يكن هناك مخابئ للحماية من الغارات، ولم تهتم الحكومة ببنائها قط، فقد حاول الناس اللجوء إلى أماكن آمنة بعيدا عن النوافذ، فمع كل هجوم بالصواريخ يتسبب الزجاج المحطم في إصابة وقتل الكثيرين.
أصبح الموت جزءا من حياتي اليومية، ورحل من استطاعوا مغادرة المدينة إلى مدن وقرى صغيرة، لكن معظم الناس لم يكن لديهم مكان آخر يلجئون إليه. وعلى غرار النهر الذي يشق طريقه دائما إلى الأراضي المنخفضة حتى لو اضطر إلى شق الوديان، فقد عادت الحياة لطبيعتها بأقصر السبل في محاولة عنيدة لتحدي الخوف. عاد الآباء إلى أعمالهم وأرسلوا أطفالهم إلى المدارس، ولكنهم أصبحوا يطيلون فترة عناقهم قليلا ويودعونهم بمزيد من الحرارة. دمرت بعض المدارس بفعل الغارات الجوية، وقتل المئات من الأطفال وهم يجلسون خلف طاولاتهم أو يلعبون في فناء المدرسة، وعلى الجبهة بدأ صدام حسين يستخدم الأسلحة الكيميائية مثل غاز الأعصاب وغاز الخردل، مما أدى إلى مصرع الآلاف من الأشخاص.
وعندما كنت أنا وأندريه نسير في المدينة كي نذهب إلى الكنيسة أو لزيارة أحد الأصدقاء، كنا نرى فجوة ضخمة في المكان الذي كان يحتله أحد المنازل في اليوم السابق، وأحيانا كنا نرى درجا رفض أن يتهدم بين الأطلال يؤدي في مشهد غريب إلى الفراغ، أو حائطا مغطى بورق الجدران المزين بالأزهار يلقي بظلاله على رماد الأرواح المفقودة. •••
ذات صباح أحد أيام الأربعاء، بعد إطلاق سراحي من «إيفين» بنحو عامين، دق جرس الهاتف عندما كنت أستعد للذهاب للتسوق وأحمل حافظة نقودي في يدي.
أجابني صوت غير مألوف: «هل يمكنني أن أتحدث إلى مارينا؟» - «أنا مارينا.» - «مارينا، أنا أتصل من إيفين.»
توقف العالم من حولي؛ وضعت حافظة نقودي على الأرض واستندت إلى الحائط. - «عليك أن تحضري إلى «إيفين» يوم السبت كي تجيبي على بعض الأسئلة؛ احضري أمام البوابة الأمامية الرئيسية في التاسعة صباحا، ولا تتأخري.» - «أي أسئلة؟» - «سوف تعلمين. لا تنسي الموعد، التاسعة صباحا يوم السبت.»
لم أتمكن من الحركة، بل إنني لم أتمكن من وضع سماعة الهاتف مكانها، يبدو أن حياتي بعد «إيفين» كانت حلما، والآن حان الوقت كي أستيقظ من الحلم وأعود إلى الواقع، لكنهم على الأقل لم يطلبوا حضور أندريه. وأخيرا وضعت السماعة وذهبت إلى غرفة النوم. لم يكن أحد بالمنزل، وقضيت بعض الوقت قبل أن أتمالك نفسي. حاولت أن أفكر فيما حدث، وأن أقنع نفسي بأن كل شيء على ما يرام، وبأنهم يراقبونني فحسب، ولكنني لم أتمكن من ذلك، شعرت بالإرهاق، فرقدت على الفراش واستغرقت في النوم، واستيقظت على صوت أمي وهي تناديني وتهز كتفي. - «لماذا تنامين بالوشاح والمعطف؟»
للحظة لم أتذكر ما حدث، ثم أخبرتها بالسبب.
بدا وكأنها لم تفهم ما قلت جيدا، فتساءلت: «ماذا قلت؟»
أعدت كلامي على مسامعها، فامتقع وجهها.
لم أستطع القيام بشيء سوى النوم، لم أستطع التفكير في «إيفين»، فلن يفيد التفكير شيئا. عندما كنت أستيقظ ليلا كي أذهب إلى دورة المياه أو أشرب، كنت أحيانا أجد أندريه جالسا بجواري وعيناه تحدقان في الفراغ ووجهه شاحب ممتقع وجسده ساكن تماما. كان يدرك أن لا شيء بيده، وأن عليه أن يدعني أذهب. حل السكون التام على المنزل، وبدا الصمت كأنه وحش مفترس قد ابتلعنا.
صباح يوم السبت ودعت أندريه وداعا خاطفا دون أن تلتقي أعيننا، ورفضت أن أعانقه، لأنني أعلم أنني لن أتركه إن عانقته. كنا قد اتخذنا قرارا، وعلينا أن نتحمل تبعاته، فبالرغم من كل شيء كنت أدرك منذ البداية أن الأمور سوف تتطور إلى هذا الحد. أقلني أبي إلى بوابة «إيفين» الرئيسية، إذ رأيت أن وجود أندريه معي يمثل خطرا كبيرا. ظل أبي هادئا، وطلبت منه أن يرحل في الحال، وراقبت سيارته وهي تختفي في أحد الشوارع الجانبية. تساءلت هل سيعذبونني، ولكن لم يعذبونني؟ من وجهة نظرهم كنت امرأة مسلمة ارتدت إلى المسيحية وتزوجت رجلا مسيحيا، وهكذا فإنني أستحق الموت. لم يكونوا بحاجة لانتزاع أي معلومات مني، بل كان الأمر يتعلق بعقوبة الإعدام. قلت لنفسي: «سوف أموت وكرامتي مصونة.» وما إن خطر في بالي ذلك حتى أدركت أنني على حق ما دمت أفعل الصواب وأتبع ما يمليه علي إيماني، كنت على يقين أيضا بأنه مهما كان ما حدث لترانه فلا ريب أنها ماتت مرفوعة الرأس أيضا.
أعدت إحكام الشادور وتقدمت نحو أحد الحرس الذين يقفون أمام البوابة وأخبرته بأمر المكالمة الهاتفية، فسألني عن اسمي، ودلف إلى المبنى، ثم عاد بعد بضع دقائق وطلب مني أن أتبعه. أغلق الباب المعدني الثقيل خلفي، ثم دخلنا غرفة صغيرة، فرفع سماعة الهاتف وطلب رقما، وقال: «إنها هنا.»
قد يكون هذا يومي الأخير في تلك الحياة، ربما كان حامد في الطريق كي يستقبلني، لكنني قطعت عهدا على نفسي بأن أحافظ على رباطة جأشي. وأخيرا فتح الباب ودخل محمد، فتنهدت ارتياحا. - «مارينا، أهلا بك. كيف حالك؟» - «بخير، وكيف حالك أنت؟» - «حمدا لله بخير. اتبعيني.»
فاتبعته، ولم يطلب مني أن أضع العصابة على عيني. كانت الأزهار تملأ المكان، وبدت في غير موضعها في «إيفين». قادني إلى أحد المباني، ودخلنا غرفة بها مكتب وخمسة أو ستة مقاعد، ووجدت صورة للخميني تحتل الحائط. - «اجلسي وأخبريني عن أحوالك منذ أن خرجت من هنا. ماذا كنت تفعلين؟» - «لا شيء، كنت أدرس معظم الوقت وحصلت على شهادتي الثانوية.» - «حسنا، وماذا أيضا؟» - «لا شيء.»
فابتسم وهز رأسه وقال: «لقد وقعت في المشاكل مرة أخرى، وأعتقد أنك تعلمين عم أتحدث، ولكنك سعيدة الحظ لأن لديك بعض الأصدقاء هنا. كان حامد ينوي شرا بك، ولكننا تمكننا من إيقافه.» - «ماذا تعني؟» - «لقد علم بأمر زواجك الثاني وحاول أن يستصدر حكما بإعدامك من محكمة الثورة الإسلامية، لكنك كنت تعلمين أن هذا قد يحدث، أليس كذلك؟» - «بلى.» - «ومع ذلك أقدمت على تلك الخطوة؟» - «نعم.» - «أتسمين هذا شجاعة أم حماقة؟» - «لا هذا ولا ذاك. الأمر أني فعلت ما رأيته صوابا.» - «حسنا، لقد حالفك الحظ تلك المرة، فالمتشددون مثل حامد يفقدون بعض نفوذهم في «إيفين» منذ فترة، وأعتقد أن اغتيال علي جعل البعض يدركون أن هؤلاء المتشددين قد تجاوزوا الحدود. كان علي قد طلب مني أن أحميك من الأخطار إن أصابه مكروه، ومع أنني أعارض ما فعلته فإنني أحترم رغبته، ولكنني لن أكرر ذلك مرة أخرى. لقد استدعيتك هنا كي أنبهك إلى ضرورة التفكير قليلا قبل أن تتصرفي في المرة القادمة.» - «أقدر لك ذلك.» - «آل موسوي يسألون عنك منذ فترة، وقد أخبرتهم بأنك ستكونين هنا اليوم فأتوا لرؤيتك.»
