من أفضل ما قيل عن الكتاب
صديقة شبابي
فايف بوينتس
مينسيتونج
أمسكيني جيدا، لا تدعيني أسقط
البرتقال والتفاح
صور الثلج
خير ورحمة
آه، ماذا يجدي؟
بطريقة مختلفة
وقت الباروكة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
صديقة شبابي
فايف بوينتس
مينسيتونج
أمسكيني جيدا، لا تدعيني أسقط
البرتقال والتفاح
صور الثلج
خير ورحمة
آه، ماذا يجدي؟
بطريقة مختلفة
وقت الباروكة
صديقة شبابي
صديقة شبابي
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
من أفضل ما قيل عن الكتاب
«أليس مونرو هي تشيكوف العصر، وستتفوق على معظم معاصريها.»
سينثيا أوزيك «كل مجموعة من مجموعات أليس مونرو القصصية تبرز براعة لغوية ودقة في الرؤية وقوة ووضوحا أخلاقيين، مما يجعل مسألة تفوقها على معاصريها فكرة لا تقاوم.»
صحيفة «شيكاجو تريبيون» «تمتلك قصص أليس مونرو كل العناصر التي يرغب فيها أي قارئ: النوادر، والتفاصيل اليومية البراقة، والشغف الجنسي، وتاريخ العائلات، والشخصيات غريبة الأطوار، والمناظر الطبيعية الجديدة، وحس الفكاهة، والحكمة.»
صحيفة «فيلادلفيا إنكوايرر» «أليس مونرو شخصية خفيفة الظل، وصاحبة أسلوب يتميز بالبراعة الشديدة. عباراتها وجملها - رغم أنها ليست مليئة بالصور البيانية - دائما ذات إيقاع مميز وإحكام رائع بنبرة ساخرة. إنها كاتبة من طراز نادر، لا تخشى الكتابة عن أشخاص في مثل ذكائها.»
مجلة «نيوزويك» «أليس مونرو أديبة عبقرية ... راصدة منقطعة النظير للطبيعة الإنسانية.»
صحيفة «صنداي تايمز» (لندن) «أليس مونرو واحدة من أبرع وأمهر الكتاب في الأدب القصصي المعاصر ... مجموعة رائعة من القصص القصيرة المصاغة بأسلوب بارع والمؤثرة بشكل عميق.»
ميتشيكو كاكوتاني
صحيفة «ذا نيويورك تايمز»
إلى ذكرى أمي
صديقة شبابي
مهداة إلى آر جيه تي مع الشكر
اعتدت على أن أحلم بأمي، وعلى الرغم من أن التفاصيل كانت تختلف داخل الحلم، فكانت المفاجأة فيه دائما واحدة لا تتغير؛ يتوقف الحلم؛ نظرا - مثلما أظن - للبراءة المذهلة في آماله، ولليسر المفرط في غفرانه.
في الحلم أكون في نفس عمري الحقيقي، وأعيش الحياة التي أحياها فعلا، وأكتشف أن أمي لا تزال حية. (في حقيقة الأمر، توفيت أمي عندما كنت في أوائل العشرينيات، وكانت هي في أوائل الخمسينيات.) في بعض الأحيان، أجد نفسي في مطبخنا القديم؛ حيث كانت أمي تصنع عجينة الفطائر على المائدة، أو تغسل الصحون في وعاء التنظيف المتهالك كريمي اللون ذي الحافة الحمراء. وفي أحيان أخرى أقابلها مصادفة في الشارع، في أماكن لم أتوقع أن أراها فيها قط، ربما أراها تسير عبر بهو فندق أنيق، أو تقف في طابور في أحد المطارات. كانت تبدو في حالة صحية طيبة، لا تبدو شابة تماما، ولا تغيب عنها آثار مرض الشلل الذي ظلت أسيرته لعقد من الزمان أو أكثر قبل أن تفيض روحها، لكنها كانت تبدو أفضل حالا مما أستطيع أن أذكر، الأمر الذي كان يدهشني كثيرا. كانت تقول: «آه، أشعر برجفة بسيطة في ذراعي، وتيبس طفيف أعلى هذا الجانب من وجهي. الأمر مؤلم، لكني أتغلب عليه.»
استعدت حينها ما كنت قد فقدته في حياة اليقظة؛ استعدت حيوية وجه وصوت أمي قبل أن تصاب عضلات حلقها بالتيبس، وقبل أن تكتسي ملامحها بقناع شجي جامد خال من أي تعبير. كيف أستطيع أن أنسى - كذا كنت أحدث نفسي في الحلم - الدعابة العفوية التي كانت تحظى بها، دعابة مرحة لا ساخرة، وخفة الظل والرغبة الدائمة في التغيير والثقة؟ كنت سأقول إنني أشعر بالأسف؛ لأنني ما رأيتها منذ هذا الوقت الطويل، وهو ما يعني أنني لم أشعر بالذنب بل بالأسف؛ لأنني احتفظت بأفكار غريبة في رأسي بدلا من هذه الحقيقة الواقعة - وكان أكثر الأشياء غرابة ولطفا على الإطلاق بالنسبة لي إجابتها الصريحة الواضحة.
قالت أمي: «آه، حسنا، أن يحدث هذا متأخرا أفضل من ألا يحدث على الإطلاق. كنت متأكدة أني سأراك يوما ما.» •••
عندما كانت أمي شابة ذات وجه ناعم مرح، تغطي رجليها الممتلئتين جوارب حريرية رائعة غير شفافة (رأيت صورة فوتوغرافية لها مع تلاميذها)، كانت تدرس في إحدى مدارس الفصل الواحد، وتسمى مدرسة جريفز، في وادي أوتاوا. كانت المدرسة تقع على ناصية مزرعة تملكها عائلة جريفز، وهي مزرعة أجمل من أن تنتمي إلى هذا البلد؛ كانت هناك حقول جيدة التصريف، دون وجود أي من صخور العصر ما قبل الكمبري التي تشق طريقها عبر الأرض، وهناك نهر تنتصب أشجار الصفصاف على حوافه يمر بحذاء الأرض، وأجمة سكرية، وأكواخ خشبية، ومنزل كبير غير مزين لم يجر طلاء جدرانه الخشبية من قبل، بل تركت كي تتحلل. كانت أمي تقول: إن الخشب عندما يترك حتى يتحلل في وادي أوتاوا - ولا أعرف سببا لذلك - لم يكن لون الخشب يتحول إلى الرمادي بل إلى الأسود. كانت أمي تقول: إن ثمة شيئا - لا شك - في الهواء. كانت أمي تتحدث كثيرا عن وادي أوتاوا، موطنها - كانت أمي قد نشأت على مسافة عشرين ميلا تقريبا من مدرسة جريفز - في لهجة جازمة محيرة، مركزة على أشياء فيه تجعله مختلفا عن أي مكان آخر على وجه الأرض؛ حيث تتحول المنازل فيه إلى اللون الأسود، ويحظى الشراب المستخرج من أشجار القيقب بمذاق لا يضاهيه مذاق أي شراب من النوع نفسه في أي مكان آخر، وتسير الدببة الهوينى على مرمى البصر من المزارع. بالطبع، أصبت بخيبة الأمل عندما رأيت مؤخرا المكان؛ لم يكن واديا على الإطلاق، إذا كنت تعني بالوادي شقا بين مرتفعين، بل كان مزيجا من الحقول المنبسطة والصخور الخفيضة والأجمات الكثيفة والبحيرات الصغيرة؛ نوع من الريف المختلط، غير المنظم بلا انسجام طبيعي، مكان لا يمكن وصفه بسهولة.
لم تكن الأكواخ الخشبية والمنزل غير المطلي - وهي مظاهر شائعة في المزارع الفقيرة - في حالة عائلة جريفز علامة على الفقر بل على اعتقاد ما؛ كان آل جريفز يمتلكون المال لكنهم لم يكونوا ينفقونه، هذا ما قاله الناس لأمي. كان آل جريفز يكدحون، وكانوا أبعد ما يكونون عن الجهل، لكنهم كانوا رجعيين جدا؛ لم تكن لديهم سيارة أو كهرباء أو هاتف أو جرار، بينما ظن بعض الناس أن ذلك مرجعه إلى أنهم كاميرونيون - كانوا وحدهم في منطقة المدرسة ممن ينتمون إلى هذا المذهب الديني - لم تحرم كنيستهم في واقع الأمر (التي كانوا هم أنفسهم يطلقون عليها الكنيسة المشيخية الإصلاحية) المحركات أو الكهرباء أو أي اختراعات من هذا النوع، بل فقط ألعاب الورق والرقص ومشاهدة الأفلام، وفي أيام الآحاد أي نشاط غير ديني أو غير حتمي.
