مقدمة
عيوب العائب
المرأة
هو وهي
التعصب
الكهول والشباب
أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان
ليلة القدر
المحتلون يخرجون من مصر
مقتل فرر
العمال في البلاد العثمانية
الغلو في المدح - التذلل - الذي ينقصنا أكثر من الذي عندنا
جراغان في أمسها وفي يومها
خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاء
ماذا قال وماذا قالوا
الإسراف الإسراف
الاسترقاق في أيام الحرية
حرية الفكر
أحد المشاهد الرائعة
بطرس غالي في موكبه الأخير
الشقاق
مقدمة
عيوب العائب
المرأة
هو وهي
التعصب
الكهول والشباب
أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان
ليلة القدر
المحتلون يخرجون من مصر
مقتل فرر
العمال في البلاد العثمانية
الغلو في المدح - التذلل - الذي ينقصنا أكثر من الذي عندنا
جراغان في أمسها وفي يومها
خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاء
ماذا قال وماذا قالوا
الإسراف الإسراف
الاسترقاق في أيام الحرية
حرية الفكر
أحد المشاهد الرائعة
بطرس غالي في موكبه الأخير
الشقاق
الصحائف السود
الصحائف السود
تأليف
ولي الدين يكن
مقدمة
الصحائف السود مقالات نشرت في جريدة المقطم الشهيرة متتابعة، أردت أن أنتقد بها بعض ما يقع في معترك هذه الحياة، واخترت حين بدأت نشرها اتخاذ توقيع «زهير» تكتما؛ لكي لا يمنع رجال الأدب من نقدها حق الود، ولكن عرفني إخواني فرجعت عن الاختفاء وعدت إلى توقيعي الأصلي، واستهللت بعض المقالات من صحائفي السود بأبيات ومقطعات نظمتها على ما يناسب المقام، وكنت أود أن أستمر في كتابة هذه الفصول حتى أبلغها المائة أو الأكثر غير أني خفت ملل القراء؛ فاكتفيت بالقلائل وسأعود إلى مثلها بعد أن اختار اسما جديدا.
الله ألهمنا أن نقول وبصرنا بما نقول فيه، فعلى أهل السمع أن يسمعوا ويعوا، ومن أصلح خطأ لمخطئ مثلي استحق شكره.
ولي الدين يكن
عيوب العائب
لقد آن أن يعلم الجاهل
ويصحو من نومه الغافل
هوى زال من بعد ستين حولا
كذلك كل هوى زائل
فحل فؤادي جمالا كذوبا
لقد غرك الزخرف الباطل
فما أنت مني إذا مد جلا
وصادك من بعد ذا الحابل
عيون المها لا تصيب القلوب
وللعقل من دونها حائل
فقل للحاظ ورباتها:
لقد أخطأ النبل والنابل
إذا ما رجعت إلى شيمتي
فأهون بما يعذل العاذل
موالي جاروا على عبدهم
ولا بأس جائرهم عادل
فكم قايسوه بمن قايسوا
وكم ثاقلوه بمن ثاقلوا
ولما رأوا فضله راجحا
بكوا أسفا أنه فاضل
لي الله ما لي أجامل قوما
أجادوا الصنيعة لو جاملوا
إذا أنا واصلتهم قاطعوا
وإن أنا قاطعتهم واصلوا
أنا - أعزك الله - شيخ محدودب الظهر، أبيض الفودين، متثاقل الخطا، مرتجف الأعضاء، أبو تجارب، ابن ستين، أخو أسفار، جواب أرض، تقاذفت بي فلوات وتلقفتني فلوات. فكم سهل كالصحيفة مشيت به مشي القلم، وكم كهف مظلم كالفؤاد أقمت به مقام الأمل، صرت إلى كثير من أقطار الأرض لا مباليا سرى ولا خائفا تهجيرا، ما صاحبي إلا عصا أتوكأ عليها في تسياري، وأقيس بها أعماق مخاضاتي وقد ضج نضوي ومل ركابي بعد أن فت الزمان في عضدي وأشل بالكبر ساعدي، وإذ وهن العظم مني ولم تبق الأيام من شبابي إلا تباريح ذكر يجددها طلوع البدر وهبوب النسيم وضحك النور وتسلسل الماء واصطفاق الراح فقد آن أن أخلد إلى مصر وأنشر بها كتاب شجوني.
عرفت في بعض أسفاري شيخا هو أكبر مني سنا وأوفر تجربة، وما زال ينتقص الدهر من أطرافه حتى أصبح كالترس؛ له وجه كحجر الشحذ وأنف كاللولب تحسبه ثابتا وهو يدور وناظرتان كمصباحي مسجد في أخريات الليل. تضاءل نورهما وذهب لمعانهما فهو يتخيل بهما الأشياء ولا يراها. أقام بإحدى بوادي نجد جم الكلاء خصيب المرعى، واتخذ له من أغصان الشجر بيتا يأوي إليه من قر الليل وحمارة القيظ، فلزمت هذا الشيخ أياما يحبوني نصحه ويعلمني علمه، فكان مما قال لي: إذا هممت بعيب الناس فاجعل نفسك أول من تعيب، فمن لم يعلم من نفسه زلاتها لم يعلم من الغير زلاته ومن كان بعيدا عن معرفة حقائق ذاته فهو عن معرفة حقائق الناس أبعد. وقد عاهدت الله لا آخذت امرأ قبل مؤاخذة نفسي وها أنا ذا موفيها هنا حسابها لكي أنتقل إلى غيرها خالي القلب قائم الحجة.
كان أبي رجلا من أغنياء التجار بالبصرة، لم يرزق من الذكور غيري، ولا من البنات غير أختي فاطمة وهي أصغر مني بستة أعوام. علمنا كلينا القراءة والكتابة، وأحضر لنا مؤدبا يؤدبنا؛ فروينا الأشعار وحفظنا سير المتقدمين، وبرعنا في النظم والنثر، فلما انقضى زمان الطلب وبلغت مبلغ الشباب اتخذت رفقة لي من أبناء التجار، فكنا نخرج أيام الجمعة خارج البلد ونجلس على شاطئ دجلة، فيؤتى لنا بالطعام وبالشراب فنصيب منهما حظا وافرا. كل هذا ونحن نساقط حديثا كالدر وهي عقده حتى إذا مالت الشمس لتغرب نهضنا راجعين وتودعنا على أن نتلاقى في الجمعة الآتية. وكان أبي مشتغلا بالعبادة منقطعا عن الدنيا فلا يحب الراح ولا شاربيها، ولا الميسر ولا من يجيلون أقداحه. وكنت أقول له إني كنت في رفقة لي نسمع الواعظ وإننا خرجنا بعد ذلك إلى بعض البساتين فصلينا فيه صلاة العصر وصلاة المغرب فيصدق قولي ويدعو لي بالخير. وقد عاش أبي ما عاش حتى قضى نحبه ولم يعرف من أسراري شيئا، ولا أنسى لومه إياي ذات يوم على قول الشعر وقوله لي: «يا بني لا تكن شاعرا. إن الشعراء لمن أهل النار.» فتبسمت في وجهه ووعدته طاعة وامتثالا، وأخفيت عنه منذ ذلك أشعاري.
فلما استحوذت على إرثه بعد وفاته جعلت أبذر المال تبذيرا، وهمت على وجهي في اللذات واتخذت لي من الندمان كل خفيف الروح ظريف الشمائل، وولجت معاهد المقامرين وأهل البطالة، فما دار علي الحول إلا أملقت إملاقا. وكانت أمي خطبت لي إحدى فتيات البصرة، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها ذات وجه صبيح وأدب غض وخلق سوي، فتزوجت بها ورزقت منها بنتين هما آيتان في الجمال. وتزوجت أختي من رجل غني شرس الخلق بخيل جاهل، ولم تسألها أمي رضاها، بل رغبت فيه لكثرة ماله؛ فكانت عاقبة التزويج شرا وماتت أختي في روق شبابها غما وحسرة، ولحقت بها أمي بعد أشهر قلائل.
وحين أجدب حظي وأفل نجم دولتي، ولم يبق لي طارف ولا تليد، وأمسك أصحابي عن إقراضي وبري، وازدحم على باب بيتي غرمائي عمدت إلى الشعر أستدر به هبات قوم من أولي الثراء، وأهز به أعطاف كبريائهم، فما أفادني ذلك سوى ذل السؤال وإثم الكذب؛ هنالك وجهت امرأتي وبنتي إلى بعض إخوتها وهم يسكنون ضيعة لهم خارج البصرة، وودعتهن ودموعي تجمجم كلامي حتى إذا أرخى الليل سدوله خرجت تحت ظلمائه؛ لكي لا يراني مطالب لي فيأخذ بطوقي، وفارقت بلدي وأرض عشيرتي ... ولم يهنأ لي عيش بعد ذلك، وأيقنت أني كتب علي الشقاء ما دامت الحياة.
فإذا دجا الليل وخلوت إلى همومي عاودتني الذكرى فنبا جنباي عن مواضع الرقاد، وإن هبت الصبا جددت حنيني واستعادت أشجاني، وأخبرني جماعة من أهل البصرة لاقيتهم في بعض أسفاري، وهم لا يعرفونني، أن بنتي كبرتا وأن قد كثر خاطبوهما، وأن أمهما أبت تزويجهما وقالت: لا أحب أن أفرح وأبوهما غائب، ولقد حاول إخوتها أن يثبتوا لها موتي فلم تصدق.
هذه قصتي أو هي واقعة من وقائع حياتي ذكرتها لتكون بيانا لسيئاتي، ولقد استقام بعدها أمري في فاقتي، ولم تحل فتن الحياة دون طلابي الحكمة وتجريبي الأيام، ثم رجعت إلى البصرة ولبثت بها حتى تزوجت بنتاي، فاستصحبت امرأتي لتكون معوانا لي في كبري، وهبطت مصر وإني لن أبرحها إلى أن ألقى حتفي.
أقول: قد تقدم في بيان ذنوبي ما لا يسعه العفو ولا يمحوه القدم. هذا مع ضعف في الأخلاق وسوء في التربية، وكيف يختار الكذب على أبيه رجل حسن تأديبه! وأنا بني الشرق لتزكوا أحسابنا ويجم مالنا ويعظم نشبنا فلا يفيدنا ذلك إلا غواية في الشباب وندما في الكبر، ولو كان أبي أحضر لي مؤدبا يعلمني الحكمة مكان الشعر أو مع الشعر أو أدخلني مدرسة من المدارس التي ليست ببلادنا لثقفت الغربة عودي وأغناني تعلم النافع عن طلاب النفع بالسؤال.
كم من فتى مثلي طيب الأرومة ثابت الأصل طويل النسب رفيع البيت ربي على الدلال، ووثق بثراء أبيه فرمى بذهبه يمنة ويسرة، فلما خرج عن ماله خرج عن مجده، ولم يدخر ما يكشف غماءه من علم تعلمه في صباه فصار إلى شقاء الجد ونكد الطالع، وضل في هذه الدنيا ضلالا.
قالوا إن تعليم البنات مهيع إلى إفسادهن، وما في القائلين بذلك من تعلمت أمه وعرف فسادها. إن هو إلا لجاج مبين. أبى القدماء مزايلة عاداتهم فضلوا وأضلوا، وحسبوا عصر بنائهم مثل عصرهم فشقوا وأشقوا. حتى إذا كانت العاقبة إذا هم في أجداثهم راقدون، لا يسمعون فتقص عليهم قصص من خلفوا ولا يتعظ بمصارعهم من عاش بعدهم ورأى خطأهم، ومن لا تعظه العبر لا تؤالمه وقعات الصروف.
المرأة
ألا ما لسيدتي ناحبه
بروحي مدامعها الساكبه
يكاد على خدها الاحمرار
يبين لناظره لاهبه
وليست بمعرضة في دلال
ولكن أرى أنها غاضبه
ألا صدقت هذه العبرات
وقد كنت أحسبها كاذبه
لمن يذخر الود مسلوبه
إذا هو أرضى به سالبه
تمنيت لو كتبت ما بها
ولكنها لم تكن كاتبه
تفتش ليست ترى صاحبا
يقاسمها الحزن أو صاحبه
لقد غلب اليأس آمالها
وآمالها كانت الغالبه
أزيلي الحجاب عن الحسن يوما
وقولي مللتك يا حاجبه
فلا أنا منك ولا أنت مني
فرح ذاهبا ها أنا ذاهبه
شهدت مصارع ثلاث نسوة؛ إحداهن قتلها الاستبداد، والثانية أرداها الجهل، والثالثة أودى بها الحجاب. فقل في ثلاثة أنجم طلعت بأفق الصبا ثم احتواها الأفول. شباب غض أذوى ريب المنون بهاره، وأنس قريب أبعدته وحشة القدر. فأما التي قتلها الاستبداد فامرأة جركسية كانت مقيمة مع أهلها بقرية من قرى «العزيزية» التابعة لولاية «سيواس». اشتراها أحد رجال «س ... باشا» من أبيها بخمسة وعشرين جنيها، فلما قدم بها الأستانة على سيده أهداه إياها، فأسكنها حرمه وكساها وحلاها حتى إذا خطرت لديه رأى في مواطئ قدميها مواضع لجباه العاشقين، فخطب ودها فنظرت إليه بعينين نجلاوين لا واقي لقلب رمتاه وقالت: مكاني في خدمة الأمير أحب إلي مما عداه.
فما زاده ذلك إلا حبا لها واستهتارا بهواها، وما زادها إلا نفورا منه وبغضا، فتمكنت ذات يوم من إنفاذ كتاب لأبيها تشكو له ما تجد من اشتياقها إلى أمها وأخواتها، وتعلمه بما تحس به من اضمحلال قواها، فأصابت شكايتها موضع الرحمة من فؤاد أبيها، وأقام أياما يتزود للسفر إليها ... فلما عاد من سفرته قالت له امرأته: كيف حال من بعتها؟ فقال: رحمة الله عليها ...
وأما التي أرداها الجهل فغانية كتمثال فينوس. استصحبها أبوها إلى بيروت وهي في الخامسة من عمرها، وأدخلها هناك إحدى مدارس الراهبات أخذا برأي صديق له، فلما أتمت علومها التي في مدرستها أخرجها أبوها وقد بلغت الثالثة عشرة، وأوجب عليها الحجاب ومجاورة البيت، ومنعها مطالعة الكتب الإفرنجية. ولقد قالت له: إذن لم علمتني ما لا تريد أن أعمل به؟ فقال لها: لي الأمر وعليك السمع والطاعة. فدعي الجدال ولا تتشبهي ببنات النصارى، أنت - والحمد لله - مسلمة وأبوك مسلم وأمك مسلمة، فامتثلت المسكينة وفي النفس ما فيها.
فبينا هي ذات يوم في غرفتها إذا بأمها داخلة عليها، فما تقابل النظران إلا بادرت الأم إلى ابنتها قائلة: جاء أباك خاطب يخطبك منه، فقالت الفتاة: لا أريد الزواج. قالت الأم: لكنه فتى جميل كأنه أحد أبناء الملوك. قالت الفتاة: ما لي وجماله وغناه ومشابهته أبناء الملوك، أنا لا أعرفه فلا أريده.
ثم مضى شهران وفي أول الثالث زفت المجهولة إلى المجهول، ثم مضى شهران فدخل عليها زوجها يوما وفي يدها صورة رجل مكشوف الرأس عليه ثياب قواد الجنود وفي يده قبعة؛ ففار دم زوجها وثار غضبه وأدركته غيرة الزوج فعمد إلى خنجر كان يحمله فشق به بطن امرأته فإذا هي جسد بلا روح، ولما تأمل الناس ورجال القضاء الصورة التي أغضبت الزوج إذا هي صورة واشنطن الشهير محيي مجد أميركا!
وأما التي قتلها الحجاب فقد تزوجها رجل من أهل أدنه شديد الغيرة. دخلت بيته ليلة زفت إليه ولم تخرج منه أبدا، حتى إذا مرضت وثقل عليها المرض واشتد الألم دعا زوجها طبيبا، وأخذ يصف له ما تشكوه. فقال أنا لا أداوي على السماع ولا بد من رؤية المريضة وفحص موضع العلة. فأبى الزوج الأبي ذلك. وما مضت أيام قلائل إلا وقد أزروها في أكفانها، وشيعوها إلى منزلها الأبدي. من ضريح إلى ضريح.
وأعرف نوادر غير هذه لا أكلف نفسي ألم ذكرها، ولا أهب القراء كمد العلم بها. هذا فؤاد كالبركان. له أيام يثور فيها وله أيام يسكن فيها، وكم لي عند الأيام من ثارات، ولكن ضعف الطالب وعز المطلوب.
على أنني راض بأن أحمل الهوى
وأخلص منه لا علي ولا ليا
فواعجبا، الله يخلق هذه الصور فيمسح عليها من الجمال ما يستخف لب الحكيم، ويودع في تلك الأرواح لطف الإلهام ونور اليقين، فإذا هي تكاملت في أشكالها تخاطفتها أيدي المتغلبين فقالوا هذا متاع حسن ولهو ومسكن لذة ومستقر هوى! ضلال في ضلال.
أما لو كان في الغانيات مثل جورج ساند، ومثل مدام دونواي لتقاعست همم المستبدين.
رأيت رجالا يبذرون المال تبذيرا فإذا أقاموا الأفراح نصبوا السرادقات، ورفعوا الأعلام، وأوقدوا الزينات، ومدوا الموائد، وجاءوا بالمغنين والمغنيات واستكملوا أسباب المسرات. كل ذلك ليدخلوا بامرأة لا يعرفونها. خطبوها لأنها خلقت لتخطب فإذا صارت في أيديهم أياما ملوا حديثها وسئموا قربها وراحوا يفتشون على غيرها، فمثلهم كمثل الطفل المدلل يرى اللعبة فيبكي لأبيه وأمه حتى يبتاعاها له، ثم لا يلبث أن يحطمها ويطرحها جانبا ليأتيا له بغيرها.
