[الصحابة عند الزيدية محمد سالم]
الصحابة عند الزيدية
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة
الطبعة الأولى
1424ه/2004م
مخ ۱
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الطاهر الأمين وعلى آله الطاهرين. وبعد ..
اتفقت الدراسات التاريخية، على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهب حياته لإسعاد البشرية، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وبذل ما بوسعه لصنع مجتمع مثالي تسوده الأخلاق النبيلة والقيم الرفيعة؛ ليكون قدوة للأجيال ومثالا يحتذى، واستطاع - رغم الصعوبات - أن يصنع من أعراب البوادي الممزقة أمة واحدة، ويؤسس فيهم حضارة ذات أسس فكرية وأخلاقية مميزة.
وكان من أولوياته أن ربى أصحابه على مكارم الأخلاق، وغرس فيهم العقيدة الراسخة، والإيمان الصادق، وعودهم فعل الخيرات، حتى أصبحوا مثال الصدق والأمانة، والتعاون والبذل، فأثنى الله عليهم بقوله: ?محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود..? (الفتح/29). وقال تعالى: ?والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون? (الحشر/9). فكان صلى الله عليه وآله وسلم مربيا ناجحا، ومعلما ماهرا، وحقق في حياة البشرية مالم يحققه سواه.
مخ ۵
وبعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، بذل صحابته - رضي الله عنهم - ما بوسعهم للحفاظ على كيان المجتمع المسلم، ومواصلة السير في الخط الذي رسمه لهم؛ لهذا اتفق المسلون قاطبة على احترامهم، وتقدير دورهم، لكن ما وقع بينهم عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اختلاف في تحديد الأولى بخلافته، حيث أيد بعضهم بيعة أبي بكر، ورأى البعض الآخر أن علي بن أبي طالب أولى وأحق، وما تبع ذلك من تداعيات، ألقت بظلالها على تلك الصورة، وترك مجالا لتحليل المواقف، وتقديمها في صور مختلفة، رغم نجاح الصحابة في احتواء ذلك الخلاف بفضل التربية الروحية التي تلقوها على يد أعظم معلم وأنجح مرب، فلم يبلغ بهم الحال حد العداوة والمواجهة.
ومع مرور الأيام وتعدد الأهواء توسعت الشقة أكثر فأكثر، وحشر في المسألة ما ليس منها، واستغلت في الصراع الطائفي أسوأ استغلال، حتى صارت عاملا من عوامل التفرق والخصومة بين المسلمين.
وزاد الوضع سوءا إفراط المتمذهبين - من سائر الأطراف - في التعصب والمبالغة، حيث اعتبروا الموافقة في تقييم تلك الأحداث والحكم عليها مقياسا للهداية والضلال، ومرجعية للولاء والبراء، وصارت هذه المسألة من أكثر المسائل سخونة وحساسية، وبلغت ردود الأفعال السلبية فيها مداها.
مخ ۶
وقد مثل طرفي هذا النزاع تياران، أحدهما: يرى أن كل من لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به؛ صحابي يجب احترامه، والحكم بعدالته، وغض الطرف عن أخطائه مهما كانت، بحجة أنه صحابي. والآخر: يعتبر كثيرا من الصحابة ساقطي العدالة متهمين في دينهم؛ لوضعهم أمر الخلافة في غير أهله أو سكوتهم على ذلك.
وخاض الطرفان كثيرا من المعارك الكلامية وتبادل التهم والشتائم، وألفوا مئات الكتب المتضادة، وسيطروا على معظم مساحة الكلام في هذه المسألة.
مخ ۷
ونتيجة لذلك صار كل من يعتني بجمع فضائل الإمام علي وإشهارها متهما عند مخالفيه بالرفض. ومن يثني على أبي بكر أو عمر، ويقدر دورهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متهما عند مخلفيه بالنصب، حتى قال الشاعر:
إذا نحن فضلنا عليا فإننا .... روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل
وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته .... رميت بنصب عند ذكري للفضل
فما زلت ذا رفض ونصب كليهما .... أدين به حتى أوسد في الرمل
وقد أحببت أن أبين من خلال هذا البحث أن في هذه المسألة آراء تتسم بالوسطية والاتزان، بعيدا عن المبالغة وردود الأفعال، ومنها رأي الزيدية، القائم على الواقعية والاعتدال، والذي كاد - وللأسف - يندثر بين ركام الجدل الدائر بين الفرقاء في هذه المسألة، خصوصا وأن كثيرا من الباحثين والمثقفين من الزيدية وغيرهم لم يتسن لهم الاطلاع بشكل كامل ومفصل على رأي الزيدية في هذه المسألة، مما جعل نظرتهم لها غير واضحة، فبعضهم يميل إلى هذا التيار، وبعضهم يميل إلى ذاك، مما ميع الرؤية الزيدية المتوازتة في المسألة.
