كانت قد تركت رايموند مرة، ليس من أجل هارفي. كانت قد هربت مع عازف ما، أو إليه. عازف بيانو - اسكندنافي، يبدو ناعسا لكنه سيئ الطباع - عرفته أيام حياتها كسيدة مجتمع تحضر حفلات الأوركسترا السيمفونية الخيرية. راحت تتنقل معه من مكان إلى آخر لمدة خمسة أسابيع، حتى هجرها في أحد الفنادق في سينسيناتي. وبعدها أصيبت بآلام مبرحة في صدرها، تتلاءم مع قلب كسير. لم تكن تعاني في حقيقة الأمر إلا من نوبة ألم في المرارة . وأرسل في طلب رايموند، وجاء وأخرجها من المستشفى. ثم قضيا عطلة قصيرة في المكسيك قبل أن يعودا إلى المنزل.
قالت مايا: «كانت تلك هي النهاية بالنسبة إلي ... كان ذلك هو الحب الحقيقي اليائس. لن يأتيني ثانية أبدا.»
ماذا كان هارفي إذن؟ «مجرد مران.» •••
حصلت جورجيا على وظيفة بدوام جزئي في متجر لبيع الكتب، فكانت تعمل عدة أمسيات في الأسبوع. وذهب بن في رحلته البحرية السنوية. كان ذاك الصيف حارا ومشمسا أكثر من المعتاد بالنسبة إلى الساحل الغربي. فمشطت جورجيا شعرها وتوقفت عن استخدام مستحضرات التجميل واشترت فستانين قصيرين عاريي الظهر والكتفين. كانت إذ تجلس على مقعدها في مقدمة المتجر كاشفة عن كتفيها السمراوين العاريتين وساقيها السمراوين القويتين، تبدو مثل فتاة جامعية، حاذقة ولكنها مفعمة بالحيوية والآراء الجريئة. كان الأشخاص الذين يأتون إلى المتجر يروق لهم مظهر الفتاة - المرأة - من نوعية جورجيا. كانوا يحبون الحديث إليها. ومعظمهم كان يأتي بمفرده. لم يكونوا أشخاصا وحيدين بالضبط، ولكنهم كانوا وحيدين في توقهم إلى شخص يتحدثون إليه عن الكتب. فكانت جورجيا تضع قابس الغلاية خلف المكتب وتصنع أكوابا من شاي التوت البري. بعض العملاء المحظيين كانوا يجلبون أكوابهم. وكانت مايا تأتي لزيارتها، فتقبع في الخلفية، شاعرة بالاستمتاع والحسد.
قالت لجورجيا: «هل تعرفين ماذا لديك؟ ... لديك صالون! آه، لكم أود أن تكون لي وظيفة مثل هذه! أود حتى أن تكون لي وظيفة عادية في متجر عادي؛ حيث يقوم المرء بطي الأشياء وإيجاد أشياء للعملاء وإعطائهم الباقي ويقول لهم: شكرا جزيلا، وإن الطقس أكثر برودة في الخارج اليوم، وهل ستمطر؟»
فقالت لها جورجيا: «يمكنك الحصول على وظيفة كهذه.» «لا، لا يمكنني. لا أتميز بالانضباط اللازم. فقد نشأت نشأة بالغة السوء. لا أستطيع حتى تدبير شئون المنزل دون السيدة هانا والسيدة تشينج وسادي.»
كان هذا صحيحا. فقد كان لدى مايا خدم كثر - بالنسبة إلى امرأة عصرية - وإن كانوا يأتون في أوقات مختلفة ويقومون بأعمال منفصلة ولم يكونوا بأي حال من الأحوال مثل خدم البيوت من الطراز القديم . حتى الطعام الذي كان يقدم في حفلات العشاء - الذي بدا كأنه يظهر لمستها غير المبالية - كان يعده شخص آخر.
عادة، كانت مايا مشغولة في الأمسيات. وكانت جورجيا مسرورة بذلك؛ لأنها لم تكن ترغب في أن تأتي مايا إلى المتجر، وتسأل عن عناوين كتب عجيبة اخترعتها، جاعلة عمل جورجيا هناك نوعا من المزاح. فقد كانت جورجيا تأخذ المتجر على محمل الجد. كانت تكن له إعزازا حقيقيا وسريا لم تستطع تفسيره. كان متجرا طويلا غير فسيح ذا مدخل ضيق قديم الطراز محصورا بين نافذتي عرض مائلتان بزاوية. كانت جورجيا تستطيع أن ترى من على المقعد الذي كانت تجلس عليه خلف المكتب انعكاسات الضوء على إحدى النافذتين في النافذة الأخرى. لم يكن ذلك أحد الشوارع المعدة لاستقبال السائحين. كان شارعا عريضا يمتد من شرق المدينة إلى غربها، يغمره في ساعات المساء الأولى ضوء أصفر باهت، ضوء منعكس من على المباني الشاحبة المكسوة بالجص متوسطة الارتفاع، وواجهات المتاجر البسيطة، والأرصفة شبه الخالية. وجدت جورجيا في هذه البساطة نوعا من التحرر بعد الشوارع الظليلة الملتوية، والفناءات المليئة بالزهور، والنوافذ المحاطة بأفرع الكروم في أوك باي. هنا يمكن أن تنال الكتب احتراما لن تنال مثله أبدا في متجر أكثر تكلفا وجاذبية من متاجر الضواحي. كان المتجر مكونا من صفوف طويلة مستقيمة من الكتب ذات الأغلفة الورقية. (كانت معظم كتب دار بنجوين لا تزال في أغلفتها البرتقالية في أبيض أو الزرقاء في أبيض، دون أي تصميمات أو صور، فقط عناوين غير مزخرفة، وغير مفسرة.) كان المتجر بمنزلة طريق مستقيم يفضي إلى العطاء والوعود الممكنة. كانت بعض الكتب التي لم تقرأها جورجيا قط - وربما لن تقرأها أبدا - مهمة بالنسبة إليها؛ نظرا للجلال أو الغموض المحيط بعناوينها، على غرار: «في مدح الحماقة»، «جذور المصادفة»، «ازدهار نيو إنجلاند»، «الأفكار وسبل الكمال».
في بعض الأحيان، كانت تنهض وتصف الكتب بنظام أدق. كان الأدب القصصي يصف أبجديا - حسب اسم المؤلف - وهو ما كان ترتيبا منطقيا وإن كان غير مشوق. في المقابل، كانت كتب التاريخ والفلسفة وعلم النفس وكتب العلوم الأخرى تصف وفق قواعد معقدة وممتعة - تتعلق بالتسلسل الزمني والمحتوى - استوعبتها جورجيا في الحال بل وأضافت إليها. لم تكن في حاجة إلى قراءة جانب كبير من الكتاب لتتعرف على محتواه. كانت تستوعب فكرته بسهولة - على الفور تقريبا - كأنما من رائحته.
وفي بعض الأحيان، كان المتجر يخلو من الزبائن، فكانت تشعر بهدوء غامر. حتى الكتب لم تكن تعنيها آنذاك. كانت تجلس على المقعد وتراقب الشارع - في تأن وترقب، وحدها، هائمة في حالة من الاتزان الدقيق.
ناپیژندل شوی مخ