ومن ثم لم يعد لقب «داعية» قاصرا على الدهاقنة الرسميين، وإنما حازه أمراء الجماعات الإرهابية على كل صنوفهم، حتى تقدم هؤلاء للعمل بمهمة الفتوى ليبرروا جرائمهم بدورهم، التي هي جرائم دموية بكل المقاييس، ويعطوها شرعية سماوية مطهرة. وهكذا يضعك كلا النوعين من المشايخ في مشكلة؛ لأنهم يتحصنون وراء السلطان ووراء الدين وتفسيرهم له، فإن أنت أردت إطلاق سهم على السلطان رشق في الدين، وإن أردت إطلاقة على الشيخ (سلطانيا كان أم إرهابيا) أصبت به دين الله! ويبقى السؤال: إذا كان موضوع اهتمام المشايخ، سلطانيين أو إرهابيين، هو الدين، والدين واحد وربه واحد، فلماذا يختلفون؟ إنهم يختلفون بشأن دين كامل وليس شيئا بسيطا هينا، ربما يصح افتراض أن الاختلاف طبيعي لتفاوت العقول والبيئات والثقافات المحلية والمستوى المعرفي ... إلخ، لكن الصحيح بإطلاق أنه خلاف حول المصالح، والمكاسب، والسلطة، وبلهنية العيش في طراوة القشدة البلدي، بدأ مع الأمة مبكرا في فتن وجوائح قسمتها فرقا وشيعا متقاتلة تكفر بعضها بعضا؛ لأنها تعمل جميعا تحت راية الكتاب والسنة المفترض أنهما يعبران عن دين واحد، وأمة واحدة، ورب واحد!
إذن لا مفر عن استنتاج أن الدين في حد ذاته لم يكن هدفا واضحا لصراع الشيوخ وانقسام الفرق وتعدد المذاهب. إنما كان الانقسام تسهيلا للشيخ كي يتمكن من السيطرة على فريق من المسلمين يلتفون حوله، يمدهم بآرائه تشريعا لوجوده ووجودهم مع ضمان الاستمرارية والتنفيذ، وضمان رسوخه في سدة القيادة. •••
يلاحظ المراقب قيام تنافس الكهنة حتى داخل الفريق الواحد على الاستحواذ على أكبر جمهور، باستخدام فنون الخطابة والبلاغة واللباقة، مع سمت الورع الملائكي أحيانا، أو سمت القيادي المقاتل الجسور أحيانا أخرى، لكن جميعهم يقومون بعرض ما يرضي الجمهور ويحببه في داعيته المتبتل، أو شيخه المقاتل، مع الطعن في إيمان المنافسين؛ فمن سطع نجمه أصبح مرغوبا فيه من السلطان (مصطفى محمود، شعراوي، غزالي، زغلول، قرضاوي، هويدي ... إلخ) وذلك لشهرته وقدرته على التأثير في العوام، فيصبح شريكا في حاشية السلطان، وينال السيادة والسعادة مع الهبات والإنعامات ويعيش في المهلبية، أما الشيخ المقاتل فإنه عندما ينجح فإنه يعيش كالخفافيش ماصة الدماء في الكهوف والبوادي والأصقاع المتبدية في كهوف تورا بورا أو قندهار أو بوادي الشام وأصقاع العراق، مثل «فان باير أو دراكيولا » يطلب المزيد من الدم البريء دون أن يشبع أبدا.
