وفي حالات البيعة الثلاث لا وجود هنا للناس؛ ففي أنواعها تنعقد البيعة بعد تولي الخليفة بالاستخلاف أو بالشورى أو بالتغلب، هذا رقم 1، ثم تأتي البيعة في الترتيب رقم 2، والبيعة بهذا المعنى لا تضفي الشرعية على النظام بقدر ما هي إعلان خضوع الناس للحاكم الجديد؛ هي إعلان إذعان علني.
ويحاول د. زيدان جعل البيعة مبدأ إسلاميا مقدسا تم صكه قبل إقامة الدولة في عهد النبي. وهو منطق مردود عليه بمنطقه هو نفسه؛ لأنه إذا كانت البيعة هي التي تضفي المشروعية على الحاكم، وأن البيعة سبقت إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية لأن رسول الله - حسب اعتقاد المسلمين - لم يكن في حاجة للبيعة بهذا المعنى؛ لأنه نبي ليس بحاجة لمن يضفي الشرعية على فعل أو قول من أقواله؛ فالنبي مختار من السماء ويدعمه الرب وليس بحاجة لاستمداد الشرعية من بيعة بشرية ينشئ بها الرب لنفسه دولة إسلامية على الأرض. كما أن البيعة لم تؤد إلى إجماع كل الناس على الإله الإسلامي، فلا زالت الأرض تتقاسمها أديان شتى؛ لأن زيدان إن قصد بالبيعة مفهوم الانتخاب المعاصر فهو يعني الاختيار بين بدائل، والرسل لا يأتون باختيارنا بل من السماء، بايعناهم أم لم نبايعهم، وبيعة البشر لا تعطيهم شرعية لهم ولا لدولتهم.
البيعة في الخبرة النبوية
فماذا عن بيعتي «العقبة» كما يقول «بعقد تاريخي حقيقي بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية»؟ بنص كلام د. زيدان؟ ألا يعني ذلك أن الانتخاب/البيعة الإسلامية كانت المفهوم الأعلى والأرقى؛ لأنها تحققت في الواقع كعقد اجتماعي، وسبقت مفاهيم روسو التي كانت مجرد كلام غيبي، بل وسبقت وجود الدولة وإنشاءها، مما يعني إعطاءها قيمة عليا أعلى من الدولة؛ فهو يقول عن هذا العقد الذي تم في العقبتين: «تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة، من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلا، في الفكر الغربي الحديث، كانت تبريرا غيبيا لا نصيب له من واقع.»
يبدو الكلام هنا قويا مدعما ببيعتين حدثتا على الأرض، بل وقبل إنشاء الدولة، لكن الخطأ الوحيد هنا أو التلبيس على المسلمين، هو أن كل الكلام يبدو صحيحا خاصة وقائعه التاريخية التي لا يمكن إنكارها، لكن ما يمكن إنكاره - بل يجب إنكاره - أن بيعتي العقبة كانتا لمحمد
صلى الله عليه وسلم
لإنشاء دولة، وهنا خلط للأوراق الذي يفوت على العين التي لا تدقق فيما يسوقه لنا سادتنا أهل الدولة الإسلامية؛ فلم يكن هناك أي اتفاق في البيعة على إنشاء دولة بموجب تلك البيعة، ولا توجد أي بيعة في الإسلام منشئة للدولة كما يزعم الدكتور زيدان، هو يريد تأكيد أن الإسلام دين ودولة وليس مجرد دولة، بل دولة مستكملة الشروط والأركان التي وصلت إليها الدول المعاصرة المتفوقة. وهو في واقع الخبرة الإسلامية لا وجود له بالمطلق؛ لأن الإسلام كما جاء كان دينا للحياة وللآخرة بالعبادات والثواب والجزاء، نعم حدثت بيعات وليس بيعتين؛ فهناك العقبة الأولى والعقبة الثانية، وبيعة الرضوان المسماة ببيعة الشجرة في الحديبية، لكن أيا منها لم يرد فيه شيء عن الدولة ولا السياسة ولا نظام الحكم. ويبدو لنا أن الإسلاميين لديهم شيء من الارتباك والتخبط في هذه المفاهيم، حتى إن الدكتور زيدان نفسه يفسر البيعة لنا ثلاث مرات، كل مرة بمعنى مختلف، فالمعنى الأول في قوله: «إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي»، وفي قوله: «فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقدا حقيقيا تاريخيا تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة.» وأن هذه البيعة كانت «من أجل تحقيق رسالة سامية». وهكذا لم تعد البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي؛ لأن الهدف في القول الثاني هو من أجل تحقق رسالة سامية؛ أي إنها كانت شأنا دينيا صرفا داعما للرسالة كي تتحقق؛ فهي مرة عقد اجتماعي تأسست عليه الأمة، ومرة كانت أساسا لتأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، ثم مرة تحقيق لرسالة سامية. إن دقة المفاهيم عند حضراتهم مفقودة بالمرة.
للتدقيق نعود إلى ما حدث ليلة العقبة الأولى وليلة العقبة الثانية اللتين ركز عليهما الدكتور زيدان، نبحث عن الدولة، أو عن العقد الاجتماعي، وعن الإرادات الإنسانية الحرة، وعن عقد تأسيس المجتمع الإسلامي، وأيا ما نجد منها، سيكون في صف الدكتور وإخوانه المسلمين، وعسانا نجد خيرا.
نقرأ حوادثه سنة 11 للهجرة في أي كتاب من كتب السير والأخبار والحديث، ولنأخذ هنا من المنتظم؛ إذ يحدثنا أن «من حوادث هذه السنة، أن اثني عشر رجلا لقوه
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