وضاعف الاشتباه فيهم أنهم كانوا ينفردون بمطاعمهم في المدن، وقلما يؤاكلون أحدا في الريف.
وحدث غير مرة أن اليهود كانوا ينصرون كل مغير على البلد الذي يقيمون فيه، وحدث غير مرة أنهم كانوا يصاحبون الجيشين المتقاتلين لشراء الأسرى، وبيع المؤنة، وبذل القروض، ثم يتقابلون على تفاهم عند «تصفية الأعمال» والمساومة، فوقر في أخلاد الأمم أنهم شعب غريب.
وكان شعورهم نحو بيت المقدس خلال هذه القرون لا يتجاوز شعور الحنين إلى مجد قديم، وانتظار الوقت الموعود في الزمن الذي يختاره الله، ولا شأن لهم بتقديمه أو تأخيره مع المشيئة الإلهية، وأصبحت الصلوات التي يعيدونها كل يوم أو كل أسبوع طلبا للرضوان الإلهي، ألفاظا تعاد على الأكثر بغير معنى، كأنها الدعوات التي يرددها الجهلاء من أتباع كل نحلة، وهم لا يفقهون معناها.
ويسجل التاريخ الأوروبي على اليهود أنهم كانت لهم مشاركة في كل فتنة وكل إغارة، ولكن المؤرخين يختلفون في تعليل هذه المشاركات المتواترة؛ فيعزوها بعضهم إلى المصادفة لوجود اليهود في كل بيئة، ويعزوها بعضهم إلى شعور النقمة الطبيعي على كل سلطان غاشم يخضع له المحكومون على رغم واضطرار، ويعزوها بعضهم إلى التدبير المتعمد لهدم المجتمع المسيحي من داخله وتقويض دعائم الدولة والكنيسة في وقت واحد، ومما قيل وأصر القائلون عليه أنهم أسسوا جماعة البنائين الذين اشتهروا باسم الماسون، وقرنوا بين التعاهد على بناء الهيكل وبين هذه التسمية وما يتصل بها من المصطلحات والشعائر، وقيل غير ذلك كثير مما تتشعب فيه الظنون ولا حاجة إلى استقصائه لأن الظواهر تغني فيه عن الأسرار.
وكان يتفق في بعض السنين أن يتجه اليهود والمسيحيون معا إلى بيت المقدس، على أثر الإشاعات «الفلكية» التي يزعمها أناس من المنجمين موعدا لعودة المسيح - عليه السلام - فتكثر الهجرة إلى المشرق على اعتقاد المهاجرين جميعا أن الدنيا تنتهي بهذه العودة الموعودة، وليست فكرة الوطن القومي مما يدخل في هذا الاعتقاد، بل كان من المسيحيين من يرى أن ارتداد اليهود عن كفرهم بالديانة المسيحية شرط لقيام الساعة، فلا أمل لهم قبل ذلك في اليوم الموعود.
أما فكرة «الوطن القومي» فلم تنشأ قبل عصر النهضات الوطنية، ولم يسمع فيه صوت لليهود إلا لأن هذا العصر كان كذلك عصر الصناعة الكبرى وعصر الاستعمار.
فلا يخفى أن الاستعمار قد بدأ بالتجارة، وأن طريق الهند كان أهم الطرق التجارية في العالم القديم، ومن ثم كثر الاهتمام بفلسطين ومصر، وارتفع في المجامع الدولية صوت اليهود لاتصالهم في وقت واحد بالتجارة وبهذه البلاد، واشتبكت مسألة القروض بمطامع المستعمرين في أقطار الدولة العثمانية، فلم ينظر الأوروبيون إلى مطالب اليهود كأنها مطالب منفصلة تعنيهم وحدهم ويغارون عليهم من أجلهم، ولكنهم جعلوها من الوسائل المعول عليها في خدمة السياسة والاستعمار.
وأثار القرن التاسع عشر مسألتين لا مسألة واحدة فيما يرجع إلى موقف اليهود من العصر الجديد.
أثار مسألة القومية اليهودية؛ لأن القومية كانت على كل لسان في البلاد التي يكثر فيها اليهود خاصة كبولونيا ورومانيا وإسبانيا وهولندة، فخطر لليهود أن يطالبوا بقومية مستقلة، وأن يطالبوا لهذه القومية بوطن تساعدهم الدول على احتلاله.
وأثار القرن التاسع عشر مسألة المساواة في الحقوق العامة، فاعترف بعض الأمم لليهود بالمساواة بينهم وبين غيرهم من أبنائها.
ناپیژندل شوی مخ