مخ ۸
وقد أقدمت على كتابة هذا البحث وأنا على يقين بأنه لن يرضي كثيرا من أطراف النزاع، شيعة وسنة، ولكن حسبي أنني حاولت تقديم رؤية متوازنة آمل أن تسهم في تقريب وجهات النظر، والتخفيف من غلواء الجدل في مسألة أصبحت عاملا من عوامل تفرق الأمة، وظلت ولا تزال مثارا للعداوة وسوء الظن بين المسلمين.
ويحسن التنبيه هنا إلى أن بعض علماء الزيدية قد كتبوا في هذه المسألة كتبا، بينوا فيها أساس رؤيتهم، ووضحوا الفرق بين النقد والسب، وبين التشكي والعداوة، وردوا فيها على المفرط والمفرط، ومنهم - على سبيل المثال لا الحصر - :
* محمد بن أحمد أبي الثلج (325ه) له كتاب في (فضائل الصحابة)، ذكره الأستاذ الوجيه في أعلام المؤلفين الزيدية، ونقل عن (أعيان الشيعة) أن أبا الثلج كان من محدثي الزيدية.
مخ ۹
* المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني المتوفى سنة (411 ه)، له كتاب في الجواب على رجل يسمى: (قابوس) كتب رسالة في الطعن على الصحابة. ذكرها الحاكم الجشمي في (جلاء الأبصار- مخطوط).
* أبو القاسم البستي المتوفى سنة (420 ه) ألف كتاب (التحقيق في الإكفار والتفسيق) خصص جزءا كبيرا منه للكلام في مسألة الصحابة الذين تقدموا على الإمام علي.
* الإمام يحيى بن حمزة (749ه) له عدة رسائل، هي: (أطواق الحمامة في حمل الصحابة على السلامة). ذكره الحبشي. و(التحقيق في الإكفار والتفسيق). ذكر الحبشي أنه يوجد نسخة منه كتبت في عصره. و(الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين). طبع سنة 1348ه بمصر ضمن مجموع الرسائل اليمنية، ثم طبع مرة أخرى بدار التراث اليمني سنة 1410ه.
* أحمد بن مير الحسني الجيلي (القرن الثامن)، له كتاب (صفوة الصفوة) في فضائل الصحابة. ذكره يحيى بن الحسين في (المستطاب)، وإبراهيم بن القاسم في القسم الثالث من (طبقات الزيدية) ترجمة (رقم 109).
* العلامة يحيى بن الحسن القرشي (780ه) خصص فصلا كبيرا من كتابه (منهاج المتقين) للكلام في موضوع الصحابة والدفاع عنهم.
* الإمام عز الدين بن الحسن (900ه) استرسل في شرح أحوال الصحابة ومكانتهم في كتابه (المعراج شرح المنهاج).
* عبد العزيز بهران (1010ه) له (حل الشبهات الواردات في الصحابة الثقات)، ضمن مجموع في مكتبة الجامع الكبير الغربية بصنعاء.
* محمد بن عز الدين المفتي (1049 ه) له (منهج الإنصاف العاصم من الاختلاف) في الذب عن الصحابة والترضية على المشايخ الثلاثة وتحريم سبهم. ذكره في (المستطاب)، وقال الحبشي: مخطوط بمكتبة هولندا ، رقم 478.
مخ ۱۰
* يحيى بن الحسين بن القاسم (1100ه) له كتابان: (الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى) موجود بخطه نسخة منه في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء. و(منتهى الإصابة فيما يجب من رعاية الصحابة)، بخط المؤلف في مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير.
* عبد الله بن علي الوزير (1144ه) له (إرسال الذؤابة بين جنبي مسألة الصحابة). رد على رسالة لبعض الجارودية في الصحابة. ذكر ذلك العلامة زبارة في (نشر العرف) أثناء ترجمته.
* أحمد بن محمد السياغي (1323ه) له (صيانة العقيدة والنظر عن سب صحابة سيد البشر). ذكره زبارة في (نزهة النظر).