هذا عصر غارة شعواء يشنها المجددون على شيعة الرأي القديم، وما ضرني وقد اشتعل الرأس شيبا أن أتقدم صفوف الشبان، فإن لم أكن صاحب أمرهم فما علي أن أكون حامل رايتهم، فمن لي بصاحب تحرير المرأة أن ينفض عنه تراب القبر ويخرج إلى الأحياء؛ ليرى مبلغ استفادتهم من رأيه. أما إنه لو فعل - ولن يفعل - وقرأ ما يكتبه قوم في إبقاء الحجاب والتحكم على أمهات الأجيال الآتية لكر راجعا إلى مرقده، وأغمض عينيه حتى لا يرى وأذنيه لكي لا يسمع، وأنشد قول الحكيم القديم:
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم فيها والعيش مثل السهاد
هو وهي
فصل من فصول الرواية
عجبا ينام الناس ليلتهم
وأبيت أسهر ليلتي وحدي
وتظل عندهم أحبتهم
وأظل ليس أحبتي عندي
أأكون سيدهم وحاسدهم
ويفوز جدهم على جدي
فلأملأنك يا عيون قذى
ولأسهدنك في الدجى سهدي
ولأملأنك يا قلوب أسى
ولأوجدنك دائما وجدي
لا لا أموت بحسرتي أبدا
ويسر قوما عيشهم بعدي
في قصر من قصور الملك تحت ليلة من ليالي الشتاء متغورة النجوم، حالكة الجوانب؛ رجل كالراهب المتبتل، بادي الكمد، مستطرد الخطوات، زائغ البصر، متخاذل الأطراف ينشد بلسان حاله هذه الأبيات.
أخذ يتمشى في حجرته ساعتين أو أكثر مطرقا مفكرا سئما كليلا. فلما توسط المكان رفع رأسه ونادى: يا هجران، فدخلت عليه بيضاء اللون، صفراء الشعر، بين القبيحة والوسيمة. فلما مثلت بين يديه قال: أما آن لك يا هجران أن تصدقيني، وتتعظي بصاحبات لك حلت بهن نقمتي. فأطرقت المرأة مليا ثم قالت: أما إذا لم يكن من الصدق بد فلا يسعني إلا الإخبار بما أعلم. - هاتي ما عندك. - الذي أعلمه أنها لا تحب مولاي، ما رأيتها يوما تطرب لذكره كما تطرب ضرائرها، ولا رأيتها تعجب بشيء يكون فعله كما تعجب أترابها، ووالله لا أدري ما لها، ولقد أخبرتها إحدى جواريها خبرا. - ما قالت لها؟ - قالت لها إن مولانا قتل اثني عشر تلميذا. صب في أفواههم الرصاص، فبكت وقالت: اللهم هذا ظلم لا يرضيك. - كل ما تخبرينني به خارج عن سؤالي. أنا أريد أن أعلم كيف أحرقت الستارين. - هذا سر لا يعلمه سواها. - اذهبي فقولي لها إني قادم عليها.
فخرجت الوليدة وبقي هو وحده ينظر إلى السقف ولا يرى ما فيه، ثم تقدم إلى خزانة سلاحه فأخرج منها ثلاثة مسدسات جعل اثنين منها في كمه وأبقى الثالث بيمناه، وخرج بعد ذلك إلى حيث خرجت الوليدة. •••
هي بنت أربع وعشرين سنة هيفاء ناحلة يعلوها اصفرار من خوف، لها بسمات كأنها بكاء، عليها ثوب أزرق يحملها سرير مفخم كأنه صنع لها نعشا وعلى رأسها وصيفة لها تنصت إلى حديث كانت بدأته. لله نفوس يسكنها الأرض لتلبث فيها قليلا وترجع إليه سراعا، قد تتلألأ في بيت من الشعر ثم تسمو إلى مقاصير الملوك فتقيم بين عز الجمال وذل الأسر حتى تفيض حيث تخشع الأبصار وتسكن خافقات الجوانح.
فاستطردت هي حديثها قائلة: نعم يا جؤذر بين شجيرات الليمون في حديقة الشتاء، للحين المكتوب والقدر المتاح. كنت غداة يوم نبهتني أصوات العصافير تحت كوة حجرتي، فخرجت متبذلة مرسلة الغدائر، أشم الليمون على أغصانه ونفسي لا تطاوعني إلى اقتطافه، وإني لكذلك إذا يد تمس أحد كتفي، فالتفت فإذا هو كالسبع وقف شعره بيافوخه، وتطاير الشرر من ناظريه، فتأمل وجهي قليلا وقال لي: لا تخافي. فوالله ما طاب لي عيش بعدها ولا قر بي قرار، ولقد رفعني قدرا وجعلني ثالثة نسائه وهو مع هذا كله موتي الذي أتوقع دنوه، وبلائي الذي أخاف نزوله، هنالك غلب عليها البكاء فلم يسمع بالمكان إلا شهيق متقطع، وأعقب ذلك سكون لا يشوبه حراك.
أيها العرش لا تفتن ملكات الحسن فقد بكت الساعة فوقك بلقيس. •••
مكان رحب، فيه ما يزيغ الأبصار من متاع الدنيا، يتوسط رحبه شخصان تتكسر عليهما أشعة تلك الثريات وهي تتلألأ بأنوار الكهرباء، ثم هو وهي ...
هو يقول: رب دلال أدى إلى قطيعة ورب عناد أحال النعم نقما، وبيني وبينك لو شئت وفاق تزيده الأيام رونقا وإحكاما، وبيني وبينك لو رمت خلاف يقضي به الموت الزؤام. لا تخدعيني بهذه العبرات، أنا أملك منك لها، فكم خدعت بها سفيرا وكم استوجبت حقا، ولما خلوت إلى آرابي ضحكت ضحكا، ما أظنك تحسنين مثله خبريني ما يشكيك مني. - سوء ظنك لا غيره. - أهذا مبلغ أدبك وأنت ربيبة قصري ونائلة نعمتي. - من وسرف، ثم تهمة بعد ذلك لا تسفل إليها نفس في الوجود. - ألم تحرقي الستارين لتضرمي علي قصري. - كلا. - أتحبينني. - كلا. - ألا يروقك أن تعيشي معي مذ الآن. - والله ما استطبت ولن أستطيب مما أنا فيه شيئا، وإذا استطالت يمين القدرة على بعض الجسم، فكم فؤاد يقصر عن إدراكه المتناول. - ليكونن ذاك الفؤاد إذن مطعم الدود، وليسكنن خفقانه حيث نشأت كبرياؤه، اشربي هذه الكاس التي على الخوان.
تتقدم هي بوقار إلى الكاس وترفعها بيمينها إلى فمها، ثم تنظر إليه بعينين يخالطهما نعاس الموت وتقول: غدا نتقاضى إلى من لا يخشى ظلمه ... •••
هو يقول لجماعة من خاصته: علي بأبي لحية. وما هو إلا أن وقف بين يديه، يتكلم الشر على وجهه وهو صامت، فلما رآه سيده قال: قضي الأمر، وقد ألحقت بها اثنتي عشرة جارية من جواريها. أنا جئت بالذخر الغالي فانظر إلى أي الكنوز أنت به صائر ... •••
سيدتان على قبر امرأة تتحادثان: - من لعيني حبيبتنا أن تنظرا إلى سلانيك، فلقد نظرنا إليه ساعة رحيله. - من العجائب أن يكون بين الناس من يبكون أيامه، وينسون مثل ساكنة هذا الضريح.
التعصب
لي رفقة أمجاد وأبناء أمجاد، أوتوا الفضل ورزقوا النهى، تجمعني وإياهم مجالس سمر كلما خفت عنا تكاليف الحياة، ففيهم الشاعر والكاتب والعالم والطبيب والفيلسوف، كل يفيض من مكتسبات علمه ما يشرح صدور مستمعيه. قال قائلهم ذات يوم: يا ليت فينا فقيها يعلمنا من ديننا مثل ما نعلمه من دنيانا. قالوا له: وماذا يهمك من دينك وأنت مصدق له لا تشك في أمر من أموره؟ قال: يا سبحان الله! وهل في زيادة الخير بأس؟ قالوا: كلا. فقال أحد الرفقة: غدا آتيكم برجل فقيه أعرفه منذ زمان مديد يسكن دارا مجاورة لداري. قالوا: ذلك فضل نذكره لك مع ما سبق من مثله.
وفي مساء اليوم التالي انتهينا إلى بيت رفيقنا الطبيب، فانتظم مجلسنا وأقمنا ننتظر قدوم صاحبنا مع الفقيه، وقد أجمعنا على التزام الوقار، وترك ما كان يقع بيننا من المزاح وإن لم يتجاوز حد الأدب والاحتشام. وما طال بنا الجلوس ساعة إلا وصاحبنا الكاتب داخل علينا يقود رجلا كالجمل على رأسه عمامة كالهودج، متلفعا رداء كأنه قطعة من أديم الليل، فحيانا وحييناه، وأجلسناه في صدر المجلس، وقلنا لشاعرنا: هات شيئا نفتتح به حديثنا. فقال: عن لي خاطر ليلة أمس بعد أن نزعت ثيابي، ولزمت فراشي فقلت أبياتا ثلاثا أظنني لم يسبقني إليها غيري.
فتبسم الفقيه وقال : أنا أحب الشعر وإن كنت لا أقوله، فهات ما عندك، وما أراك إلا مطربنا، فانطلق الشاعر ينشدنا قوله:
سيدتي إني امرؤ شاعر
آخذ من حسنك ما أنظم
تلهمني عيناك معنى الهوى
فكل ما أقوله ملهم
قد كنت أرجو منك لي رحمة
لكن قلوب الغيد لا ترحم
قال الفقيه: المجاملة تقضي بمدح الأبيات والحق يقضي بنقدها، فأي الحكمين أحب إليك؟
قال الشاعر: حكم الحق.
قال الفقيه: هذه أقوال ليست بعصرية، وللعصر العشرين ذوق خلاف ما كان بالعصور الماضية، هلا قلت مثل إسكندر سومي الفرنسوي - وقد توفي منذ نصف قرن - في قصيدته التي سماها الفتاة المسكينة: «أنظر إلى الحجر حيث تفجرت آلامي، ألتمس آثار المدامع التي ربما أراقتها عليه أمي عند تركي.» هلا قلت كما قال أندره شينييه في قصيدته التي سماها الصبية الأسيرة: «لئن مرت أيام فربما حلت أيام، فواأسفاه، أي شهد لم يمج مذاقه وأي بحر لم تهج أمواجه؟» هلا قلت مثل لا مارتين في قصيدته التي خاطب بها البلبل: «وهذا الصوت الغريب الذي أسمعه أنا والأملاك، وهذا الزفير الخالص في الليل. هما من معانيك أيها الطائر المطرب.» فلم لا تقولون أيها الشعراء مثل هذه المطربات؟
فأكبرنا الرجل وزاد في عيوننا هيبة، وقلنا: فقه وأدب، هنا والله ما تقر به الأعين. وتركنا الشعر وانتقلنا إلى غيره، فما فتح أحدنا بابا في علم يعلمه من طب وحكمة إلا نفذ منه ذاك الفقيه، فأفاد وأجاد، فداخلنا الريب في حقيقته، وأخذ كل يسر إلى من بجانبه ما يراه في الرجل، فقلنا نستنطقه في علمه الذي هو الفقه، ونستفتيه في أشياء ربما كنا غير عارفين بحقائقها، وإذا كان هذا قدره في أمور لم ينقطع إليها، فكيف به في ما هو منقطع إليه؟ فقلنا له: أتأذن لنا في استيضاح ما أشكل علينا من أمور الدين؟
قال: نعم، سلوا ما شئتم.
قلنا: هل لبس القبعة (البرنيطة) محظور دينا؟
قال: كلا، وفي لبسها منافع جمة، فهي تقي الرأس والوجه حرق الشمس، وتحفظ العين من أشعة نورها.
قلنا : هل حجاب المرأة واجب شرعا؟
قال: لا، وأي شرع يكون شقاء على العباد.
قلنا: ولم يتخرص بعض الناس بأن ذلك حرام وذاك واجب، ويقيمون القيامة علينا وعلى من يقولون بمثل قولك الآن؟
قال: يفعلون ذلك تعصبا واستبدادا، وهم يعلمون من الأشياء ما تعلمون، وهم بعد ذا يحلون ما يريدون أن يجعلوه حلالا، ألا ترون كيف ينظرون إلى النساء يجررن أذيالهن ويتهالكن في مشياتهن، وليس على وجوههن إلا براقع تشف عما تعلوه. فهن حاسرات مقنعات، ولكن لا يعارض في ذلك معارض، ويرون الناس يأتون من الموبقات ما تندى له الجباه وتحمر الوجوه، فلا يعارضونهم ولكن ويل لمن وضع على رأسه قبعة واجتاز طريقا! ومنهم من يقول: الربا حرام، وأوقاف الأستانة في زمان الاستبداد كانت تقرض المال بالربا، فتهب الرجل قدر حاجته من القرض، وتجعل الربح ثمن مصحف يشتريه من الولي ثم يهبه إياه، وأنتم تعلمون الحيل الشرعية وما يأتيه أكثر الناس من المتمسكين بالدين.
قلنا: هذا كلام لم نسمعه من غيرك من رجال الدين، ولكن هل تتكلم مع إخوانك الفقهاء في مثل هذا الباب؟
قال: هذا صعب، وأخشى أن أستثير غضبهم فيصيبني منهم أذى كبير، وهل فيهم من يجهل شيئا مما ذكرت لكم؟! ولكنهم متعصبون، والمتعصبون لا تجدي معهم المناظرة ولا يقنعهم الدليل.
قلنا: وكيف الخلاص من هذه العادات التي أثقلت أعناقنا وأطالت شقاءنا، وكلما هممنا بالفوز في معترك الحياة تكاثرت علينا جموع التعصب فانقلبنا مخذولين مدحورين؟
قال: عليكم أن تشكوا إلى الشعب استبداد رجال التعصب، ولكن بعد أن تعلموا الشعب أو تكثروا فيه عدد المتعلمين، وأنا لي في بيتي مكان يحضره كل جمعة أناس يستمعون دروسي، وهم قليلون ولكنهم مستمرون على الحضور، ولا أقرأ لهم إلا ما يفتح أذهانهم وينير عقولهم. ولما بلغ إلى هذا الموضع من كلامه نظر في ساعته ونهض واقفا واستأذننا في الانصراف، فودعناه آسفين.
فلما ولى قلنا لصاحبنا ولم يذهب معه: على من قرأ هذا الأستاذ؟
قال: على مشايخ قرأ عليهم غيره.
قلنا: ومن أين له هذه الحرية؟
قال: الحرية طبع لا تطبع.
ثم سألنا صاحبنا أن لا يبخل به علينا كلما وجد سبيلا إليه، فوعدنا ذلك، وما مضي على مجلسنا هذا شهر إلا تمزق شمله؛ فنفي أكثرنا وهرب بعضنا، وبلغنا بعد ذلك أن هذا الفقيه سجن بالأستانة ومات مسجونا رحمة الله عليه.
الكهول والشباب
أما لو يفيد العتب لارتاح عاتبه
دعوه فهذا البرق لا بد كاذبه
قلوبكم هامت كما هام قلبه
وأمس طلبتم ما هو اليوم طالبه
فلا تحسبوه خاسرا ليس خاسرا
تجاربكم زالت وهذي تجاربه
له مثله في أنسه ونفاره
يراضيه أياما وأخرى يغاضبه
بأية عين أم لأية زلة
نراقبه في حبه ونحاسبه
ألا إنه سهم أصاب فؤاده
وكل فؤاد ذلك السهم صائبه
تذكرت ريعان الشباب الذي مضى
فأحزنني أن لن تعود أطايبه
لقد كنت أقضي ليلتي في حديثه
يسائلني عن حبه فأجاوبه
سمعت بنات الورق تشدو ضحية
فقلت اسمعوا، هذي الطيور تخاطبه
لها مهج فيها هوى تحته لظى
فإما سرت ريح توقد لاهبه
أرى اليأس أدنى للشفاء من الرجا
إذا عز مطلوب سلا عنه طالبه
وكم من جوى مستكمن في جوانح
أهاب به لوم فجاشت غواربه
عصرنا عصر الشباب، دالت دولة الكهول ومضت تتعثر بأذيال جدودها المولية، فويل للعابد في صومعته وويل للواعظ في بهرة حلقته. وبعد، فما هنالك إلا كما قال ابن بحر: شق مائل، ولعاب سائل. وهذا أوان التجديد. لكل سؤدد فيه سبيل: السابحات في البحار والمحلقات في السماء. وناقلات الأصوات بين متباعدات الفجاج. فمن كان له فوق هامات النجوم مطلب سما إليه، ومن كان له تحت مركز الأرض مرام هبط عليه. أهلا بك يا أبا العشرين ومبتدأ الحق ومستهل المجد.
قال لي قائل: كل هذه زخارف باطلة، تأتي فتستضحك وتولي فتستبكي، ولقد كنا أسعد منكم حالا وأهدأ بالا؛ كان يخرج الواحد منا في جماعة من أصحابه، يتقدمهم الخدم بأيديهم الفوانيس، وفي يده عصاه مذهبة القبضة مفضضة الكعب، كأنها قضيب الملك، فيغشى دار صاحب له، رحبة القاعات، على حيطانها التصاوير، وأمامهم فوارة يرى ماؤها كرمح من البلور، فإذا جلس في صحبه، جيء له بالشبكات مملوءة من التبغ بكل زكي الرائحة كالعنبر؛ فمن صوري ومن كوراني ومن جبلي. وتدار عليهم القهوة في أباريق من الفضة، وطاسات مثلها ممزوجة عنبرا. يوقد لهم العود فيفوح عبيره، وتعبق به جسومهم. كذا يقضون أوقاتهم مستمعين سير الأولين ممن اتقوا وعملوا صالحا، وأنتم يا أبناء الجدة ما تصنعون؟ تتوافدون إلى الحانات والنوادي، فتنغمسون في الملاهي وتذهلون عن مشاغلكم بلذاتكم، وتفخرون بعد ذلك علينا بهذه الجبال الحديدية التي تدب فوق أرضكم، وتهز أركان بيوتكم، تحسبونها تغنيكم ولن تغنيكم شيئا.
قلت: على رسلك أيها الشيخ، أنت تنظر ولا ترى، كنت أحسبك في بعدك أعقل منك في قربك، فأي فخر تريد أن تجاذبنا طرفيه، وأي مجد سبقتنا في لداتك إليه وقصرنا عن مباراتكم فيه؟ تلك المجالس التي حفلت بكم أخلت أمثالها من ورثتكم، فلا تلومونا ولا نلمكم. كل عصر له دولته ورجاله، فإن ساءتكم هذه الركائب الحديدية، فما زالت العيس تستولد، وإن راعكم ما ترون من زخرف، فما خلق الله الجفون إلا لتغمض دون ما تكره وتفتح لما تحب، ونحن وإن كثرت في قلوبنا شواغلها لا نزال نطلب لكم من الحياة المزيد ومن السعد المستمر، ولكنكم تنظرون ما لنا فتودون لو يكون لكم، وتحسون ما بكم فتتمنون لو يصبح بنا، وفي التمني من البطل ما ينسي فضل تسليته الحزين.
