ولم يكتف المتحكمون بتعطيل الصحف المعارضة، بل لاحقوا الصحفيين المعارضين أو ذوي النزعة القومية العربية، فنفوا كلا من عبد الحسين الأزري صاحب «المصباح»، ورزوق داود من شباب النادي العلمي الوطني، وداود صليوا صاحب جريدة «صدى بابل»، والأب أنستاس ماري الكرملي صاحب «لغة العرب»، إلى قيري من بلاد الأناضول، حيث قضوا في منفاهم السحيق بعض سني الحرب، كما نفوا إبراهيم صالح شكر صاحب مجلة «الرياحين» وعبد اللطيف ثنيان صاحب «الرقيب» إلى الموصل، وإبراهيم حلمي العمر إلى بتليس، وفر سليمان الدخيل صاحب «الرياض» إلى نجد.
ولم يقتصر أذى الصحفيين على النفي في غياهب الحرب، بل ساق جمال باشا قائد الفيلق الرابع اثنين منهما إلى «ديوان الحرب العرفي» في عاليه؛ أولهما: أحمد عزة الأعظمي، وقد كان يصدر مجلة شهرية باسم «لسان العرب» في فروق تنافح عن الفكرة العربية وتبشر بالرسالة التحريرية بلهجة عنيفة وأسلوب فصيح. وقد غير صاحبها اسمها في سنتها الثانية، فجعلها «المنتدى الأدبي»؛ إذ غدت لسان هذه الجمعية السياسية العربية التي ضمت شباب العرب في العاصمة العثمانية.
سيق هذا الصحافي إلى المحكمة العرفية حيث قضى ثلاثة أشهر في حبس يتجرع العذاب ولم تسفر محاكمته عن اتهامه؛ إذ لم يجدوا بين أيديهم وثيقة تدينه ولم يشهد عليه غير شاهد واحد ولا اعترف هو بكلمة بما عمله أو من عرفه رغما عن تعذيبه وإرهابه، كما أن فطنته أنقذت الكثيرين من إخوانه وزملائه المجاهدين من التهلكة، بل الموت المحتم، فإنه كان يقيم في الآستانة لما كشر الحزب المسيطر عن أنيابه نحو العرب وخاصة المشتغلين بالسياسة الاستقلالية، فقبل أن يلقى القبض عليه أتلف كل ما كان لديه من كتب ومنشورات لجمعيات قومية سرية وشخصيات تعمل للإنقاذ في السر والعلن، ولا سيما أن «المنتدى الأدبي» المذكور كان ملتقى هؤلاء الرجال ومباءة نشاطهم، كما كانت مجلته ينبوعا لكثير مما يذاع في الموضوع في المجلة وغيرها أو عن طريقه.
ورد في الكتاب الأحمر الذي نشره القائد العام جمال باشا يدافع عن محاكمة أحرار العرب وشنقهم ونفيهم وسجنهم، المعنون ب «إيضاحات عن المسائل السياسية التي جرى تدقيقها في ديوان الحزب العرفي المشكل بعاليه» شيء كثير عن أحمد عزة الأعظمي ومجلته ومما تضمن:
كان يجمع «المنتدى الأدبي» كل الطلاب العرب، ويبث فيهم الفكرة القومية ونهضة العرب بأية واسطة كانت، وكلما انتهى فريق منهم بدروسه، حمل الأفكار وبثها حيث يعين في الوظيفة في البلاد العربية، وأن النشرات التي تحرض العرب على الثورة وقتل الترك كانت ترد إلى الشباب العرب في ضمن الجرائد المرسلة إلى مدير مجلة المنتدى الأدبي ومحررها أحمد عزة الأعظمي، فيقرءونها كلهم ويشترك معه في توزيعها عاصم بسيسو، وكان هذا الصحفي يجمع الشباب العربي من مدارسهم الملكية والعسكرية في إدارة مجلة «لسان العرب» ويقرأ عليهم تلك النشرات.
أما الصحافي الثاني المرسل إلى الديوان العرفي في عاليه فهو إبراهيم حلمي العمر، الذي لم تفده مشاركته في تحرير جريدة «صدى الإسلام» التي ألمعنا إليها.
إلا أن الحظ أنجده فإنه وصل المحكمة العرفية في لبنان بعد أن نفذ حكم الإعدام في قوافل الشهداء الثلاث، ثم نشبت «الثورة العربية الكبرى» في الحجاز، فخطأ الكثيرون من حكام إستانبول سلوك جمال باشا وسياسته الانتقامية في بر الشام وحملوه تبعة إغاظة الأمة العربية وتعجيل انفجار نقمتها، فأوعزت إليه الحكومة المركزية بفض الديوان العرفي في عاليه. وهكذا نجا إبراهيم حلمي العمر من حبل المشنقة بعد أن توسط له جماعة من وجوه الشام وأدبائهم بينهم محمد كرد علي منشئ «المقتبس» الجريدة والمجلة، وكان إبراهيم من مراسليها في بغداد.
ويظهر أن كرد علي لم يكتف بالشفاعة للكاتب العراقي عند جمال باشا فينقذه من الأذى، بل أوجد له رزقا بضمه إلى محرري جريدة «الشرق» التي أصدرها القائد المذكور، وحشد لها كبار العلماء والأدباء محمد كرد علي وشكيب أرسلان ومحمد حبيب العبيدي الموصلي وتاج الدين الحسيني وغيرهم. (2) في ظل الاحتلال البريطاني
هذا ما كان من أمر الصحافة في العراق في ظل الحكم العثماني.
وننتقل الآن إلى صفحة جديدة من الحياة العراقية عندما احتل الإنكليز بلادنا في خلال الحرب العالمية الأولى.
ناپیژندل شوی مخ