وهنالك بحوث وكتب أخرى غير هذه، ولعل فيما ذكرت هنا كفاية لمن أراد أن يتتبع رأي الزيدية في هذه المسألة، ويتعرف عليه بوضوح وجلاء.
وسأحرص على الاستشهاد بأكبر قدر من نصوص علماء وأئمة الزيدية في مختلف جوانب المسألة، نقلا عن الكتب المعروفة لديهم؛ ليكون ذلك أبلغ في الحجة وأوضح في الدلالة، ولكي لا يعتبر البعض ذلك من تتبع هفوات الأئمة. ومن الله أستمد العون والهداية إنه سميع مجيب.
محمد يحيى سالم عزان
صنعاء 1/3/2003م.
مخ ۱۱
الكلام عن الصحابة..الدوافع والأسباب
يلمس المتتبع لأخبار الصحابة وسيرهم أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظرة طبيعية، بعيدة عن التفريط والإفراط الذي جلبه التعصب وردود الأفعال، وتنامى في جو الخصومة والتمذهب، فقد كان الصحابة يثنون على من بادر إلى فضيلة أو أجاد في عمل، وينتقدون من قصر في أداء واجب، أو تعدى في سلوك، بما يصل أحيانا إلى حد التجريح والإهانة، وشواهد ذلك كثيرة، وهو أمر طبيعي لا يطعن في الدين، ولا يؤثر على عقيدة المسلمين، ما دام بعيدا عن النوايا السيئة والتعصب الأعمى.
ولكن الأمر اختلف بعد مقتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستيلاء معاوية بن أبي سفيان الأموي على زعامة المجتمع المسلم بالقهر والغلبة، فانقسم الناس بين مؤيد له ومعارض، وحرص الأمويون على التمسك بالشرعية الدينية والتاريخية بدعوى أنهم امتداد لخط الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان، أما الإمام علي أبي طالب فأسقطوه من قائمة الخلفاء الراشدين، وبدلا من الترضية عنه - كسائر الخلفاء الراشدين - تناولوه بالتجريح والسباب، وعكفوا على الحط من قدره والإساءة إليه، فكان ذلك أول تصرف أسس للنيل من الصحابة والتطاول عليهم.
مخ ۱۲
فقد روى الحاكم(1) والترمذي(2) أن معاوية بن أبي سفيان قال لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب - يعني عليا - ؟! وفي رواية ابن ماجة(3): قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد فذكروا عليا فنال منه، فغضب سعد، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه»؟! وسمعته يقول: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»! وسمعته يقول: «لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله»!
وذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء)(4) أن الحسن اشترط على معاوية في الصلح ألا يسب عليا وهو يسمع. وفي هذا دليل على أن معاوية كان يسب عليا، ويأمر بذلك.
وروى مسلم(5) عن سهل بن سعد أن والي المدينة من آل مروان دعاه، وأمره أن يشتم عليا! وفي رواية ابن حبان(6): أن رجلا جاءه فقال هذا أمير المدينة، يدعوك لتسب عليا على المنبر!!
مخ ۱۳
وروى الحاكم في المستدرك(1) : أن المغيرة بن شعبة كان يسب علي بن أبي طالب! وروى أبو داود(2): أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل دخل على المغيرة في المسجد وعنده رجل يسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال المغيرة يسب عليا.. قال سعيد: أرى أصحاب رسول الله يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير؟!
وروى الطبراني(3): أن سعد بن أبي وقاص مر برجل وهو يشتم عليا وطلحة والزبير ، فقال له سعد: إنك تشتم قوما قد سبق لهم من الله ما سبق، فوالله لتكفن عن شتمهم أو لأدعون الله عز وجل عليك. فقال: تخوفني كأنك نبي. فدعا عليه، فأصيب.
وروى الطبراني(4) عن أبي عبد الله الجدلي أن أم سلمة قالت له: أيسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم على المنابر، قلت: سبحان الله! وأنى يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! قالت: أليس يسب علي بن أبي طالب ومن يحبه؟! أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبه. قال الهيثمي(5): رجاله رجال الصحيح، غير أبي عبد الله وهو ثقة.