فتح الباب ودخلوا جميعا، وسررت لرؤيتهم كثيرا. كان علي الصغير قد كبر وأصبح طفلا رائعا يتعلم المشي، وأخذ ينظر لي بارتياب، وعانقتني أكرام ثم جلسنا جميعا.
قال السيد موسوي: «إنني سعيد لرؤيتك بخير يا مارينا، هل أحوالك على ما يرام؟» - «نعم، أشكرك.» - «إذن فقد تزوجت مرة أخرى. هل أنت سعيدة؟» - «نعم سيدي.» - «أنت عنيدة جدا. كنت ستورطين نفسك في مشاكل عديدة لو لم نكن نراقبك.» - «أعلم ذلك يا سيدي، وأشكرك شكرا جزيلا.» - «ما زلت أحتفظ بنقودك، ويمكنك أخذها إن أردت.» - «أشكرك، ولكنني لست بحاجة إليها.»
قالت أكرام لطفلها: «إنها خالتك مارينا يا علي، أعطها قبلة.» فتقدم نحوي ببطء. - «تعال يا علي، ها قد كبرت!»
فاقترب مني وقبل وجنتي، ثم عاد مسرعا إلى والدته.
بكت السيدة موسوي، فعانقتها. لولا وفاة علي لاختلفت حياتي تماما. عندها كانوا سيظلون عائلتي كما كانوا طوال خمسة عشر شهرا. لم أكن أرغب في إيذاء علي بأي طريقة، وشعرت بالذنب لأنني لم أحبه ولم أكرهه، ولكن الأمر انتهى ولا يوجد ما يمكنني القيام به الآن، فقد ظلت مشاعري تجاهه مزيجا من الغضب والإحباط والخوف والشك.
خرجت من «إيفين» وأوقفت سيارة أجرة. ما زلت على قيد الحياة. يبدو وكأن الموت يحاول أن يدفعني بعيدا عنه، أن يحميني، ولم أستطع أن أفهم السبب. كان العالم يدور بي. لماذا بقيت على قيد الحياة في الوقت الذي لقي فيه الكثيرون حتفهم؟ لم يطلق سراح سارة بعد، وكان يجب أن أسأل السيد موسوي عنها، ولكنني لم أستطع التفكير بوضوح، وتساءلت هل سأتمكن من تقديم يد العون لها.
وعندما عدت إلى المنزل وفتحت الباب المؤدي إلى الساحة وجدت نفسي بين ذراعي أندريه، فعانقني عناقا حارا وهو يرتجف. - «حمدا لله! حمدا لله! هل أنت بخير؟ لا أصدق أنهم سمحوا لك بالخروج! ماذا حدث؟»
فأخبرته بأنهم يجرون تفتيشا روتينيا مع كل سجناء «إيفين» السابقين. - «وهل سألوك عما إذا كنت قد تزوجت؟»
كذبت عليه وقلت: «كلا، إما أنهم لا يعلمون أو أنهم قد علموا ولا يهتمون.» - «وهل يعني هذا أننا لن نتعرض لمضايقتهم مرة أخرى؟» - «لا أدري، ولكننا سنكون على ما يرام فترة على الأقل. لكن لا تنس أنه لا يمكن التنبؤ بما قد يفعلون غدا.»
كنت على يقين من أنه لو حصل المتشددون أمثال حامد على مزيد من السلطة والدعم في «إيفين»، لتغير موقفي تغيرا جذريا. •••
كنت مرعوبة من الحرب؛ ليس بسبب الهجوم الذي نتعرض له بالصواريخ فحسب، ولكن أيضا لأن أندريه سوف يذهب لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية خلال بضعة أشهر. سمعنا عن برنامج حكومي خاص يتيح للحاصلين على درجة الماجستير العمل بالتدريس في الجامعة في مناطق نائية مدة ثلاث سنوات بدلا من أداء الخدمة العسكرية. كان هذا أملنا الوحيد كي يبقى أندريه بعيدا عن الجبهة. كان قد حصل للتو على شهادة الماجستير، فقدم طلبا للالتحاق بالبرنامج وحصل على الموافقة.
كان علينا الانتقال إلى «زاهدان» - وهي مدينة تقع في جنوبي شرقي إيران بالقرب من الحدود الباكستانية والأفغانية - كي يعمل أندريه محاضرا في جامعة «سيستان وبلوشستان»، كان عليه أن يسافر إلى «زاهدان» قبل نحو شهر من بدء العمل كي يعد الأوراق المطلوبة ويجري الترتيبات اللازمة، وذهبنا معا لأنني لم أذهب إلى هذا الجزء من البلاد قط، وكان لدي فضول لرؤية منزلي الجديد.
استغرقت الرحلة من طهران إلى «زاهدان» نحو ساعة ونصف. وبينما كانت الطائرة تهبط في المطار نظرت من النافذة الصغيرة، بدا لي كأن الأرض دفنت تحت كفن من الرمال، لاحظت وجود بقعة صغيرة خضراء على بعد وشاهدتها تكبر وسط هدوء الصحراء الشاسعة، ظهرت المباني القرميدية والطينية من بين الرمال تطاول ظلال الأشجار القليلة المتناثرة.
هبطت الطائرة، وركبنا سيارة أجرة كي نشاهد المدينة. كانت أشعة الشمس - التي لم يقلل من تأثيرها تلوث الهواء أو الرطوبة - حارقة إلى حد لا يمكن احتماله، أما الطريق الذي يربط المطار بالمدينة فكان رائعا على نحو غير متوقع، حيث يشق استواء الأرض كأنه ندبة قديمة. وفي وسط مدينة «زاهدان» وجدنا متاجر صغيرة على جانبي الشوارع الضيقة، وامتلأت الأرصفة برجال ونساء يرتدون الزي التقليدي من سراويل فضفاضة وقمصان طويلة للرجال وفساتين مطرزة يدويا تصل حتى الكاحل، وأوشحة كبيرة للنساء. لم أكن قد رأيت جمالا عن قرب من قبل، لكنني رأيت جملا هناك يقف في الطريق يلوك شيئا ويراقب حركة المرور بعينيه الكبيرتين اللتين يطل منهما الملل وكأنه قد رأى كل شيء من قبل. وفي الأحياء الحديثة الأكثر رقيا بنيت المنازل بالقرميد عالي الجودة، لكن كلما ارتحلنا شمالا وجدنا المباني أصغر مساحة ومعظمها مبني بالطوب اللبن، وعلى الحدود الشمالية للمدينة توجد تلال صخرية شاهقة يبدو كأن بها ثقوبا كفتحات الكهوف، وأخبرنا السائق بأن الناس حفروا تلك الكهوف كي يقيموا فيها. شاهدت مجموعة من الأطفال الحفاة يركضون خلف كرة بلاستيكية ممزقة تحت أشعة الشمس الحارقة وهم يضحكون، وسألنا السائق عن سبب زيارتنا، فأوضح له أندريه أنه أتى للتدريس في الجامعة.
فقال السائق: «لقد بنى الشاه الجامعة هنا، وأفادتنا تلك الجامعة كثيرا، فهي تستقدم المتعلمين إلى هنا من طهران والمدن الكبرى الأخرى كي يشرفوا على تعليم أطفالنا والأطفال الآخرين القادمين من أماكن بعيدة.» ***
في مارس من عام 1987، حزمنا حقائبنا أنا وأندريه وبدأنا رحلة الألف ميل إلى «زاهدان». بعد ساعتين بدت سيارتنا الصفراء الصغيرة طراز رينو وكأنها وحيدة في العالم. كانت الرياح الساخنة تلفح وجهي عبر النوافذ المفتوحة، وتطاير بحر من الرمال على الطريق محدثا موجات ذهبية، وبعيدا باتجاه الأفق اختفت الأرض تحت موجات من السراب الفضي المتراقص. لم يتغير المنظر أو ينعطف الطريق عدة ساعات، وعندما نتوقف كي نستريح أكتشف مدى هدوء الصحراء بدون طنين السيارة المتواصل. على شاطئ البحر يسمع دائما خرير المياه حتى وإن كان الجو هادئا، وفي الغابة يسمع حفيف أوراق الشجر حتى وإن قررت كل الحيوانات أن تلتزم الصمت، لكن هنا كان الصمت مطبقا. وعند المغيب اختفت الشمس عند حافة الأرض، وحل الليل رويدا رويدا في صمت ملطفا من حدة الرياح الساخنة. شعرت كأن بإمكاني لمس النجوم اللامعة التي تملأ سماء الليل بأجسامها الدقيقة النابضة. لم يكن هناك أي انعكاس أو صدى للصوت، بل أرض بعيدة منسية، حتى إنها بدت خارج حدود الزمن.
كانت جامعة «سيستان وبلوشستان» قد أنشأت منطقة سكنية للمحاضرين بها على أرضها. لم تكن المنازل فاخرة، ولكنها مريحة ونظيفة وفي حالة جيدة. توفرت لدينا كل ضروريات الحياة، لكن مياه الصنبور كانت مليئة بالمعادن ولم تكن صالحة للشرب، فكان علينا أن نذهب إلى مصنع تنقية المياه الذي يبعد مسيرة عشر دقائق بالسيارة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع كي نملأ بعض الآنية الكبيرة بمياه الشرب.