لم تستطع أمي أن تحدد على وجه اليقين طبيعة الكاميرونيين، أو لماذا كان يطلق عليهم هذا الاسم، مجرد مذهب غريب وارد من اسكتلندا، مثلما كانت تقول في ثقة استنادا إلى المذهب الإنجيلي المتسامح الذي كانت تدين به. كانت المدرسة في المدرسة تسكن دوما في مقابل أجر لدى آل جريفز، وكانت أمي تشعر بشيء من الرعب لفكرة أنها ستعيش في ذلك المنزل الأسود الخشبي الذي تصاب الحياة فيه بالشلل أيام الآحاد، وتنيره المصابيح المضاءة بزيت الفحم، وتسكنه الأفكار البدائية. لكن كانت أمي مخطوبة في ذلك الوقت، وكانت ترغب في تجهيز مستلزمات عرسها بدلا من أن تمضي وقتا طيبا في التسكع في أرجاء البلدة وحسب، ورأت أنها تستطيع أن تعود إلى المنزل يوم أحد واحد كل ثلاثة أيام آحاد. (في أيام الآحاد في منزل آل جريفز، يمكن أن توقد نارا للتدفئة لا للطهي، ولا يمكنك أبدا غلي الماء في القدر لعمل شاي، ولا يجدر بك كتابة خطاب أو سحق ذبابة. على أي حال، كانت أمي معفاة كما اتضح لاحقا من هذه القواعد. كانت فلورا جريفز تقول ساخرة من أمي: «لا، لا، لا تشملك هذه الأمور، ما عليك سوى عمل ما أنت معتادة عليه.» بعد فترة، صارت أمي وفلورا أصدقاء إلى درجة أنها لم تعد حتى تذهب إلى منزلها أيام الآحاد مثلما قررت.)
كانت فلورا وإيلي الأختين المتبقيتين من العائلة؛ كانت إيلي متزوجة لرجل يدعى روبرت ديل، الذي كان يعيش هناك وكان يدير المزرعة، لكنه لم يفلح في تغيير اسمها في ذهن أحد إلى مزرعة ديل. من خلال الطريقة التي كان الناس يتحدثون بها، كانت أمي تتوقع أن تكون الأختان جريفز وروبرت ديل في منتصف العمر على الأقل، لكن إيلي، الأخت الصغرى، كانت لا تزيد عن ثلاثين عاما، وكانت فلورا أكبر منها بسبع أو ثماني سنوات، ربما كان عمر روبرت ديل بين الاثنتين.
كان المنزل مقسوما بطريقة غير متوقعة. لم يكن الزوجان يعيشان مع فلورا؛ فعند وقت زواجهما، تركت فلورا لهما غرفة الاستقبال وغرفة الطعام، وغرف النوم الأمامية، والسلم، والمطبخ الشتوي. لم تكن ثمة حاجة لاتخاذ قرار بشأن الحمام؛ نظرا لعدم وجوده. احتفظت فلورا بالمطبخ الصيفي، ذي السقف المفتوح والحوائط الطوبية غير المصقولة، وتم تحويل حجرة المؤن القديمة إلى غرفة جلوس وغرفة طعام ضيقة، وغرفتين خلفيتين، خصصت إحداهما لأمي. كانت المدرسة التي تعمل في المدرسة تعيش مع فلورا، في الجزء الأفقر من المنزل، لكن لم تعبأ أمي بذلك. أعجبت أمي على الفور بفلورا وروحها المرحة، على الرغم من الصمت والجو المرضي في الغرف الأمامية. في جزء فلورا، لم يكن صحيحا أن جميع وسائل الترفيه كانت ممنوعة؛ كانت فلورا تمتلك لعبة كروكينول، وقد علمت أمي كيف تلعبها.
بطبيعة الحال، جرى عمل هذا التقسيم باعتبار أن روبرت وإيلي سيكونان عائلة، وباعتبار أنهما سيحتاجان لمساحة أكبر. لم يحدث ذلك؛ ظل روبرت وإيلي متزوجين مدة اثني عشر عاما ولم يعش طفل لهما. كانت إيلي تحمل مرارا وتكرارا، لكن مات طفلان عند الولادة، وأجهضت في باقي المرات الأخرى. خلال عام أمي الأول في المزرعة، كانت إيلي فيما يبدو تقضي وقتا أطول في الفراش، وكانت أمي تظن أنها حبلى مرة أخرى، لكن لم يشر أحد إلى ذلك قط؛ لم يكن مثل هؤلاء ليتحدثوا عن أمور كهذه. لم يكن من الممكن أن تعرف شيئا من شكل إيلي عندما كانت تقوم من السرير وتتجول في المكان؛ لأن مظهر جسدها كان ممشوقا واهنا وبدا صدرها مترهلا. كانت تفوح من إيلي رائحة المرض، وكانت تتذمر بطريقة طفولية من كل شيء. كانت فلورا تعتني بها وتقوم بجميع الأعمال. كانت فلورا تنظف الملابس وترتب الغرف وتطهو الوجبات التي تقدم في جانبي المنزل، فضلا عن مساعدة روبرت في حلب الماشية وغربلة المحاصيل. كانت فلورا تستيقظ قبل شروق الشمس ولم يكن يبدو أنها تكل قط. في الربيع الأول الذي كانت أمي موجودة خلاله في المزرعة، جرى البدء في عملية تنظيف واسعة، خلالها ارتقت فلورا السلالم الخشبية بنفسها، وفكت النوافذ ونظفتها ووضعتها في أحد الأركان، وأخرجت الأثاث كله من غرفة تلو أخرى، بحيث تستطيع تنظيف القطع الخشبية والأرضيات. غسلت فلورا جميع الصحون والأكواب في الخزائن المفترض أنها نظيفة في الأساس، وقامت بتنظيف جميع الأواني والملاعق بالماء المغلي. تملكتها هذه الحاجة إلى التنظيف والطاقة مما حال دون نومها؛ فكانت أمي تستيقظ على صوت تفكيك أنابيب تهوية الموقد، أو المقشة الملفوفة في فوطة أواني وهي تزيل شبكات العناكب المغطاة بالدخان. كان فيض من ضوء باهر يأتي عبر النوافذ المغسولة منزوعة الستائر. كانت نظافة المكان مذهلة. صارت أمي تنام الآن على ملاءات جرى تبييضها وتنشيتها على نحو جعل حكة تسري في جسدها. كانت إيلي المريضة تشتكي يوميا من رائحة سوائل التلميع ومساحيق التنظيف. كانت يدا فلورا خشنتين، لكن مزاجها العام ظل ممتازا. أضفى منديلها وميدعتها وملابس العمل المتسعة الخاصة بروبرت التي ارتدتها أثناء عملية ارتقاء السلالم مظهر الممثل الكوميدي، وهو ما يدل على الخفة وصعوبة توقع ما يمكن أن تفعله في اللحظة التالية.
أطلقت عليها أمي الدرويش الدوار.
قالت لها أمي: «أنت نموذج للدرويش الدوار.» فتوقفت فلورا فورا عن العمل؛ إذ كانت تريد أن تعرف المقصود من ذلك. سارعت أمي وشرحت لها، على الرغم من خوفها من أن تجرح المشاعر الدينية لديها. (لم تكن مشاعر دينية تماما؛ لا يمكن أن تسميها كذلك، قل التزام ديني.) بالطبع، لم يكن الأمر كذلك، لم يكن ثمة غلظة أو احتراز خيلائي في تدين فلورا. لم تكن فلورا تخشى الوثنيين؛ فقد كانت دوما تعيش وسطهم. أعجبتها فكرة أن تكون درويشا وذهبت إلى أختها تخبرها عن ذلك. «هل تعرفين ماذا قالت المدرسة عني؟»
كانت فلورا وإيلي امرأتين ذواتي شعر أسود، وعينين سوداوين، وكانتا طويلتين، وأكتافهما غير عريضة، وأرجلهما طويلة. بينما كانت إيلي - بالطبع - حطاما، كانت فلورا لا تزال منتصبة القامة ورشيقة. كانت أمي تقول إنها يمكن أن تبدو مثل ملكة، وهي تركب عند ذهابها إلى المدينة في العربة الكبيرة التي كانتا تمتلكانها. عندما كانت هي وروبرت يذهبان إلى الكنيسة، كانا يركبان عربة صغيرة أو زلاجة يجرها حصان، لكنهما عندما كانا يذهبان إلى المدينة، كانا ينقلان عادة أجولة من الصوف - كان لديهما بعض الخراف - أو من محاصيل المزرعة لبيعها، وكانا يجلبان المؤن إلى المنزل عند عودتهما. لم يقوما بهذه الرحلة التي لا تزيد عن بضعة أميال كثيرا. كان روبرت يركب في المقدمة لقيادة الحصان، ورغم أن فلورا كانت تستطيع قيادة أي حصان جيدا، كان الرجل هو الذي يجب أن يقود دوما. كانت فلورا تقف في الخلف ممسكة بالأجولة. كانت تقف في الرحلة من المدينة وإليها، محافظة على توازنها، ومرتدية قبعتها السوداء - كان الأمر مضحكا وإن لم يكن تماما. كانت أمي ترى أنها تبدو مثل ملكة غجرية، بشعرها الأسود وبشرتها التي كانت تبدو دوما وكأنها قد اسمرت نتيجة تعرضها للشمس، وسكينتها الرقيقة والحازمة في آن واحد. بطبيعة الحال، كان ينقص فلورا الأساور الذهبية والملابس البراقة. كانت أمي تحسدها على رشاقة جسدها، وجمال عظام وجنتيها. •••
عند عودتها في الخريف في السنة الثانية، علمت أمي بأمر إيلي.