وكان اشتداد المنافسة عبر التاريخ وراء فتح الباب لفكرة «التكفير» والإقصاء كحل ناجح مع المعارضين، فقامت الفرق الإسلامية تكفر بعضها بعضا، وقام كل طامع إلى السيادة يطرح تأويله الخاص للدين وفهمه له في سوق الأطماع، بتسويق فكرة مع تبديع وتكفير فكر كل الفرق الأخرى بحسبانه من يعرف وحده الإسلام الصحيح؛ وعادة ما يبدأ التكفير المتبادل بين التأويل الجديد وبين سابقه ليصل إلى صدام وقتال. وفي تاريخنا ما كان أكثر القتال للوصول إلى السلطة بالدين، بل إن تاريخنا ليس شيئا غير ذلك، وما أشنع ما ارتكبوا من مجازر علنية حتى أبيد بعد آل البيت فرق بكاملها مع كل ما أنتجت وقالت، وبقي الفريق المنتصر وحده سيدا؛ ولأنه انتصر فلا شك أنه كان على الحق، ولأنه من يملك الحق فهو يؤكد أن الحق واحد «فقط لا غير»، ومن ثم فغيره هو الباطل المطلق. وهكذا انتصر القتلة وأصبحوا أسيادا لنا. لقد جاءنا القتلة ومشايخ المنسر بالحق بعد أن أبادوا الباطل ومحقوه وسحقوه؛ العباسيون أبادوا الأمويين وأخرجوا جثث من مات منهم حتى يجلدونهم، ثم أين المعتزلة؟ أين المرجئة؟ أين الجهمية؟ أين المعطلة؟ أين مؤلفات ابن الراوندي والرازي؟ كانت الإبادة تمتد إلى الفكرة. إن من يحكم المسلمين اليوم فكر قاتل وسلطات قاتلة، وتشكيلات عصابية التكوين قبلية القوانين طائفية عنصرية، ولو رددنا كلام مقتول سابق لأصبحنا المقتول اللاحق. وكان أكثر هذه الفرق ضراوة، هو ما يسمى مذهب ابن عبد الوهاب الذي تحالف مع ابن سعود للاستيلاء على حكم نجد مسافة الحجاز، والذي يتم تعريفه بحسبانه تجديدا لمذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لذلك لا تجد مبدأ التكفير مرفوضا في بلادنا أو مستهجنا ممجوجا، بل هو يسير فينا مسرى الأمراض المستوطنة؛ لأنه لو لم يقم ابن عبد الوهاب بتكفير بقية الفرق فلن يحصل على أتباع، لن يحصل على زبائن ما دامت الفرق الأخرى سليمة صحيحة؛ فالتكفير هنا أداة إعلان، وأيضا - وهو الأهم - أنها أداة ترويج وتسويق يعمل بها لنفسه زبائن؛ لأنه لو قال إن الشيعة والمعتزلة والأشاعرة والأحمدية والبهائية على صحيح الدين، فإنه سيترك مجالا للاختيار، وربما ذهب الناس إلى هؤلاء وتركوه في بواديه قاعدا، إنها باختصار بلاغي ما قاله المثل الشعبي المصري: «ما يكرهك إلا ابن كارك»؛ ومن ثم كانت الاختلافات الحادة، حتى إنهم لم يتفقوا على الرب الذي يؤمنون به، وبصفاته، وذاته، وكلامه مخلوق أم أزلي؟ والنتيجة التكفير والتقتيل. وهي موضوعات صراع نخبة المسلمين المتخصصين، فما بالك بالعوام منهم؟ وتظل الفرقة أو المذهب يردد ذات الكلام، ويكرر ذات القصص، ويؤكد ذات الأساطير، كأنهم جميعا غير مصدقين لما بين أيديهم ويريدون التصديق بمزيد من التكرار والترديد دون أي جديد. ومع الصحوة أصبحت المدرسة والصحيفة والإذاعة والتليفزيون أماكن ووسائل مهمتها تعليم الناس الإيمان، وبات لا يخلو خبر محايد، أو برنامج حواري، أو محاضرة، أو حتى فنون درامية، من مهمة دعوية، حتى أمسى الحكم على الرأي حتى في أخطر الشئون ليس بمدى نفعه أو ضره، أو صوابه من خطئه، إنما بقدر ما دعم نفسه بالآيات والأحاديث أو أي حكاية من حكايات زمن التابعين وتابعي التابعين، صحيحة كانت أم مخترعة. والسبب الواضح هو أن الاستعانة بالمقدس والاستناد إليه في الخطاب الموجه للمسلمين، هو من أجل الإرغام على قبول القول والخضوع للأمر حتى يرضخ الجميع إخلاصا لما يعتقدون أنه دينهم، فظهرت مع الصحوة أسوأ أنواع الديكتاتورية لأنها الاستبداد بمساندة السماء.