انشغل أندريه كثيرا في عمله، فكان وقته موزعا بين التدريس وإعداد الدروس وتصحيح أوراق الاختبارات عندما يكون في المنزل، وساعدني الوحدة والصمت اللذان تتمتع بهما الصحراء على أن أدع الماضي جانبا، فقد انهمكت طوال اليوم في أعمال روتينية مثل التنظيف والطهو، وعندما كنت أنتهي من أداء تلك الأعمال أبدؤها من جديد. نادرا ما كنت أستمع إلى المذياع، ولم أكن أشاهد التلفاز أو أقرأ الكتب. لم تعد هناك كتب لأقرأها، وخلافا لما توقعت فإنني لم أفتقدها. كنت مرهقة فحسب، كأنني عداءة في ماراثون ظلت تجري ساعات طويلة حتى تمكنت أخيرا من الزحف إلى خط النهاية ثم انهارت. لم يكن عقلي يؤدي سوى المهام الضرورية، فكان يذكرني بالمهام البسيطة؛ دائما كانت الملابس مغسولة والأرضيات نظيفة والطعام معدا على المائدة في الوقت المحدد.
كان لأندريه زملاء عمل رائعون في الجامعة، وكنا نلتقي بهم وبأسرهم أحيانا، وكانوا ودودين للغاية معنا. لم يكونوا يعلمون أي شيء عن ماضي، وكنت أتبادل الحديث معهم عن أحدث وصفات الطعام وأحدث الأفكار لتزيين المنزل.
لم تكن الحرب قد وصلت إلى «زاهدان» التي كانت بعيدة تماما عن الحدود الإيرانية العراقية، لكن الهجوم بالصواريخ على طهران وسبع مدن أخرى ظل مستمرا. كنت أتصل بأمي يوميا كي أتأكد من أنها بخير، وعلى الرغم من روعة النوم الهادئ ليلا دون أن تقطعه أصوات الانفجار التي تهدد حياتك، فقد شعرت كأني خائنة. ألححت على والدي أن يحضرا للإقامة معنا في «زاهدان» فترة، لكن أبي رفض متعللا بأن عليه الذهاب إلى العمل، فطلبت منه أن يدع أمي تأتي على الأقل، لكنه أكد لي أنه لا داعي للقلق، فطهران مدينة كبيرة تتضاءل فيها كثيرا احتمالات الإصابة بأحد الصواريخ. وذات صباح اتصلت بي أمي. - «أمي، هل أنت بخير؟» - «أنا بخير، ولكنني انتقلت للإقامة مع ماري بضعة أيام، فالمكان أكثر أمانا هنا.»
كانت ماري تقيم في مبنى متعدد الطوابق لا يبعد عن شقة والدي بطهران، ولم يبد لي هذا الكلام منطقيا. - «عم تتحدثين يا أمي؟ المكان هنا في «زاهدان» أكثر أمانا. طهران ليست آمنة أينما ذهبت بها.» - «صدقيني، المكان هنا أفضل.» - «أمي، أخبريني بما يحدث الآن، وإلا فسوف أستقل أول طائرة وآتي بنفسي.» - «ضرب شارعنا صباح أمس.»
كان والداي يقيمان في ساحة صغيرة، ولو أن صاروخا ضرب الشارع وأمي في المنزل، فلست أفهم كيف لم يصبها أذى. - «أين هوى الصاروخ تحديدا؟» - «على أول منزل عند الناصية.»
هذا يعني أنه سقط على بعد أربعة منازل. كيف لم يصبها أذى؟ «لقد اختفى المنزل تماما، والآن لا يوجد مكانه سوى فجوة مظلمة كبيرة كأن المنزل لم يوجد قط. لم أكن أعرف تلك العائلة. كل ما أعرفه أنهم هادئون وفي مثل عمرنا تقريبا. كان الرجل في العمل وقتها، وقتلت زوجته وحفيده واثنان من المارة في سيارتهما، وأصيب بعض الجيران أيضا، ولكنها ليست إصابات خطيرة، فلم يكن هناك الكثيرون في المنازل المجاورة، بل كان معظمهم إما في العمل أو ذهبوا للتسوق.»
حاولت أن أتخيل المشهد الذي وصفته أمي، لكنني لم أستطع.
تابعت أمي: «عاد الرجل إلى المنزل، فوجد أسرته قد رحلت، ولا يوجد سوى فجوة. انطلقت صافرة الإنذار قبل سقوط الصاروخ بدقيقتين. كنت في المطبخ أتبادل الحديث مع خالتك نيجار عبر الهاتف، فقالت لي: «إنها صافرة الإنذار، أغلقي السماعة وابحثي عن مكان آمن.» فدسست نفسي بين الثلاجة والخزانة، وحدث الانفجار. كان صوته مدويا، حتى إنني تخيلت أني قد انفجرت. بعدها هدأ كل شيء حتى ظننت أني قد أصبت بالصمم، فخرجت لأجد الزجاج متناثرا في كل مكان وقد تحول بعضه إلى غبار مفتت، ورشقت القطع الكبرى في الحوائط كالسهام. ظل المنزل في مكانه، ولكنه تحول إلى خراب. لقد وجدت أجزاء من باب خزانتك في الساحة الأمامية.» •••
وضعت الحرب أوزارها أخيرا في أغسطس من عام 1988 عندما كنت حبلى في الشهر الرابع، فقد التزمت الحكومة الإيرانية بقرار مجلس الأمن، وأعلن وقف إطلاق النار بين إيران والعراق. لم ينتصر أحد في تلك الحرب، بل أزهقت فيها أرواح أكثر من مليون شخص.
ومن منتصف الثمانينيات إلى أواخرها، جمعت منظمة «مجاهدي خلق» نحو سبعة آلاف من أعضائها في العراق للانضمام إلى الجيش العراقي من أجل إضعاف الحكومة الإيرانية. لم أستطع أن أفهم كيف يمكن للمجاهدين أن يؤيدوا رجلا مثل صدام الذي سفك دماء الكثير من الإيرانيين. وعقب وقف إطلاق النار هاجم مجاهدو العراق إمارة كرمانشاه غربي إيران، معتقدين أن بإمكانهم حشد التأييد اللازم لإسقاط النظام الإسلامي، لكن الحرس الثوري تمكن من تحقيق انتصار سهل عليهم، فقتل الكثيرون منهم وانسحب الباقون إلى العراق، وبعدها أعدم المئات من سجناء «إيفين» بتهمة التعاطف مع المجاهدين. •••
شعرت بالغثيان الشديد في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، وظللت أتقيأ كثيرا، لكنني شعرت بالتحسن مع بداية الشهر الرابع. أخذ الجنين ينمو، وسرعان ما بدأت أشعر بحركته داخلي، وبكيت فرحا بتلك التجربة، لأنني أدركت أنني أحببته أكثر مما تخيلت. كنت أتمنى أن أنجب لأندريه طفلا موفور الصحة.
عرضت علي أمي أن تأتي لتقيم معي بضعة أيام بعد الولادة. كان فراش الطفل جاهزا وملابسه الصغيرة مطوية بعناية في الخزانة.
ذهبت إلى المستشفى كي أجري فحصا بالموجات فوق الصوتية في نهاية الشهر الثامن من الحمل. كانت «زاهدان» مدينة صغيرة، وتصادف وجود طبيب أمراض النساء الذي كنت أتردد عليه بالمستشفى وقتها. اكتشفنا أن رأس الجنين كبيرة للغاية، وأكد الطبيب أن الجنين مصاب بموه الرأس، وهي حالة خطيرة تتجمع فيها المياه في جمجمة الجنين، أما طبيب الأشعة الذي أجرى الفحص بالموجات فوق الصوتية فأكد أن الحجم الكبير للرأس ليس كافيا لتشخيص الإصابة بموه الرأس، وأن هناك أعراضا أخرى لا بد من توافرها. رقدت على الفراش أستمع إلى الطبيبين وهما يتجادلان بشأن جنيني.
قال طبيب أمراض النساء: «علينا أن نحدث ثقبا في الرأس، ثم نخرج الطفل، فالأمر لا يستدعي إجراء عملية قيصرية.»
كنت قد نلت كفايتي أنا وأندريه. كنت خائفة وغاضبة، ولم أكن على استعداد لأن أدع طفلي يموت مرة أخرى. أردت الذهاب إلى طهران لأستشير طبيبا آخر، لكنني كنت قد بلغت مرحلة متقدمة في الحمل ولن يسمح لي بركوب الطائرة، في حين كانت العودة إلى طهران بالسيارة خطرا كبيرا، فماذا لو قرر الطفل أن يخرج للحياة فجأة ونحن في الصحراء؟
كان لأحد زملاء أندريه صديق في مكتب الخطوط الجوية، فتمكن مستغلا نفوذه من أن يحصل لنا على تذكرتين للطائرة، وسرعان ما كنا في طريقنا إلى طهران حيث اصطحبتني إحدى بنات عمي إلى طبيب النساء.
