وقد قلنا: إن الحرب في سبيل دوام نعمة الدستور فرض عين، وهو على أبناء العراق أفرض من غيره؛ لأن القائم بهذا الأمر من بني جلدتهم ومولود أرضهم، وقد منحهم هذا الفخر إلى آخر الأبد، وهم لم يتمكنوا من القيام معه والمفاداة بالأرواح والنفوس، فليس لهم إذن ما يبرهنون به على اتحادهم مع أولئك المنقادين لوطنيهم سوى مفاداتهم في دفع الإعانة التي ستقوم بإعانة، بل إغاثة أولاد أولئك الشهداء الذين اشتروا لهم الحرية والعدالة بدمائهم، وقد حاذوا أجر الشهادة، فلا نظن أن ذي غيرة أو حمية أو شرف يتأخر عن المسابقة في دفع ما يمكنه دفعه من العرض الزائل، وكل منا ليقول في نفسه أن لو كانت مملكتنا قرب الآستانة هلا كنا نفادي بأنفسنا وأموالنا في سبيل هذا الجهاد الشريف؟ فمن كان ذو غيرة وشرف وحمية وشهامة، ويقول: نعم كنت أفادي بنفسي، نقول له: لا أقل من أن تدفع لهذه الإعانة قيمة نفسك، ومن شاء فليقوم نفسه أو ولده بما شاء، وهناك يعلم شريف الهمة من وضيعها، ومن قال: إنه لو كان قرب الواقعة لم يكن ليقوم بهذه الخدمة الجليلة، فنقول له: تبا لك وسحقا، والأمة العثمانية ومجاهديها الأبطال وأنجالهم غنيون عن ما تريد أن تدفعه غرامة، وليس بهم حاجة لما تعطيه حياء أو جبرا وعسى الله أن يقيض لك أمرا تدفع له المال والروح وإلى جهنم وساءت مصيرا.
جريدة التهذيب، مقال افتتاحي في العدد 23 المؤرخ في 22 شوال سنة 1237ه
استنهاض الهمة
ما لنا لا نرى لدعاء الجرائد التي هي لسان الأمة برمتها ملبيا ولا مجيبا كأنها تنادي أجسادا بالية أو أشباحا عن الأرواح خالية، ليت شعري هل تقاصرت الهمم أو فترت العزائم أو تقاعست الألسن عن دعاء الخير، أم أحجمت النفوس عن أعمال البر، فلا تستطيع الإقدام على ترك ما اعتادت عليه من المظالم، بلى إن النفوس إذا اعتادت شيئا ما يكون لها بالضرورة طبيعة ثانوية.
والطبع والروح ممزوجان في جسد لا يخرج الطبع حتى تخرج الروح، فلقد كل القلم عن تسطير الاستلفات ولا التفات، وضاقت الصحف باستنهاض الهمم وهيهات، فإلى متى يقوم هذا السبات، وإلى متى لا تمتاز الأحياء عن الأموات، سئمت والله نفوسنا عن تذكير أولياء الأمور الذي هم المسئولون عند الله وعند الأمة، واستعطاف همتهم على أشياء يسيرة لا تصعب على ذي أدنى همة وأقل عزيمة، تنتج رفاه الفقراء والغرباء ومحافظة نفوس الملة من المعاطب وتأمين راحتها من المتاعب، فلم نر منهم من يقول «ها أنا ذلك الرجل»، بل الكل عن التذكير في إضراب وصحائفنا تمر عليهم مر السحاب.
نعم، ذكرنا رئيس البلدية في عددنا السالف عن معاملات الباعة من الخبازين والقصابين وغيرهم، وأسهبنا بيان كيفية بيعهم بالأثمان الباهظة وعدم إصغائهم لتنبيهات الرياسة وأخطارها، كأنهم فوضى لا سراة لهم ولا يسألون عما يفعلون، بل ولا يعبئون بأمر آمر، ولا يكترثون له، وما ذاك إلا من أمن العقوبة؛ إذ لو لم يأمنوا العقوبة لما أساءوا الأدب، مع أن الآمر الذي بيده أزمة الأمور يلزم أن يكون على تنفيذها أشد حرصا من كل أحد، واستلفتنا أنظار أولياء الأمور في أعدادنا السالفة أيضا إلى بث الأوامر الشديدة إلى أصحاب العربات على منع تسييرهن بالسرعة القوية؛ لكيلا يحصل منهن الضرر لأحد من أفراد الملة، ولم نعلم هل سمحوا بذلك أم لا، ونظن أنهم لم ينظروا تلك النقطة المهمة الجالية للدقة والاعتماد بعين المقول؛ ولذا نرى العربات على أسرع سير من سيرهن الأول، ولا سيما إذا سرن في الأسواق والأزقة الضيقة الغاصة بأفراد الملة؛ صغير وكبير وأعمى وأصم وعليل، والحال:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة
إلى أين يسعى من يغص بماء
ونختم الكلام على بحث تطهير العشار الذي بقي منذ أيام في حجر التراخي لا الصحي، مع أن الأغلب من ضعفاء الناس وفقرائهم احتاجت بيوتهم أكثر الأيام إلى شربة ماء، إلا أن الأمل وطيد بهمة «أبو شعيب» الملتزم «وسلمان جبر» الكفيل أن ينقذ الفقراء من ما هم فيه من الضيق العسير ببذل الاجتهاد في تسريع ما التزماه وعهدا به، فنستلفت أنظارهما لإجراء ذلك الأمر المهم راجين أن لا يجعل «أبو شعيب» أملنا به كأمل أشعب والسلام.
جريدة الإيقاظ، مقال افتتاحي للعدد 15 المؤرخ في 8 آب 1909
ناپیژندل شوی مخ