وقد نشرت بعد وفاته مجموعة من الرسائل والخطب في طبعة جديدة، وقيل إنه أقر اختيارها وتنسيقها في هذا الكتاب.
ويجهر أينشتين في جملة من هذه الرسائل «بعصبية الصهيونية» ويؤمن بإسرائيل كأنها عالم البعث للحياة اليهودية، وليست مجرد وطن أو «مأوى» للمضطهدين من المهاجرين.
ويعتقد العالم «المستقل» برابطة الوحدة التي لا تنفصم بين الصهيونيين ثم يزعم أن موقف العالم من اليهود هو الذي يربط بينهم بهذا الرباط الوثيق، ولا يذكر أن موقف اليهود من «الجوييم» سابق لكل موقف من مواقف الأمم الأخرى في المشرق والمغرب نحو هذه السلالة التي تعزل نفسها ولا تكتم عزلتها وانفصالها بين الأمم بالنسب والعقيدة والمصلحة والسيادة الموعودة على أبناء آدم وحواء.
فهو يقلب الحقائق رأسا على عقب ليسوغ «العصبية اليهودية» ويلقي تبعتها على «الجوييم» وما كان للجوييم هؤلاء من وجود في غير شعائر اليهود، ونصوص الترجوم والتلمود.
ومثل آخر من علمائهم ولكنه من طراز عجيب هو العالم الطبيب ماكس نوردو، الذي ترى من نظرة واحدة إلى معارف وجهه ولمحات عينيه ذلك الحبر العبري القويم الذي لم تغير من قسماته ولا خصاله مئات السنين التي قضاها أسلافه بين ربوع أوروبا، وقد شغف طول حياته بالهدم أشد من شغفه بالبناء.
ومن أعاجيب نوردو أنه كان يقسم الأخلاق إلى إسرائيلية وغير إسرائيلية، وأنه كان شديد الغيرة للدعوة الصهيونية، حريصا على التبشير بها مع تطرفه في الإلحاد، كأنه كان يستخرج من إلحاده فخرا صهيونيا، فإن نهاية الإلحاد أن ينفي كل ما وراء المادة، وفي ذلك شاهد على جودة الطبع اليهودي عنده لأنه سبق إلى هذه النهاية، إذ لم تنظر الديانة الموسوية فيما وراء المادة مطمعا للإنسان. وكان طول حياته يبشر بدين المنفعة، ونسميه دينا على عمد لأنه في الحقيقة دين يذب عنه بكل ما يكون لدين كهذا من الغيرة وإصرار العقيدة. فهو يؤمن بدين المنفعة ولا يعرف للأشياء غاية تعدوها، ولا يثني على خلق إلا إذا استطاع أن يبين نفعا ظاهرا في هذه الأشياء المحسوسة.
بل لو رجعنا إلى مواهب نوردو وعادات تفكيره لوجدنا أبرزها عادة ملكت نفسه وغلبت على هواه أيما غلب، وهي فيما نرى مفتاحه الذي نستعين به على تقدير أحكامه ومعرفة اتجاهاته، وهذه العادة هي «الإسرائيلية» التي يكاد لا ينساها في جميع آرائه، ولا يعدو أن يكون مدافعا عنها في كل مبحث من مباحثه ولو بعدت الشقة بينه وبين الإسرائيلية والإسرائيليين.
فإذا رجعت إلى الصفات التي يثني عليها وينوه برجحانها ويتخذها مثلا للفطرة السليمة وعنوانا على الصلاح في الحياة وجدتها هي صفات اليهود التي تفوقوا فيها على غيرهم أو اشتهروا بها بين الأمم، وعلى نقيض ذلك نرى الصفات التي عرف اليهود بالتخلف فيها أو التجرد منها عرضة لتهكمه وتهجينه، أو معدودة عنده في المراتب المرجوحة التي لا تميز أمة على أخرى، ولا تتفاضل بها معادن الرجال، وكثيرا ما يحسبها من الصفات الكمالية أو الهمجية الصائرة إلى الضعف مع تقدم المدنية، وتارة أخرى يتجاهلها في نقده أو يعتدها عرضا من أعراض النكسة والاضمحلال، وربما بدر ذلك منه عفوا في بعض الأحيان، ولكني لا أظن إلا أنه قد كان يقصده أحيانا ويتحراه ويترفق في دفع شبهته عن قلمه، وكأنما شك الرجل في اليهودية بفكره وبقي على اعتقادها بوجدانه، فرجع عن قولهم إن اليهود شعب الله المختار، ليقول إنهم هم شعب الطبيعة المختار.
وخلاصة ما اعتمده نوردو من الرأي في الفصل بين الأخلاق والآداب هو قسمتها إلى ذينك الشطرين، فما كان منها من صفات قومه فهو الصالح المطلوب، وما لم يكن من صفاتهم أو كان نصيبهم منه قليلا أو ملتبسا فذلك هو النافلة الذي لا غناء به ولا معول في الحياة عليه، وهو لم يكن يدفع عن قومه فحسب بإعلاء دين المنفعة، بل كان يدفع عن نفسه كذلك، فقد كان كما قدمنا يدين بدين المنفعة دون غيره.
فهو - من حيث أراد ومن حيث لم يرد - صهيوني غارق في الصهيونية متعصب لها أشد التعصب بمزاجه وأخلاقه ومولده (إذ هو ابن كاهن) وبأحوال عصره، فلما ظهرت الحركة الصهيونية كان من أعوانها الكبار وأعوانها المعدودين، فشن الغارة على الكنيسة الكاثوليكية، واتهمها بالتحريض على ذبح اليهود في فرنسا، وظل إلى آخر أيامه غيورا على نشر الدعوة الصهيونية لا يني كاتبا أو خاطبا في تأييدها وشد أزرها، فلما صرح اللورد بلفور تصريحه المعروف شخص هو إلى لندن لمفاوضة الحكومة الإنجليزية في تفاصيل إنشاء الوطن اليهودي بفلسطين. وهناك قال قولة تروى عنه وهي أن الإنجليز لا يساعدون اليهود حبا في سواد عيونهم، ولكن طمعا في الدفاع عن قناة السويس، وأنه على هذه القاعدة من تبادل النفع يجب أن يبنى الاتفاق بين شعب إسرائيل والحكومة الإنجليزية.
ناپیژندل شوی مخ