ذهبت من المطار إلى المستشفى مباشرة، فطلب مني الطبيب إجراء فحص آخر بالموجات فوق الصوتية، ثم أخبرني بأن الجنين بخير، وكل ما في الأمر أن رأسه كبير قليلا، ولكنه لا ينصح بالولادة الطبيعية، وهكذا حددنا موعدا لإجراء الولادة القيصرية في الحادي والثلاثين من ديسمبر 1988، ولكنني لم أكن أشعر بالارتياح التام. ماذا لو كانوا قد أخطئوا في التشخيص؟ كنت بحاجة ماسة لأن أحمل هذا الطفل بين ذراعي في هذا العالم؛ بحاجة لأن أطعمه وأسمعه يبكي؛ بحاجة لأن تشعر تلك الروح الجديدة بالأمان داخلي وأن تولد وأن تحيا.
ولد ابننا مايكل في الحادي والثلاثين من ديسمبر 1988. عندما فتحت عيني بعد الإفاقة كنت أشعر بالألم الشديد والغثيان، وكان فمي جافا مريرا. أخبرني أندريه بأن الطفل بخير، وعندما حملته بين ذراعي تذكرت شيدا وحزنها العميق عندما اضطرت لإرسال ابنها إلى والديها. الآن أستطيع أن أدرك شعورها الرهيب. •••
توفي آية الله الخميني في الثالث من يونيو عام 1989؛ كان مريضا بالسرطان، وقد خضع لعملية جراحية لتوه، فأدرك الناس أن موته أصبح وشيكا. كنت جالسة على فراشي في «زاهدان» أطعم مايكل الذي بلغ من العمر خمسة أشهر عندما سمعت تلك الأنباء في المذياع، وكان المذيع يبكي. مر في ذهني شريط ذكريات العامين اللذين قضيتهما في «إيفين» بسرعة البرق، كان من المفترض أن تقضي الثورة على سجن «إيفين»، لكنها لم تفعل، بل زادت من وطأة الرعب الصامت الذي يمارسه ومن دمويته. كان الخميني مسئولا عن الفظائع التي ارتكبت خلف تلك الأسوار، كان مسئولا عن وفاة جيتا وترانه وسيرس وليلى ومينا وغيرهم الآلاف، مع ذلك لم يسعدني خبر وفاته، بل أشفقت عليه، فما الفائدة من إصدار حكم على شخص ميت؟ كنت على يقين من أن الشر بداخله لم يكن خالصا، مثل علي، فقد سمعت أنه كان يستمتع بالشعر بل ينظمه، لقد غير العالم، لكن أحدا لن يدرك عمق ذلك التأثير إلى أن يتسنى للتاريخ الحكم على أفعاله ونتائجها بعد فترة مناسبة. دعوت لأراوح من فقدوا حياتهم بعد الثورة أن ترقد في سلام ولعائلاتهم أن تجد الشجاعة والقوة اللازمتين لاستمرار الحياة، وأن تجعل من إيران بلدا أفضل.
استغرق طفلي الوسيم مايكل في النوم لا يدرك أن رجلا يدعى الخميني قد غير حياة والديه، تساءلت كيف ستؤثر وفاة الخميني فينا وفي إيران، فقد ظن كثيرون أن الحكومة الإسلامية ستنهار دعائمها بعد وفاته، وأن الصراع على السلطة بين الطوائف المختلفة في الحكومة سوف يؤدي إلى سقوط الجمهورية الإسلامية.
كان الحر قائظا يوم جنازة الخميني، وتدفق نحو تسعة ملايين شخص متشحين بالسواد في شوارع طهران يقصدون الطريق السريع الذي يؤدي إلى مقبرة «بهشت زهرا». شاهدنا التغطية في التلفاز، لم أشاهد حشدا كبيرا هكذا من قبل، أخذوا يبكون ويصرخون ويضربون صدورهم بأيديهم كعادة الشيعة في بكاء شهدائهم. كل ما خطر في بالي وقتها تلك الأرواح البريئة الشابة التي أزهقت في الثورة وخلف أسوار «إيفين»، لكن أولئك النائحين لم يبد عليهم التأثر بذلك الأمر، فقد كان الخميني إمامهم وقائدهم وبطلهم والرجل الذي واجه الغرب بطريقته المميزة في التحدي والصمود. حاولت أن أفهم لم يحبونه هكذا، هل وصلت كراهيتهم للغرب إلى هذا الحد حتى إنهم لا يمانعون في تعريض أبنائهم الأبرياء للسجن والقتل؟ ربما لم يكن لارتباطهم به علاقة بالحب، لكنه الإعجاب الممزوج بالرهبة نحو رجل من عائلة فقيرة تمكنوا من خلاله من الوصول إلى السلطة والقوة لمواجهة العالم الذي طالما أرهبهم.
أحاطت الحشود بالشاحنة التي تحمل النعش الخشبي الذي يحتوي جسد الخميني، أراد الجميع الإمساك بجزء من الكفن كي يلقوا نظرة أخيرة عليه، بدت الشاحنة كأنها تغرق وسط الحشود المتشحة بالسواد، وجاهدت قوات الأمن كي تبعد الجموع الحزينة عن طريق رشهم بخراطيم المياه، ولكن من دون فائدة. وتحت ستار من الضباب والغبار والحرارة غطى هدير طائرة مروحية على الصرخات والنحيب وهي تقترب من الشاحنة وتهبط أمامها، وأخرج منها نعش الخميني كي ينقل إلى الطائرة، ولكن الحشود تشبثت بالنعش حتى انكسر، وامتدت الأيدي تمزق أجزاء من الكفن الأبيض حتى ظهرت ساق الخميني بارزة، وأخيرا نقلت جثته إلى الطائرة التي اضطرت إلى أن تتمايل إلى أعلى وإلى أسفل كي تتخلص من الحشود التي تشبثت بها وتدلت من جانبيها.
وبعد بضع ساعات أجريت محاولة أخرى أكثر تنظيما لدفن جثة الخميني، وكانت محاولة ناجحة، فقد اقتربت بضع طائرات مروحية عسكرية من الموقع، وخرج من أحدها تابوت معدني، ووضعت فيه جثة الخميني المغطاة بالكفن، فالتقاليد الشيعية تحتم دفن الموتى في الأرض مباشرة بلا شيء سوى الكفن، وأخيرا دفن الخميني بين آلاف الشهداء. •••
مرت الشهور، ولم يتأثر النظام الإسلامي بعد وفاة الخميني، فقد حل محله آية الله علي خامنئي بوصفه المرشد الأعلى للبلاد، وكان قد شغل منصب الرئيس لفترتين رئاسيتين، وهكذا استمر عصر الرعب. قلت أعداد المعتقلين، ليس بسبب زيادة مساحة الحرية، ولكن لأن الجميع أصبحوا يعلمون ضريبة معارضة النظام، أما من كانوا يجرءون على رفع صوتهم فكانوا غالبا يخرسون في الحال. مرت أحوال المرأة بمراحل من الصعود والهبوط، فكل بضعة أشهر كان الحرس الثوري يحكمون قبضتهم ولا يتهاونون إطلاقا في ارتداء الحجاب غير الشرعي أو وضع مساحيق التجميل، ثم تأتي بضعة أسابيع يمكن للمرأة فيها أن تخرج وهي تضع أحمر الشفاه أو تظهر بضع خصلات من شعرها. ***
ومع أنني أنا وأندريه كنا على يقين من أننا لن نجد الأمان في إيران، فلم نتمكن من مغادرتها؛ فعندما أطلق سراحي من «إيفين» أخبرت بأنه لن يسمح لي بمغادرة البلاد مدة ثلاثة أعوام، ولم يرفع الحظر تلقائيا بعد انقضاء الأعوام الثلاثة، بل كان علي أن أقدم طلبا للحصول على جواز سفر، ثم يعطيني مكتب الجوازات خطابا أحمله إلى «إيفين» كي أحصل على تصريح بمغادرة البلاد، ولم يكن مسموحا لأندريه بمغادرة البلاد حتى يتم أعوامه الثلاثة في «زاهدان»، بينما كان موقفي أكثر تعقيدا، ولكنني لن أتيقن من ذلك حتى أحاول.
تقدمت بطلب للحصول على جواز سفر، ورفض الطلب كما توقعت، فأخذت الخطاب من مكتب الجوازات كي أقدمه إلى «إيفين»، حيث أخبرت بأنني لن يسمح لي بمغادرة البلاد ما لم أدفع نصف مليون تومان، أي ما يوازي 3500 دولار أمريكي وديعة لضمان عودتي، فإن عدت خلال عام سوف أستعيد نقودي، وإن لم أعد فسوف تذهب تلك النقود إلى خزانة الحكومة. وفي ذلك الوقت لم يكن مرتب أندريه يتجاوز سبعة آلاف تومان في الشهر؛ أي ما يوازي ستين دولارا أمريكيا، ومن ثم لم نكن نملك المال اللازم.
طلبت من أبي أن يقرضنا المال، فقد ظللنا ندفع نصف إيجار المنزل لوالدي حتى بعد أن انتقلنا إلى «زاهدان» على سبيل المساعدة، وكان والدي قد باع المنزل الصيفي، ويملك ضعف المبلغ الذي أحتاجه في البنك. - «أبي، أرجو أن تقرضنا النقود التي نحتاجها، فأنا لم أطلب منك أي نقود من قبل، وعندما نتمكن من العثور على دولة حرة تقبل استضافتنا ونجد عملا بها فسوف نرد الدين تدريجيا.» - «هل تظنين أن الحياة سهلة بالخارج؟ الحياة صعبة! فكيف تضمنين تحقيق النجاح؟» - «أضمنه لأننا مجتهدان، ولأن الله عظيم، وسوف يساعدنا.»