قالت فلورا: «أختي لديها ورم.» لم يتحدث أحد عن وجود سرطان لديها.
كانت أمي قد سمعت بذلك من قبل، كان الناس يشكون في ذلك. كانت أمي تعرف الكثير من الأشخاص في المنطقة حينها؛ فقد نشأت علاقة صداقة قوية بين أمي وامرأة شابة كانت تعمل في مكتب البريد، وصارت هذه المرأة إحدى وصيفات أمي في حفل زفافها لاحقا. سردت قصة فلورا وإيلي وروبرت - أو كل ما كان يعرف الناس عنهم - في صور متعددة، لم تشعر أمي أنها كانت تستمع إلى نميمة؛ نظرا لأنها كانت على استعداد دوما للدفاع عند سماعها أي انتقاد لفلورا - حيث كانت أمي لا تسمح بذلك. لكن لم ينتقد أحد فلورا، كان الجميع يقول إن فلورا كانت تتصرف مثل القديسة، وحتى عندما كانت تتطرف في تصرفاتها، مثلما فعلت عند تقسيم المنزل، كان سلوكها راقيا مثل القديسات.
جاء روبرت للعمل في مزرعة آل جريفز قبل شهور قليلة من وفاة والد الفتاتين، كانا يعرفانه قبلا من الكنيسة. (كانت أمي تقول: إن تلك الكنيسة، التي ذهبت إليها مرة بدافع الفضول، عبارة عن مبنى كئيب يوجد على بعد أميال على الجانب الآخر من المدينة؛ حيث لا يوجد أرغن أو بيانو، وكان هناك زجاج خال من أي رسوم في النوافذ، وقس هرم واهن تستغرق موعظته عدة ساعات، ورجل يقرع شوكة رنانة أثناء الغناء.) كان روبرت قد غادر اسكتلندا وكان في طريقه غربا. كان قد توقف لدى أقارب أو أشخاص يعرفهم؛ أعضاء في الكنيسة قليلة العدد. وقد جاء روبرت إلى منزل آل جريفز بهدف كسب بعض المال على الأرجح. وسرعان ما تمت خطبته إلى فلورا. بينما لم يكن بوسعهما الذهاب إلى حفلات الرقص أو إلى حفلات لعب الورق مثل الخطباء الآخرين، كانا يذهبان في نزهات سير طويلة. كانت إيلي - بصورة غير رسمية - هي المرافقة للخطيبين أمام الناس التي تراقب حركاتهما. كانت إيلي حينها فتاة استفزازية، وجامحة، وطويلة الشعر، ووقحة، وطفولية، وممتلئة بالطاقة الوثابة. كانت تجري عبر التلال وتضرب بقوة سيقان البوصير، وهي تصرخ وتقفز وتتظاهر بأنها كالمحارب الذي على صهوة جواد، أو الجواد ذاته. كان ذلك عندما كانت تبلغ خمسة عشر، أو ستة عشر عاما. لم يكن يستطيع أحد سوى فلورا السيطرة عليها، وعموما كانت فلورا تسخر منها فقط، وكانت معتادة على تصرفاتها بحيث لم تتساءل عما إذا كان ثمة خطب في عقلها. كانتا مغرمتين إحداهما بالأخرى بصورة مدهشة. كانت إيلي، بجسدها الطويل النحيف، ووجهها الطويل الشاحب، بمثابة نسخة من فلورا؛ النسخة التي تراها عادة في العائلات، التي بسبب وجود بعض الاختلاف أو المبالغة في الملامح أو اللون، كانت وسامة شخص تتحول إلى قبح - أو ما يشبه قبحا - في الشخص الآخر. لكن لم تكن إيلي تغار من ذلك، كانت تحب تمشيط شعر فلورا وربطه معا. كانتا تقضيان معا أوقاتا عظيمة وهما تغسلان إحداهما شعر الأخرى. كانتا قريبتين إحداهما من الأخرى جدا، وكانت العلاقة بينهما مثل بنت وأمها؛ لذا، عندما خطب روبرت فلورا، أو خطبته فلورا - لم يعلم أحد كيف تطورت الأمور بينهما - كان يجب ضم إيلي إلى صحبتهما. لم تظهر إيلي أي كراهية تجاه روبرت، لكنها كانت تتبعهما وتقاطعهما أثناء سيرهما، كانت تختبئ وراء الأجمات وتفاجئهما وهما معا، أو تتسلل خلفهما في خفة بحيث تتمكن من الانقضاض عليهما وتفاجئهما. كان الناس يرونها تفعل ذلك، وكانوا يسمعون نكاتها. كانت إيلي دائما بالغة السوء في المزح، وفي بعض الأحيان أفضى بها ذلك إلى مشكلات مع والدها، غير أن فلورا قامت بحمايتها. كانت تضع الشوك في فراش روبرت، وكانت تضع السكين والشوكة بشكل معكوس في موضع جلوسه على المائدة، كانت تبدل دلاء اللبن بحيث تعطيه الدلو القديم المثقوب. كان روبرت، من أجل إرضاء فلورا، لا يغضبها.
جعل الأب فلورا وروبرت يحددان يوم الزفاف قبل عام كامل منه، وبعد وفاته لم يقدما موعده قط. ظل روبرت يعيش في المنزل. لم يكن أحد يعرف كيف يمكن إخبار فلورا أن هذا أمر مشين، أو يبدو مشينا. كانت فلورا ستكتفي بالسؤال عن السبب. بدلا من تقديم موعد الزفاف، قامت فلورا بتأخيره، من الربيع التالي إلى أوائل الخريف بحيث يمر عام كامل بين يوم الزفاف ويوم وفاة والدها. عام بين زفاف وجنازة - بدا ذلك مناسبا لها. كانت تثق تماما في صبر روبرت وفي عفتها.
أو على الأقل كانت تثق في نفسها. حدثت جلبة في الشتاء؛ كانت إيلي تتقيأ وتبكي، وهربت واختبأت في أكوام القش، وكانت تصرخ عندما وجدوها وجذبوها خارجها، وكانت تقفز على أرضية الحظيرة، وتجري في دوائر، وتهيم على وجهها في الجليد. لقد فقدت إيلي صوابها. كان على فلورا الاتصال بالطبيب. أخبرت فلورا الطبيب أن دورتها الشهرية توقفت، فهل أدى احتباس الدم داخلها إلى إصابتها بالجنون؟ كان على روبرت الإمساك بها وتقييدها، ووضعها هو وفلورا في الفراش. لم تكن ترغب في تناول الطعام، كانت تهز رأسها فقط من جانب إلى آخر، وهي تصرخ، كان الأمر يبدو كما لو أنها ستموت دون أن تتفوه بكلمة. ظهرت الحقيقة بطريقة ما، لا عبر الطبيب، الذي لم يستطع الاقتراب منها بما يكفي لفحصها بسبب حركاتها العنيفة. بل على الأرجح كان روبرت هو من اعترف. أخيرا، استطاعت فلورا أن تلتقط بعض أطراف الحقيقة، وتعاملت مع الأمر بنبل شديد. كان يجب أن يكون ثمة زفاف الآن، وإن لم يكن الزفاف المقرر.
زفاف بدون كعكة، ولا ملابس جديدة، ولا رحلة شهر عسل، ولا تهاني، فقط زيارة مشينة سريعة إلى مقر إقامة القس لإتمام مراسم الزواج. اعتقد بعض الأشخاص، عندما رأوا اسمي الزوجين على الأوراق، أن محرر عقد الزواج خلط بين اسمي الأختين، ظنوا أن العروس من المفترض أن تكون فلورا. زفاف سريع لفلورا! لا، كانت فلورا هي من قامت بكي بذلة روبرت - لا بد أنها قامت بذلك - وساعدت إيلي على النهوض من الفراش وحممتها وجعلتها تبدو في صورة طيبة. كانت فلورا هي من انتقى زهرة إبرة الراعي من النافذة ووضعتها في فستان أختها، ولم تنزعها إيلي. كانت إيلي ضعيفة آنذاك، ولم تعد تقاوم في عنف أو تبكي. تركت إيلي فلورا تعدل من هندامها، وتركت نفسها تتزوج، ولم تعد شرسة منذ ذلك الحين.