مخ ۱۴
بل بلغ من تعسف الأمويين أن أمروا أحفاد الإمام علي بشتمه على الملأ، فقد روى ابن عساكر في (تاريخ دمشق)(1) أن عبد الملك بن مروان كتب إلى عامله بالمدينة: أن أقم آل علي يشتمون علي بن أبي طالب، وأقم آل عبد الله بن الزبير يشتمون عبد الله بن الزبير. وعندما أمرهم الوالي بذلك، أبوا، وكتبوا وصاياهم استعدادا للموت، فأشير على والي المدينة إن كان لا بد من أمر، فمر آل علي يشتمون آل الزبير، ومر آل الزبير يشتمون آل علي، فاستحسن ذلك، وكان أول من أقيم الحسن بن الحسن وكان رجلا رقيق البشرة، فقال له والي المدينة: تكلم بسب آل الزبير. فقال: إن لآل الزبير رحما أبلها ببلالها، وأربها بربابها، يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة، وتدعونني إلى النار. فأمر الوالي بضربه، حتى شرخ جلده، وسال دمه تحت قدمه!! فأي طغيان وأي جور أسواء من هذا ؟!
وبهذا هيأ الأمويون للناس جوا من العداوة، وأسقطوا ما كان لكبار الصحابة من هيبة ومكانة، وورث ذلك منهم غلاة أهل السنة، فصار بعض علمائهم ومحدثيهم يسب عليا بشكل صريح، فضلا عن الغمز والتجريح المبطن، ولم يمنع ذلك (شيوخ الإسلام، وحفاظ الحديث) من الرواية عنهم والثناء عليهم ووضعهم في قوائم النبلاء الثقات!! ومن أمثلة ذلك:
مخ ۱۵
(1) حريز بن عثمان (المتوفى سنة 163 ه)، كان يسب الإمام علي، ويشتمه، ولا يخرج من المسجد بعد الصلاة حتى يلعنه سبعين مرة!! ذكر ذلك البغدادي في (تاريخ بغداد)(1)، والمزي في (تهذيب الكمال)(2) وابن حجر في (تهذيب التهذيب)(3). ومع ذلك قال ابن عدي: حريز من الأثبات في الشاميين، ووثقه القطان وابن معين(4)، وقال الذهبي في (الميزان): كان متقنا ثبتا. وحكى عن معاذ بن معاذ أنه قال: لا أعلم أني رأيت شاميا أفضل منه! وعن أبي داود: سألت أحمد عنه، فقال: ثقة ثقة ثقة، وعن أبي حاتم: لا أعلم بالشام أثبت منه!! واعتمد روايته أصحاب الصحاح الست عدا مسلم، أما البخاري فروى له حديثين في (صحيحه)(5).
(2) عبد الله بن شقيق العقيلي (المتوفى سنة 108 ه)، قال أحمد بن حنبل: كان يحمل على علي. وقال ابن خراش: كان يبغض عليا. وقال الذهبي في (المغني)(6): ناصبي. وقال ابن حجر في (التقريب)(7) : فيه نصب. ومع ذلك قال يحيى بن معين: من خيار المسلمين. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: بصري ثقة(8)، واعتمد روايته أصحاب الصحاح، وله في صحيح مسلم اثنان وعشرون حديثا.
مخ ۱۶
(3) نعيم بن أبي هند الأشجعي (المتوفى سنة 110 ه)، جاء في (الميزان) (1) قيل للثوري: لم لم تسمع من نعيم بن أبي هند؟ قال: كان يتناول عليا رضي الله عنه. ومع ذلك قال أبو حاتم: صدوق! وقال النسائي: ثقة! واعتمد روايته: مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة، وله في صحيح مسلم أربعة أحاديث(2) واستشهد بروايته البخاري(3).
(4) أزهر بن عبد الله الحرازي، من صغار التابعين، قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب)(4): قال ابن الجارود: كان يسب عليا. وقال الذهبي في (الميزان)(5): ناصبي ينال من علي رضي الله عنه. ومع ذلك قال الذهبي في (المغني)(6): صدوق. وقال في (الميزان): تابعي حسن الحديث. واعتمد روايته: كل من أبي داود والترمذي والنسائي في سننهم!!
(5) لمازة بن زبار أبو لبيد الجهضمي، من التابعين، قال الذهبي في (الميزان)(7): كان يشتم عليا. وقال: حضر وقعة الجمل وكان ناصبيا ينال من علي رضي الله عنه، ويمدح يزيدا. ومع ذلك قال عنه: ثقة، واعتمد روايته أبو داود والترمذي وابن ماجة. وذكره ابن حبان في (الثقات)(8). وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب)(9): صدوق ناصبي.