فضحك والدي وقال: «سوف أقص عليك قصة بسيطة: ذات مرة انطلق صيادان في قارب صغير، وكان الجو جميلا والبحر هادئا عندما غادرا الشاطئ، ولكن عندما أوغلا في البحر ساءت حالة الجو وسرعان ما هاجمتهما عاصفة، فسأل أحدهما الآخر وقاربهما تتقاذفه الأمواج: «ماذا نفعل الآن؟» أجاب الثاني: «علينا أن ندعو الله كي ينقذنا لأنه عظيم قادر على أن ينجينا من تلك الأزمة.» فأجاب الأول: «قد يكون الله عظيما يا صديقي، ولكن القارب صغير بالتأكيد.» وغرق كلاهما في البحر.»
لم أصدق ما سمعته من والدي، مع أنه لم يكن يعلم تفاصيل ما حدث لي في السجن، فقد كان يعلم أني كنت سجينة سياسية، وأن لا مستقبل لي في إيران، كان علي أن أحيا خائفة، وبسبب ملفي السياسي لم يكن مسموحا لي بالالتحاق بالجامعة، كنت بحاجة إلى المساعدة، وهو قادر على مساعدتي، ولكنه رفض تقديمها لي. - «أنت تهتم بالمال أكثر مما تهتم بي! لقد أخبرتك أنني سأسدد لك هذا الدين، ولم أكن لأطلب منك هذا الطلب ما لم أكن في أمس الحاجة.» - «كلا.»
كان علي أن أواجه حقيقة أبي المرة، فهو لن يقدم أي تضحيات من أجلي، ولم أكن أعرف السبب الذي يجعله كذلك. طالما شعرت بمسافة تفصل بيننا، لكنني تجاهلتها لاعتقادي أنه لا يستطيع التعبير عن مشاعره فحسب، فلا أذكر أنه أبدى عاطفة تجاه أحد، ولا حتى أمي أو أخي، ظللت أراقب بطرف عيني آباء يحبون بناتهم ويعبرون عن مشاعرهم لهن علانية؛ آباء يقدمون تضحيات هائلة لأبنائهم، ونبذت فكرة أن والدي يختلف عنهم، بل ظللت أتظاهر بأنه طيب كريم محب.
خطر في بالي السيد موسوي، وكنت على يقين من أنني لو اتصلت به هاتفيا فسوف يعطيني النقود التي تركها لي علي، ولكنني لم أكن أرغب في فعل ذلك، فأنا أريد طي صفحة الماضي. تمنيت لو كانت عائلتي تعاملني مثل عائلة علي، ولكنني كنت على يقين من أن تلك الأمنية لن تتحقق.
كان والد أندريه قد عمل في مصنع للأثاث في السنوات الأخيرة من حياته، وبمساعدة صاحب المصنع تمكن هو وبعض العمال الآخرين من استثمار أموالهم في قطعة أرض لبناء مبنى سكني، وعندما توفي والد أندريه لم يكن المشروع قد بدأ بعد، ولكن أندريه استثمر المزيد من الأموال به. وذات يوم تلقينا مكالمة هاتفية من سيدة كانت تعمل في المصنع وأخبرتنا أن العمل في المبنى قد بدأ، وعندما أخبرناها أننا نستعد لمغادرة البلاد وأننا نمر بضائقة مالية، عرضت أن تشتري نصيبنا وتدفع لنا ما يزيد عن المبلغ الذي استثمرناه بنصف مليون تومان، وكان هذا كل ما نحتاجه.
حصل أندريه على جواز سفره فور انتهاء أعوامنا الثلاثة في «زاهدان»، وذهبت إلى «إيفين» فأودعت المبلغ وحصلت على جواز سفري. كنا قد سمعنا عن وكالة للاجئين في مدريد، وقررنا الذهاب إلى إسبانيا، فاشترينا تذاكر الطائرة وبعنا ممتلكاتنا القليلة واشترينا بها دولارات أمريكية. لم يكن هناك ضمان حقيقي لسفرنا، فقد سبق أن منع الحرس الثوري كثيرا من حاملي جوازات السفر السليمة من مغادرة البلاد بعد وصولهم إلى المطار. لن نشعر بالحرية قبل أن تعبر الطائرة الحدود الإيرانية.
تحدد موعد الرحلة صباح الجمعة السادس والعشرين من أكتوبر عام 1990، واتفقنا مع والدي أن يصطحبانا إلى مطار طهران في منتصف الليل. بكى مايكل الذي كان قد قارب الثانية من عمره وتذمر وأنا ألبسه ثيابه، لكنه استغرق في النوم فور أن تحركت السيارة. كانت المدينة مهجورة، وراقبت الشوارع المألوفة وهي تطوى بسرعة، بدءا من شوارع «داووديه» السكنية الضيقة حيث أقمنا بعد العودة من «زاهدان»، إلى الشوارع الكبرى الرئيسية التي تصطف على جانبيها المتاجر. لدي ذكريات في كل شارع وكل ركن، فقد ساهمت حياتي في إيران في تشكيلي، هأنذا أرحل تاركة خلفي أجزاء من قلبي وروحي؛ لقد مات أحبائي في تلك البلاد، وعلي أن أغادرها، فلا مستقبل لنا هنا، لا شيء سوى الماضي، كنت أود لو رأى أطفالي منزلي الذي نشأت به، والطريق الذي كنت أسلكه في الذهاب إلى المدرسة، والحديقة التي كنت ألعب بها، والكنيسة التي أمدتني بالإيمان والطمأنينة، وددت لو أريتهم بحر «قزوين» الأزرق، والجسر الذي يصل بين جانبي الميناء، وحقول الأرز التي تقع على سفوح الجبال الشاهقة، وددت لو رأوا الصحراء وتعرفوا على ما تبثه في النفس من حكمة وعزلة، ولكنني أدركت أنهم على الأرجح لن يروا أيا من ذلك، فلم نكن ننوي العودة.
ما إن اجتزنا ميدان «أزادي» بنصبه التذكاري الأبيض الشاهق - أحد معالم طهران، بني في عهد الشاه وأصبح بوابة للمدينة - أدركت أنه الوداع الأخير، فألقيت نظرة أخيرة على قمم جبال «ألبرز» المغطاة بالثلوج التي ظهرت بالكاد تحت سماء الليل.
وفي المطار أوقفنا السيارة وسرنا نحو البوابة صامتين. كنا قد ذهبنا مبكرين عدة ساعات بسبب الإجراءات الأمنية الطويلة، فالحرس الثوري يفتحون الأمتعة ويفتشونها تفتيشا دقيقا، وكان ممنوعا حمل الآثار أو الكثير من المجوهرات أو مبالغ كبيرة من المال خارج البلاد، لكن كل شيء مر بسلام، ولوحت أودع والدي، ونحن جميعا نبكي.
أقلعت طائرتنا التابعة للخطوط السويسرية في الصباح الباكر، وبعد فترة وجيزة كنا قد عبرنا الحدود، ونزعت معظم النساء حجابهن ووضعن مساحيق التجميل. ظللت أستمع إلى هدير المحركات الرتيب، وأغلقت عيني وتساءلت هل بالجنة مكان توضع فيه «المفقودات»، فقد نسيت إحضار الكثير من الأشياء، منها صندوق مجوهرات فضي كانت جدتي تستخدمه لتخزين السكر وتحتفظ به على مائدة المطبخ، وكان هدية من زوجها، كنت على يقين من أنها في كل مرة تضيف فيها السكر إلى الشاي تتذكر الأوقات التي قضياها معا، وهناك أيضا ناي أراش والعقد الذي لم تسنح له الفرصة لإعطائي إياه، وخاتم زفافي الأول. ربما لم أفقد تلك الأشياء، ويوما ما سأعثر عليها جميعا تحت «صخرة الصلاة» بأحجارها المغطاة بالطحالب في غابة غريبة تسكنها الملائكة.
خاتمة
في الثامن والعشرين من أغسطس 1991، وبعد أن قضينا ثمانية أيام في مدريد وعشرة أشهر في «بودابست» في انتظار مراجعة أوراقنا، أقلتنا طائرة تابعة للطيران السويسري نحو أحد مطارات زيورخ، حيث انتظرنا دورنا كي نستقل الطائرة المتجهة إلى تورونتو. كنت قد علمت مايكل بعض الكلمات باللغة الإنجليزية، وأخبرته عن بلد جميل يدعى كندا، حيث تتساقط الثلوج كثيرا في فصل الشتاء، ويمكننا أن نبني رجل ثلج كبيرا، وحيث يصبح الجو دافئا في الصيف وتكتسي الأرض بالحياة، ويمكننا أن نسبح في البحيرات الزرقاء. ظل واقفا بجواري متشبثا بيدي وعيناه تلمعان من فرط الانفعال، بينما وقف بعض الطلاب الكنديين في نفس الطابور أمامنا، كنت أغبطهم، وتساءلت عن شعور المرء عندما يكون مواطنا كنديا.