في حوارات المشتغلين بالدين وموظفيه، لا يجدون بأسا من إظهار بعض الاحترام لمنجز الحداثة وقوانين العلم والعقل مداورة والتفافا؛ لأنهم عندما يجدون أن الحوار غير مجد، مع رغبة الداعية في فرض فكر يتنافى مع العقل ومنطقه، فإنه فورا يلجأ للحديث والآيات ليرضخ المسلم بعد أن تحاور بالعقل وأشبع رغبته في الشغب الحميد، ليقبل بعد ذلك ما يرفضه عقله احتراما لآياته وأحاديثه القدسية. وقد ساعد التطور التقني والعلمي في وسائل الاتصال والإعلام في تطور الدول نحو مزيد من الارتقاء العلمي والحقوقي، بينما في بلادنا تمكن حلف الشيخ والسلطان من استثمار هذه الأدوات والتقنيات لمسح وعي المسلمين وإعادتهم إلى الوراء قرونا؛ لأن مثل تلك الأجهزة لا تملكها في بلادنا إلا الحكومة التي هي الدولة نفسها (!) ومن ثم أمكن لهذا الحلف بتلك التقنيات العالية من إنجاز أكبر عملية تدجين مجرمة تمت في التاريخ لشعب من الشعوب في أقصر فترة زمنية ممكنة، وأصبحت الزيادة في دين الله ملعبا مشيخيا، حتى أصبح الحجاب فريضة سادسة، وعادت اللحية مع الجلباب الباكستاني لينتمي الجميع إلى هناك وليس إلى هنا؛ فدخلت البداوة الوهابية العنيفة إلى بلاد هي بطبيعتها الزراعية كانت الأميل إلى السلم، لتسيطر على مختلف الأقطار من فاس إلى بغداني وعلى كل بلاد العرب أوطاني، ثم لتتجاوز الجغرافيا مسافرة في كافة مناطق العالم أينما يعيش مسلم لإثبات أن العرب الفاتحين وإن لم يعد لديهم في البلاد المفتوحة جيوش احتلال، فإن لهم ثقافة حولت كل المسلمين إلى غزاة فاتحين طول الوقت، ينتمون بالولاء إلى حيث جغرافيا الإسلام، إلى الحجاز الوهابي، ثقافتهم بالصحوة الإسلامية جاءت بفتح جديد وغزو غليظ، يفقد فيه المواطن حريته من دماغه، فيسافر شابا يافعا واعدا متهربا متخفيا بلدانا وبحارا وصحاري، لكي ينتحر عند باب مسجد أو حسينية أو في تشييع عزاء في العراق، معتقدا أنه حر مختار فيما اختار، وأنه على الحق الذي لا شائبة فيه، وأنه قدم حياته فداء لدينه وربه وأمته!
ومن المبادئ الاستبدادية الراسخة بطول التاريخ، أنه إذا أردت نشر شئون لا تقبل المناقشة فعليك بالإرهاب؛ لأن الإرهاب يذهب باللب والعقل فيصبح الإنسان مذعورا مرعوبا، لا يجد معروضا أمامه في سوق الفكرة سوى أهوال يوم القيامة، وعذاب القبر، والجن، والعفاريت، يحيطون به في كل مكان، ومع الهلع والبحث عن الأمان من هذا الخوف المقدس يصبح المسلم على استعداد لتسليم أي شيء مقابل الأمان حتى لو كانت إرادته أو روحه، وهنا يظهر له الشيخ اللطيف الوديع ليمنحه الأمن والطمأنينة، إنها ذات قصة فاوست؛ فالشيخ أو الشيطان سيحمل عنه كافة أوزاره ببعض الفتاوى، ويطمئنه أنه المسئول عنه أمام رب الجبروت، ويأخذ منه روحه، إرادته، وعقله أيضا ، مقابل المسبحة وكتاب الأدعية وسجادة الصلاة، وحزاما ناسفا إذا كان من المحظوظين المختارين، لجنة عرضها السماء والأرض.