هذا ما بيننا وبين أهل القرون الأولى، وإن أنا إلا من تابعيهم، فإذا لم يكن ابن الستين كهلا يكون ماذا؟ غير أني من أوائل من فتحوا باب الجدة لأهل النشأة المحدثة، فسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.
هاتوا رجلا ممن سكنوا البادية واجعلوه في قصر الإليزه، ودعوه حتى يسكن روعه وتثوب إليه نفسه، ثم سلوه ماذا يرى؟ ثقوا أنه لا يجد من الدعة ما يجد في بيت من الشعر، فإذا دنت منه إحدى عقائل باريس في حسن منظرها، وكأنها الطيف لطفا والأمل بهجة، قال لها: أنت فداء سليمى في برقعها وفي خمارها، تجرر نصيفها وتتهادى في دمالجها وخلاخلها وأساورها.
للنعيم قلوب وللشظف قلوب، وليس للحسن شكل معروف ولا هيأة خاصة ولا حال مستقلة به، لكل ذوق حسن ولكل حسن ذوق، وإنما أريد أن آتي في هذه السطور بعبرة أحب أن يحتفظ بها من اعتبر، فإن من أشد الظلم أن يتحكم الوالد في ابنه، وأن يربيه على قديم زمانه، ويأبى أن يجهزه لجديده، وقد فاته أنه يظلم ابنه ويظلم من خلق ليعاشرهم، والأخلاق والعادات كالملابس والأزياء، فإذا سمج بابن العصر الجديد أن يرتدي أردية أهل الوبر، فكيف يجمل به أن يعيش بعقولهم؟
كان لي صديق استحدثته في إحدى ولايات الأناضول، خلق ذكيا وترك لذكائه الذي خلق معه فلم يزد عليه شيئا، كان إذا وصفت له عواصم أوروبا؛ كلندن وباريس ونيويورك وبرلين وغيرها، وذكر لديه ما بها من معجزات الحضارة وعجائبها؛ فترت نواجذه ضحكا، وظن ما قيل له مبالغة وغلوا، وطالما رد على من يخبرونه بتلك الأخبار بأنها مخترعة لا حقيقة لها ولا أثر، وكان لصديقي هذا ولد هو أكبر أولاده يحبه ويدلله، ولقد أدى به فرط الدلال إلى ترك المدرسة، فذهب إلى إحدى دوائر الحكومة وطلب قبوله فيها ريثما يتعود أعمالها، فقبلوه، ولما اتصل ذلك بأبيه طابت له نفسه وقرت عينه وجاء يسألني رأيي في ذلك.
فقلت له: ابنك أساء وأنت جاريته فيما أساء.
قال: ولم ذلك؟ والآن لا أخاف عليه الحاجة، وما أمامه إلا سلم الارتقاء يقطع درجاته، ولا يلبث أن يصبح من الوزراء أو الأمراء، ولنا أراض كثيرة جم خصبها غزير ماؤها، غدا تفيض خيراتها عليه وعلى إخوته.
قلت: هذا لا يركن إليه، ولبيت من ورق اللعب أحكم منه أسا وأبقى على مر الحدثان، وقلت: الثراء والجاه وكل شيء في ساعة يقضيها أمام الأستاذ.
قال: ها أنت موجود. علمه اللغة العربية وحفظه أخبار الأوائل، وروه الشعر وهذا يكفيه.
قلت: كيف تريد أن يتعلم العربية بعد هذا العمر؟ وأنا لا أدعي العلم بها وقد تجاوزت الستين! وهب أنه فاق فيها الأوائل والأواخر أيكون ذلك مغنيا له عن سواه؟ روض بالعلوم العصرية نفسه وذوقه طعم الحضارة، ومل به عن هذه العادات والنحل. فأصر الوالد على عناده وترك ولده وشأنه؛ فكان يمشي في المدينة حاملا مسدسه معوجا طربوشه مشيرا بذراعيه.
فلما نال العثمانيون الدستور وذهب زمان الاستبداد، قابل جماعة من رجال الأمن ابن ذلك الصديق ليلا وهو يتمايل سكرا، فأرادوا أخذه إلى منزل أبيه، فأجابهم برميات من مسدسه جرحت أحد أولئك الرجال وكادت تذهب بحياته، فأخذ إلى السجن قسرا ولم يرض أن يؤخذ إلى دار أبيه طوعا، وانطلق أبوه يرجو الناس أن يفكوا له ابنه من وثاقه، فلم يجد الرجاء، فلما استوفى مدته خرج صاغرا ممتهنا، فتوعد أباه بالقتل إن لم يعطه ما يريد من المال، وبقي أبوه في بيته لا يوطأ له بساط، ولا يقرع باب، ولقد رآه بعض الناس ذات يوم ماشيا على قدميه وفي يده عريضة يطلب فيها إلى الحكومة أن تقيله من بعض ما لها عليه من المال، فقال له من التقى به: أين العربة يا سعادة الأمير؟ كيف يخرج مثلك ماشيا في هذا الوحل تحت هذه الأمطار؟ - العربة باعها ابني ورهن ضياعي وهرب وتركني، لا أدري أيا عصفت به الرياح.
أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان
تعود الغربيون أن يكذب بعضهم على بعض في اليوم الأول من شهر أبريل، وهو كذب ليس وراءه نفع، ولا يختارونه خشية من شر، وما يريدون بذلك إلا مداعبة ومزاحا، على أنني لا أعلم ممن تورثوا هذه العادة، ولا كيف انتهت إليهم وبقيت إلى زماننا الذي طوى عجائب القدماء، وأكثر حماقاتهم هذه غوايات أقلع عنها أهل الوقار من الغربيين، ولم يستمر على ضلالها غير فئة قليلة من العامة والأحداث.
وإني لأكاد أذهب في تعليل هذا الكذب مذهبا لا أدري أهو الحق أم ظن أنا أظنه وحدي، إخال أن أهل الغرب لما علموا أن الكذب عيب من العيوب التي لا تواطن المروءة في قلب؛ أنفوا تعوده وحرموه في إيمانهم، وإذ كانت النفوس مفطورة على البسط بما هو محظور، رأوا أن يجعلوا لهم يوما يكذبون فيه؛ لكي ينيلوا الأنفس مشتهاها، وعلى هذا جرى أهل النسك والعبادة في كل دين، فإن الصائمين الذين عافوا ما يلذ في أفواههم واستعاضوا عنها بلذات النفوس، يغيرون عاداتهم ويبدلونها أحيانا، فإذا كان وقت الإفطار جاءوا بما لذ وطاب من مأكل ومشرب، وزينوا موائدهم بأنواع الفاكهة والنقل.
أما رمضان فله أكذوبة يتخذها أكثر المرزئين في ذممهم، فلقد يهون عليهم أن يكذبوا ولا يهون عليهم أن يقولوا نحن مفطرون، يملئون بطونهم في بيوتهم ويخرجون إلى الأسواق بأيديهم المسابح من أجود المرجان والكهرباء (الكهرمان)، ومن البلور ومن العود ومن العنبر، يلوحون بها إذا أشاروا، ومنهم من ينتهرك إذا دانيته وفي يدك سيكارة، ويقول لك: إذا كنت لا تؤمن فدع من يؤمنون يعبدون ربهم ولا تكدر عليهم صفو العبادة، وإذا ساوم أحدا على شيء يريد أن يشتريه منه علا صياحه وازرق وجهه وحملق بعينيه، وجعل يقول له: هذا يوم صوم وأنا رجل يجهدني الإمساك عن القهوة والدخان، فإذا زين لك الشيطان أن تملأ رأسي بكثرة كلامك، ضربت بك الأرض وأنزلت عليك المصائب.
مالك يا أخا الزهد تزهق الأرواح وتستنفد الصبر، وما لنا نحن وزهدك. سواء علينا طرت به حتى جعلت أخمصيك على هامة زحل، أم هويت به إلى حيث يهوي الكاذبون.
في البلاد العثمانية كل المسلمين صائمون. كانت الحكومة المستبدة تسجن المفطر إلى أن يأتي اليوم الثالث من عيد الفطر، وكان أكثر المفطرين يدعون الصوم ويحسنون تقليد الصائمين، حتى لقد بلغ أمر الكذب أن يضرب المفطر في بيته من يدخن بجانبه سيكارته، وقد خرجت بها ذات يوم في رمضان وراء أمر عرض أريد قضاءه، فلما ركبت الترامواي رأيت جماعة من الأجانب على رءوسهم القبعات وبأفواههم سيكاراتهم والناس ينظرون إليهم شزرا، ولا يقدر أحد منهم أن يخاطب أولئك الأجانب بكلمة تسوءه، وكانت علبة سيكاراتي معي، فنسيت أن اليوم من أيام رمضان؛ فأخرجت سيكارة جعلتها في فمي، وأقمت أنتظر أن يمد إلي أحد الجالسين شيئا أشعلها به. فمشت في عيون الركب، وجعل بعضهم يغمز بعضا مشيرا إلي بلحظه، ففطنت لموضع خطائي، وقلت أداويه لكم أيها الكاذبون بالكذب، ثم وثبت من مكاني بغتة كمن تذكر شيئا كان نسيه وقلت: لعن الله الشيطان، كدت والله أدخن سيكاراتي وأنقض صومي، ونظرت إلى رجل جالس على يميني، وقلت مؤنبا له: كذا يا أخي تراني أهم بما يفسد علي صومي ولا تنبهني إلى ما كاد يفرط مني عن غير عمد، وأنت تعلم أن الدين يقضي علينا بالنصح لمن سها، وأن لا يعرض إلا عمن تولى، فابتسمت الثغور وسري عن القوم.
ولقد دعاني وأنا في بلاد الأناضول أحد الولاة الذين تفتخر بهم البلاد لأفطر معه، فأجبت الدعوة فرحا باستماع حديثه والجلوس إليه، فدوى المدفع والمائدة كظهر السلحفاة مما عليها من الأطعمة والأواني، فقال قائل: أرى زهيرا قليل الأكل كأن بأضراسه فلولا، فتبسمت وقلت: هذه الأضراس أرادها أخو ذبيان بقوله:
تورثن من أنهار يوم حليمة
إلى اليوم قد جربن كل التجارب
فلم يفهموا ما أردت، فشرحت لهم البيت وعرفتهم المراد، ثم قلت: كان الأحسن أن أشير إلى قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ولكن أبيت أن تشاركوني في مجدي، فضحكوا، ثم قال لي الوالي: بالله عليك يا زهير إلا ما صدقتنا، أأنت صائم حقا؟ قلت: لا والله، ولا صمت قبل اليوم في حياتي، فكاد الوالي ينفطر ضحكا، أما الحاضرون فبقوا واجمين كأن قد صب على رءوسهم طست فيه عشرون أقة من البترول، فعلمت أني مغضبهم في ليلتي، فلما انتهينا من الطعام وخرجنا إلى المكان المعد للتدخين، دنا مني أحد المعممين، وهو رجل كالجرادة له لحية كقائمة المزاد، وعينان كزيتونتين، فنظر في وجهي مليا، ثم قال لي: لم لا تصوم؟ - لا أدري. - كيف لا تدري؟ - ككل من لا يدري.
فغلب الضحك على الرجل وتنحيت أنا جانبا لكي لا يطير في وجهي رشاش من فيه، فقال: مالك تنأى عني، أغول أنا فتخافني؟ - كلا. بل فمك رائحته منتنة فلا أقدر أن أشمها ... فوالله ما أمهلني أن أتم كلامي؛ بل ولى عني غير ملتفت وراءه.
ثم قص على الوالي ما وقع له معي، فقال له الوالي: إياك أن تحرك عليك لسانه، أما إنه لينتزع السهم ويصيب المقتل.
ولقد جاءني رجل في رجاء حسبني محلا له، وكنت أشرب قليلا من الماء فنسي رجاءه وجعل يعنفني، فلم أملك الغضب، فقلت له: أمن أجل هذا أتيت الساعة أيها الفضولي؟ اخرج وإلا رميت بك من أعلى السلم إلى أسفله، فخرج ثم عاد وهو يقول - وعيناه مغرورقتان دموعا: جئتك راجيا فلا تخيب - وأبيك - رجائي، فسمعت رجاءه وصرفته عني واعدا إياه خيرا.
وكان أكثر أصحابي من مستخدمي الحكومة يعرجون على داري يشربون فيها قهوتهم وسيكاراتهم، حتى لقد قلت لهم يوما: أحمد الله كثيرا، لقد جعلني صاحب قهوة الكاذبين، فنظروا إلي وقالوا: اتق الله.
أما الآن، فلا أدري كيف حال الشبان في الأستانة، فقد أعلنت نظارة الداخلية بوجوب المبالغة في حجاب السيدات المسلمات، وتوعدت ذويهن بالعقاب إذا بدا منهن ما يخالف هذا الأمر، والخبر اليقين عن المفطرين هو في مطعم توقاتليان ويني في الأستانة، وفي مصر من الحرية الشخصية ما لا يضطر إلى التواري عن الأبصار والاختباء تحت الموائد، ولكن في الناس كثيرين يفعلون ذلك، ولولا أني شاركت بعض الأجانب في الكذب معهم في أول يوم من شهر أبريل، وذلك حين كنت ابن عشرين سنة، لجاريت أهل المسابح إلى الكذب، غير أني جالس أمام مكتبتي وعيناي شاخصتان إلى الساعة، وقد دوى مدفع الظهر الذي أفطر عليه، فأكتفي من مقالتي بهذا القدر وموعدي مع القراء الجمعة الآتية إن شاء الله تعالى.
ليلة القدر
عبادة الإنسان للخالق
عبادة الطالب للرازق
لولا عطاياه وجناته
أبوابه باتت بلا طارق
هل تعلم الحور وما خوطبت
كم بيننا من ناسك عاشق
يسجد لله ليحظى بها
نسك كذوب في هوى صادق
سيدتي أنت تقدمتها
والفضل للسابق لا اللاحق
إن ندخل الجنة يوما معا
ندخل من الغيرة في مأزق
هذا نعيم لست ترضينه
في ثامر منه وفي وارق
وهذه الدنيا بنا برة
لولا تكاليف على العاتق
يأرق ناس ليلهم كله
ما أطول الليل على الآرق
يرتقبون بارقا فوقهم
وكم بهذا الأفق من بارق
إن الأماني تشوق الورى
والنفس تنقاد مع الشائق
وطالب النعمة من منعم
كطالب السقي من الوادق
والدهر لا يخرج عن نهجه
سيان للراضي وللحانق
ويسمع الخالق من صامت
ما يسمع الخالق من ناطق
انتبهوا يا قوم من نومكم
الله لا ينظر من حالق
إذا جاء اليوم السابع والعشرون من شهر رمضان؛ تزاحم الناس على الجوامع، فإذا قضوا صلاتهم، جلسوا إلى حلقات يستمعون فيها الأذكار ويكررون التسبيح ويبتهلون بالدعوات، فإذا فرغوا من ذلك عادوا إلى بيوتهم فصعدوا السطوح وفرشوا أرضها بالبسط والحصيرات، وجلسوا يرتقبون ليلة القدر.
وما أدراك ما ليلة القدر؟
ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر.
يقولون إن أبواب السماء تفتح ثلاث مرات متتابعات في ساعة من ساعات ذلك الليل، لا يعرفها أحد ولا ينتبه لها إلا من أراد الله له الخير، وتكون كل فتحة كالبارق إذا ومض، فينبغي على العاقل أن يدعو بما قل لفظه وكثر معناه، وأن يجعل دعاءه ثلاث جمل متتابعة، فيقول عند الوميض الأول: اللهم هبني مالا لا يعد، وعند الوميض الثاني: وكلمة لا ترد، وعند الوميض الثالث: وأدخلني الجنة بغير حساب.
هذا لعمر الله التلغراف اللاسلكي الرباني يراسله به عباده كل عام في ثلاث ثوان، ولقد روى لي راوية وعهدة الرواية عليه؛ أن عجوزا رأت الوميض الأخير وقد خرق الفقر أطمارها حتى أصبحت كنسج الغرابيل، فغلبت عليها القناعة، فقالت في دعائها: اللهم سد خروقي كلها. فلما أصبحت رآها الناس وقد مسحت عيناها، وسد فمها ومنخراها وأذناها سدا محكما، فماتت محبوكة الأطراف طامسة الشكل، رحمة الله عليها.
ورأى آخر ليلة القدر، وكان الشيب أنبت بشعره ثغامة فقال: اللهم اجعل بياضي سوادا، فما أصبح إلا وكله سواد يسعى في أديم، لو كان ليلة القدر لما تألق فيه بارقها.
وكان رجل لا يرزق ذرية فقال: اللهم املأ بيتي صغارا، فانتبه في الغد على صياح ملأ بيته حتى أن ظن الحيطان تتصايح، فإذا هو بنحو الخمسين صبيا لا يزيد طول واحدهم على الشبر يجاذبون امرأته ويتواثبون حول سريره. هذا يقول أبي وذاك يصيح أمي، وكلما حاول مع امرأته الهرب، حالوا بينهما وبين الباب، فرأت المرأة أن تأتيهم بشيء من اللبن في وعاء كبير لتقسمه بينهم، فوثب بعضهم في الوعاء فغرق فيه، فعلا بكاء الآخرين، فلما ضاقت الحيل بالرجل وامرأته رميا بأنفسهما من كوة تطل على الطريق وأرسلا ساقيهما للريح فرارا.
لما كنت صغيرا كنت أجلس إلى بعض الشيوخ فيقصون علي هذه النوادر وأنا أكاد أموت ضحكا، ولقد قلت ذات يوم لرجل منهم: تعالى الله عما تقولون، أيكون الحكيم العادل يعلم ما تخفي الصدور، ثم يفهم الدعاء كما يفهمه عبد الحميد؟ فضحك الرجل حتى سال لعابه على لحيته.
وكانت عندنا قهرمانة عجوز طبعت على الوشاية وسوء الخلق، فما ترى منا شيئا مما يتلهى به الشبان إلا وشت بنا إلى أبي، فينالني من تأنيبه وغضبه ما ينغص حياتي، فلما كانت ليلة القدر، وكنت على موعد من رفاق لي لنقضي هزيعا من الليل في أنس رتبناه، ورأيت تلك العجوز لا تفارق خطاي، دفعت إليها تقويما كان معي وقلت: هذا دعاء ليلة القدر، حسب المرء أن يجعله على صدره، وأن يجلس على السطوح رافعا وجهه إلى السماء فلا يلبث أن يرى بارق القدر، فأخذت التقويم مني جذبا وسمعت في صدرها ضحكا كقعقعة الطاحون، وأقامت ترقب البارق، وأقمت أجتلي المسرة في صحبي.