قال أحدهم: «أتحرق شوقا للذهاب إلى تورونتو.»
فرد عليه آخر: «وأنا أيضا، لقد قضينا وقتا رائعا هنا، ولكن لا مكان يضاهي أرض الوطن.»
أدركت في تلك اللحظة وأنا أراقب هؤلاء الفتية بابتساماتهم المشرقة الخالية من الهم أننا سوف نصبح على ما يرام في كندا، وأنها ستصبح وطننا الجديد حيث نشعر بالحرية والأمان، وحيث يمكننا أن نربي أطفالنا ونراقبهم وهم يكبرون، وحيث نشعر بالانتماء.
ملحق
توفيت زهرا كاظمي في «إيفين» في الحادي عشر من يوليو عام 2003.
في الثالث والعشرين من يونيو عام 2003، كانت المصورة الصحفية الكندية الإيرانية تلتقط صورا خارج أسوار «إيفين» أثناء مظاهرات للطلبة عندما ألقي القبض عليها، وسرعان ما أشيع أنها دخلت في غيبوبة.
وخلال الأيام القليلة التي أعقبت وفاتها طالب الرئيس الإيراني محمد خاتمي بإجراء تحقيق داخلي، في حين طالب ابنها ومسئولون من وزارة الخارجية الكندية بعودة جثمانها إلى كندا. اعترفت إيران بأن زهرا قد ضربت ضربا أفضى إلى الموت، ولكنها تجاهلت الضغوط الدولية ودفنتها في طهران، ولم يسمح لأي طبيب مستقل بتشريح جثتها. ألقت السلطات الإيرانية القبض على عدد قليل من أفراد الأمن الذين قيل إنه يشتبه في تورطهم في وفاة زهرا، لكن سرعان ما أطلق سراحهم جميعا.
وفي نهاية الأمر اتهم أحد محققي المخابرات الإيرانية ويدعى محمد رضا أقدم أحمدي بقتل كاظمي، لكنه حصل على البراءة. كان محامو عائلة زهرا بمن فيهم شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام يعتقدون أن أحمدي لم يكن سوى كبش فداء.
وفي الحادي والثلاثين من مارس عام 2005، أعلن الطبيب شهرام عزام - أحد أطباء قسم الطوارئ بمستشفى «بقية الله» بطهران - التفاصيل المروعة التي أخبر بها أحد مسئولي الشئون الخارجية الكندية بالسويد قبل عام؛ فقد تعرضت زهرا للاغتصاب الوحشي، ووجدت بجثتها آثار جروح ورضوض، بالإضافة إلى كسر اثنين من أصابعها، وكسر أنفها، واقتلاع ثلاثة من أظافرها، وكسر في الجمجمة، وسحق أحد أصابع القدم اليسرى، وآثار جلد على قدميها. •••
لم أكن أعرف زهرا كاظمي، وفي منتصف يوليو من عام 2003 في نحو الساعة الثامنة صباحا فتحت باب منزلي كي أحضر الجريدة. كان الجو صحوا والشمس مشرقة، والورود وأزهار الياسمين التي زرعتها قد تفتحت، فقررت أن أقرأ الجريدة في الحديقة. أخرجتها من غلافها البلاستيكي الأزرق وفتحتها، فوجدت صورة امرأة جميلة ذات ابتسامة عريضة وعينين مفعمتين بالحياة، تساءلت عمن تكون تلك المرأة، وقرأت المقال الذي يحمل صورتها على الفور، ومع كل كلمة أقرؤها كنت أشعر أن حبلا يضيق حول رقبتي.
كنت قد بدأت كتابة مذكراتي في يناير من عام 2002، وكنت قد انتهيت للتو من صياغة المسودة الثالثة، وهكذا كانت ذكرياتي في «إيفين» لا تزال حية، كنت أعلم أن ما مررت به في «إيفين» ما زال يحدث إلى الآن، لكن رؤية صورة زهرا وابتسامتها الجميلة حولت تلك المعرفة إلى طاقة رهيبة مؤلمة شطرتني إلى نصفين؛ لقد ماتت بنفس الطريقة التي ماتت بها مينا، ولكن صورة مينا لم تظهر في الصفحة الأولى لأي جريدة، لقد استرعت زهرا انتباه العالم لأنها مواطنة كندية، ولو كان العالم قد التفت لذلك الأمر سابقا، لو كان العالم قد اهتم قليلا، لم تكن زهرا لتلاقي ذلك المصير، ولاستطعنا إنقاذ الكثير من الأرواح البريئة، ولكن العالم ظل صامتا! وأحد أسباب صمته هو خوف الشهود مثلي من عواقب الحديث، ولكن يكفي ذلك، لن أدع الخوف يبقيني أسيرة بعد الآن.
وفي صباح الحادي والثلاثين من مارس عام 2005، اتصلت بي ميشيل شيبرد، وهي صديقة مقربة تعمل مراسلة في صحيفة «تورونتو ستار» وتهتم بشئون الشرق الأوسط والإرهاب والموضوعات الأمنية. سررت كثيرا لسماع صوتها، لكنها أخبرتني بأنها تحمل أنباء سيئة.
قالت: «أفضل لو جلست قبل أن تسمعي تلك الأنباء.»
ففعلت ما طلبت مني، ثم أخبرتني بأمر تقرير الدكتور شهرام عزام حول إصابات زهرا. تمنيت لو استطعت إنقاذها، تمنيت لو لاقيت حتفي معها، لكن موتي لم يكن ليفيد أحدا، بل لدي قصة يجب أن تروى. لقد منحت زهرا سجناء إيران السياسيين اسما ووجها، والآن حان دوري كي أمنحهم الكلمات.
سجينة طهران
دليل قراء «سجينة طهران»
حوار مع مارينا نعمت
نبذة عن هذا الدليل
يهدف «دليل القراء» و«الحوار مع المؤلفة» التاليان إلى إيجاد مداخل شائقة ومفيدة لقراءة «سجينة طهران»، ونأمل أن تزيد تلك العناصر من تقدير القراء للكتاب واستمتاعهم به.
دليل قراء «سجينة طهران»
أسئلة للنقاش (1)
التجارب التي مرت بها مارينا استثنائية حقا. هل أثر ذلك في قدرتك على التعاطف معها؟ وما أكثر الجوانب الحياتية والشخصية التي تتشابه معها فيها؟ وفي أي المواضع شعرت بعدم القدرة على التعاطف معها؟ وما أكثر ما فاجأك في مارينا؟ (2)
بعد أن أوصدت والدة مارينا باب الشرفة عليها عقابا لها، قررت مارينا أن تتمرد وقالت: «كنت أعلم أن أمي ستغضب، لكني لم أهتم، فلم يكن بوسعي تحمل الحبس الانفرادي أكثر من ذلك.» كيف ترى أن تجارب الطفولة قد أثرت في تفاعل مارينا مع السجن؟ وهل كانت أكثر أم أقل استعدادا لاحتمال الشروط والقيود المفروضة عليها في «إيفين» نتيجة للمعاملة التي عاملتها بها أمها؟ (3)
تقول مارينا بعد أن اكتشفت أن أراش متورط في أنشطة ثورية: «حاولت أن أصدقه، وأن أتحلى بالشجاعة، غير أني لم أكن سوى فتاة في الثالثة عشرة من عمرها.» إلى أي مدى أثر عمر مارينا على مدار الكتاب في قراءتك؟ وهل نجحت مارينا الحالية في نقل مشاعر مارينا الفتاة وأفكارها؟ وهل استشعرت الصدق في كلماتها عندما كانت مراهقة؟ (4)
تقول مارينا عندما أنقذها علي قبل لحظات من إعدامها: «أخذ علي يتقدم نحوي وعيناه مثبتتان علي، أردت أن أجري، أردت أن يطلق حامد الرصاص علي وينهي حياتي.» لماذا تظن أن مارينا اعتبرت إنقاذ علي لها أسوأ من الإعدام؟ وهل يعكس رد فعل مارينا على نحو أكثر اتساعا دور المرأة في الثقافة الإيرانية؟ (5)
تتميز مشاعر مارينا نحو علي بالتعقيد والتشوه، فيقول علي: «صحيح أني أردتك، لكنني لست أنانيا إلى هذا الحد. لو كانت هناك طريقة يمكنني بها إطلاق سراحك لفعلت ثم أطلقت النار على نفسي.» هل تصدقه، أم أنك تعتقد أن الرغبة وحدها هي ما يحركه؟ أخبرت والدة علي مارينا أن ابنها «رجل صالح»، فهل غيرت مشاعر مارينا نحو عائلة علي من رأيها فيه؟ (6)
تبدأ المذكرات بهبوط طائرة مارينا في كندا مع زوجها وطفلها، وهكذا فنحن نعلم منذ البداية أن زواجها من علي قد انتهى وأنها تزوجت مرة أخرى. كيف أثرت تلك المعرفة على رؤيتك للعلاقة بين مارينا وعلي؟ ولو كان زواجهما قد استمر مدى الحياة، هل كنت ستنظر إلى العلاقة نظرة مختلفة؟ (7)