قسمت فلورا المنزل. ساعدت بنفسها روبرت على بناء الهياكل الضرورية للتقسيم. حملت إيلي واستمر الحمل حتى نهاية المدة المحددة للوضع - لم يدع أحد أن ولادة الطفل كانت مبكرة - لكن ولد الطفل ميتا بعد عملية ولادة طويلة وعسيرة. ربما أضرت إيلي بالطفل عندما قفزت من أعلى الحظيرة ووقعت وأخذت تتدحرج على الجليد وأخذت تضرب نفسها، حتى لو لم تكن قد فعلت ذلك، كان الناس سيتوقعون حدوث شيء خطأ، مع هذا الطفل أو ربما مع أي طفل آخر ستحمل به لاحقا. ينزل الرب عقابه بالزيجات السريعة - ليس فقط المشيخيون هم من كانوا يعتقدون ذلك، بل تقريبا الجميع. كان يعتقد أن الرب يعاقب الزنا بأطفال يتوفون عند ولادتهم، أو أطفال يولدون بلهاء، أو أطفال لهم شفة أرنبية، أو أطراف ضامرة، أو حنف في الأقدام .
في هذه الحالة تواصل العقاب. أجهضت إيلي مرة بعد أخرى، ثم توفي طفل آخر عند الولادة، ثم أجهضت مجددا أكثر من مرة. كانت تحمل بشكل مستمر، وكانت فترات حملها مليئة بنوبات قيء كانت تستمر أياما، ونوبات صداع، وتقلصات، ونوبات دوار. كانت حالات الإجهاض مستنزفة لجسمها مثل حالات الحمل الكاملة. لم تستطع إيلي القيام بواجباتها المنزلية؛ كانت تسير في المكان مستندة على المقاعد. مرت فترة صمتها الجامد، وصارت شكاءة؛ فإذا جاء أحد لزيارتها، كانت تتحدث عن تفاصيل نوبات الصداع التي كانت تصيبها، أو تشير إلى نوبة الإغماء الأخيرة التي تعرضت لها، أو حتى - أمام الرجال، وأمام الفتيات غير المتزوجات أو الأطفال - تحكي تفصيلا عما أسمته فلورا «حالات خيبة الأمل الشديدة» التي كانت تتعرض لها. وعندما كان الحاضرون يغيرون الموضوع أو يأخذون الأطفال بعيدا، كانت تتجهم. كانت تطلب علاجا جديدا، وتنتقد الطبيب انتقادا لاذعا، وكانت تلقي باللائمة على فلورا. كانت تتهم فلورا بغسيل الأطباق في جلبة شديدة حتى تزعجها، وبجذب شعرها - شعر إيلي - بشدة عند تمشيط شعرها، وباستبدال مزيج الماء والعسل في شح واضح بدوائها الحقيقي. مهما قالت، كانت فلورا تهدئ من روعها، وكل من كان يحضر إلى المنزل كان يحكي حكايات مثل هذه. كانت فلورا تقول: «أين فتاتي الصغيرة؟ أين إيلي؟ هذه ليست إيلي التي أعرفها، هذا شخص سيئ الطباع حل محلها!»
في أمسيات الشتاء، بعد مساعدة روبرت في القيام بأعمال المزرعة، كانت فلورا تغتسل وتغير ملابسها ثم تذهب إلى إيلي لتقرأ لها لتنام. ربما كانت أمي تزورهما، مصطحبة معها أي أعمال حياكة كانت تمارسها، كجزء من تجهيزات عرسها. كان فراش إيلي موضوعا في غرفة الطعام الكبيرة، حيث كان هناك مصباح غازي فوق المائدة. كانت أمي تجلس على جانب من المائدة تخيط، وكانت فلورا تجلس على الجانب الآخر تقرأ بصوت مرتفع. في بعض الأحيان كانت إيلي تقول: «لا أستطيع أن أسمعك.» أو إذا كانت فلورا قد توقفت لبرهة لترتاح، فكانت إيلي تقول: «لم أنم بعد.»
ماذا كانت فلورا تقرأ؟ قصصا حول الحياة الاسكتلندية، لم تكن أعمالا كلاسيكية، بل قصصا حول القنافذ والجدات المضحكات. كان اسم الكتاب الوحيد الذي استطاعت أمي تذكره هو «وي ماكجريجور». لم تستطع أمي متابعة القصص جيدا، أو الضحك عندما كانت فلورا تضحك وإيلي تتذمر، نظرا للهجة الاسكتلندية أو طريقة القراءة بهذه اللكنة الصعبة. فاجأ أمي أن فلورا استطاعت عمل ذلك؛ فلم تكن تلك هي الطريقة التي كانت تتحدث فلورا بها، على الإطلاق. (لكن ألم تكن تلك هي الطريقة التي كان روبرت يتحدث بها؟ ربما لهذا السبب لم تخبرني أمي بأي شيء قاله روبرت، ولم تتحدث عنه كجزء من المشهد على الإطلاق. لا بد أنه كان هناك، لا بد أنه كان يجلس هناك في الغرفة، فقد كانوا يدفئون فقط الغرفة الرئيسية في المنزل. أراه أسود الشعر، عريض المنكبين، بقوة حصان يعمل على حرث الأرض، ونفس نوع الجمال الكالح المكبوت الذي يتمتع به.)
ثم كانت فلورا تقول: «يكفي هذا الليلة.» كانت تنتقي كتابا آخر، كتابا قديما كتبه واعظ ينتمي إلى مذهبهم. كان في الكتاب أشياء لم تسمع أمي بها قط. أي أشياء؟ لم تستطع أن تفصح. كل الأشياء في مذهبهم العتيق الرجعي. كان يجعل هذا إيلي تخلد إلى النوم، أو يجعلها تتظاهر أنها نائمة، بعد قراءة صفحتين.
كل هذه المنظومة من الأخيار والملعونين، لا بد أنها ما كانت أمي تقصده؛ كل المناقشات حول الوهم وحتمية الإرادة الحرة: القدر، والخلاص الغامض، مجموعة المعتقدات المتداخلة والمتناقضة التي تتحدث عن العذاب والاستسلام، لكن التي يرى البعض أنهم لا يمكنهم مقاومتها. كانت أمي تستطيع مقاومة ذلك. لم يكن مذهبها متشددا، وكانت معنوياتها آنذاك مرتفعة. إن أمي لم تكن لتشغف بتلك الأفكار على الإطلاق.
لكن كانت أمي تتساءل (في صمت): ما هذا الذي كان يقرأ لامرأة تحتضر؟ كان هذا أقوى انتقاد أخذته أمي على فلورا.
لم ترد الإجابة - إن هذا هو الشيء الوحيد، إذا كنت مؤمنا متدينا - إلى خاطرها قط. •••
بحلول الربيع، كانت قد وصلت ممرضة. كانت هذه هي الطريقة التي كانت الأشياء تتم من خلالها آنذاك. كان الناس يموتون في منازلهم، وكانوا يستعينون في مرضهم الأخير بممرضات تأتيهم في منازلهم لعلاجهم.
كان اسم الممرضة أودري أتكينسون، وكانت امرأة بدينة ترتدي مشدات مشدودة مثل أطواق البراميل، ذات شعر مموج بلون الشمعدان النحاسي، وفم يحدد ملامحه طلاء شفاه يتجاوز حدوده الضيقة. جاءت في سيارة إلى فناء المنزل - سيارتها الخاصة، سيارة داكنة الخضرة، لامعة، وفارهة. انتشرت الأنباء حول أودري أتكينسون وسيارتها سريعا. ثارت الأسئلة: من أين جاءت بالمال؟ هل غير أحد الحمقى الأثرياء وصيته لصالحها؟ هل قامت بابتزاز أحد؟ أم هل سرقت حفنة من الأوراق المالية كانت مخفية تحت مرتبة فراش أحد الموتى؟ كيف يمكن الوثوق بها؟
كانت سيارتها هي السيارة الأولى التي تقبع في فناء آل جريفز ليلا.
قالت أودري أتكينسون إنها لم يجر استدعاؤها من قبل لنظر إحدى الحالات في منزل بدائي كذلك المنزل. قالت إن الأمر كان يفوق تصورها؛ فكيف يمكن أن يعيش أناس على هذا النحو؟
قالت لأمي: «حتى لا يرجع ذلك إلى أنهم فقراء، أليس الأمر كذلك؟ هذا ما أستطيع أن أفهمه، أو لا يرجع حتى الأمر إلى مذهبهم. إذن، ما مرد الأمر؟ إنهم لا يعبئون!»
حاولت في البداية أن تقترب من أمي، كما لو كانتا ستصبحان حليفتين طبيعيتين في هذا المكان الموحش. تحدثت كما لو كانتا في العمر نفسه - كلتاهما أنيقة، وذكية، تحب قضاء وقت طيب، وتمتلك أفكارا عصرية. عرضت على أمي أن تعلمها قيادة السيارة، وعرضت على أمي سجائر، أغرت أمي فكرة تعلم قيادة السيارة أكثر من تدخين السجائر، لكنها رفضت وكانت ستنتظر زوجها كي يعلمها. رفعت أودري أتكينسون حاجبيها البرتقاليين المائلين إلى اللون الوردي قبالة أمي خلف ظهر فلورا، وكانت أمي في شدة الغضب؛ كانت أمي تكره الممرضات أكثر مما كانت فلورا تكرههن.