(6) عمران بن حطان السدوسي البصري، من رؤوس الخوارج (توفي سنة 84 ه) ابتهج لمقتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومدح قاتله، فقال كما في (سير أعلام النبلاء)(10):
يا ضربة من تقي ما أراد بها .... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
مخ ۱۷
إني لأذكره حينا فأحسبه .... أوفى البرية عند الله ميزانا ومع ذلك روى له النسائي وأبو داود وأحمد، وله في (صحيح البخاري) حديثان(1)، وأثنى عليه المحدثون. فأي كذبة أعظم من القول بأن قاتل علي تقي؟! وأي جرأة على الدين والقيم أسوأ مما تضمنته هذه الأبيات؟!
ومن الملفت للنظر في هذه المسألة هذا التغاضي من قبل المحدثين عمن كان يسب عليا، أما إذا تعلق الأمر بأبي بكر أو عمر أو عثمان، فلا يتركون الرواية عمن ينال منهم فحسب، بل يحكمون عليه بالكفر أو الردة، ويجعلون حده القتل والتنكيل. فقد ذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب)(2) أن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى سئل عن رجل يسب أبا بكر. فقال: يقتل. فقيل: سب عمر. قال: يقتل. وذكر ابن بطة في (شرح الإبانة)(3) عن عبد الرحمن الأوزاعي أنه قال: من شتم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ارتد عن دينه وأباح دمه!
مخ ۱۸
فلماذا يرتد الراوي إن سب أبا بكر أو عمر، وإن سب عليا فهو ثقة ثقة ثقة ؟! وأي تعصب واختلال في الموازين أسوأ من هذا؟
ولم يقف الأمر عند أولئك، ولكنه استمر وتشعب، فهذا (ابن تيمية) الموصوف عند بعض المسلمين بشيخ الإسلام يخصص مساحة واسعة من كتبه للحط من مقام الإمام علي تلميحا وتصريحا، حتى ضج منه الحافظ بن حجر، ووصفه بالتحامل الشديد في رد الأحاديث الصحيحة الواردة في شأن علي(1)، فلم يختلف في ذلك عمن يصفهم بالرافضة.
وفي ظل تلك الهجمة أخذ أنصار الإمام علي وأهل بيته يدافعون عنه، ويظهرون فضائله بكل ما أوتوا، ومن الطبيعي أن يدخلوا في حالة مقارنة بينه وبين من يسعى الأمويون لتفضيلهم عليه من الصحابة، خصوصا أبا بكر وعمر، وأخذت ردة الفعل تعمل عملها تارة في المبالغة في النقد والتجريح، وتارة في التمجيد والمديح، ومن تتبع ما دون في ذلك عند مختلف الأطراف فسيجد العجب العجاب.
مخ ۱۹
تعريف الصحابي ومكانته
انعكس الجدل الدائر حول بعض الشخصيات - التي عاصرت النبي صلى
الله عليه وآله وسلم - على تحديد (مفهوم الصحابي) الذي جاء في النصوص الشرعية ما يدل على الثناء عليه، فاشتهر لدى المسلمين مفهومان: أحدهما: يمثل رأي المحدثين من أهل السنة، والثاني: يمثل رأي الزيدية وعموم الشيعة ومن وافقهم من أهل السنة:
رأي المحدثين من أهل السنة
يروى عن جمهور المحدثين، كأحمد بن حنبل، وابن المديني والبخاري، وأشباههم، أن الصحابي: كل من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام. وقد اعتبره ابن حجر العسقلاني أصح ما وقف عليه، وقال: «فيدخل فيمن لقيه: من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى»(1). وبالغ بعضهم فاعتبر كل من عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة سواء رآه أم لا(2).
مخ ۲۰
ثم اعتبروا الصحبة - بهذا المفهوم - أمرا يوجب التعظيم، والثناء، والتغاضي عما صدر عن المتصفين بها، والحكم بأنهم عدول لا يخضع أحد منهم لتقييم ولا نقد، كما هو المشهور عن جمهور المحدثين. قال ابن حجر: «اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول»(1). وقال القاضي عياض: «ذهب معظم العلماء إلى أن من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورآه مرة من عمره، وحصلت له مزية الصحبة، أفضل من كل من يأتي بعد، فإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل»(2). وقال ابن حزم: « وكلهم عدل إمام فاضل رضا، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم، وأن نستغفر لهم ونحبهم، وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقة أحدنا بما يملك، وجلسة من الواحد منهم مع النبي أفضل من عبادة أحدنا دهره كله.. إلى أن قال: وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة»(3).