لو كنا آمنين ولا يحيط بنا هذا الخوف المقدس الرهيب لفكرنا وناقشنا، وربما قاومنا، وهنا يخسر الشيخ نفوذه كله، لكنه بالإرهاب الدائم يرعبك ليشل تفكيرك، ويشير إليك: هذا هو المخرج الآمن، وستجد هناك كتب فتاوى ابن باز وابن عثيمين وابن قرضاوي وابن جمعة، ثم عليك أن توافق على كل شروطه التي يعرضها عليك مقابل الأمان، لتصبح تابعا صالحا تعلو درجاته بقدر ما يقدم من علامات الخضوع والطاعة والخنوع؛ فهو يؤكد للمؤمن الطائع الخانع أنه قد امتلك كامل حريته؛ لأنه تحول من عبد للعباد إلى عبد للإله، بينما هو في الحقيقة أصبح عبدا لأسوأ أنواع العبودية؛ للمشايخ أو للسلطان أو لهما معا! وهكذا أصبح مشهد المسلمين ومشايخهم وسلاطينهم، مشهدا بائسا زريا يزري بالعقل وبالشخصية الإنسانية، موقف هو منتهى الاستخفاف بآدمية الإنسان، وبعقله، وبكرامته، أصبح الشيخ يقوم بتلعيب المسلمين على كيفه: «نام نوم العازب» ينام فورا. «قل دعاء طلوع السلم» يقول. «اعجن عجين الفلاحة» يعجن. «اقرأ دعاء دخول الخلاء» يقرأ. «لا تركب زوجتك إلا بموافقة القرداتي، بكلمة سر الليل المعروفة بدعاء النكاح» يقرأ، ليثبت الشيخ حضوره في أخص أوقات المسلم، حاشرا نفسه بين الزوجين.
وترى المأساة مجسمة كاملة الإهانة، محزنة، جارحة مؤلمة، عندما تتابع أسئلة المسلمين لمشايخ الفضائيات، وكم هي تافهة إلى درجة تصيب بالدهش والحيرة مما وصل إليه العقل المسلم. ويبدو أن مشايخ الفضائيات يعمدون إلى إبراز تلك التساؤلات المزرية عمدا، لزيادة تحجيم العقل المسلم داخل أضيق الأطر الممكنة، التي تضيقها الفتاوى يوما بعد يوم. استفسارات الفضائيات تشير إلى مسلم سلبي جاهل، لا يعرف كيف يتخذ أبسط القرارات في خصوصياته البشرية، تمت برمجته ليعود إليهم في كل شأن، سلبوه إرادته بمزاجه وكسب هو ضمان ألا يضل؛ فهذا الجيش من المشايخ هم من سيختارون له ما هو مضمون الصحة وسليم النتائج، حتى ضمر العقل المسلم ودخل في غيبوبة الاحتضار، في حالة موت سريري طويلة. •••
كانت السنة المحمدية هي أقوال وأفعال النبي محمد، فيها ما يجوز الأخذ به والاقتداء به طلبا للثواب، وفيها ما لا يصح الأخذ به لأنه كان من خصوصيات النبي، ومنها ما لا يأثم المسلم إن لم يأخذ به ودون أن يخرج على الملة. وبموت النبي ظهرت سنن من لا يوحى إليهم؛ كسنن الراشدين المهديين، ثم أخيرا ومع الصحوة الإسلامية وعودة الفتوحات بقيادة ابن عبد الوهاب، ظهرت سنن الأئمة الفقهاء والعلماء بطول التاريخ الإسلامي تحت مسمى الفتوى والاجتهاد الفقهي. وتضخم شأن الداعي والمفتي لتعلو منتجاتهم على المنتجات المحمدية التي يجوز أخذ بعضها وترك بعضها؛ لأن سنن العلماء كلها جبرية لا اختيار فيها، كلها ملزمة رغم أنها غير موحى بها، ولم يعلم بها حامل الوحي جبريل أصلا، كلها ملزمة رغم أنها جميعها إنتاج بشري، إنها وضعية. إن سنن الوحي على لسان النبي الذي لا ينطق عن الهوى فيها ما يجوز تركه دون عقوبة سماوية رغم أن صاحبها هو الله، أما سنن مشايخنا فلا يجوز ترك أي منها، رغم أن الله لم يوح لأحدهم بها، أصبحت سنن مشايخنا هي قول وفعل من لا يوحى له.
والملحظ الهام بشأن الفتوى أنها خصوصية إسلامية، فإذا كان الإسلام هو آخر الأديان وتمامها وكمالها وأشملها فلماذا هو بحاجة للفتوى؟ إن الفتوى هي استكمال نقص، وهو ما يشين ديننا وهو متكامل بذاته وليس به من حاجة لمشايخ الفتوى.
ناپیژندل شوی مخ