آه ما أكثر اختلافات الأهواء، لو علمت أن سيجاب دعائي لقلت: «يا رب امح التعصب من القلوب، واجعل الناس إخوانا، واحبس ألسنة الأدعياء عن الشعر والبيان.» هذه ثلاثة أتمناها ولي من الحظ ما قدر فكان.
تفتأ هذه الأوهام تربى في أعشاشها فتدرج منها لتأوي إلى عقول تخاذلت عن فتحها جنود العلم، ويدوم هذا العصر في معجزاته يبهر الأبصار ولا يلامس البصائر. فكم من حكيم يأتيك باللباب من حكمته فتزوي عنه وجهك وتهبه إعراضا، ويجد المعمم ذو الأظافر الزرق واللحية المنتفشة فؤادك أدنى إلى غيه من فؤاده، فيأتيك في شملته يجرر فضول ردائه فيستطعمك ثم يمد إليك يده لتقبلها.
بلغني أن شيخا من أهل الزهد صعد على إحدى المنارات في ليلة القدر، وأخذ في الدعاء والتسبيح، فغلب عليه النوم فنام، فرأى في منامه كأن السماء انشقت عن نور ملأ الآفاق وبهر الأنظار، فنزلت الملائك في أجنحتها الخضر ترفرف بها على رءوس الناس، والناس ما بين ساجد وراكع ومبتهل، فأخذ الشيخ في الدعاء فقال: اللهم أنزل علي فتاة تكون حسرة العشاق وحرقة القلوب، إذا دنت ملأت العين نورا، وإذا نأت أودعت الفؤاد كمدا، فما أتم دعاءه إلا وهبطت عليه فتاة هي أجمل مما طلب، فمد إليها يمينه ليعانقها ويضمها إلى صدره، فما راعه إلا صوت كف رن على صدغه الأيمن جاوبه مثله على الأيسر، فانتبه مذعورا، فإذا المؤذن أمامه يقول له: أيها الشيخ الصاقع، ألا تستحي؟ أتيت لأؤذن أذان الفجر فرأيتك مضطجعا، فانحنيت لأرى ما بك، وإذا بك تفتح ذراعيك لتضمني إليك وأنا رجل لا يمزح مع مثلي، فخجل الرجل، وأيقن أن الله لا يستجيب لمثله دعاء.
المحتلون يخرجون من مصر
أتعبتني كتاباتي فوقف القلم في يميني مستعصيا. غلب عليه الإعياء وسئم طول المشي على رأسه، فقلت: مالك؟ أهكذا دأبك؟ جولة ثم تضمحل! فأما وقد حرنت حرانك فلن تستعيد جولاتك، أو يكون لك شجو بدعوك فتجيب، ثم ألقيت بالأسود المعاند إلى جانب دواته وقلت: ليكن عطنك بحيث يكون حوضك، وتنحيت في حجرتي جانبا واضطجعت على متكأ لي، لا بذي سندس ولا إستبرق، ولكن مما يستلينه جنب الشاعر المملق، وهناك غلبني النعاس ونمت نومة هي إلى الموت أقرب منها إلى الحياة.
فرأيت فيما يرى النائم كأني أسير إلى ميدان عابدين، فلما وافيت مدخل الميدان مما يلي الشارع الآخذ من ميدان الأوبرا، إذا جموع من الجنود المحتلة تتقدمها موسيقاتها ويقودها قوادها مشاة وفرسانا، تخفق بينها الأعلام البريطانية التي أظلت الأمن والعدل بمصر في أكثر من ربع قرن، وبأطراف الميدان جماعات من الرعاع والسوقة يتوسطها بعض تلامذة المدارس، وآخرون جعلت أتعرف بعضهم كلما علق بهم نظري، فالتفت إلى وسط الميدان فإذا العلم البريطاني وإلى جانبه العلم العثماني يصل بينهما رباط أخضر، إشارة إلى الود والاتحاد، وإلى أمام العلمين منبر ذو درجات أعد ليخطب عليه من لا أعرفه.
فما طال بي الوقوف إلا وأقبلت عربة تقودها ست جياد، يتقدمها فرسان ويتبعها آخرون بأيديهم الرماح وعلى أسنتها الأعلام، فنظرت إلى العربة فإذا أمير البلاد المعظم وإلى شماله رئيس النظار وأمامه أحد النظار، وتلاحقت بعربة الأمير عربات كثيرة وسيارات عديدة فيها قناصل الدول وخلق لا يحصى لهم عد من سراة الأجانب ورجال الصحف الأوروبية، فوقفت عربة سمو الأمير أمام سلم الإمارة، وصعد أعزه الله وتبعه أكثر أولئك الأجانب، ثم أقبلت عربة من جهة شارع قصر النيل يتقدمها أربعة فرسان ويتبعها مثلهم، بأيديهم السيوف مسلولة وعلى رءوسهم القبعات البيض، وإذا الراكب الجنرال ماكسويل قائد جيش الاحتلال، فسارت عربته حتى وقفت أمام سلم الأمير، فصعد الجنرال.
كل هذا يقع وأنا لا أدري ما هو، فحانت مني التفاتة فرأيت إلى جانبي شيخا دق حتى صار كالعمود الفقري، له رأس كرأس السنة، ولحية كالتقويم، وأنف كالمسدس، وعينان كأنهما برقوقتان، على رأسه عمامة كالبصلة الكبيرة، فدنوت من الشيخ وحييته، فحياني بصوت كصوت البوق، فقلت: يا أستاذ، ما هذا الذي نراه؟ فنظر إلي نظرة ملؤها عجب وقال: أفي سفر كنت؟ - كلا، وما تعجبك من سؤال لست أول من يسأله؟ - الأمر معلوم، المحتلون يخرجون الآن من مصر، وتمسي مصر مذ الساعة وهي للمصريين.
فبقيت كمن يسمع رطانة لا يفهمها، والشيخ محملق باصرتيه كأنه يحسبني جننت، فقلت: هون عليك أنا مريض تعاودني الحمى إغبابا، وانسللت من جانب الشيخ لأنظر ما سيقع، فإذا سمو الأمير نزل من قصر عابدين يماشيه قائد جيش الاحتلال ووراءه نظاره الكرام، فساروا حتى بلغوا موضع العلمين، فصعد قائد الجيش المحتل على المنبر وخطب الحاضرين فقال:
نحن الآن يتنازع قلوبنا عاملان؛ واحد للفرح وآخر للحزن، فأما عامل الفرح فبأن أثمرت مساعينا لإصلاح مصر حتى لتستطيع أن تعيش وحدها، وأما عامل الترح فبأن سنودع وادي النيل وأبناءه بعد أن طاب لنا المقام واستحكمت في قلوبنا الألفة، ألا وإن كل عارية يوما ستسترد، وما بعد المقام إلا الزماع، على أن لنا في مودات هذه القلوب لذكرى نستعيد بها عذب ما فات، وإني ومن أقود من جنود بريطانيا العظمى لنسلم على أمير مصر المعظم سلام وداع، ونهدي مثله لبني مصر المحبين، فليحي سلطان العثمانيين فليحي ملك بريطانيا فليحي أمير مصر.
فما أتم القائد خطبته إلا عزفت الموسيقى العسكرية بالألحان الملكية الثلاثة، ثم نزل وصافح أمير البلاد وركب عربته وإلى يساره ناظر النظار بالنيابة عن سمو الأمير، وسارت الجنود تؤم المحطة، فرأيت ما لم أره وجعلت أتبع هذه الجمع الذي تلمع في جوانبه الأسنة وتخفق في خلال عثيره الأعلام، وقلت الآن ننظر ما سيكون من أمر الفائزين بهذا اليوم المحجل الأغر.
فإذا شرذمات من أهل الضوضاء وسكان الأعشاش، قد عصبوا رءوسهم بمناديل حمر وبأيديهم العصي، تتقدمهم عربات فيها رجل كالخيار الشنبر، له شارب أسود يخاله على البعد رائيه غمد خنجر، على رأسه طربوش أعوج، وإلى جانبه آخر مثله ولكنه منتفخ البطن كالبرنية، وفي يده شيء يشير به لم أتبينه جيدا وأحسبه سوطا، وأمام العربة بين هؤلاء الجموع رجل أسود الشاربين، طويل القامة، معمم مكمم، يحمل على كتفه مشعلة مغطاة «بكوفية» من كوفيات المحلة الكبرى، وقد جمح أيما جماح، فكان ينظر يمنة ويسرة ويصيح بملء فيه قائلا: «ملحة في عين اللي ما يصلي على النبي.» فتأملته فإذا هو أحد مشاهير الكتاب والخطباء عزيز القدر بين أشياعه، فتركته وحبله على غاربه وقلت أنظر إلى غيره، فسمعت أحد من في العربة يقول لجماعة من الماشين: إذا ركب الجنود القطار وسار بهم حتى غاب عن الأبصار، تذهبون من ساعتكم في جماعة من الشداد إلى إدارة كذا، فتهدمونها على من فيها ثم تفعلون ذلك بإدارة كذا، ثم استعلموا لنا عن هذا الخبيث الملعون الذي يسمي نفسه زهيرا، فاجعلوا في عنقه حبلا وجروه على وجهه ثم ألقوا به في النيل. فهممت أن أصيح بذلك المتكلم وأقول له غريمك قريب منك يسمع كلامك وها هو أمامك، ولكن أمسك بذراعي رجل، فالتفت فإذا هو صاحبنا «نقاد»، وكأنه عرف ما أريد فقادني إلى خارج تلك الجموع، فقلت: أهلا وسهلا بالصديق، ما جاء بك إلى هذا المزدحم؟ - كنت مارا في شغل لي، فلما رأيتك أتيت لأخرج بك.
فأخبرته بما سمعت، وقلت: يخيل إلي أن هذا الرجل وصاحبيه سيخطبون فهلم بنا نسمع رطانتهم، فقال نقاد: أما وعيد القوم فكما قال صاحبك أحد الشعراء الغابرين:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
وأما خطبهم فقد سئمناها ولا حاجة بنا إلى سماعها حين تستعاد، ولكني أماشيك إلى ميدان الأوبرا على أن تعود معي، قلت: لك علي ذلك. فسرنا، فلما بلغنا الميدان إذا بتمثال البطل المغوار إبراهيم باشا وثب بجواده إلى الأرض ووقف أمام الجنرال، ثم أشار بيده إشارة استوقفت تلك الجموع، فاشرأبت الأعناق وجالت فيه الأبصار، ثم غلبت سورته على النفوس واستولت هيبته على الأفئدة، وهو كما هو في تمثاله مشيرا بيمناه وعيناه يتطاير منهما الشرر، فقال بصوت يملأ الصدور:
قفوا. قفوا. مثل هذا الجمع من أهل وطني قدته حتى وطأت بلادا لها علي حق السمع والطاعة، ومصر كالسبية بين المتقاتلين، فلما أتيت بمهرها وقد خطبها لي عدل أبي، ورددت دونها أكف المتطاولين، وأقمت لها طول مجرى النيل مهرجانا من العز ما فاته إلا عز أبناء الشمس، وعهدي وهي في عزتها يكب لديها الجبابرة على أذقانهم، وانتقلت إلى طيب من أخلافي، هب أناس يغالبون الطيب حتى صار ما صار، وحمي الحمى بهذه البواتر، ونامت الأعين في أمن هاته الأعلام، وتريدون اليوم أن تخرجوا من مصر ليصبح عاليها سافلها وليجري هذا النيل أحمر قانيا. كلا ثم كلا. لأصيحن صيحة تخرق حجب الأزل وتنفذ إلى من ولجوا غابته، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيل ليدخلن أهل الطيش غدا على العذارى في خدورهن وليأخذن بغدائرهن، وليقومن بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.
فما بلغ هذا الموضع من خطبته إلا بدأت شئون عينه تخضل تلك اللحية التي طيبها العثير في مواقف الحفاظ، فقلت: يا لك من يوم ما حسبتني أعيش إليه.
وقد علا ضجيج في جوانب الجيش، فإذا أناس من علية القوم كشف الرءوس وبأيديهم الرياحين يصيحون بتلك الجنود أن لا تزايل مساكنها، فالتفت ورائي لأنظر ما فعل من كان في تلك العربة، فلم أر شيئا، فأعدت النظر إلى التمثال فإذا هو مكانه وقد تفرقت تلك الجموع، فانتبهت من منامي وقلت: لا رجعت إلى فراشي قبل أن أوافي قراء المقطم بقصتي.
مقتل فرر
اغمدوا البيض يا ملوك البلاد
ما تريدون من رقاب العباد
إن هذي الأرواح ليست رعايا
حسبكم أسر هذه الأجساد
كل تاج وإن تعاظم قدرا
دون كبد من أحقر الأكباد
ومقام الملوك بين قصور
كمقام الرفاة في الإلحاد
حين يبكي اليتيم فقد أبيه
أي فخر لهذه الأبراد
كيف يحيى الملوك في مهرجان
والرعايا لديهم في حداد
أخوة يشتكون ظلم أخيهم
وكذا كان سالف الأجداد •••
يا قتيل العلياء يومك أبكى
كل عين خلا عيون الأعادي
يتمنى الكريم لو صرت منه
بدل القبر في صميم الفؤاد
عشت حرا وليس يسعد حر
طال عهد الأحرار بالإسعاد
هن ثلاث رصاصات رميت بإسبانيا، فجاوبت دويها بلاد الله في أوروبا وآسيا وأفريقا وأمريقا. ثلاث رصاصات رمتها حكومة متمدينة بمشهد من حكومات متمدينة، فقتلت رجلا متمدينا، حر أشقته حريته، عارف أجهدته معرفته، ومنصف أراده إنصافه. ذهبت خمسون سنة في سبيل الخير فحال الشر دون استمرارها، فلا السماء انشقت ولا نجومها تناثرت ولا الأرض مادت ولا أوتادها قلعت، ولكن هاج بنو الإنسان رحمة على ابن الإنسان.
لو قتل فرر قبل اليوم بعشرين سنة لما وجد عليه الناس هذا الوجد، ولبقي الجزع في قلوب من عرف حقيقته من بني جنسه وقليل من غيرهم، ولكن فرر آثر حب النوع على حب الجنس فكان أكثر الناس أحبة وأكثرهم نعاة.
أبى زعامة الفرد على الجمع، وكره أن يرى أناسا يرفلون في ثيابهم المخملة يجررون أسيافهم، وتخفق على رءوسهم خرق فوق قضبان يسمونا أعلاما، وإن تكثر حكومات الأرض من جمع هؤلاء في أزيائهم المضحكة لتقتل بهم أمثالهم. أنف أن يرى إخوته أبناء آدم يتنازعون أكنافا من الأرض ليست لهم ولا لغيرهم، ولكنها لكل الناس. سئم أن تشاد البنايات الشامخة يفرغ عليها الذهب وتزدان بالباهر من الزخرف، لتكون معابد يعبد فيها الله والله صاحبها من قبل ومن بعد.
فما يجزع على فرر سكان القصور العالية ولا المدخرون للذهب والفضة، ولا سراة الأقوام ولا الوزراء ولا كبار الموظفين، وإنما يجزع عليه المنفيون إلى أقاصي سبيريا حين يعض الحديد على سواعدهم، والمقيمون في ظلمات السجون في سائر أقطار الأرض؛ بل يبكي عليه من ذاقوا مرارة الظلم والاستبداد في أسر المستبدين من الناس.
الأرمني الذي قتل أقربوه في مذابح الأناطولي، والتركي الذي ألقي ذووه في لجج البوسفور، والعامل في أعماق الموانئ محروما من نور الشمس ولطف الهواء، والفقير الذي يحس بالفاقة ولا يتجاسر على شكايتها. كل يندب فرر كما كان فرر يندبهم.
مساكين أنصار الأحرار، يريدون أن يخلصوا العباد من الظلم فيقعون هم تحت الظلم. إذا تعلموا فبعلمهم ينفعون الناس، وإن أثروا فعلى المتربين ينفقون من ذلك الثراء، يتوجعون لأوجاع غيرهم ويرثون لشكايتهم، ولو شاءوا لعاشوا سعداء متمولين يمسون في نعمة ويغدون في أخرى، يودون لو تساوى الناس في الحظ على قدر المستطاع، وهم بعد ذلك يؤتى بهم إلى أماكن القصاص فيقتلون تقتيلا.
عجبا يسرح بازمير جاقيرجه لي وهو لص سارق قاتل معتد آثيم، تطلبه الحكومة بين الجذوع والصخور وفي الوديان وعلى الآكام، وقد قتل أربعمائة نفس ونهب أكثر من أربعمائة ألف جنيه، وأضرم المعامل والقرى، وأمكن شهواته من الأرواح والأموال فيخلص ، وإذا هو وقع غدا في أسر القانون حوكم وجيء له بمحام ينكر على المحكمة آثامه وجناياته، وإذا جرح ضمدت جراحاته ليشفى ويسأل بعد شفائه عما جنت يداه، ومثل فرر الذي أسس المدارس وأفاض الخير على بني الإنسان، وأحيا ميتة الآمال؛ يحاكم سرا ويقتل جهرا ولا تجدي في نجاته شفاعة الشفعاء.
يرجع البطل المغوار من إحدى غاراته يجرر وراءه الأسرى في الأغلال والأصفاد، وجنوده يدفنون القتلى على ذرى الهضاب، وكثيرا ما يبقونها في مستراد الضواري ومهبط القشاعم، فيدخل على رجل يتألق التاج على مفرقه ويهتز السرير بكبريائه فيقول: قتلنا كذا ونهبنا كذا وأحرقنا كذا، فتفتر له نواجذه فرحا ويتهلل وجهه سرورا، وتغدق عطاياه على القاتل الناهب المحرق، ويقام له تمثال تخطب أمامه الخطب وتنشد القصائد وتقام الأفراح.
النفوس التي تأوي إلى هذه الجنوب تستطيب السيئات وتستكره الحسنات. ما أنقى سريرة الوليد إلى حين يدرج من عش صباه! تبسامة تستضحكه وزجرة تستبكيه. فمثله كمثل البلبل إذا جاء الربيع وأورقت الأشجار وصوحت الأزهار ومجت سحرة لعاب الندى، وانسابت على أعطاف أماليدها خيوط الشعاع، واستمر الغدير في خريره والنسيم في هيمنته داخله الطرب، فصفر في مهرجان الطبيعة ليطرب نواميسها، وإذا كان الشتاء وذبلت الغصون وذوت الأوراق واكفهر وجه الأفق، انكمش البلبل في عشه وأقام في بثه.
إلى الله أشكو مر ما يتجرعه الإنسان من الإنسان. ملك كريم يصبح شيطانا رجيما، وما الملك بذاك الذي يتوهمونه أخضر الجناح بادي الشباب ريضه، ولا الشيطان ذلك الذي يتخيلونه مشتعل الناظرتين دامي اللهاة والمناسر، كلاهما خيال لا وجود له، بحيث يظنون إن هما إلا بين الناس ومن الناس.