يتكرر على مدار الكتاب وصف الكلمات المكتوبة بأنها «قابلة للغسل»؛ فعندما ترى مارينا جسد سارة مغطى بكلمات صغيرة تقول: «غسلت سارة الكلمات عن جسدها؛ تلك الكلمات التي كانت كتابا حيا يتنفس ويشعر ويؤلم ويخلد الذكرى.» وعندما تعود مارينا من «إيفين»، تعلم أن أمها قد تخلصت من كتبها ومن قصة حياة جدتها: «لقد غسلت الكتب؛ غرقت الكلمات المكتوبة، وأخرست إلى الأبد.» ما الذي نستخلصه من أن غسل الكلمات يقضي عليها بدلا من أن ينظفها؟ وكيف تنطبق هذه الصورة المجازية في «الكلمات المغسولة» على قصة مارينا؟ (8)
يتجادل علي ومارينا بشأن إعدام السجناء السياسيين، حيث يؤيد علي فكرة الدفاع عن النفس، بينما ترد مارينا: «لن أقتل إنسانا مثلي.» مع من منهما تتفق؟ ولم تظن أن تجربتي مارينا وعلي المتماثلتين بوصفهما سجينين سياسيين أسفرتا عن وجهتي نظر متعارضتين؟ وهل تعتقد أن اختلاف الجنس له دور في رد فعل كل منهما؟ (9)
عندما قرر أندريه ومارينا الزواج بما يخالف القانون، قال لها: «أدرك أن زواجنا ينطوي على خطورة، لكني أريد أن أفعل ذلك. لا يمكننا أن نستسلم، فنحن لا نرتكب خطيئة.» هل ترى قرارهما بالزواج بما يخالف القانون شجاعة أم حماقة؟ وهل يشكل صدور تلك الكلمات من أندريه - الذي لم يدخل السجن - بدلا من مارينا فارقا في الأمر؟ (10)
عندما عادت مارينا بعد قضاء عامين في «إيفين»، شعرت بأنها ضيفة غريبة في منزلها، وتساءلت هل إصرار الجميع على عدم سؤالها عن التجربة التي مرت بها «رغبة في حمايتها أم في حماية أنفسهم.» يعيد ذلك الحوار إلى الأذهان الحوار السابق بين مارينا وزوجها في بداية المذكرات عندما اعتذر لها عن عدم سؤالها عن التجربة التي مرت بها. هل أراد أندريه ووالدا مارينا حمايتها أم حماية أنفسهم أم كليهما معا؟ وهل تعتقد أن مارينا كانت ستخبر العالم بقصتها لو تمكنت من إخبار المقربين منها بها منذ البداية؟ ولماذا؟
حوار مع مارينا نعمت
أخبرينا عن عملية الكتابة. هل كانت عملية تلقائية، بمعنى أنك جلست وبدأت تكتبين؟ أم أنك فكرت في التسلسل الزمني للأحداث أولا؟ وهل استعنت بأي أدوات (مثل الصحف أو الصور أو الخطابات) تساعدك في تذكر الأحداث، أم أنك اعتمدت على ذاكرتك فحسب؟
لم أخطط لأي شيء؛ كنت أشبه ببركان خامل انفجر بعد سنوات طويلة. كتبت أولا أجزاء متفرقة من ذكرياتي، ثم شعرت بالحاجة إلى تنظيمها فبدأت أكتب وفق الترتيب الزمني للأحداث. كان علي أن أسترجع خطواتي، ولم يكن لدي ما أعتمد عليه سوى ذاكرتي، ولكنني أدركت أن بوسعي الاعتماد عليها، فالأحداث المؤلمة المؤثرة لا تمحى من الذاكرة أبدا.
في أولى صفحات الكتاب تتحدثين عن سيدة إيرانية أخرى تدعى باريسا مرت بتجربة مماثلة في إيران وقررت ألا تتحدث عنها. هل شعرت بالندم على قرارك بسرد قصتك؟ وكيف أثر سردها على علاقتك بزوجك وأبنائك؟
لم أندم على هذا القرار قط، بل شعرت كأني في غيبوبة حتى بدأت الكتابة؛ كأني أسير نائمة منذ عدة سنوات. منذ إطلاق سراحي من السجن وحتى بدأت كتابة قصتي، بدا لي العالم بعيدا غامضا، كنت قد أصبحت مجرد قوقعة تضم شخصيتي الأصلية، وفور أن بدأت الحديث والكتابة عن ذلك الأمر، ومع أنه كان شديد الصعوبة والإيلام، شعرت أخيرا بأنني حية. ولا شك أن كل ذلك قد أثر على علاقتي بزوجي؛ فليس لدي الآن ما أخفيه، ولم أعد أشعر بالذنب لإخفائي الحقيقة. لقد انزاح من فوق كاهلي ثقل الصمت. بعد أن قرأ أندريه المخطوطة، نظر إلي كأنه يراني للمرة الأولى، ولكنه تفهم سبب صمتي وأهمية سرد قصتي. أبنائي أيضا شعروا بالتغيير الذي حدث، وأعتقد أنهم يشعرون بالسعادة لعودتي إلى نفسي الحقيقية.
في الجزء الأكبر من المذكرات تلعبين دور الراوية في مرحلة المراهقة. كيف استعدت التواصل مع ذاتك في مرحلة المراهقة، وخاصة أثناء الصراع مع تلك الذكريات المؤلمة؟ وإلى أي مدى تعتقدين أن ذكرياتك وشعورك بالتجارب التي مررت بها قد تغيرا بعد أن أصبحت امرأة ناضجة؟ وماذا كانت أكثر الذكريات صعوبة لك في معايشتها؟
كنت أحمل ذاتي المراهقة داخلي طوال الوقت كما قلت سابقا، كأني في غيبوبة، وكان النوم ملاذي دائما، وأعتقد أنني توصلت إلى أن جانبا مني قرر ألا يستيقظ أبدا، ولكن جسدي ظل يعمل كالمعتاد، ويتظاهر كالجميع بأن كل شيء على ما يرام. أعتقد أنني نضجت نوعا ما في سن الثالثة عشرة عندما اندلعت الثورة وفقدت أراش، فالصدمة والحزن يرهفان حدة الذاكرة إلى حد مزعج، لكن ردود أفعال من يعانون متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة تختلف، فبعضهم لا يستطيع النسيان ويصاب بالكوابيس والاكتئاب، والبعض الآخر يغلق صندوق ذكرياته ويظن أنه قد نسي الماضي، لكن الحقيقة أن تلك الذكريات لا تمحى، ولا بد للمرء أن يواجهها كي ينجو منها. عندما واتتني الجرأة لفعل ذلك استحوذت علي ذاتي المراهقة وفعلت ما كانت تتوق إلى فعله، ومع أن نظرتي للعالم قد أصبحت أكثر نضجا، فإنني لم أتغير كثيرا عما كنت عليه وأنا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة؛ الفرق الوحيد أني أصبحت أكثر فهما لنفسي وثقة بها.
أثناء مراسم اعتناقك الإسلام قلت: «كنت أنتظر غضب الله؛ تمنيت أن تضربني صاعقة من البرق وأنا واقفة في مكاني.» هل أثر اعتناقك للإسلام قسرا على إيمانك بالمسيحية؟ وهل فوجئت برد فعلك القوي تجاه اعتناقك الإسلام، وخاصة بشأن خوفك من العقاب الإلهي؟ وما الدين الذي تعتنقينه حاليا؟
كنت في السابعة عشرة عندما أجبرت على اعتناق الإسلام، وكان إيماني جزءا مهما من شخصيتي دائما، فكنت أقرأ طوال حياتي قصصا خيالية يؤيد فيها الأبطال الخير والصواب ويرفضون الاستسلام، واعتقدت أنني خنت الله عندما تحولت عن ديني، مما جعلني أدرك أنني لست بطلة، فشعرت بالخزي، ورغبت في أن يصيبني عقاب الله وغضبه لأنني شعرت بأنني أستحقه. أنا كاثوليكية، وهو المذهب الوحيد الذي كنت وما زلت أعتنقه فعليا، ولكني أفضل القول إني مسيحية، فأنا أؤمن بالحب والتسامح. أكن احتراما جما للإسلام أيضا، والعديد من أصدقائي الرائعين مسلمون. في العصور الوسطى ارتكبت فظائع كثيرة باسم المسيح والمسيحية، لكن هذا لا يجعل من المسيحية دين عنف، وأعتقد أن نفس الشيء ينطبق على الإسلام.
خلال مذكراتك شعرت بالذنب لأنك أنقذت من الإعدام. هل تمكنت من التغلب على هذا الشعور؟ وعند زيارتك لقبر علي، تذكرت كلا من ترانه وسيرس وجيتا، وقلت إن «حياتي تخصهم أكثر مما تخصني». أما زال يراودك نفس الشعور؟
لا أعتقد أن ناجيا من الموت يمكنه أن يتغلب على الشعور بالذنب، لكنني واجهته. أشعر بالذنب لأني عشت في الوقت الذي مات فيه كثيرون. هل كنت أستحق الحياة أكثر منهم؟ كلا. هل كانوا يستحقون الموت؟ كلا. ظللت أعواما عديدة أحاول الهروب من هذا الشعور بالذنب، حتى أدركت ذات يوم أن علي أن أستدير وأن أواجهه بعيون مفتوحة. نعم، حياتي تخصهم، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تجعل لحياتي معنى، فقد عشت كي أتأكد من أن أحدا لن ينساهم.
