وأخذت تسوق الاعتراضات، وأخذ هو يحطمها واحدا واحدا، وراحت بعد ذلك تتخيل بيت الزوجية، وما سوف يكون بيت الزوجية الذي ما عرفته قط، هي التي ذاقت كل بيت عداه ... واتفقا على موعد للزواج بعد ثلاثة شهور، ولعله اطمأن منذ ذلك اليوم إلى أنها لم تعد الغانية ماجدة، بل أضحت خطيبته، وإن لم يعنيا بإعلان الخطبة ... لقد أعلن علاقتهما بعد ذلك سير هذه العلاقة ... بدأا يظهران سويا، ويغشيان المطاعم ودور السينما، وكثيرا ما كانا يقابلان أصدقاء ماجدة ... كانت تومئ لبعضهم من بعيد، وكانت تقدمه للبعض الآخر ... وكان هذا البعض الآخر شعراء وفنانين من الشبان ... وكان هو يعرف بعضهم من قبل، كانت تقدمه كصديق، وكان كلما سألها لماذا لا تنبئهم بالخبر تقول له ضاحكة: ولم التسرع؟ سيعرفون النبأ في حينه ...
وفي شقتها الأنيقة كانت تجمعه وإياها وأصدقاءها من الأدباء والشعراء سهرات رائعة يتحدثون فيها، ويستمعون للموسيقى، ولا ينسى ذلك اليوم حين جاء صديقها الموسيقار «م»، وقد تأبط نوتة لحن من وضعه، وجلس يسمعهم اللحن بصوته الحنون، وعيناه مسمرتان على وجه ماجدة حتى انتهى اللحن، وصفق الجميع، وصفق هو معهم، وإن كان قد أحس شيئا من الضيق ... ضيق لم يخالجه شك حينذاك، ضيق ضعيف انفرج مع صيحات الإعجاب والتصفيق باللحن والأغنية، وقال «س» وهو ممثل يستنفد قدرته الفنية في التظاهر والتمثيل في الحياة، قال وقد خفت موجة الإعجاب: عرفنا أن اللحن من تأليفك، ولكن من الذي وضع هذه الأغنية الجميلة ... ويجيب الموسيقار ببساطة: الأغنية من تأليف صديقنا الشاعر «ع» لقد وضع الأغنية لماجدة، وأنا لحنتها لها ... إنها من وحيها لحنا، وغنائها لها ... ويصفق الجميع من جديد، وقد توجهت أنظاره إلى الشاعر «ع» الذي جلس في حياء، وقد اصطبغ وجهه بحمرة قانية ... وكأنه عذراء تسمع حديث الحب لأول مرة ... وصفق هو مع الجميع، وأحس بضيق أشد قسوة وظلا من ضيقه الأول ... وكان مطلع الأغنية:
عرفتك في ربيع عمري
يا ريت العمر كله ربيع
ماذا بعد أن عرفها؟ لطالما سأل نفسه تلك الليلة وهو يتقلب على فراشه ذلك السؤال، وكان يجيئه الجواب يوما بعد يوم حتى تجمعت سطوره في عبارة واحدة: إن ماجدة كانت وحيا لأكثر من قصيدة، وأكثر من شاعر، وكانت إلهاما لأكثر من رسام ومثال، وكانت نغما لأكثر من لحن وموسيقار ... وهو؟ ... هو الذي سوف يحظى يوما بهذا النبع لينهل منه إلى الأبد ... وكان هذا يعزيه ويبعث إلى نفسه الراحة ... فلم يشك يوما، ولم يسئ الظن ... حتى في قرار نفسه.
وكان يقول لنفسه كلما خطر له خاطر سوء: «ولم تخدعني، ولا مأرب لها ولا هدف؟ كل ذلك ضرائب الشهرة واللمعان ... قصة الفراش وهالة النور في كل زمان ومكان.»
حتى كان ذلك المنظر من القصة حين توقفت آلة العرض، فوقف كل شيء، وسكتت كل حركة، كانوا خمسة يسهرون عند ماجدة هو أحدهم، وكان ذلك قبل موعد الزواج الذي حدداه بثلاثة أسابيع، بدت ماجدة تلك الليلة في ثوبها الأزرق رائعة ... وكلمة رائعة لا تكفي، بدت شيئا أخطر من أن يمتلكه إنسان، أو يستأثر به حب واحد، كانت أكثر من امرأة واحدة، حتى لقد سأل نفسه سؤالا لم يستطع الجواب عليه، هل يقوى حبه وزواجه بها مهما يكن قويا وسعيدا أن يضفي عليها ثوب امرأة الرجل الواحد، فلا تشع روحها إلا على حياته وحده؟
وأدار بصره حواليه أكثر من مرة، فأحس بعجزه عن الجواب ... أو على الأصح بشكه في أن يكون جوابه بالإيجاب ... ها هم أولاء خمسة، ومع ذلك فإن ماجدة تسبغ عليهم جميعا ثوبا من البهجة، وتشع بروحها عليهم، وكأن كلا منهم يحظى من السعادة أكثر مما يطيق ... وينتصف الليل، وتمضي ساعاته الأولى، وينصرف الجميع، ويكون هو آخرهم ... يلثم يدها في عمق، ولا يكاد يفتح فمه حتى تقول له، وهي تربت على يده: غدا، غدا سأحادثك بالتليفون ...
غدا؟ غدا، ولا بعد غد ... وتسافر إلى الإسكندرية وتعود، ويتبين أن قصة هواه قد وقفت عند ذلك المنظر دون أن تصل إلى ختام.
قصص الهوى كما ألفتها الحياة ... أو ألفها الكتاب ... لم يلتق البطل والبطلة في قبلة لا فراق بعدها ... ولم يفترقا في دمعة كبيرة يذوب في حرارتها الحب؟! •••
ناپیژندل شوی مخ