قالت أمي: «كنت أعرف حقيقة أمرها، لكن فلورا لم تكن تعرفها.» كانت أمي تعني أنها لمحت آثار حياة رخيصة، ربما حتى بارات، ورجال سيئي الأخلاق، وصفقات صعبة في الحياة، وهي أشياء كانت فلورا من النقاء الداخلي بحيث لا تلحظها.
بدأت فلورا في عملية التنظيف الكبرى مجددا. نشرت فلورا الستائر فوق العوارض الخشبية، وقامت بنفض الأبسطة المنشورة، وقفزت صاعدة السلم لتنظيف الحواف العليا من الأتربة، لكنها كانت تتعطل طوال الوقت بسبب اعتراضات الممرضة أتكينسون.
كانت الممرضة أتكينسون تقول في أدب مصطنع: «كنت أتساءل إذا كنا نستطيع أن نقلل من هذه الجلبة؟ أنا لا أطلب إلا راحة مريضتي.» كانت دوما تتحدث عن إيلي باعتبارها «مريضتي»، وكانت تتظاهر أنها الوحيدة التي تحميها وتجبر الآخرين على احترامها، لكنها لم تكن تظهر احتراما كبيرا لإيلي. كانت تقول، وهي تجر المخلوقة المسكينة إلى وسادتها: «هيلا هوب.» وكانت تقول لإيلي إنها لن تسمح بالتذمر والشكاية. كانت تقول لها: «أنت لا تساعدين نفسك البتة هكذا، وبالتأكيد لا تساعدينني على أن آتي إليك سريعا. ربما يجب عليك أن تتعلمي أن تتحكمي في نفسك.» هكذا كانت تصيح منفعلة في وجه إيلي مؤنبة إياها عندما كانت ترى تقرحات إيلي في الفراش، كما لو أن ذلك كان سببا آخر في وصم المنزل. كانت تطلب مستحضرات لتنظيف الجلد، ومراهم وصابونا باهظ الثمن، كلها، بلا شك، لوقاية جلدها هي، الذي زعمت تضرره من الماء العسر. (كيف يكون الماء عسرا؟! كانت أمي تسأل - التي كانت تدافع عن أهل هذا البيت مثلما لم يفعل أحد: كيف يكون الماء عسرا وهو يأتي من برميل ماء المطر؟!)
كانت الممرضة أتكينسون تريد قشدة، أيضا كانت تقول: إن عليهم الاحتفاظ بكمية منها، لا بيعها بالكامل إلى معمل الألبان. أرادت أتكينسون أن تصنع أصنافا مغذية من الحساء والبودنج لمريضتها. صنعت بالفعل بودنج وجيلي من خلائط معلبة لم يعرفها هذا المنزل من قبل. كانت أمي مقتنعة أنها كانت تأكل كل ما تعده.
كانت فلورا لا تزال تقرأ لإيلي، لكنها كانت تقرأ مقتطفات قصيرة من الكتاب المقدس. عندما كانت تفرغ من قراءتها وتنتصب واقفة، كانت إيلي تحاول التعلق بها. كانت إيلي تنتحب، وفي بعض الأحيان كانت تشكو شكاوى مضحكة؛ كانت تقول: إن ثمة بقرة عائدة إلى المنزل، تحاول دخول الغرفة وقتلها.
كانت الممرضة أتكينسون تقول: «عادة تراودهم بعض الأفكار كتلك. لا يجب أن تستجيبي لها وإلا لن تدعك تذهبين ليلا أو نهارا. هكذا هم، لا يفكرون إلا في أنفسهم. الآن، عندما أكون وحدي معها، تسيطر على نفسها جيدا، لا أجد أي مشكلات على الإطلاق، لكن عندما تكونين هنا، أجدني أواجه متاعب مرة أخرى؛ لأنها تراك وتنزعج. هل ترغبين في أن تجعلي عملي أكثر صعوبة؟ أعني أنك أحضرتني هنا لأرعاها، أليس كذلك؟»
كانت فلورا تقول: «إيلي، الآن عزيزتي إيلي يجب أن أذهب.» وكانت تقول للممرضة: «أتفهم الأمر. أتفهم أنك يجب أن تكوني مسئولة عن الأمور هنا، وأنا معجبة بك للعمل الرائع الذي تقومين به. يجب أن تتحلي في عملك بكثير من الصبر والعطف.»
كانت أمي تتعجب لذلك؛ هل كانت فلورا لا ترى الأمور على حقيقتها حقا، أو تراها كانت تأمل من خلال هذا الثناء غير المستحق أن تحث الممرضة أتكينسون على أن تتحلى بالصبر والعطف اللذين لا تتحلى بهما؟ كانت الممرضة أتكينسون فظة المشاعر، ولا ترى في نفسها أية نقيصة، مما يصعب معه أن تقع في شرك محاولة كتلك.
كانت أمي تقول: «هذا عمل صعب، لا شك في ذلك، ولا يستطيع كثيرون القيام به. إنها ليست كتلك الممرضات في المستشفى اللائي يتوفر لهن كل شيء يحتاجونه دون مشقة.» لم يكن لديها وقت كثير للمناقشة - كانت تحاول الاستماع إلى برنامج «ميك بيليف بولروم» في الراديو الخاص بها الذي يعمل بالبطاريات.
كانت أمي مشغولة باختبارات نهاية العام وتمارين شهر يونيو في المدرسة. كانت تستعد لزفافها في شهر يوليو. جاء الأصدقاء في سيارات واصطحبوها إلى الخياطة، وإلى الحفلات، ولتختار شكل بطاقات الدعوة التي ترغب فيها ولشراء تورتة الزفاف. ظهرت زهور الليلك، وطالت الليالي، وعادت الطيور وعششت، وكانت أمي تتألق أكثر فأكثر في أعين الآخرين، وهي على وشك الانطلاق إلى مغامرة الزواج الجليلة الرائعة. كان فستانها سيزين بزهور من الحرير، وكان وشاح وجهها سيزين بطوق من اللؤلؤ المنمق. كانت أمي تنتمي إلى الجيل الأول من الشابات اللائي كن يدخرن أموالهن لحفلات زفافهن - حفلات أكثر أبهة مما كان آباؤهن يستطيعون تحمل تكلفتها.
في أمسيتها الأخيرة، جاءت الصديقة من مكتب البريد لاصطحابها، ومعها ملابسها وكتبها والأشياء التي صنعتها لتجهيزات عرسها، و«الهدايا» التي أعطاها تلاميذها وآخرون إياها. ثار هرج ومرج وضحك كثير حول وضع كل هذه الأشياء في السيارة. خرجت فلورا من المنزل وساعدت أمي في وضع أشيائها. قالت فلورا ضاحكة: هذه المرأة التي في طريقها إلى الزواج مزعجة أكثر مما كنت أظن. أهدت فلورا أمي مفرشا للتسريحة، كانت قد غزلته سرا. كان لا يمكن منع الممرضة أتكينسون من المشاركة في مناسبة مهمة؛ قدمت زجاجة عطر كهدية. وقفت فلورا على المنحدر إلى جانب المنزل وهي تلوح مودعة أمي. كانت قد جرت دعوتها إلى الزفاف، لكنها بالطبع قالت إنها لن تستطيع المجيء، لا تستطيع «الخروج» في مثل ذلك الوقت. كانت المرة الأخيرة على الإطلاق التي رأت أمي فيها فلورا هي هذه المرة التي كانت فلورا تقف فيها وحيدة، تلوح في حماس مرتدية ميدعة التنظيف وعصابة الرأس، على المنحدر الأخضر إلى جانب المنزل أسود الجدران، في ضوء المساء.
قالت الصديقة من مكتب البريد: «حسنا، ربما ستحظى الآن بما لم تكن لتحظى به في المرة الأولى؛ ربما سيتمكنان الآن من الزواج. هل هي كبيرة سنا على أن تكون عائلة؟ كم عمرها على أي حال؟»
كانت أمي تعتقد أن هذه طريقة فظة للغاية للحديث عن فلورا، وأجابت أنها لا تعرف. في المقابل، كانت تقر في قرارة نفسها أنها كانت تفكر في الشيء ذاته. •••
عندما تزوجت واستقرت في بيتها، على مسافة ثلاثمائة ميل، تلقت أمي خطابا من فلورا. ماتت إيلي، ماتت متمسكة بمذهبها، مثلما قالت فلورا، راضية بوفاتها. ظلت الممرضة أتكينسون مقيمة في المنزل لفترة، حتى حان موعد مغادرتها لمتابعة حالتها التالية. كان ذلك في أواخر الصيف.
لم ترد أخبار من فلورا عما حدث لاحقا. عندما كتبت إليها في الكريسماس، بدت كما لو كانت تأخذ على محمل التسليم أن أخبارها تنقل إليها وأنها لن تأتي بجديد.
كتبت فلورا قائلة: «لعلك سمعت بالتأكيد ... أن روبرت والممرضة أتكينسون تزوجا، هما يعيشان هنا، في الجزء الخاص بروبرت في المنزل، يقومان بإجراء بعض الإصلاحات فيه ليلائمهما. لعل من قبيل سوء الأدب أن أطلق عليها الممرضة أتكينسون، مثلما أرى أنني دعيتها توا، كان يجب أن أسميها أودري.»