اذهب يا فرر إلى حيث مصير العناصر ومأتاها تلق سكونا لا تشوبه حركات الغوايات، رقدة هذه كلنا راقدها غدا، فإذا لاقيناك صافحناك وشكرناك، وإذا طال الثواء في مواطن الشقاء، فسيأتيك منا السلام كل صباح ومساء.
العمال في البلاد العثمانية
أخ جاء يدعوني إلى نصر إخوة
وهذا يراع سامع ومجيب
فقلت له لا تسلم النفس للأسى
إذا ساء عيش إنه سيطيب
وهذي الليالي لا يقر قرارها
فمن لم يصبه الخير سوف يصيب
لنا أكبد لا تخمد النار تحتها
ولا هي من حر اللهيب تذوب
أظن لنا في ذمة الدهر طية
وإدراكها للآملين قريب
قضى زعماء السوء فينا بما قضوا
لهم دوننا في الطيبات تصيب
نخال جديدات الأمور عجيبة
وما تحت فسطاط السماء عجيب
أيها الأخ العامل
لبيك ألفا. هذا يمين الإخاء أمده إليك، فإن كنت خاطب ود فالود لك، وإن كنت شاكي ظلم فيراعي لسانك وبياني ترجمانك، وأنا وحياتي دريئة لك من المخاوف. لعمري لقد استنجدت بواهن القوى، منعقد اللسان، أسير العجز، حليف الجهل، فإذا كان يغنيك شيء من هذه الخلات، فبالصدق الذي لا أدخر سواه، وبالفؤاد الذي لم تستأسره بغية وإن عزت، ولم يفزعه هول وإن جل.
ما كنت غافلا عما قضى فريد، ولا جاهلا ماذا أراد فريد. أنا أعرف فريدا وهو يعرفني؛ يرفع رأسه ويمد من صوته، ويضرب الأرض برجله في مجلس الأمة، ولكن إذا بدا له زهير في جسمه الناحل ووجهه الممتقع أرتج عليه واضطرب المنبر تحت قدميه. قل له: ملكت فاسجح، لقد ولى ثم تولى، فلا زمان الجاهلية أغناه ولا زمان البعثة، وكم في زعمائنا من المخضرمين ستزل من تحتهم صهواتهم، وتعثر في مضمارها جيادهم، إيه لك هذا الدهر أبو العجائب، يفتن ثم يطغى ثم ينكي، ما أدراه بسنة التدرك، لكأنه ينظر إلينا من تحتنا فيدعونا إليه.
ادخل حجرة الوزير تلق بها الأواني المذهبة في نقوشها وتصاويرها على الخوان البديع من شجر الجوز، مطعما بالفضة أو الصدف أو العاج، وإلى جانب ذينك من التحف والبدائع ما لا يصوره إلا بنان صانعه، وهو مضطجع على سرير أقل مسمار فيه أغلى من مالكه ثمنا وأنفس قدرا. جذلان ثمل بين أبهة الدولة وسكرة العز وكبرياء الثروة، إذا مشى على ذلك البساط السندسي قلت فيل يمشي على هشيم، يشير لك بيمناه ويسراه إلى تلك المذخورات فخورا منتفخا؛ لأنه امتلكها بدراهم غلبت، والحاجة على نفس صانعها فاقتناها، ولم يشأ أن يكون عند سواه نظير لها. هذا رجل قرأ على أحد تلامذة شيخ الحارة، وتخرج إما في جامع الفاتح أو في أحد أقلام الباب العالي. ثم تنقل من تقبيل أذيال إلى تقبيل أيد إلى أن قبلت يمينه. فأين رأى هذا عاملا. أما أنه لتنظر عيناه ولا تريان.
السرير الذي يهدأ عليه جنباه إذا غشيه الكرى، والكرسي الذي يجلس فوقه ليتولى أحكام الناس، والمنظار الذهبي الذي يعض مارن أنفه ويريه كل كلمة كالدارعة، والملابس الحريرية التي تخفي عن الأبصار حدبته، وما خرج من ركبتيه؛ كل يسره وكل يرضيه، أما عامله فقد نال أجره وقضي الأمر.
هو يحسب أن العامل يدور كاللولب لا يجهده تعب ولا يضنيه كد. ولو رآه في معمله متفصدا جبينه عرقا، مشمرا عن ساعدين مفتولين عزما، متهللا فرحا في حزنه شاديا في مناحة حظه؛ لأخذه الروع ولخارت تلقاء ذلك المشهد المهيب قواه.
إن بين الحيطان السود تحت سحب الدخان أمام النار التي يذكيها الكير الزافر، وتحت أعماق من الأرض ذرعها ثلاثمائة ذراع أو أكثر، لرجالا شعث النواصي غبر الوجوه، نبا عن أجسادهم النعيم، وأجفلت عنهم السعادة، يخدمون بني الإنسان كأن لم يكونوا من بني الإنسان. إذا جاء عيد سرهم منه قطعة لحم يأكلونها مع أطفالهم، وجرعة من خمر يشربونها معهم، تقام الأفراح وتزين البلدان، ويزدلف الناس إلى الناس تفرجا وتنزها، وهم في ظلماتهم غارقون، وقد ينفجر غاز فيتطايرون في أثناء لهيبه ويدهم سيل فيغيبون في جائشات غواربه، وليس لأهلهم من حام ولا لبنيهم من آو، فيكفيهم حسرات الفراق ولوعات الهموم.
يمر الأمير الجليل في عربته، وهي كدارة الشمس تقودها المطهمات مسابقات الرياح، فيلفت أبو الذهب وجهه عن أخيه المسكين الفقير البائس المجد المجتهد. يرى أطماره الرثة ووجهه الشاحب، فيعاتب الله كيف خلق خلقا مثل هؤلاء الناس، ولو أنصف لبادر إليه من علياء مركبته وأوسعه لثما وتقبيلا، ولأخذه وأركبه على يمينه، فما يتطلف بآثم ولا بسائل؛ بل بسيده الذي يطعمه ويكسوه ويسقيه ويقيه.
إن فريدا ليس بنبي وقراره ليس شرعا، وكما ذهب المؤثر يذهب الأثر. صنيعة عبد الحميد لا يسلك إلا صراط عبد الحميد، وكم في هذه الناشئة من ترى حب الوطن يستطيره، وحب بنيه يتقد بين ضالعه، ومن أراد أن يجور على العمال فليستغن عن العمال.
ليقل هؤلاء الكبراء والأوسمة تشرق على صدورهم والأثواب المخملة تكاد تلتهب على أجسادهم، نجوم أفق الدولة ودرر عقدها المنظوم: «إننا في غنية عن العمال، وإذا نزعنا عنا هذه الحلل الباهرة ملنا إلى المعامل، وشمرنا عن سواعدنا، فصنعنا لأنفسنا وليصنع العمال لأنفسهم، هنالك يعلم كل عمله ويقتصر كل على هواه. أما الكلام على الكراسي المصفوفة بين السجف المرفوعة فذلك تستطيره الليالي هباء.»
يا نواب الأمة، يسألكم خلاق الأمة ماذا تريدون بالأمة؟ هنيئا لكم من الجاه والحسب والذكر ما نلتم، بلى هذه الألسن تزيدكم منها بقدر ما تطلبون. ولكن انظروا إلى حاجة البلاد فأنيلوها حاجتها، ولا تذهبوا هذه القصور بالذهب الوهاج وتنطقوا بين حجراتها بما يخجلكم غدا.
العمال ينتظرون ورجال القلم من إخوانهم ينتظرون. فإذا جرتم عن مهيع الرشاد، قلنا وفعلوا وصحنا وفزعوا، ونحن لكم أبقى وأنتم في حاجة إلينا.
إن كان هذا يكفيك أيها الأخ العامل العثماني، فالحمد لله على خدمتك وخدمة إخواني.
الغلو في المدح - التذلل - الذي ينقصنا أكثر من الذي عندنا
غاظني صديقي «نقاد»، ولكن لا آخذه الله بجريرته. سبقني إلى هذا الموضوع فأجاد وأفاد. ولو كان يدري أن أخاه زهيرا ورم أنفه في إعداده لتخطاه إلى غيره. على أنني لست مكررا ما سبقني إليه. فليطب قراء المقطم نفسا. بلى ربما جئتهم من تجاربي بأشياء تعظهم كما تفكههم.
نحن الآن في عصر دستوري. والدستور رأسه التساوي وركنه الحرية. ومتى تساوى الأحرار بطلت عادة التراجح في الحقوق، وبقيت عادة التراجح في الأعمال. هذه قضية لا تنقض. وكل من حاول أن يقيم الدليل على بطلان حكم بديهي، لم يزد على أن يضحك الناس من عقله.
أما عصر الاستبداد الذي دالت دولته، فعصر لا يقاس بغيره. كان أعجوبة في كل شيء من أشيائه. خذ عقل أحد السوقة وتدرج في مراتب العقول إلى أن تنتهي إلى عرش الملك، فلن تجد فرقا في الإدراك. وكثيرا ما فضل السوقة إخوانهم الملوك. وإن رجلا يشمخ بأنفه لمخمل يلبسه ساعتين ثم ينزعه ليبقى في صندوقه طول أيام سنته، لمزراء في عقله مظلوم من الطبيعة في حصته من الإدراك. وإذا كان فضل المرء بلبوسه فإن في الحيوانات والطيور ما لا يسمو إلى جماله ملك من الملوك. أي قائد من قواد الجيوش في ثيابه الذهبية وسيفه المرصع ووساماته المتلألئة، يضارع الديك الهندي في جمال عرفه وبهاء ريشه واختياله في مشيته، بل أية ملكة تشبه الطاووس إلا إذا شبهها به المتشبب في بعض أشعاره؟
وبعد، فلا حجة لأهل القدم على أهل الجدة في طلب التمسك بالعادات والنحل، إذا كانت تلك العادات والنحل مثالب لأهلها.
كانت جرائد الأستانة إذا مدحت «سلطان البرين وخاقان البحرين» قالت: تنبت الأرض ببركته، وتمطر السماء بجوده. وقالت إحدى الجرائد سامحها الله: إنه المقصود بخطاب «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك»، وكانت تشبه عربته بالفلك. وما زاده ذلك إلا غرورا وما زادنا إلا ويلا. ولقد بلغ الغلو بالقوم أن صاروا يكتبون ما لا معنى له. حتى سألني أحد فضلاء الفرنسويين أن أترجم له جملة منها ليكتبها في مؤلف له فلم أستطع.
وكذلك اعتاد الناس التذلل. فإذا قال أحدهم لكبير من الكبراء: جئتك أو زرتك، عد ذلك من الذنوب التي لا يتناولها الغفران، وإنما ينبغي أن يقول: جئت لأمرغ وجهي على تراب قدميك. ويقول بعضهم لبعض: كانت جاريتك امرأتي، وقال: عبدك أبي، وجاء مملوكك ولدي. ومثل هذا كثير لم يخطر على بال القائمين «بتصفية اللسان العثماني» أن يزيلوه من اللسان. وإلى هذا أشار أبو الأدباء الأتراك وفخرهم المرحوم نامق كمال بك الشهير في قصيدة له فقال:
خاكه يوزسور مكله قائمسه يراوستنده حيات
اختيار ايت التني خاكك حياتك رغمنه
ومعناه: إذا كانت الحياة قائمة على الأرض بتمريغ الوجه على التراب، فاختر أن تقيم تحت التراب وأنف الحياة راغم. ولكن نامق كمال كان عندليب ربيع مضى ، ومضى هو معه وقد أطربتنا أقواله، ولكننا قصرنا في اتباع رأيه.
فإذا قيل لهؤلاء المتمسكين بالعادات السخيفة: ما يعجبكم من هذه الأباطيل؟ قالوا: هذه عاداتنا القديمة لا يجمل بنا النزوع عنها، والأمم الغربية وهي سابقتنا إلى الحضارة لا تزال محتفظة على قديمها، فكيف نغير نحن ما عاش عليه الأجداد وماتوا؟ وقد فاتهم أن الخطأ لا يقاس عليه. وأن من حقنا أن نقلد أهل الغرب في الحسن دون القبيح. ولقد كان العرب في الجاهلية يئدون بناتهم أنفة، ولكن هذه العادة أبطلها الإسلام. ولا يليق بنا أن نجعل العصور كما يوافق عاداتنا، فذلك ما لا نستطيعه، والأقرب أن نجعل العادات كما يوافق العصر.
وقد رأيت في جرائد الأستانة أشياء وددت لو تنزهت عنها. فهي لا تزال تغني السلطان الدستوري غناء السلطان المستبد. وتقول إن أوراق كذا واللائحة الفلانية عرضت على الأعتاب، وسلطاننا الدستوري لا يرضى بذلك. فإن عد هذا ثناء فليس هذا بثناء على شخص السلطان بل على أعتابه. ونحن ممن يحبون السلطان ولا شأن لنا مع أعتابه ولا نعرفها، إلا إذا قضى الله لنا أن نراه فنتخطاها كما يتخطاها الناس. وأوراق الدولة العثمانية لا تعرض على أعتاب السلطان، بل تسلم إلى يده الشريفة مع التعظيم.
الحمد لله كثيرا. لنا مجلس أمة ولنا دستور نأوي إلى عدله، ولنا جرائد تكتب ببعض الحرية، ولكن ينقصنا كثير. ينقصنا علم لا تغلب عليه صور الأشياء دون حقائقها، وأناس يقولون الحق ولا يخافون عليه عقابا، وينقصنا إنصاف يدعنا نرضى بالحق وإن صغر مصدره، ونأبى الباطل وإن عظم مورده، وينقصنا صبر من عنده ضمير حر، على أن يرى قادة الأفكار يتكلمون بكلام الصبيان، وينقصنا أقلام من الفولاذ وأنامل لا تكل ونفوس لا تمل؛ لنحارب الجهل حتى نجليه عن موطن العلم.
فلن يسر العثماني أن يقول فيه الغربيون ما يقولون في الأمم المتوحشة، وأن تجعله الولايات المتحدة بمنزلة الآسيويين من سكان الجبال وأهل الوبر ودون الزنوج. وقد كنت أريد أن أرسل للقلم عنانه وأزيد أشياء، ولكن سبقني إليها صديقي «نقاد»، ومن جعله الله بين أهل الفضل الذين تأتيهم شياطينهم بمخبآت الضمائر، يبقى له من شوارد المعاني ما لم يرضه السابقون.
جراغان في أمسها وفي يومها
أسجن مراد لو تكلم منزل
لأخبرتنا عما جرى لمراد
ثلاثون عاما قد توالته عانيا
بربعك في بث وطول سهاد
يطالع من خلف الستائر ملكه
يخاطبه شوقا له وينادي
بلادي بلادي إن يحل بيننا النوى
فعندك روحي دائما وفؤادي
لقد مات مجنيا عليه وما جنى
ولكن لأحرار الملوك أعاد
بعد أيام مراد، وقد مضت في لوعاته وشجونه، بين الستائر المسدولة والكوى المغلقة والجنود المحاصرة والأرصاد الذاكية، وتحت خطوب يلديز الفادحة تتجلى «جراغان»، في شبابها الريض وحسنها الأنيق لأعين ثلاثين مليونا من عباد الله. وهي إنما تتجلى سافرة غير محجبة، مباحة غير ممنوعة، مفتحة الأبواب، آهلة الكواكب، يقصدها الأمير وغير الأمير، يقف تحت سقفها المرفوع صاحب التاج وصاحب الشملة المرفوعة، وجها لوجه إن لم يقفا جنبا لجنب.
الجدران التي سمعت تأوه السلطان المظلوم ثلاثين سنة، ورأت جسمه يذوب كل يوم كما يذوب الجليد، تسمع اليوم خطباء الأمة على منبر النيابة، وترى السلطان الدستوري في إقبال دولته وأيام نعمته.
رب متكأ كان يغيب فيه مرفق الملك الأسير، وبين يديه أبناؤه وبناته كنجوم الأفق في ظلمات الليالي، يتراوحون أمامه مكتئبين. يسألونه عن الشمس كيف لونها وكيف ضحاها، وعن الرياض وما يتخيلون من شجرها وزهرها وحياضها وجداولها وبلابلها وأغاريدها وطلها وغيثها وحصبائها وزرعها، وهو يجيب بفمه ويبكي بفؤاده. ورب مكتبة عليها دواة جف حبرها، ولا ورق فيملأ ولا قلم فيكتب، كان أسير الظلم يجلس أمامها، ويؤتى بالغصون اليابسة فيبريها بسكين الطعام، فيكتب بحبر يصطنعه هو على قطع من الخشب أو الخرق، ما يعلم به بنيه الكتابة والقراءة. لا أثر اليوم من تلك الشهود الصامتة. بدلت منها جراغان غيرها وباتت مبيت العروس ليلة زفافها.
الآن يستضحكون جراغان وتريد هي أن تضحك، ولكنها لا تعرف غير البكاء. فقد تعودته ثلاثين حجة. اليوم يقيمون الأفراح بين تلك الحجرات، وتود الحجرات أن تفرح لفرح الأمة، إلا أنها لا تدري كيف تفرح فقد استطابت الحزن فلا تقدر إلا على الحزن.
أما لو قسم الله لي أن أزورك أيها القصر لوجمت أمام بابك خشوعا؛ فإن الذي قضى بين أحنائك ملك شهيد، فإذا لم تأخذني هيبة الملك غلبني موقف الشهادة.
أهلا بنواب الأمة. أحق مكان بكم هذا المكان. فإن كانت الأرواح كما يقولون خالدة، فكم من روح ترف على رءوسكم، مراد ومصطفى فاضل ومدحت وكمال، وغير هؤلاء من ضيوف الآخرة بينكم اليوم يسمعون ويعون. بكوا العام الماضي وذاقوا من الحزن ما لا تحس به إلا الأرواح. فهل أنتم مانحوهم عامكم هذا ما منحتموهم عامكم الزائل؟ أم أنتم قائمون فقائلون: أوفدنا إخواننا لنحمي إخواننا، فلا نريد إلا ما ينفعهم ولا نرضى بغير ما يرضيهم؟
هل أيقنتم اليوم أن جدالكم في الساعة الشرقية والغربية والسنة الشمسية والقمرية أضحك منكم الناس؟ أم تودون أن تتجادلوا بعد ذا في الملابس والمآكل والمشارب، وكيف ينبغي أن يمشي الرجل وكيف يليق بالمرء أن ينام في بيته؟
أيها الرئيس المنتخب، أرجو أن لا تحمر وجوه منتخبيك. فقد حلبت الدهر أشطره، وعشت ببلاد التمدين ورتعت في مسارحها جادا مجتهدا حرا ومنتصرا للحرية. ولقد وضعت الحرب أوزارها، وأفضى إليك شيعتك بحاجاتهم. ثم أنت تعرف موضع آمالهم، فكن كيف شئت، ولكن خصلة واحدة يحاسبك عليها الشعب؛ أن تقول خلاف ما تعلم.