في أواخر الكتاب تقولين عن علي: «ظلت مشاعري تجاهه مزيجا من الغضب والإحباط والخوف والشك.» هل تغيرت مشاعرك تجاه علي خلال الأعوام التالية؟ وبم تريدين أن تخبري القارئ عن علي وعلاقتك به؟
حتى الأشخاص «الطبيعيون» يصيبهم الارتباك أحيانا بشأن علاقاتهم، وما زال يلتبس علي الأمر بشأن مشاعري تجاه علي، فقد أنقذني من الموت وأحبني بطريقته الخاصة وهددني وتزوجني واغتصبني واعتنى بي وانتزعني من كل ما أحبه ومنحني عائلة مساندة لي لم أحظ بها قط، ثم أنقذني مرة أخرى وهو يحتضر. وأثناء الكتابة حاولت جاهدة أن أجعل القارئ يشعر بما مررت به، لا عن طريق الاستنتاجات وإصدار الأحكام، ولكن عن طريق رواية الأحداث ورسم خريطة المشاعر الإنسانية المعقدة التي غالبا ما تقدم لنا المزيد من الأسئلة لا الإجابات.
لماذا تعتقدين أنك أحببت عائلة علي بالرغم من شعورك بالذنب والارتباك؟ وهل أمدتك مشاعرك تجاههم بأمل في المستقبل أم دفعتك إلى مزيد من اليأس؟
أحببتهم لأنهم منحوني الحب والدعم في عالم بارد مظلم. كنت فتاة صغيرة متلهفة على الحب والاستقرار، لكن حبي لهم لم يمدني بأي أمل في المستقبل؛ على الأقل ليس المستقبل الذي كنت أتمناه لنفسي. في بداية الأمر كنت كمن يغرق في الرمال المتحركة، فقد قاومت الشعور بحبهم، لكن ما إن أحببتهم حتى اكتشفت أن هناك متنفسا، وهو ما أربكني إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه.
عندما أعطتك جدتك قصة حياتها، قالت: «أريدك أن تحتفظي بها وأن تتذكريني.» كيف أثرت كتابة جدتك على كتابتك الشخصية؟ وهل تعتقدين أنك كنت ستشعرين بالحاجة إلى كتابة قصتك لو لم تعطك قصتها؟
لقد شعرت بتأثير جدتي علي كثيرا، فمنذ أن ترجمت قصتها شعرت بأنني أحيا حياتها مرة أخرى بطريقة ما، لكني أعتقد أنني حصلت على فرصة لتحسين الأوضاع، وأعتقد أنني كنت سأكتب قصتي حتى لو لم تكن قد أعطتني قصتها، فطالما كان الأدب جزءا مهما من حياتي.
عندما أطلق سراحك من «إيفين»، هل شعرت بأي قلق يراودك بشأن حقيقة مشاعرك تجاه أندريه خارج أسوار السجن؟ وماذا كان الجزء الأصعب في بداية علاقتك به؟
طالما كان حبنا بريئا، ولم يكن مخططا له أو مقصودا بأي شكل. حالتنا مختلفة، ومنذ أن التقينا أدركنا أن أحدنا ينتمي إلى الآخر. أثناء وجودي في «إيفين» كان حبي لأندريه طاقة النور الوحيدة التي تمدني بالأمل وسط الظلام الدامس. كان هو الشيء الوحيد الذي أملكه وأثق به، لكن مع كل هذا، ومع أنني لم أجرؤ على الاعتراف لنفسي بذلك صراحة، فقد أدركت وأنا عائدة إلى المنزل بعد خروجي من «إيفين» أن هناك احتمالا ألا يرغب في بعد الآن. كان وجوده في الكنيسة عندما اصطحبني علي للزيارة هو ما منحني الأمل، فقد اختار أندريه أن يذهب إلى هناك لأنه أراد ذلك، لا لأنه اضطر إلى ذلك، وهو تصرف شجاع منه. أصعب ما واجهناه في استئناف علاقتنا بعد خروجي من السجن أنني لم أستطع إخباره بحقيقة ما حدث لي في «إيفين»، فكانت هناك أسرار بيننا، وهناك جزء مني لا يعلم عنه شيئا على الإطلاق، لكن بدا لي أن أحدا لا يريد معرفة أي شيء عن الماضي، فتظاهرت بألا مشكلة في الاحتفاظ به لنفسي.
عندما هاجر ألبرت صاحب المكتبة إلى الولايات المتحدة، قلت إنك شعرت بأن الفراق «موجع أبدي مثل الموت». هل راودك نفس الشعور عند مغادرتك إيران؟ وهل ما زلت على اتصال بوالديك أو أصدقائك بعد أن غادرت البلاد؟ وهل فكرت في العودة إلى إيران مستقبلا؟
بالفعل، شعرت بأن مغادرة إيران وداع أبدي، وراودني شعور بأنني لن أتمكن من العودة أبدا، ليس لأنني لن أرغب في ذلك، ولكن لأنه لن يسمح لي بذلك على الأقل دون أن أتعرض للسجن. ظللت على اتصال بوالدي، ولكنني توقفت عن الاتصال بأصدقائي، لأنني لم أرغب في جلب المتاعب لأحد. ما زلت أزور إيران كل ليلة تقريبا في أحلامي، فأذهب إلى منزل أسرتي الصيفي الذي يطل على بحر «قزوين» كما كنت أفعل في الأيام الخوالي، وألتقي بأصدقائي الذين ماتوا منذ أعوام طويلة والذين فقدت أخبارهم منذ زمن بعيد. توفيت أمي في مارس من عام 2000، وغالبا ما تزورني أيضا في الأحلام، حيث أتجول حول المنزل وأجلس على «صخرة الصلاة» وأشاهد غروب الشمس وأنا واقفة على الشاطئ.
في الفصل العاشر، تسألين: «هل يعرف العالم عنا أي شيء؟ هل يحاول أحد إنقاذنا؟ في أعماقي كنت أعلم أن الإجابة على كلا السؤالين هي «لا».» هل ما زلت تعتقدين أن المجتمع الدولي ينقصه الإلمام بقصتك وقصص مشابهة؟ وبم تشعرين حيال ذلك؟ وماذا تأملين من نشر قصتك؟ وماذا يمكن لقرائك أن يفعلوا لزيادة الوعي؟
بعد أن قضيت خمسة عشر عاما في كندا، يضايقني أن الناس لا يعرفون سوى القليل عن حياة الآخرين في دول أخرى. يتصدر الشرق الأوسط دائما عناوين الأخبار، ولكن ما لا يدركه الناس أن الضحايا الذين يشاهدونهم على شاشات التلفاز بشر مثلهم لهم أحباء ينتظرونهم، فهم إما أزواج أو زوجات أو أمهات أو آباء أو أشقاء أو شقيقات أو أبناء، والتجربة الإنسانية هي الأهم، وما لم يعترف الجميع بتلك التجربة التي غالبا ما تكون صادمة في معظم أنحاء الشرق الأوسط ويتعاملون معها معاملة إنسانية رحيمة، فسوف تتحول إلى شعور بالغضب والكراهية والعنف وتقضي على العالم تدريجيا بمرور الوقت. قصتي هي قصة جيل الثورة الإسلامية، أو بالأحرى الجزء غير المروي منها. إنها قصة المراهقين الذين رغبوا في أن يجعلوا إيران مكانا أفضل ولكنهم سقطوا بعدها في شراك حريق هائل خرج عن السيطرة وجلب لهم السجن والتعذيب والموت بدلا من الحرية والديمقراطية، بينما ظل العالم يشاهد الأحداث في صمت. أولا، أود أن تصبح قصتي تخليدا لذكرى قتلى الثورة الإسلامية، قبل قيامها وخلاله وبعد أن قامت، وقبل كل ذلك تشجيعا لكل الناجين من «إيفين» على الخروج عن صمتهم والحديث عما جرى لهم. لا أمثل السجناء السياسيين في إيران بأي حال من الأحوال، بل إنني واحدة منهم فقط، فأمر السجناء السياسيين في إيران معقد للغاية، وهو بحاجة للتناول والدراسة من زوايا عديدة بقدر الإمكان بحيث نتمكن في نهاية الأمر من الحصول على صورة واضحة لما حدث. وأود أيضا أن يعرف العالم أن «إيفين» ما زال موجودا، وأن الناس ما زالوا يعانون ويموتون خلف أسواره، وعلى المجتمع الدولي أن يطالب الحكومة الإيرانية بالاعتراف بسوء معاملة السجناء السياسيين في إيران والتوقف عن ذلك على الفور، وربما يتحول «إيفين» ذات يوم إلى متحف يصطحب الناس أطفالهم إليه كي يخبروهم عن فترة حالكة في تاريخ إيران؛ عندما كان تعذيب المراهقين والشباب والفتيات وإعدامهم من أعمال الخير التي تهدف إلى إرضاء الله. وأطلب من قرائي ألا يمنعهم الخوف من الحديث صراحة عما يرونه خطأ، فالخوف أفظع السجون على الإطلاق.
ناپیژندل شوی مخ