بالطبع، كانت صديقة مكتب البريد قد كتبت إلى أمي، مثلما فعل آخرون. كانت صدمة وفضيحة مروعتين، ومسألة أثارت المقاطعة بأسرها؛ نظرا لغرابة وسرية زواج روبرت مثل زواجه الأول (وإن لم يكن للسبب نفسه بالتأكيد)، وزرع الممرضة أتكينسون بصورة دائمة في المقاطعة، وخسارة فلورا للمرة الثانية، لم يسمع أحد بوجود أي نوع من المغازلة بين الاثنين، وتساءلوا: كيف استطاعت المرأة أن تغريه بالزواج منها؟ هل وعدته بإنجاب أطفال، كاذبة عليه بشأن عمرها؟
لم تنته المفاجآت بالزواج بأي حال من الأحوال؛ فلم تضع العروس وقتا واستكملت على الفور «إجراء الإصلاحات» التي ذكرتها فلورا، ثم جاءت الكهرباء والهاتف. كانت الممرضة أتكينسون - إذ سيطلق عليها الممرضة أتكينسون دوما - تسمع عبر الهاتف تعنف من يقومون بالطلاء، وتعليق ورق الحائط، وخدمات التوصيل. قامت بتجديد كل شيء. قامت بشراء سخان كهربائي ووضعته في حمام، ولا يعلم أحد من أين جاءت بالأموال؟ هل كانت أموالها؟ حصلت عليها من خلال صفقات متعلقة بمرضى على فراش الوفاة؟ من خلال صفقات إرث مشبوهة؟ هل كانت الأموال أموال روبرت، نصيبه؟ نصيب إيلي، الذي تركته له وللممرضة أتكينسون ليستمتعا به، هذان الزوجان عديما الحياء!
جرت عمليات التطوير هذه جميعها في جانب واحد فقط من المنزل، ظل جانب فلورا كما هو؛ لا وجود لمصابيح كهربية، ولا وجود لورق حائط جديد، ولا ستائر معدنية. عندما جرى طلاء المنزل من الخارج - باللون الكريمي بزخارف داكنة الخضرة - ترك جانب فلورا كما هو، قوبلت هذه البداية الغريبة في البداية بشيء من الشفقة والامتعاض، ثم بتعاطف أقل؛ علامة على عناد فلورا وغرابتها (كان باستطاعتها شراء طلاء، وجعل جانبها يبدو أكثر أناقة)، وأخيرا صار الأمر بمثابة مزحة. جاء الناس من كل حدب وصوب لمشاهدة المنزل.
كان يقام حفل راقص دوما في المدرسة لأي زوجين متزوجين حديثا. كان يجري تقديم مبلغ نقدي - يطلق عليه «محفظة مالية» - إليهما. أعلنت الممرضة أتكينسون أنها لا تمانع في اتباع هذا التقليد، على الرغم من أن عائلة زوجها كانت تحرم الرقص. اعتقد البعض أن من العار إرضاء الممرضة أتكينسون، ما يمثل صفعة على وجه فلورا. اتسم آخرون بفضول مفرط حال دون إحجامهم عن التطفل، كانوا يريدون أن يروا كيف سيتصرف الزوجان المتزوجان حديثا. هل سيرقص روبرت؟ ما شكل الفستان الذي سترتديه العروس؟ تأخر تنظيم الحفل فترة، ثم ما لبث أن تم وتلقت أمي الأنباء.
ارتدت العروس الفستان الذي كانت قد ارتدته في زفافها، أو هكذا قالت، لكن من يرتدي فستانا كذلك في منزل القس؟ لعل الأمر الأكثر احتمالا أنها ابتاعت الفستان خصيصى من أجل ظهورها في حفل الرقص. فستان من الستان الأبيض الناصع، له عنق على هيئة قلب، فستان لشابة صغيرة جدا. ارتدى العريس بذلة جديدة لونها أزرق داكن، وكانت العروس قد غرست زهرة في عروة سترته. كان منظرهما لافتا للانتباه. كان شعرها مصففا بحيث يعمي الأبصار من خلال الانعكاسات النحاسية البراقة، وبدا وجهها كما لو كان سيتهشم لو حدث أن أراحته على كتف رجل أثناء الرقص. رقصت، بالطبع؛ رقصت مع الجميع إلا العريس، الذي جلس محصورا في أحد مقاعد المدرسة قبالة الحائط. رقصت مع كل الرجال في الحفل - جميع الرجال زعموا أن عليهم الرقص معها، هكذا كان التقليد - ثم جرجرت روبرت خارج المقعد لتلقي المبلغ النقدي ولشكر الجميع على أمانيهم الطيبة. أشارت خفية إلى النساء في غرفة المعاطف أنها تشعر أنها ليست على ما يرام، للسبب المعتاد الذي تذكره أي عروس جديد. لم يصدقها أحد، وحقيقة لم يظهر شيء يدل على ذلك، إذا كانت فعلا تشعر كما تقول. ظنت بعض النساء أنها كانت تكذب عليهن حقدا منها، وتهينهن وتستخف بهن بحيث تظن أنهن بهذه السذاجة. لم يعترضها أحد، ولم يتصرف أحد بوقاحة نحوها ؛ ربما نظرا لأنه من الواضح أنها كانت قادرة على التصرف بوقاحة بحيث لا يمكن أن يقف أمامها أحد.
لم تكن فلورا حاضرة في الحفل.
قالت الممرضة أتكينسون: «سلفتي لا ترقص. لا تزال متمسكة بعادات الزمن الفائت.» دعتهم جميعا للسخرية من فلورا، التي كانت تدعوها دوما سلفتي، على الرغم من أنه لم يكن لها أي حق في أن تدعوها كذلك.
كتبت أمي خطابا إلى فلورا بعد سماعها بكل هذه الأشياء. من خلال بعدها عن المشهد، وربما في غمار الأهمية المولاة إليها نظرا لوضعها الجديد كعروس جديد، ربما غاب عنها طبيعة الشخص الذي كانت تكاتبه. عبرت أمي عن تعاطفها وأظهرت جام غضبها، ونقدت بشكل مباشر وعنيف المرأة التي - مثلما كانت ترى أمي - أعطت فلورا صفعة شديدة. أجابت فلورا على خطاب أمي قائلة إنها لا تعلم من أي مصدر تتلقى أمي أخبارها، لكن يبدو أنها أساءت الفهم، أو استمعت إلى أشخاص حاقدين، أو قفزت إلى نتائج غير مبررة. ما حدث في عائلة فلورا لا يعني أحدا، وبالتأكيد لا يوجد ما يستدعي أن يشعر أحد بالأسف أو الغضب نيابة عنها. قالت فلورا إنها كانت سعيدة وتشعر بالرضى عن حياتها، مثلما كانت دوما، ولا تتدخل فيما يفعل أو يريد الآخرون؛ لأن هذه الأشياء لا تعنيها. تمنت فلورا لأمي وافر السعادة في زواجها، وأملت في أن تصبح قريبا جدا منشغلة بمسئولياتها الخاصة، بحيث لا تهتم بحياة الآخرين الذين كانت تعرفهم.
أصاب هذا الخطاب المكتوب جيدا أمي بجرح بالغ، مثلما قالت أمي. توقفت وفلورا عن تبادل الرسائل. صارت أمي منشغلة حقيقة بحياتها الخاصة، وأخيرا صارت أسيرة لها.