لست نائبا والحمد لله، ولن أكون بإذن الله، ولكني كاتب أمة لها ألوف غيري، كلهم خير مني فما أنا مرشد ولا معلم، بل أنا منبه ورقيب. ورقيب في عهد الحرية غير رقيب في عهد الاستبداد. إذا بدا لي ما يسوء أبناء وطني، فلا ود ولا جاه ولا مال يمانع لي قلما أن يصر صريره. وما ينقش على الورق ينقش على لوح الأبد. ذاك هو اللوح المحفوظ. فمن كان يتقي مأثور القول فليسلك طريقة الحق، ومن قال: لا أبالي بما يكتب الكاتبون، فقد استراح حيث تعب الكرام.
رأينا أناسا في العهد السالف كانوا أولي الكلمة المسموعة والإشارة المطاعة، ثم رأيناهم في العهد الحاضر أولي المقام المرفوع والجانب المحمي. ولا بأس في ذلك. أولئك المخضرمون وقد كان مثلهم مخضرمون، غير أننا لا نعفو عن هفوة تردي الأمة وتميل عماد الملك. والعدل والعفو لا يتفقان. فمن عثر جاهلا أقال الله عثرته. ومن وقع متوقعا أسف الله فمه التراب.
أنزلوا هذه المطايا الخشبية، فكم زل عنها غلام خف وشيخ موقر. وأطلقوا أقلام كتابكم فقد طال عليها عهد الحبس. وقولوا للناس سيروا في مناكبها وكلوا من رزقها لسنا عليكم بمسيطرين. ودعوا صدور المكربين تتنفس عن بثها. فإن خفتم أن يسوءكم بيانها فإن كتمانها عليكم لأسوأ. القلوب تحس وتريد، والعيون تنظر وترى، والعقول تدرك وتعي، وكل يوم مثل سالفه ينقلب ويتغير، فمن جعلكم على هذه المقاعد قادر أن يجعل عليها غيركم. ولئن استطعتم أن تسكتوا من عندكم فلن تسكتوا من ليس عندكم. وما يكتب يقرأ، وما يقرأ يفهم، وما يفهم يرضي إذا كان حقا، ويغضب إذا كان بطلا. ولا يخفف حسرات جراغان ما لبسته جراغان من ثوب جديد.
سلام عليكم، هذه تحية الآيبين من بين أهلهم وعشيرتهم ليفضوا إلى الحكومة بحاجات الأمة. وحين يتقادم العهد ويطول المقام نكون عليكم أشد جرأة وأنفذ مقالا وأقوى حجة وأكثر ناصرا وأمضى عزيمة وأصدق شهودا.
خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاء
في ليلة ليس بها كواكب
كأنما مشرقها مغرب
يمسي سوادا كل ما بينها
ففوقها وتحتها غيهب
لا يدرك الفكر بها مطلبا
فكل ما يطلبه يهرب
جاءوا بمظلوم إلى ظالم
قالوا له هذا هو المذنب
بكى وفي الدار بكوا مثله
فكل من في داره ينحب
وقد رأينا حوله صبية
تندب حين أمهم تندب
قال اجعلوه مثل أترابه
من كان من مذهبه يذهب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وأقبل الصبح على أيم
وصبية ليس لديهم أب
يا بحر لو تنطق أخبرتنا
ما قال من غيبت إذ غيبوا
الظلم له يد وليس له فؤاد. يغمد خنجرا من خناجره في قلب من قلوب الناس، فلا يستشعر لذلك ألما. القتيل مضرجا بدمه لديه كالحي مضمخا بطيبه. ظلمات الليالي وظلمات البحار وظلمات القبور. كل تستسر في أثنائها بدور مطالعها الشباب ومنازلها الآمال. وإذا كان لأهل الويل تراث، فاللواعج التي تذكيها الذكر والحسرات التي تستديمها الصروف. أجسام ما زهور الرياض ولا نيرات الآفاق ولا عقيان القلائد ولا جواهر التيجان بأحسن منها منظرا. تربى متنقلة في الدلال من حنو مرضعة إلى غناء مربية، إلى ابتسامة أم، إلى مواصلة حبيب كل ذلك لمصرع لحظة يتلوها الفناء. ما أضيع الأمل وما أعدى القضاء!
في ليلة من ليالي الشتاء سكنت تحتها الأشياء وتحركت الضمائر سوداء الجلباب بيضاء الصقيع. طرقوا باب المظلوم فأطل عليهم. قال: من الطارق المنتاب؟ قالوا: أجب، شفيق يدعوك.
فقام إلى ثيابه فلبسها، ومال إلى أهله فودعهم، وتوسط رسل البين وزبانية جهنم فأركبوه عربة سارت حتى وقفت بهم أمام باب كبير. فمشى الرسل ومشى بينهم المظلوم، فأدخل به على من وجه في طلبه. فتقدم خطوات وسلم تسليم غير المشتاق، ووقف ينتظر الجواب. هذا الموقف مهيع من الحياة إلى الموت. تعلل كل ثانية من ثوانيه نافع لمن ناله. رحمة الله على أبي تمام إذ يقول:
ها إن هذا موقف الجازع
أقوى وسؤر الزمن الفاجع
الطالب والمطلوب متواجهان. خصمان هذا سيفه سلطان، وذاك درعه أساه. فلما استطال السكوت واستبطأ الشر أسيره، رفع شفيق رأسه ونظر إلى غريمه نظرة ملؤها الختل ثم قال: الآن يذهبون بك إلى «القصر» ولا أدري عم يسألونك هنالك، فكن رابط الجأش وأحسن الجواب تلق خيرا.
ثم أمر شفيق اثنين من الشرطة أن يركبا المظلوم عربة وأن يمضيا معه، ففعلا. فلما أوفوا على الشاطئ، ألفوا زورقا فيه أناس بانتظارهم، فأركبوا الزورق وانطلق حتى رسا بهم إلى جانب سفينة كبيرة، فصعدوا إليها. وجاءوا للمظلوم بكرسي فجلس عليه، وناولوه سيكارة جعل يصعد دخانها وهو صامت. ثم أقبل من البر زورق آخر فصعد منه جماعة منهم محمد علي رئيس الهيئة التحقيقية إذ ذاك. فدنا من المظلوم وقال له: الآن صدرت الإرادة السلطانية بإلقائك في البوسفور. بذا قضى الله ولا مرد لقضائه، فإن كانت لك وصاة توصي بها من بعدك فهاتها. وإن كانت نفسك تشتهي شيئا مما يؤكل أو يشرب فاقترح.
قال: لا أريد شيئا. وانسابت من مقلتي الرجل شآبيب خضلت لحيته، والناظرون إليه لا يبكون. هم يعجبون أن يجزع الناس لفراق الدنيا. شهدوا مصارع كثير من الخلائق وشهدوا جزعهم عند الموت. فاستضحكهم ذلك وقالوا: ما لهؤلاء يخافون ما لا بد منه، وما تعجيله إلا تعجيل أمر لا ريب فيه؟! يا حكماء الموت هذا عجب الخلي من حال الشجي، ولعل لكم في ذمة الدهر مواقف مثل التي أنتم لها شاهدون. سكت المظلوم سكتة غلبه عليها فؤاده. وفي ثنيات الأفق كواكب تنظر ولا تسعف. والريح بليلة الجناح واليم جائش الغوارب، والبران في بيوتهما المنيرة شاهدان ولكن لا ينطقان. الشعراء يبكون بأبياتهم والمظلوم ينشد دموعه. أي قعيدة الشجون، هذا الفراق:
فرجي الخير وانتظري إيابي
إذا ما القارظ العنزي آبا
لما جاءوا بالسلاسل فأمروها على عنق المسكين، وأثقلوا رجليه بقطع الحديد وأهووا به إلى الماء، فغاب في عبابه، عرف هوان الحياة وكيف تجني الوالدات على من ولدن، وإلى أية غاية يكون المصير ...
قالت جرائد الأستانة الصادرة في ...
عثر رجال الشرطة على جسد رجل بشاطئ البحر، قد تشوه وجهه، وتمزقت ملابسه وأعضاؤه، فلم يمكن أن يعرفوا من هو، ولكنهم رأوا في ملابسه خاتمه المنقوش عليه اسمه، فإذا هو اللواء ... وظهر أن بعض أعدائه الخائنين انفردوا به يوما فأغرقوه. وقد صدرت الإرادة السلطانية بالجد في طلب الجانين الذين اعتدوا على مثل هذا الفقيد الغالي! ووعد من يعثر عليه أن يعطى جائزة سنية ويزاد راتبه وترفع رتبته.
بين نوحات النائحات وبكاء الثاكلات، سكوت يأتي به الإعياء وتقطع الأنفاس. ذلك من الفواصل التي ينوب فيها القلب عن العين، فتسكت الظواهر وتبكي السرائر. وقد وقع مثل هذا في بيت الفقيد الغالي! جاء رجل من القصر يحمل عطية. كلم الأيم من وراء ستارها فقال: أمير المؤمنين في حزن عظيم على المرحوم! فقد كان يحبه كثيرا! وهو يقول: إذا ذهب حاميكم فأنا حاميكم. وهذه هديته إليكم.
فانطلقت الألسن بالدعاء من قلوب لا يشوبها الرياء ...
كانوا يخدعون الناس فيسرقون منهم الدعوات، ويريدون أن يخدعوك يا رب ليختلسوا منك الرحمة والرضوان.
ماذا قال وماذا قالوا
ولولا وال عثماني ما خططتها
استخدم القلم ثم مله. وافترقا بعد ذلك غير آسفين. ألقى القلم وجانب المحابر وطوى الصحف، وحاول مطلبا فنال، فلا سماء فروق إذا صحت، ولا ماء الخليج إذا سكن، ولا بنات ورق إذا دعت هديلا، ولا الأزاهر إذا تنفست عن أريحها. لا يبعث وجده ولا يجدد صبوته شيء من تلك الأشياء. ما أكذب ما ترجع به الأبصار! الخلق لا يتطرقه تغير، والحقائق ثابتة، وليلى في يومها كليلى في أمسها، وإنما تتغير مواقع البصر بتغير الحالات.
مالك! أئن اختلفت وجهتك وملت عن قصدك، تبدلت في نظرك الأشياء! الهضاب هي تلك الهضاب يكسوها أخضر النبات. يصوب عليها العارض المتهلل، فتتفتح ثغور أقاحيها وتبتهل أفواه شقائقها ثم يغدو عليها قيظ، فإذا ما فوقها هشيم يابس ذوت أزهاره وعاد اخضراره اصفرارا. إذا انقطع عنك الوحي في ليل الهواجس، وجفت مكانك ملائكة الفكر بما كانت تأتي به من أنوار المعاني، استطبت أنت ذلك التحول وتقول إنك لست بالمتحول. هات الدليل، لعل لنا فيه مقنعا.
أهلا بسيدي الوالي في موكبه الحافل وأعلامه الخافقة، وقدره العالي وفضله المأثور.
زعموا أنك مررت بهذه الديار فجست خلال ربوعها الآهلة، وكانت لك غدوات وروحات في مسارحها ومراودها، فعبت عليها حسنها ولا غرو. ابن الرومي الشاعر ذم قبلك الورد، وكرهت أن ترى تماثيلها وقلت: «إنها ظلال الحرص على الممالك.» ولا بأس، فأكثر القدماء يقولون مثل مقالك، جعلك الله في حل مما قلت، ولعل مولاي ممن يؤثرون البدو على أهل الحضر ويقولون ما قال شيخ المعرة:
والحسن يظهر في شيئين رونقه
بيت من الشعر أو بيت من الشعر
وقد أتانا أنك نزلت هنا بقوم أفضت إليهم بحديث لم يأمرك به آمر، هو رأي رأيته. قلته لرجل اخترته فروي عنك ذلك الحديث بسنده المتصل. فاستفز جماعة جبلوا على مضغ الكلام. وهنا الرجال والنساء يمضغون المصطكاء. وقد ذكرت صحيفة من صحفهم خطابا أنفذوه إليك وجاوبتهم عليه. وقرأت أنا ذينك الكتابين وقرأهما غيري.
إذا صدق ظني فالكتاب مصطنع. أنت أجل من أن تقول مثل هذا الكلام. نعم سبقت لك شطحات كنت أقرؤها وأضحك، أما مثل خطابك فلا أخالك ترضاه لنفسك.
قال قائلهم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهل هذا منطق الطير الذي علمه الله؟ إن هذا إلا إفك مبين.
إذا كنت تركت «تصوير الأفكار» فما تركت الأفكار، والقوم لا بأس بما فيهم من طول ومن قصر ... غير أن في الناس غيرهم يقرؤون ما تكتب، فماذا تراهم يقولون؟ أنت الآن في غرفتك أمامك أوراق مما بقي من العهد القديم. فيها من العجائب والغرائب ما يستضحكك طورا ويستبكيك طورا، ولا يأتيك نبأ ما يقول الناس لبعد الشقة واختلال البريد. ولكن نحن نسمع والأغرب أننا نفهم. آه يا ليتنا لا نفهم. إذن لاسترحنا واستراح كثير معنا.
يزعمون أنك تبغض الإنكليز. أبغضهم ما شئت وأحببهم ما شئت. لسنا على فؤادك مسيطرين. ولكن الوالي العثماني يحب من تحب دولته، ودولتك تحب الإنكليز والإنكليز يحبونها.
يزعمون أنك تقول إن الهند ومصر شريكتان في الشقاء وإنهما يتململان من ظلم الإنكليز. ولكنك تعرف أن في الظلم ضروبا لا يجارينا إليها الإنكليز، وأن القوم نزلوا بمصر وعيوننا تراهم، وأن فضلهم على هذا القطر أعظم من فتح الشوارع وإقامة التماثيل، وأن لهم عندنا معشر العثمانيين لجميلا لا ينساه من في فؤاده مثقال ذرة من المروءة. وربما كان في أبناء التأميز أفراد لا يحبون العثمانيين، فليكن في العثمانيين أناس يبغضون أبناء التأميز. غير أن والي البصرة يجب أن لا يكون إلا وفيا عارفا بمرامي الكلام.
سيدي، لو رأيتك على كرسي الحكم بين جندك وحشمك لقلت: ما شاء الله، ولعوذتك من عيون الحاسدين. غير أنك حين تبدي من التواضع ما ليس من حقك، يرن في أذنيك نداء يستفزك فوق مقعدك الوثير ، فتسمع هاتفا يقول إن العصا قرعت لذي الحلم.
رأيتك آسفا لما فاتك من زيارة قبر أن تجله، فتذكرت قول الشاعر:
فقال: أتبكي كل قبر أتيته
لقبر ثوي بين اللوى فالدكادك
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
وكم من ملحودة زلج جوانبها قفر بلي رميمها ولم تبق حتى صفائحها وجنادلها، فرب شهيد حرية وسد في التراب. قف بحيث تشاء وسلم على تلك الأرمام، يكن رجع صداك جوابها. فلا تحلن عرى عزماتك صيحات لا تلبث أن تضيع. أعوذ بالله أن تحسب الشحم ورما، وأن تكون على غير ما ترضى به أمتك.
هذا خطابي وأنا لا أصدق ما يعزى إليك ولا يصدقه غيري من عقلاء هذه الأمة. فانظر ما أنت مختار لنفسك. ولئن صح - ولن يصح - ما زعموا فإن لي صوتا يدركك في منعرجات الأحقاف وبين عاليات القصور، وأقول يومئذ:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم
عفا الله عني ذنب هذه السطور، ولولا وال عثماني ما خططتها. كلمات انتقيتها من بين أخواتها لأجعلها قلائد منظومة تتغنى بها العذارى في خدورهن. ولكن يضطر الحر أن يستهين بغوالي مذخوراته صونا لمجد وطنه.
الإسراف الإسراف
أمس أرهفت الشفار وشمر الجازرون عن سواعدهم، وجيء بالأضاحي التي أسمنها مقتنوها، وطلوا فراءها بالحناء وبالورس، وفيها من موهوا بالذهب قرونها ودهنوا بالزعفران آذانها. فأكب أهل الصناعة على صناعتهم، فمن مكبر ذابح، ومن نافخ ضارب، ومن سالخ جاذب، ومن مقطع ناصب، وعلى أبواب البيوت الأقيال وأبناء الأقيال من الساسانيين وقوفا صفوفا أو جثما قعودا، يراقبون من كل باب مصراعه، وكأن البدر سيطلع عليهم في موكبه السماوي، أو كأن سينجاب غشاء الأبصار فتبدوا من ورائه القسم.
بت يوم الأربعاء بليل بطيء الكواكب، ناصب الهم، مسدود مسالك النسائم، مقلقل مواضع النجوم، وكأن الهلال يكاد ينطفئ إذا نفخه نافخ، وكأن الثريا يكاد ينقطع مناطها إذا مد إليها كفه متناول، فقلت في نفسي بأنه من ليل أدعو الكرى فلا يجيبني الكرى، وأغمض عيني كرها فتتفتحان كرها. خفتت الأصوات وسكنت الحركات، وهدأت الجوانح ولانت المضاجع. أما لولا أن تولت غضارة الشباب وبطل سحر الجفون لقلت إني عاشق. فلما طال ما بي حتى أمضني، جلست إلى كوة لي تطل على ميدان عابدين، وجعلت أتخيل أشباح المارة في أثناء الظلام.
قلت: يا رب، ما هذا الذي نحن فيه؟ أكثر السادة والسيدات مجتمعون الآن بقرافة الإمام وباب الوزير وزين العابدين والعفيفي والمجاورين وغيرها. محتشدون حول مقابر علت مبانيها وحسنت «تراكيبها». عاليها أنواع الثريات تبهر الأنظار. منثور فوقها الريحان والخوص. يفرقون التمر وغيره من الفواكه «والشريك» على الفقراء. يتباكون ويتضاحكون. بين أيديهم الخدم يطوفون عليهم بما لذ وطاب من طعام وقهوة، وعندهم المترنمون من الحفاظ يرتلون سورة يوسف حتى مطلع الفجر. هذا دأبهم في عيد الفطر وفي عيد الأضاحي كل عام. ثم يأتي الصباح فتجري دماء الأغنام كالأنهار.