ويؤخذ على هذا المفهوم أنه وإن كان قريبا من المعنى اللغوي، فإنه ليس دقيقا في المعنى الشرعي الذي هو المراد هنا؛ لأنه يشمل المغفلين، والجهالة، والعوام، ولا يستثني القتلة، والمجرمين، وسيئي السيرة والسلوك، فضلا عمن اردتد عن الإسلام تارة وعاد إليه أخرى في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد وفاته، حسب ما ذكر ابن حجر في (الإصابة)(4).
ولعل هذا ما اضطر بعض المحدثين والمدافعين عنهم إلى تعديل الفكرة وتقديمها بشكل آخر، رغم المعارضة الشديدة، فقال ابن حزم: «قد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضا من لا ترضى حاله، كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه، والحكم الطريد، وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة»(5).
مخ ۲۱
ونقل الشوكاني عن حسين القطان: أن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة(1). وهذا يقضي بخروج سيئي السيرة من مفهوم الصحابي.
وقال الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير: «إن بعضهم - يعني المحدثين - قد يطلق القول بعدالة الصحابة عموما، لعموم الثناء عليهم في القرآن والسنة، ثم يخصون هذا العموم عند ذكر المجاريح المصرحين من الصحابة، مثل الوليد بن عقبة وبسر بن أرطاة»(2)، واستطرد في الاستدلال وذكر الأمثلة على ذلك، ثم قال: «وهذا يفيد أن القوم - يعني المحدثين - يعتقدون زوال عدالة الصحابي عند ورود ما يدل على الجرح».
وقريبا منه ذكر العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال في (إجابة السائل)(3): «وأئمة الحديث وإن أطلقوا بأن الصحابة كلهم عدول قد بينوا أنه من العام المخصوص، وخرجوا جماعة منهم، مثل: الوليد بن عقبة». وهذا توجيه حسن، لو وافق عليه المحدثون وأتباعهم، وهو قريب مما سيأتي في المفوم الثاني.
رأي الزيدية وموافقيهم
يرى علماء الزيدية ومن وافقهم أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآمن به، وصحبه فترة يتمكن فيها من معرفة شرعه، والتخلق بأخلاقه، ثم مضى على نهجه، ومات على ذلك.
والفرق بين هذا المفهوم والمفهوم السابق: أنه يجعل للمعنى الاصطلاحي لكلمة (صحابي ) خصوصية زائدة عن المعنى اللغوي، فلا يعتبر مجرد لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سماعه أو رؤيته مسوغا للدخول في مفهوم الصحابي الذي تناوله عموم الثناء في القرآن وأقوال الرسول، وصار على الأمة احترامه وتبجيله.
مخ ۲۲
وفي هذا قال الإمام عبد الله بن حمزة: في (صفوة الاختيار)(1): «الصحابي من اختص بملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأخذ عنه وهو الذي نختاره، لا من لقيه مرة أو مرتين كما ذهب إليه كثير من أصحاب الحديث». وذكر العلامة صارم الدين الوزير في (الفصول اللؤلؤية)(2) أن الصحابي عند الزيدية هو: «من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متبعا له».
إضافة إلى أن هذا المفهوم لا يعتبر مجرد الصحبة - حتى وإن طالت - موجبة للفضيلة ومانعة من النقد والتقييم إن وقع الصحابي فيما يوجب ذلك. لأن الله تعالى يقول: ?من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد? (فصلت/46). ولم يستثن أحدا. وقد كان الصحابة أنفسهم يجرح بعضهم بعضا، ويقلل بعضهم من شأن بعض، إلى درجة الخصومة والجدل والنقد الجارح، مثل ما روى مسلم(3) أن أسماء بنت عميس قالت لعمرو بن الخطاب: كذبت يا عمر. وروى الحاكم(4) أن عائشة قالت: لعن الله عمر بن العاص، فإنه زعم لي أنه قتله (تعني ذا الثدية) بمصر. ونظائر هذا كثير. دع عنك ما جرى بينهم من تنافر بلغ أحيانا إلى درجة المواجهة المسلحة.
مخ ۲۳