مع ذلك، كانت أمي تفكر في فلورا. بعد سنوات، عندما كانت تتحدث في بعض الأحيان عن الأشياء التي كان بإمكانها أن تكونها أو تحققها، كانت تقول: «لو قدر لي أن أكون كاتبة - وأظن أنني كنت أستطيع أن أكون كذلك؛ كنت أستطيع أن أكون كاتبة، وقتها كنت سأكتب قصة حياة فلورا. هل تعلمين ماذا كنت سأسمي قصتها؟ «المرأة العذراء».» «المرأة العذراء ». قالت هذه الكلمات في نغمة تتسم بالجلال والعاطفية المفرطة لم أكن بحاجة إليها، كنت أعرف - أو أظنني كنت أعرف - تماما قيمة ما كانت تجده في هذه الكلمات؛ الجلال والغموض، الإشارة إلى نقد تحول إلى توقير. كنت أبلغ من العمر خمسة عشر أو ستة عشر عاما في ذلك الوقت، وكنت أعتقد أنني أستطيع قراءة عقل أمي، كنت أستطيع أن أرى ما كانت ستفعله بشخصية فلورا، وما فعلته فعلا. كانت ستصنع منها شخصية نبيلة، شخصية تتقبل بصدر رحب الخيانة، الغدر، شخصية تغفر وتتوارى عن الأنظار، لا مرة واحدة بل مرتين. لا توجد لحظة واحدة من الشكوى. تمضي فلورا في ممارسة أعمالها الممتعة، تنظف المنزل، وتنظف حظيرة الأبقار، وتنظف تجمعات دموية من فراش أختها، وعندما بدا أن المستقبل أخيرا يفتح لها ذراعيه - تموت إيلي، ويتضرع روبرت من أجل أن تغفر له، وستفعل ذلك نظرا لطبيعتها النبيلة - يجيء دور أودري أتكينسون التي تقود سيارتها إلى فناء المنزل، وتقف حائلا أمام سعادة فلورا ومستقبلها، بصورة غير مفهومة وأكثر عمقا في المرة الثانية أكثر من المرة الأولى. يجب على فلورا أن تتحمل طلاء المنزل، وتركيب المصابيح الكهربية، وجميع الأنشطة الصاخبة في الجانب الآخر من المنزل، برنامج «ميك بليف بولروم» ومسلسل «آموس آند آندي». لا مزيد من القصص الهزلية الاسكتلندية أو المواعظ القديمة. يجب على فلورا أن تودعهما في طريقهما إلى حفل الرقص - حبيبها القديم وتلك المرأة بليدة العواطف، الغبية، وغير الجميلة على الإطلاق في فستان الزفاف الستان الأبيض. تجري السخرية من فلورا. (وبالطبع تركت فلورا المزرعة من أجل إيلي وروبرت، وبالطبع ورث روبرت إيلي، والآن يئول كل شيء إلى أودري أتكينسون.) ينتصر الأشرار. كل شيء كالمعتاد في حياتنا؛ يستتر الأخيار في صبر وتواضع، ويهديهم يقين لا تستطيع الأحداث أن تعكر صفوه.
هذه هي الصورة التي خلت أن أمي ستصيغ قصتها بها. في ظل معاناتها، أصبحت أفكارها روحية أكثر، وكان يوجد في صوتها في بعض الأحيان خفوت، استثارة مهيبة كانت تستثيرني، وتنبهني إلى ما كان يبدو خطرا شخصيا يتهددني. شعرت بوجود سحابة كبيرة من الأفكار الغامضة والمشاعر الروحية تتربص بي، وهي سلطة أم قعيدة لا يمكن مقاومتها، والتي تستطيع أن تمسك بي وتخنقني. كان لا يبدو أن ثمة نهاية لذلك. كان علي أن أظل ناقدة، وساخرة، أجادل وأواجه. أخيرا، توقفت حتى عن ذلك وصرت أعارضها في صمت.
هذه طريقة مهذبة للقول بأنني لم أكن الصدر الحاني لها، وكنت صحبة غير طيبة لها عندما لم يكن لديها ملاذ آخر تلجأ إليه.
كانت لدي أفكاري الخاصة حول قصة فلورا. لم أعتقد أنني أستطيع كتابة رواية، لكنني كنت أرغب في كتابة واحدة. كنت سأتخذ مسارا آخر، كنت أقرأ ما بين سطور قصة أمي وأملأ فراغ ما كانت تتركه. كانت فلورا التي أتصورها سمراء مثلما كانت فلورا التي كانت تحكي عنها أمي بيضاء. ففي استمتاعها بالمواقف السيئة التي تعرضت لها وبقدرتها على الغفران، وتلصصها على مآسي حياة أختها، كنت سأتصورها ساحرة مشيخية، تقرأ من كتابها المسموم. يتطلب الأمر قسوة مماثلة، الوحشية البريئة نسبيا للممرضة منعدمة المشاعر، لدفعها بعيدا، حتى يتحسن وضعها في الظلال. لكنها تم إقصاؤها؛ أقصتها قوة الجنس والحقد العادي بعيدا، وحبستها في القسم الخاص بها من المنزل مع المصابيح التي تضاء بزيت الفحم. انكمشت، تقوقعت، تصلبت عظامها، وازدادت مفاصلها خشونة، وأرى الجمال المجرد للنهاية التي سأبتغيها - يا لها من نهاية! ستصبح قعيدة، مصابة بالتهاب المفاصل، لا تكاد تقدر على الحركة. الآن، أودري أتكينسون تظهر في كامل لياقتها، تطالب بالبيت كله. تريد أن تزيل تلك التقسيمات التي عملها روبرت بمساعدة فلورا عندما تزوج إيلي. ستوفر غرفة لإيلي، وستعتني بها. (لا ترغب أودري أتكينسون في أن يجري النظر إليها باعتبارها وحشا، وربما هي ليست كذلك حقيقة.) لذا، في أحد الأيام يحمل روبرت فلورا - للمرة الأولى والأخيرة بين ذراعيه - إلى الغرفة التي أعدتها زوجته أودري لها، وبمجرد استقرار فلورا في ركنها المضاء والمدفأ جيدا، تتولى أودري أتكينسون مهمة تنظيف الغرف الخالية حديثا، غرف فلورا. تحمل كومة من الكتب القديمة إلى الفناء. يحل الربيع مجددا، وقت تنظيف المنزل، الموسم الذي كانت فلورا نفسها تمارس عمليات التنظيف هذه فيه، والآن يبدو وجه فلورا الشاحب من وراء الستائر الشبكية الجديدة. لقد جرجرت نفسها من ركنها، لكي ترى السماء ذات اللون الأزرق الصافي بسحبها العالية المتزلقة فوق الحقول الندية، وطيور الغراب المتناحرة، والجداول الوافرة، وأفرع الأشجار الآخذة في الاحمرار. ترى الدخان يتصاعد من موقد إحراق القمامة في الفناء؛ حيث تحترق كتبها، تلك الكتب القديمة العفنة، مثلما كانت تسميها أودري. الكلمات والصفحات، ظهر الكتب داكنة اللون النذيرة بالشؤم. الأخيار، الملعونون، الآمال الواهية، العذابات العظيمة، كلها تحترق ويتصاعد الدخان منها. كانت تلك هي النهاية.
بالنسبة إلي، كان الشخص الغامض حقا في القصة، مثلما كانت ترويها أمي، روبرت. فهو لم يقل شيئا البتة؛ يخطب إلى فلورا، يسير إلى جوارها بحذاء النهر عندما تفاجئهم إيلي، يجد أشواك إيلي في فراشه، يصنع جميع أعمال النجارة اللازمة لزواجه هو وإيلي، يستمع أو لا يستمع بينما تقرأ فلورا. أخيرا، يجلس محصورا في أحد مقاعد المدرسة بينما ترقص عروسه المبالغة في حركاتها وملابسها مع جميع الرجال.
هذا كل ما أعرفه عن تصرفاته ومرات ظهوره. رغم ذلك، كان هو الشخص الذي بدأ كل شيء من خلاله، سرا. «فعلها» بإيلي. فعلها بتلك الفتاة المتوحشة النحيلة في وقت كان مخطوبا إلى أختها، وفعلها بها مرارا وتكرارا عندما لم تكن أكثر من مجرد جسد سقيم مسكين، امرأة لا تقوى على حمل طفل، راقدة في الفراش.
لا بد أنه فعلها بأودري أتكينسون أيضا، ولكن في ظل نتائج أقل كارثية.
تلك الكلمات، «فعلها ب ...» - الكلمات التي لم تكن أمي، فضلا عن فلورا، لتتفوه بها - كانت ببساطة مثيرة بالنسبة لي، لم أشعر بأي قدر من النفور أو الامتعاض بأي شكل حيالها، كنت أتجاهل التحذير، لم يكن مصير إيلي حتى ليردعني، ليس حتى عندما فكرت في هذا اللقاء الأول، التهور فيه الناتج عن اليأس، قد الملابس والمقاومة. اعتدت اختلاس النظرات الطويلة إلى الرجال في تلك الأيام. كنت أعجب بمعاصمهم ورقابهم وأي جزء من صدورهم ما كان يسمح زر مفتوح برؤيته، بل آذانهم وأقدامهم في الأحذية. لم أكن أتوقع أي شيء عقلاني من الرجال، فهم تتملكهم فقط شهوتهم. دارت أفكار مشابهة بخلدي حول روبرت.
كان ما جعل فلورا شريرة في قصتي هو ما جعلها مثار إعجاب في قصة أمي؛ ابتعادها عن الجنس. كنت أقاوم كل شيء تحاول أمي أن تلقنني إياه حول هذا الموضوع، كنت أكره حتى انخفاض صوتها، التحذير الغامض التي كانت تتناول من خلاله الموضوع. نشأت أمي في عصر وفي مكان كان الجنس عملية مرعبة بالنسبة إلى النساء. كانت أمي تعرف أنها قد تموت بسببه؛ لذا، كانت تعلي من قدر الاحتشام، والعفة، والفتور الشعوري، الذي قد يقيك. ونشأت أنا مرتعبة من تلك الحماية، الطغيان المهذب الذي بدا كما لو كان ينتشر في جميع مناحي الحياة، لفرض حفلات الشاي وارتداء القفازات البيضاء فرضا وجميع أشكال التفاهات الطنانة. كنت أفضل الكلمات السيئة والتطفل، كنت أداعب نفسي بفكرة طيش وهيمنة الرجل. كان الغريب في الأمر أن أفكار أمي كانت متوافقة مع بعض الأفكار التقدمية في عصرها، وكانت أفكاري تردد صدى الأفكار التي كانت مفضلة في زمني، كان ذلك بالرغم من أننا كنا نظن أنفسنا مستقلتين، وكنا نعيش في مكان متخلف لم تمر عليه هذه التغيرات. كان الأمر كما لو أن الميول التي بدت أكثر تجذرا في عقولنا، الأكثر خصوصية وغرابة، جاءت في صورة بذور تذروها رياح عاتية، تبحث عن أي مكان محتمل تقر فيه، عن أي لفتة ترحيب. •••
قبل وقت غير طويل من وفاتها، عندما كنت لا أزال أقيم في المنزل، تلقت أمي خطابا من فلورا الحقيقية. جاء الخطاب من تلك المدينة قرب المزرعة، المدينة التي اعتادت فلورا أن تذهب إليها، في العربة الكبيرة مع روبرت، ممسكة بأجولة الصوف أو البطاطس.