لا أدري حكم الأضاحي فيما يرجع إلى الدين، فلا أتعرض له بشي مجانبة للشطط. ولكن ما هذا الإسراف؟ ألنا ثأر عند الغنم فنثأر، أم الغنم كثيرة فنريد أن تقل؟ ما روى لنا أحد المؤرخين أن جد الغنم نطح أبانا آدم، فنجعل عداءنا محمولا على هذا السبب.
إذا قلنا إن مليونين من الاثني عشر مليونا من أهل هذا القطر، يذبح كل واحد منهم كبشا ثمنه جنيه، كان مجموع ما ينفق على الأضاحي مليوني جنيه كل عام، أي عشرين مليونا كل عشرة أعوام، وأربعين مليونا كل عشرين عاما. فإذا رضينا أن نحسب ما ينفق على القرافات مليونين أيضا، تضاعف مقدار ما ينفق فكان ثمانين مليونا كل عشرين عاما. هذا مبلغ لو يجاد به في زينة البلد لباتت أعمدة مصابيح الغاز التي في طرقاتها من الفضة، ولو بذل في تعليم الأبناء لصاروا كالأنبياء، ولو بذر في الأرض لنبتت السنابل ذهبا، ولو أنفق على الفقراء لأصبح السائلون يشترون ملابسهم من ريبو ويفطرون على الشكولاتة، ولا يتغذون إلا بألسنة البلابل مطبوخة في جفان من البلاتين.
شاعر مصر حافظ إبراهيم لا يكسب كل شهر عشرة جنيهات، وشاعر آخر ثانيه حاول الانتحار، ولكن لم يجد سلاحا يعجبه، وكثير من الفضلاء يعيشون على الهواء، وليس لهم في ثمانين مليونا من الجنيهات نصيب.
أما كان يرضى حافظ بأن يكون له مثل الراتب الذي يتقاضاه قائد جيش، فيقول مفتخرا:
أجل هذه أعلامه ومواكبه
هنيئا لهم فليسحب الذيل ساحبه
أم كان يأبى الشاعر الآخر أن ينال كل شهر ما ينال مدير عام فيتمثل بقول ابن عمه في الغابرين:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما
أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وبينا أنا أفكر في مثل هذه الأمور، إذا بدوي المدافع من القلعة يؤذن بحلول العيد السعيد. قلت: كل عام والناس بخير. وتسابق بعد ذلك العامة إلى الطرقات، هذا يحمل فخذ كبش يهرول بها إلى بيته، وذلك تحت إبطه جراب فيه ما جمع من القرافة، وأناس لبسوا ثيابهم الجديدة وعوجوا طرابيشهم، وبأيديهم العصي المثقفة يلوحون بها يمنة ويسرة. فإذا تلاقى صديقان بادر كل إلى صاحبه يعانقه وكأنه يصارعه. ولقد سقط الطربوش من رأس أحد الناس، وكان فرغ من معانقة صاحب له فالتقطه وجعل يمسحه بمنديله. فلما ولى ذلك قال صاحب الطربوش لرجل بجانبه: الله يطين عيشته طين لي طربوشي.
وما لبثت أن رأيت العربات والسيارات رائحة غادية، فيها السراة وأبناء السراة في ثيابهم المخملة وعلى صدورهم الأوسمة، ورجال الشرطة واقفون في وسط الطريق يحيون من يعرفون ومن لا يعرفون، فجعلت أتصفح وجوه القوم، فإذا هي ضاحكة مستبشرة يتعالاها الوقار ويبدو على صفحاتها السرور. قلت: ذبحت الأضاحي وقسمت لحومها على متنازعيها ومتجاذبيها، وظلم بنو آدم في يوم فرحهم مليوني روح في قطر واحد فما ظنك بغيره.
الاسترقاق في أيام الحرية
لو يعلم المهد ما يكون
من بعده ذخره الثمين
لبات حرصا به ضنينا
وذو الغوالي بها ضنين
يظل يهفو به حنين
إذا شجا ربه حنين
يصر في ميله صريرا
كأنه تحته أنين
يا حبذا الوجه حين يبدو
من فوقه ذلك الجبين
حسن تشك العقول فيه
وينتهي عنده اليقين •••
لما تحلى بها صباها
وجاولت عينها العيون
وأقبلت تنثني دلالا
كما انثنت قبلها الغصون
أطاعها الحب في البرايا
فكيف كانت لهم يكون
تحاجزت دونها الأماني
وأوقفت عندها الظنون
أمست وعشاقها ملوك
أضحت وإخوانها قيون
فوجهها للعلى وفي
وقلبها للهوى خئون
وجسمها في الورى عزيز
وقدرها في الورى مهين
وكم قصور بها حسان
أحب منها لها السجون
ملت سهول الحياة رغما
وأعجبتها بها الحزون •••
في أوج تلك السماء شمس
تغضي لإشراقها الجفون
لم يستقر الفؤاد منها
بينا خفوق إذا سكون
وما خلا من جوى فإما
مضت شجون أتت شجون
استسلمت للزمان طوعا
إذا قسا صرفه تلين
تشتاق في عزها ذويها
وحصنها دونهم حصين
حتام هذي القيود تبقى
يا رب قد كلت المتون
كلما أومض بأفق الغرب بارق هاج منا شجونا. وكلما سرت من نحوه نسمة، أذكت في أفئدتنا غراما. يا رب. ما تلك المحاسن التي يرنو الحليم إليها صبابة؟ كل النفوس لها نوازع. كل الآمال عليها عواكف. نناديها فنستلفتها، ثم نبتهل فنستعطفها، ثم ندعوها فنستجلبها. فإذا أمكنتنا من نواصيها وسلس بأيدينا قيادها؛ أذلنا مصوناتها وشوهنا محاسنها ومسخناها مسخا.
بالأمس كنا ننادي: يا حرية يا حرية. يا فتنة الشعوب وعدوة المستبدين، ومرتع الآمال ومسرح النفوس، وشفاء الصدور وحياة الممالك. فلما استجابت دعاءنا وأقبلت برضائها علينا، تجاذبنا غدائرها وتنازعنا حليها ووصلنا القيود التي فكتها عن سواعدنا لنشد بها سواعدها.
قرأت في طنين خبرا ما وددت أن أقرأه ولي ما تشرق عليه الشمس. فليستمع عبدة الحرية وليبكوا كما بكيت. وما بكت عيني فدمعي في الحوادث غال. ولكن بكى فؤادي ودمعه متواصل الجريان.
بالأناطولي قضاء اسمه «دوزجه»، به رجل يدعى الحاج إسحق! كان في دولة الاستبداد موظفا في إدارة الحراج بذاك القضاء. وكان لهذا الرجل جارية اسمها ملك، أنفذها رشوة إلى بعض الأكابر بالأستانة. فلما أعلن الدستور رجعت إلى بلدها، فطلبها إسحق ورفع أمرها إلى المحكمة الشرعية هناك، فقضت له بأخذ الجارية ولم يجد دفاعها عن نفسها فتيلا. وحين أعيتها الحيل فرت مختفية تريد الأستانة لترفع بها ظلامتها إلى الحكومة. فأرسلت حكومة «دوزجه» رسالة برقية في طلبها، فقبضوا عليها في «آطه بازار» واسترجعوها صاغرة إلى من ينازعها حريتها. وقد غلب الخوف أختها حتى قضت فزعا.
بعثت هذه المظلومة كتابا إلى طنين تستنجدها به على ظالميها، ودافعت طنين عن الحق دفاع الأبطال.
هذه القصة أذكرتني أخرى مثلها. جرت في نحو سنة 1905 بسيواس قبل إعلان الحرية، وأنا إذ ذاك منفي بها، وذلك أن رجلا اسمه الحاج مقصود هو من قرية من قرى العزيزية يقال لها «جامورلي»، كان ذهب إلى حلب في جماعة من رجاله، فاختطف من إحدى القبائل صبية تدعى فضة. ثم جاء بها إلى بلده وأقامت معه بضع سنين، حتى إذا صارت شابة حملت منه كرها. وما زالت تترقب الفرص إلى أن سنحت لها. فشكت ما بها إلى رجل من قريتها اسمه غنيمت. ففر بها ليلا حتى دخل بها سيواس. فلما كان الصباح قصدت إلى الوالي وهو الشهم الهمام رشيد عاكف باشا، أحد أعضاء مجلس الأعيان الآن، ونجل الرجل الشاعر الحر عاكف باشا الشهير. فأمر بجعلها في داري، وأخذت المحكمة تنظر في أمرها. والحاج مقصود أودع السجن، ولكن بقي أعوانه يسعون في الأرض فسادا. فاستمالوا القاضي إليهم واغتالوا الذي فر بها فقتلوه ليلا وهو راجع إلى القرية، وأمر القاضي بإرجاع المرأة إلى الحاج مقصود، ولكنني لم أفعل. ثم جهزها الوالي وأعادها إلى أهلها بعد أن وضعت بنتا حرمت محبة الأب وهي في بطن أمها.
أما بعد، فالشكايات جمة ولكن من يسمعها، والجراحات دامية وأين من يأسوها. ابتلانا الله بأناس لا يفقهون قولا ولا يرتضون بنصح. فهم الحوائل بيننا وبين كل سؤدد، وهم الموانع دون كل مكرمة، نسميهم مسامحة إخوانا، وإنهم لإخوان السوء وأعداء الوطن. إذا اشتدت بهم شهواتهم زاغت أبصارهم وعرمت نفوسهم ووقفت الأهواء بينهم وبين الأحلام.
لست أدري ما يبتغي الرجل من فتاة يبتاعها بدراهمه ليشركها في حياته ويقاسمها أفراحه وأحزانه، كما يقاسمها نعمه وأمواله. أما فؤادها فموصد بابه في وجه محبته، وأما نفسها فحائمة على غير وده. لا يقدر أن يستخلصها لهواه ولا يدعها تختار هوى لها. كالغراب يخطف قرص الصابون لا هو يأكله ولا يتركه لصاحبه فينتفع به.
الفتاة التي تطأ بساط العز وتتهادى في مطارف النعمة وتتقلب على حواشي الملك، ويقول في أترابها شوقي بك:
أمضى نفوذا من زبي
دة في الإمارة والأمير
لو خلا بها من يستخبر فوآدها لقالت:
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
وبيت تضرب النكباء فيه
أحب إلي من قصر منيف
ازدحمت قصور الظالمين بالكواعب الأتراب أمثال الدمى حبستهن عن العباد كرها، ثم جادت بهن للعباد كرها. وقد يرغم الزمان على السماح إذا طحنت حوادثه شم الهضاب، ذلك ما يعظ وهيهات المتعظ.
نفسي فداء أرواح صعقت بين الأسوار المرفوعة والسجف المسدولة، لم تمتع بنظرة إلى هذا الوجود الحر في سمائه الضاحية، ورياضه اليانعة، وتلاعه الزاهية، وأنهاره الدافقة، وأطياره المتناجية. إذا استل الزمان سيف الصبح من غمد الليل تفزعت ووقفت تلقاء القدر ضعافا. مثل هذه خليقة بأن يبكى عليها لأنها تموت قبل أن تولد.
تستخف بعض النفوس وقر الإثم فتستحدث وقرا. على أنه سيأتي عليها حين من الدهر تنوء فيه بأعباء ثقال. يا ويل المورطين في شبهات الجهل. أظلمت عليهم ليالي الحياة فلا يبصرون ما حولهم، ولا تزال في العمر بقية وفي الدهر متسع لو شاءوا انتباها. غير أني معزيهم عن ذلك بالصبر الجميل.
الحاج إسحق والحاج مقصود. لله فرسا رهان يتسابقان إلى غاية واحدة، حين مد أحدهما يمينه إلى قبر النبي زائرا، وطاف بالبيت واستلم الركن، هل حسب نفسه يقرض الله سابقا؟ أم هو يعلم أنه أغضبه لاحقا؟ تحج المطايا ولا تحج الركبان. والقطار الزافر الصافر حين يطوي الفدافد والتنوفات لأكبر عند الله ثوابا.
الغرب بل مصر بها أناس يحمون الحيوان ولا يدعون ابن آدم يستبد به في جر الأثقال وطي السرى، وبنات آدم تباع كما يباع الببغاء والبلبل وعصفور قناريا لتكون في أقفاص من الذهب تطرب بصوتها وتعجب بحسنها، إن هذا لهو البلاء العظيم.
أما لو كان الأمر بيدي لألفت مجتمعا من أهل النجدة وحاربت هؤلاء التجار، تجار الأعراض والأرواح، وقلت يا أخواتي هذا ملك الله امرحن في أرجائه بسلام.
حرية الفكر
نحس بآلام بين أحناء الضلوع فنتكتمها صبرا ونسكت عليها خيفة. لو كان هذا الصبر في موضع يجمل فيه لنطق من جوانبه الثناء. ولكنه قصارى نفوس جبنت ونصيرها الحق، وأقصرت وشأوها بعيد.
تغلبت سورة الجدل على سورة الدليل، وبات كلام الإنصاف والصمت أحب منه إلى الناس. ألا قاتل الله اللجاج. لا العقل أغنى في الغلبة على سلطانه، ولا الهمم مضت في التملك على فجاجه. كلما جهر بالحكمة ناطق تألبت عليه عصب الغرور، فسدوا بأيديهم فمه. يا ليتهم يجعلون أصابعهم في آذانهم تصامما، أو يلفتون وجوههم إلى ورائهم إعراضا. ذلك إذن يهون. يحجهم الصواب فلا يلبثون أن يقبلوا عليه. غير أنهم يعتدون فلا يدعون مكلمهم يكلمهم، فكيف يجدي فيهم نصح الناصحين.
إنما يقبل القول بعد سماعه ويرد بعد سماعه. وهذا البلد يتعجل أهله الحكم سواء عليهم أصابوا أم أخطئوا. يريدون وليس الذي يريدونه صوابا، ولكنهم يحاولون أن يجعلوه صوابا. هذا محال، حقائق الأشياء لا يدخلها تغير. ومن لم يكن معه الهدى عليه أن يكون مع الهدى إذا رام رشدا.
قلت في إحدى الصحائف السود التي تقدمت كلاما على الأضاحي، فهاج قلوبا استوطنها التعصب، وهاج علي أهل الشر من المخضرمين. عفا الله عنهم ماذا يبتغون؟ طوت الأيام برد الشباب، وأنالتنا من التجارب ما لا مندوحة فيه لجهل. إن يستطيلوا فقد استطال أسلافهم من قبل. أنا ابن عصر عيت فيه الألسن وأفصحت بعبرها الأيام. ولي بمحمد عبده وقاسم أمين أسوة حسنة. بل لقي قبلهم الويل حتى الأنبياء. استنجد ابن عمران بالهرب واعتصم بمنفرج البحر، وصلب ابن مريم، وهاجر من وطنه العدناني، عليهم السلام. جاءوا من قبل الله فلم يشأ الناس أن يسمعوا كلام الله. فما ظنك بمثلي وهو إذا عد الرجال كان في أخرياتهم، بل من الزوائد في أعدادهم.
على أنني لا أعجب من أهل القدم والمنتحلين صيغة الدين، وإنما أعجب من قوم لبوسهم لبوس أهل التمدين ومآكلهم مآكلهم. يطاف عليهم بالآنية والجام في مجالس كأنها ديباجات الآفاق، ثم يصبحون فيقارعون الناس بالدين. يرموننا بالكفر والمروق والزندقة ليثيروا علينا أشياعهم. وما نبالي نحن من أشياعهم. ثم قلوب نيطت بصدور لم تتخذ درعا سوى البأس الشديد. وإذا كان أهل البطل لهم جرأة ببطلهم، فإن لأهل الحق جرأة بحقهم. ثم إني أقول:
جاء شقيق عارضا رمحه
إن بني عمك فيهم رماح
هلا وعظتهم مصارع الباغين، واسترشدهم ما يلاقون من أهوان الناس؟ فكانوا من الحكمة بالمكان الذي ينبغي أن يكونوا به. ماذا لهم أن يسمعوا وأن يعوا؟ ليس في عرفان الحق من حرج. والحق سهل المنال لا يستعصي على من يحاوله.
أقضي ليالي المحن مكبا على أوراق أحبرها بما يملي علي فؤادي، ومن كان ترجمان فؤاده تخاطأته نبال اللائمين. أدير عيني وأجيل فكري، فتتعارض المشاعر والمدارك. تناغيني حقائق الأشياء، فأجتلي محاسنها في مرآة الأفق وبساط الأرض ومثنى السحائب وموجات الأهوية. تعالوا انظروا بعيني ثم لوموا. كيف تتساوى في المشاهدة عيون ناظرة وأخرى مطبقة جفونها.
تعالى الله وتعالت أديانه عما يفتري عباده. يذكرون الله ثم يذبحون. كذلك فعل الناس بمن ذبحوا، وأي سيف لا تنبو مضاربه هو ذلك الدين. به يغالبون كلما تساقطت حججهم، وبه يحاربون كلما أجفلت نعائمهم. بالله ربنا وربكم، أتنطقون عما في قلوبكم أم هو شأن جديد لكم مع أحرار العباد؟ من أقوى منكم من الله حجة؟ لقد قامت حجته وحقت كلمته، ونحن مصدقون من قبلكم حين كانت في بعض الصدور وساوس تتصلصل بين الترائب والنحور.
آه يا مصر، يا عروس أبناء الشمس وبلد المجد منذ خالية العصور. تفتأ الأيام تستزيدك حسنا كلما تقادم مداك، وتكسبك رونقا يستعيض ما خلا من صباك. ما تمكنت من كمال إلا أدركت بعده كمالا. كل شيء فيك ترقى جمالا وظرفا إلا بعض النفوس. وددت لو أن في الدهر الشيخ نفسا ينفخه فيها؛ عسى يذكي جذوتها الخامدة أو يتجلد مرة حتى يقدح زنده، فيأتيها من الشباب بقبس جديد .
رجال يمشون وعليهم شملات صوف وهم في موكب النشأة العصرية. هذه ثياب جاهليتكم فأين ثيابكم؟ ما رأيت كهذا عنادا في الحق.
غدا تختتم أنفاسنا المعدودة وتكف هذه الأقلام من صريرها، وتبقى في مصونات الطروس آثارها تشهد لنا عليكم. أنتم أعداؤنا اليوم، وأبناؤكم أنصارنا غدا. لن نشكوكم وحدنا بل سوف نشكوكم ومعنا أعقابكم، ولنعمت الشهود يومئذ، يقولون آباؤنا كذبوا وهؤلاء صدقوا.
سلام على رجال ينازلوننا ضعافا. لنخفض دونكم صدور الأسنة إشفاقا، ولنجادلنكم جدال من لا يعوزهم الدليل. ميلوا على جوانبنا إنما تميلون على آبائكم. والحق لا تنهزم كتائبه. غدا تخفق على رءوسكم أعلامه وترتفع في أنحاء بلادكم صيحاته. والله أرحم أن يؤاخذ على الجهل أناسا جنى عليهم كبارهم وفتنهم صغارهم، حسبنا أن نقول:
ولو أن سافي الريح يجعلكم قذى
لأعيننا ما كنتم بقذاة
أما أنا فليشهد قراء أقوالي أني لا تزحزحني جلبة المتهورين، أنا أغني الحق، وكلما صاح به الصائحون رن في أذنه مني ما قاله أبو الطيب:
فدع كل صوت بعد صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدي
أحد المشاهد الرائعة
جراغان في أثناء اللهيب
هذا قضاء الله أم غدر
ماذا أصابك أيها القصر
أعلى مراد رحت مضطرما
من غيرة إذ ضمه القبر
أم أنت ممن فيك منتحر
يا قصر أم فيما جرى سر
نبكي نعم نبكي على أمل
فيك انقضى وقد انقضى الأمر
عن أربعين وخمسة سلفت
ما هكذا يستوجز العمر
أتظل دور المجد آهلة
فينا ودورك بينها دثر
ويح القلوب وكنت حاجتها
إن لم يجدها بعدك الصبر
يبقى مصابك وهو يذكرنا
لو كان ينفع مثلنا الذكر
برا «فروق» تباهيا زمنا
فانفك بر والتظى بر
شطرا محاسنها التي اشتهرت
إما شكا شطر بكى شطر •••
لما استقل بك اللهيب ضحى
وبدا خلال دخانك الجمر
وقف الزمان عليك منتخبا
وأقام يندب حسنك الدهر
والزهر قدما كن حاسدة
لما أصبت بكت لك الزهر
الشمس أختك ثم كاسفة
لبس الخسوف شقيقك البدر
أوما رآك البحر ملتهبا
بل لو رآك لجاءك البحر
فيجيش للنيران غاربه
ويبل حرك ماؤه الغمر
ركضت لنجدتك الجموع وقد
خفقت لها راياتك الحمر
كم جحفل مجر إليك سعى
فارتد عنك الجحفل المجر
لا البيض أغنت في مناجدة
لما أهبت بها ولا السمر
طلبوا المياه لكي تغاث بها
فنأى طريق دونها وعر
وعلا الدخان ذراك فاختبأت
في جنحه آياتك الغر
فكأنها صور محركة
وكأنه من دونها ستر
قد كنت ديوانا قصائده
تلك البدائع فامحى الشعر
سالت سطورك من صحائفها
فغدت وما بصحيفة سطر
وانساب مهلا وارتمى حمما
ذاك اللجين وذلك التبر
وقفوا أمامك ذاهلين وقد
ملك السبيل عليهم الذعر
فأخذت تنقص في نواظرهم
ويزيد في أطرافك القفر •••
يا منزل الأحرار إذ ملكوا
يبكي عليك مرادك الحر
يبكي عليك وإن أوى جدثا
وعلاه بعد سقوفك الصخر
هذي الطول فأين تنتحب ال
أطيار فيك ويضحك الزهر
ما ثم خيست الأسود ولا
كانت تسير ظباوءك العفر •••
يا عام جاء أخوك يغدرنا
ومضى فقلنا قد مضى الغدر
أترى فروق ومصر أذنبتا
شقيت فروق وبنتها مصر
غناك شوقيها وحافظها
وهممت لو لم يعصني الفكر
وهباك شكرا لست صاحبه
سلفا فأبطر قلبك الشكر
فلئن تكن لأخيك معذرة
هل أنت عندك مثله عذر
فلألبسنك من محبرة
يجري على أعطافها الحبر
مغبرة تسعى مغبرة
كلماتها وسطورها غبر
يا عصر إن لم تستقم معنا
فلنشهدن عليك يا عصر
تبقى جدود الناس ناهضة
وجدودنا في خطوها العثر
هذي خطوب ليس يحملها
جلد وينفد عندها الصبر
بطرس غالي في موكبه الأخير
مشى بعاصمة مصر يوم الثلاثاء 22 فبراير سنة 1910 مشهد لم تشهد مثله، ذاك مشهد بطرس غالي العظيم، من كرسي الرئاسة إلى مضجع الأبد. لله درك من ظاعن.
ألقى يراعه الذي سيره منذ كان في تدبير مهام القطر، وطوى صحائف نمقها بما أملته عليه مصلحة البلاد، وقام مسرعا لداعي حمامه. كذلك كان يسرع إلى داعي نخوته. لك الله من شهيد قوم مضرجا بدمه وكأنه مضمخ بطيبه. كرمت حيا وميتا، فما أبكيت عينا إلا يوم مصرعك، ولا أشكيت لسانا إلا يوم فراقك. إن أفصح الأفواه شكاية من غدر لهي جراحاتك الدامية. كل قطرة من ذلك الدم البريء عند الله أجرها، وعلى الإنسانية والعصر العشرين عارها.
قال النعاة: قتل أحد الباغين بطرس باشا غالي، قلت: لقد قتل مصر.
ما ماد الهرمان ولا صاح بالويل أبو الهول، ولا غيض النيل ولا خسف الصعيد، ولكن قال عظماء الغرب: مصر في حالة يخشى على الأمن منها.
يا ويح هذه القلوب ما أقساها! تسرع إليها عوامل مختلفة من الشر فتتهيأ لقبولها، وإذا سرت نحوها نفحة خير قويت عليها مغاليقها. وكم من حياة طيبة هي في قبضة خبيث يختطفها. وحين تجتمع على البث قلوب تساوت في الحرقة، وتعلو النوحات من جوانب بيت أزمع غاليه، ويهال التراب على جسد نشأ في النعمة، وأقل نفسا لم تشق نفسا ماذا يستشعر أهل الاعتداء.
تهادى نعش بطرس الجليل بين عباد الله، من أجنبي ومصري ومسيحي ومسلم وموسوي، وكل امرئ أبصر ذلك التابوت علم أن فيه قتيلا شهيدا مظلوما. لا الجياد المطهمة ولا عربة المدفع ولا أكاليل الزهور ولا الأعلام ولا الجنود ولا السراة ولا الأقيال لتخفف عن النفوس هول ما راعها. تلك زخارف زادت المصاب ألما وزادته على حق عظما.
بالشرق داء عقام، لن يستأصل أو يميد سرواته ويخلي دوره ويطحطح الشم من ذراه. مبيد أهل القرون الأولى مفيض بحار الدماء، مفرق بين الآلاف مزعزع أركان الممالك.
حسبهم الله، أقلقوا النيام في مضاجعهم، وأتعبوا الرائحين والغادين في طرقاتهم، ودوت صيحاتهم في الآذان حتى كادت تصمها، أعولوا ثم أعولوا، ليحي الدستور ليحي فلان وليسقط فلان، أمن أجل هذا كانوا يريدون الدستور؟
قام بالأمس أحد قراء سورة يوسف فأصدر جريدة دينية جديدة ليجعلها إحدى البلايا على الدين وبنيه. ماذا تريد بطبلك يا هذا المطبل، أنبي أنت أم إمام أم فقيه أم سياسي أم أديب أم ثرثارة؟ تريد النعيق على أطلال بلد لست من أهله. حسبك واحدة أرتنا نفثاتك. تلك نفثات ستفر غدا منها وستظل هي على أثرك، وإن الله لبالمرصاد.
قف بين ربوع مصر وأنشد:
وإني قد جنيت عليك حربا
تغص الشيخ بالماء القراح
مذكرة متى ما يصح منها
فتى شبت لآخر غير صاح
بين العظاة وبين قلوب الطغاة سدود لا تخرقها إلا صدور الحوادث، فإذا كان ما ابتغته الغواية تراجعت القلوب نهاها، ولكن بعد أن يفور التنور ويتفاقم صدع البلاء.
رأيت بعض الجرائد ثائرة على الأمة القبطية. فأوجست خيفة. وقد حدثتني النفس أن أصيح بها مسترجعا. ثم علمت أن تلك صيحة يرن صداها ولا تصل إلى سمع من تلك المسامع الصم. فآثرت السكوت وفي العين قذى وفي الحلق شجا، وهذا الخطب الذي نكبره اليوم لإحدى عواقب تلك الجهالات.
إثم هذه الأمة على «رجال صحافتها» يأتيهم الدعي من الأدعياء وفي يده ورقة بها أبيات، لو قرأها أكبر شاعر لمحا الله من سجيته عمل الشعر، أو بالمقالة وليس بها شيء يصح أن يقال، ثم هم ينشرون له كلامه ناعتين إياه بالشاعر المفلق والكاتب البارع والفاضل الأديب، حتى لقد أصبح البقالون وماسحو الأحذية شعراء أدباء كتابا فضلاء، وباتت دفة السياسة المصرية بأيدي قوم عجز احتلال الإنكليز أكثر من ربع قرن أن ينعل أقدامهم الحافية. أولئك الذين يتصايحون قائلين ليحي الدستور، أولئك الذين يتخذون من الدين سهاما يدمون بها الأفئدة، ضالين ومضلين وبئست الخلتان.
ما أريد بمقالتي هذه أن أرثي فقيد مصر الغالي. فذلك ما استودعته سجية الشعر. ولتأتين الرواة غداة قصيدة كمذنب هلي، تستعاد ثم تستعاد إلى أن يمل الناس القريض، فلينتظرها ملوك الكلام. إن بها لمواضع للسجود. وهذا كلام تعجلته نفس غلى مرجلها واشتد وقودها. بلى هذه شقشقة هدرت. ولا أدري متى تستقر.
بني مصر هذا كلام تتناقله الصحف غدا في أقطار الأرض. حيث ينطق ناطق بالضاد. هو حجتي عليكم فانظروا ما أنتم فاعلون. إلا تريدوا الإنصاف ترغموا عليه، وفي الحكومة بأس وعدل يستوقفان العدوان. فسيروا خير لكم من أن تساقوا، ولا تحسبوا أن أعقلكم أكثركم كلاما.
اليوم عدمت حكومتكم وزيرا عاقلا ولي الرئاسة، وثكلت مصر خير وطني أظل نظارتها. ويقول ذو اليد التي أشلها الله إنه خدم الوطن وخلص الوطن، ولا يدري أنه أجهز على الوطن.
بني مصر إن لم يمت فقيد مصر بيد قاتله، فما هو إلا ميت كما سنموت. غدا تخفف الأيام عظم مصابه حتى عن قلوب ذويه. أما عار قتله فقد سجلته عليكم تسجيلا.
عجبا للفتى منا يخطر خطرات العروس ليلة زفافها. يرى إلى الدجاجة وهي تضطرب مذبوحة فترتعد لها فرائصه، ثم هو يطاوع غروره وينقاد لغوايات قوم فيقتل الوزير في دار الحكومة. وما جنى عليه الوزير ولا جنت الحكومة، ولكن نفسه أحبت الجناية. خرجت من مصر وفتيانها كآرام الصريمة في غير نفار ورجعت إليها، وكم من فتيانها من الذئاب. ما هكذا كان العهد بأبناء النيل. أورقة تطبع كل يوم ليلف بها الزيتون والجبن، تنسيهم القانون وتشط بهم عن مهيع السداد؟ واخجلتاه!
ماذا جنى هذا الفقيد المظلوم؟! صاح أكثرهم مذكرا بحادث دنشواي، وتشدق آخرون باتفاق إنكلترا ومصر على السودان، وشكا غيرهم من قانون المطبوعات. وهل كان لهذا الوزير هذا القدر من التفرد بالإرادة والخيار في الفعل؟ ومن أهاج أهل دنشواي ومن أتى بقانون المطبوعات؟ سائلوا تلك الجرائد التي تود أن توقع البلد في الهلاك عسى أن توافيكم بجواب سديد.
الأقباط هم أولو مصر قبل كل مصري. ما زال الجور يتصيدهم حتى قلوا عددا ووفرتم، وخسروا وكسبتم، ثم من الله بعدله فقالوا: نحن إخوان أفلا تريدون أن تكونوا لهم إخوانا؟ فما لهذه البراثن إذن داميات؟
دعوا هذه الأضاليل وميلوا على إخوانكم ميل ود وصفاء، وقفوا أمام الحكومة العادلة التي تشتمونها كل يوم ألف مرة، وتحنو عليكم كل شارقة ألف مرة، قولوا لها: أيتها الحكومة نحن واثقون بعدلك. قفي بنا عند حد الرضاء. وذروا تلك الصحف تموت وبأفواهها لجم من العجز تلوكها إلى حين.
سلام عليك أيها الوزير الغالي في جدثك، وعزاء لمصر على فقدك الأليم ولتهدأ قلوب أمتك الجليلة. ثم قلوب لا تخفر لكم ذمة وأقلام هي سيوف الحق. والحق لا تنهزم أنصاره.
الشقاق
تركي وجع في قلبه فهو ينادي إخوانه العرب:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتأذونا
الآن لما أمال الله عمود الظلم واعتدل الحكم في نصابه، يبرز لنا من مكامن الفتنة من تساوي لديه حاضر وماض! أين كانت نخوتك بالأمس أيها الناطق المرقش عنا؟
قال الداماد فريد باشا كلاما أنطقه به اتصاله بالأسرة الحاكمة، أراد تقربا بغير الإنصاف ففعل. كذلك من أوتوا الجاه ونالوا الرفعة من غير كد. ونحن ما ذنبنا حتى نشتم وماذا جنينا فنؤاخذ عليه.
أبدا نراع بصيحات: تكسرت النصال على النصال. تزجي إلينا كل داهية نآد. اختلفت النقرات والغناء واحد. يشكون الترك يذمون الترك. عفا الله عنهم ماذا لهم عند الترك؟
رأيت في مقطم أمس مقالة مذيلة باسم عزت الجندي، جعلها من صدره بمكان القلادة. هذه إحدى نافثات السمام. بلى هي إحدى المفرقات. أخال مقطمنا ذكرها ليذكر هذه التي أخط خططها وأجزع أنماطها. حبذا المنبر يتبارى عليه خطباء الأقوام. لا ثأر الله من خانته مواقفه منا.
بي شجون وكنت في حاجة إلى الإفصاح، ومن جاش حميه وغلى مرجله استطاب المقال. فأجملي أيتها النفس صبرا، عسى تنجلي غمامة هذا العارض المتألق عن صيب يدع الغدران مترعة ويسقي عطاش القيعان.
شهد الله وكل عثماني حر يكون قرأ لي شيئا أني لا أتعصب للدين ولا للجنس. أنا تركي وأبغض عباد الله إلي تركي يعتدي. أحب العناصر العثمانية كلها وآخذ بناصر المستضعف منها. ثم أحب العرب حبا خالط الروح وجرى مجرى الدم من العروق، وأنا عربي الأدب والقلم، عربي النزع، ومن أبغض العرب فأنا مبغضه. أولئك إخواني الذين أغنيهم فيطربون، وأحدثهم فيقبلون علي بالسمع. هكذا عهد العرب الكرام بأخيهم هذا.
غير أني لا أكذبهم، إني كذلك لا أحب من يسب الترك ولا من يكون لهم عدوا، وكذلك العرب لا يحبون من لا يحب إخوانهم. وإذا جرى بين العرب والترك شر. أكون يومئذ بمعزل عن كليهما داعيا عليهما بالفشل معا.
وإني لا أنكر أن في الترك أناسا يبغضون العرب ، وإني لا أجهل أن في العرب رجالا يبغضون الترك. كل أمة بها سفهاء ولا تكون أمة بأسرها سفيهة أبدا. وعقلاء الأمتين متفقون على ود لا يتطرقه تغير على توالي الأعصار.
زعم عزت الجندي أن الذين خانوا الدولة هم أتراك، ثم ذكر أرجالا منهم محمد علي الأول مؤسس الأسرة الخديوية بمصر. سامحه الله، إن محمد علي خالي؛ جدتي شقيقته، لا تصح شهادتي له. فأنا أدع الحكم في خيانته ووفائه لأهل الإنصاف.
ولكن مصطفى فاضل قائد كتائب الحرية ومدحت أبا الدستور تركيان. الصقوللي والكوبريلي أيضا تركيان، وغير هؤلاء كثير، إذا شاء الجندي ذكرت له أسماءهم وعددت ما تيسر من أعمالهم.
وما لنا والفخر بمن ماتوا، نحن في حاجة إلى العمل ولسنا في حاجة إلى القول. فلينكر على الترك ما شاء، وليتهمهم بما شاء. كل ذلك لا يخرجهم من العثمانية، ومن حق العثمانية أن يكون كل أبنائها إخوانا لا متغايرين ولا متحاقدين.
أرني أيها الكاتب الجامح قلمه، تركيا يرمي العرب بمثل ما رميتنا أنت به، وانظر ما أقول له. إني ألين لك المقال لا إكراما لك، ولكن جريا على آدابي وآدابي عربية. ثم أخشى أن يقول إخواني العرب إن ولي الدين متعصب، وأن تذهب عني ثقتهم، وهي لعمري ثقة أغلى علي من حياتي.
لك أن تلوم الترك ولك أن تبغضهم إذا شئت، ولكن ليس لك أن تسبهم، هذا عيب لا أرضاه لعثماني في الوجود.
إذا قرأ كلامك هذا أحد جهلاء الترك ورد عليك بما يمس به قومك، وتعاظم الشر بين الترك والعرب، وتساقوا كئوس الموت وخلت الديار وجرت الدماء، أتكون أفدت بلادك أم تكون نفعت العثمانية؟ إذا تغلب العرب على الترك أو فاز الترك على العرب كان الخطب واحدا. ما في المصيبتين واحدة تفضل الأخرى. فماذا تبتغي بهجرك؟
آلمت قلوبا آلمها الزمان بحوادثه. أنا ما رضيت النفي سبع سنين ولا زرت السجن بين الأسنة من أجل الترك وحدهم، بل من أجل العثمانيين، ولا أمسكت هذا اليراع منازلا كل معاند، إلا محبة في العثمانيين . ولكني رميت في قومي بما لم أؤمل، وجاءت نغمتك هذه كالملح على الجرح. ولو استبقيت مثل هذا القلب لاستبقيت ودا جميلا.
كفى كفى، إن كانت هذه الحوادث لا تعظنا أن نكون من الجاهلين، فقد أضمرت الأيام لنا ما أضمرت. فاكتب أيها الكاتب، ولو ذات سوار لطمتني. ما أنت بالحكم الترضى حكومته.
إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
هذا ما استطعت أن أكتب بيد راجفة وفكر شتيت. أما الداماد فسيكون لي معه كلام طويل. فلينتظره على مقعده الوثير وفي جاهه العريض. إن في بعض الوعد معاني الوعيد.
ناپیژندل شوی مخ