كتبت فلورا أنها لم تعد تعيش في المزرعة.
كتبت قائلة: «لا يزال روبرت وأودري يعيشان هناك ... بخلاف بعض المتاعب في ظهره، كان روبرت يتمتع بصحة جيدة. دورة أودري الدموية كانت ضعيفة، وكانت تصاب بضيق في التنفس كثيرا. يقول الطبيب: إنها يجب أن تفقد بعض وزنها، لكن يبدو أن أيا من النظم الغذائية التي تتبعها لا يجدي. كانت أمور المزرعة تسير على خير ما يرام. أوقفوا تربية الخراف بالكامل وتحولوا إلى تربية الأبقار الحلوب. فمثلما قد تكوني سمعتي، أهم الأشياء على الإطلاق الآن هو الحصول على حصة اللبن من الحكومة، ثم يصبح كل شيء على ما يرام. الإسطبل القديم مزود بماكينات حلب وأحدث المعدات، يا له من أمر رائع! عندما أذهب إلى هناك، لا أكاد أعرف أين أنا.»
استمرت في حديثها قائلة إنها تعيش في المدينة منذ بضع سنوات، وإنها حصلت على وظيفة في أحد المتاجر، لا بد أنها قالت أي نوع من المتاجر كان ذلك، لكنني لا أذكر الآن. بالطبع، لم تذكر شيئا عما قادها إلى ذلك القرار، سواء كان قد جرى طردها من مزرعتها، أو باعت حصتها، دون أن تجني فيما يبدو كثيرا من وراء ذلك. شددت على صداقتها مع روبرت وأودري، وقالت إن صحتها جيدة.
كتبت قائلة: «سمعت أنك لم تكوني محظوظة في حياتك؛ قابلت مصادفة سليتا بارنز التي كانت تدعى سليتا ستابلتون في مكتب البريد في موطني، وأخبرتني أن لديك بعض المشكلات في عضلاتك، وقالت إن قدرتك على الكلام تأثرت أيضا. أحزنني سماع ذلك، لكن يستطيع الأطباء عمل الكثير هذه الأيام؛ لذا آمل أن يستطيع الأطباء مساعدتك.»
خطاب مزعج، لا يتحدث عن أشياء كثيرة. لا توجد أي إشارة في الخطاب إلى إرادة الله أو دوره في ابتلاءاتنا، لا يوجد أي ذكر حول ما إذا كانت فلورا لا تزال تذهب إلى تلك الكنيسة. لا أعتقد أن أمي قامت بالرد على هذا الخطاب. كان خطها الجميل، وأسلوبها في الكتابة كمدرسة قد تدهورا، وكانت بالكاد تستطيع الإمساك بالقلم، كانت دوما تشرع في كتابة الخطابات ولا تستطيع الفراغ من كتابتها. كنت أجدها ملقاة في أنحاء المنزل. كانت خطاباتها تبدأ قائلة: «عزيزتي ماري»، و«حبيبتي روث»، و«عزيزتي الصغيرة جوان (على الرغم من أنني أدرك أنك لم تعودي صغيرة)»، و«صديقتي القديمة العزيزة سليتا»، و«محبوبتي مارجريت». كان أولئك النساء صديقاتها منذ أيام التدريس، أيام دراستها بكلية المعلمين، ومن المدرسة الثانوية. كان قليلا منهن من تلاميذها السابقين. كانت أمي تقول في تحد: لدي أصدقاء في جميع أنحاء البلاد. لدي أصدقاء أعزاء جدا.
أتذكر رؤية أحد الخطابات الذي كان يبدأ هكذا: «صديقة شبابي». لا أعلم إلى من كان الخطاب موجها؛ كن جميعهن صديقات شبابها. لا أتذكر أي خطاب كان يبدأ «عزيزتي وحبيبتي فلورا»، كنت أنظر إلى الخطابات دوما، محاولة أن أقرأ عبارات التحية والجمل القليلة التي كانت قد كتبتها، ونظرا لأنني لم أكن أتحمل أن أشعر بالحزن، كنت أشعر بعدم الصبر تجاه اللغة المنمقة، التي تستجدي بشكل مباشر الحب والشفقة. «كانت ستتلقى المزيد من ذلك.» هكذا كنت أحدث نفسي (أعني أكثر مما كنت أبعث به إليها)، إذا استطاعت الانسحاب في كرامة، بدلا من محاولتها طوال الوقت التأثير علي بأفكارها المريضة.
كنت قد فقدت الاهتمام بفلورا في ذلك الوقت، كنت أفكر دوما في القصص، وفي ذلك الوقت ربما كانت لدي قصة جديدة تدور بخلدي.
لكنني كنت أفكر بها منذ ذاك الحين، كنت أحدث نفسي أي نوع من المتاجر التي تعمل بها: متجر بيع أدوات معدنية، أم متجر مستلزمات منزلية رخيصة؛ حيث كانت ترتدي معطفا، أم صيدلية؛ حيث كانت ترتدي زيا مثل الممرضات، أم متجر ملابس نسائية؛ حيث يتوقع أن تبدو في هيئة أنيقة؟ ربما كان عليها أن تعرف أكثر عن خلاطات الطعام، أو المناشير الجنزيرية، أو الملابس الداخلية النسائية، أو مستحضرات التجميل، أو حتى العوازل الذكرية. ربما كان عليها أن تعمل طوال اليوم في ضوء المصابيح الكهربية، وتشغل ماكينة دفع نقدي. أتراها تصفف شعرها في صورة تموجات، وتطلي أظافرها، وتضع طلاء شفاه؟ لا بد أنها وجدت مكانا تعيش فيه - شقة صغيرة بها مطبخ صغير، مطلة على الشارع الرئيسي، أو غرفة في نزل. كيف تستطيع المضي في الحياة بمذهبها الكاميروني؟ كيف كانت تستطيع بلوغ تلك الكنيسة القصية إلا إذا نجحت في شراء سيارة وتعلمت قيادتها؟ وإذا فعلت ذلك فربما لم تكن تكتفي بقيادة السيارة إلى الكنيسة بل إلى أماكن أخرى، ربما تسافر في عطلات، ربما تستأجر كوخا يطل على بحيرة لمدة أسبوع، وتتعلم السباحة، وتزور إحدى المدن، ربما تتناول الطعام في مطعم، ربما في مطعم يجري تقديم المشروبات الكحولية فيه، ربما تصادق نساء مطلقات.
ربما تصادق رجلا، أخا أرملا لصديق، ربما رجلا لم يعرف أنها كاميرونية أو من هم الكاميرونيون، رجلا لا يعرف شيئا عن قصتها، رجلا لم يكن قد سمع قط عن الطلاء الجزئي للمنزل أو الخيانتين، أو أن الأمر تطلب منها كامل كرامتها وبراءتها حتى تتجنب أن تصبح أضحوكة. ربما يرغب في اصطحابها للرقص، وربما يجب عليها أن تفسر لماذا لا تستطيع الذهاب معه. ربما يندهش لكنه لن يصاب بخيبة أمل؛ فربما يبدو أمر المذهب الكاميروني هذا كله غريبا بالنسبة إليه، ولكن شيئا مثيرا، وهكذا بالنسبة للجميع. نشأت فلورا وفق تعاليم مذهب غريب، هكذا سيقول الناس. عاشت فترة طويلة في مزرعة مهجورة. رغم أنها غريبة الأطوار بعض الشيء، فإنها لطيفة حقا وجميلة أيضا، خاصة عندما قامت بتصفيف شعرها.
ربما أدخل أحد المتاجر فأجدها.
لا، لا، ستكون قد ماتت منذ وقت طويل حينها.
لكن هب أنني دخلت أحد المتاجر، ربما أحد المتاجر متعددة الأقسام، وأرى مكانا مزدحما، توجد به معروضات معروضة بشكل تقليدي، متجر على غرار المتاجر قديمة الطراز في فترة الخمسينيات. هب أن امرأة طويلة وسيمة، ظهرت في رشاقة، أتت تلبي طلبي، وكنت أعرف إلى حد ما - على الرغم من الشعر المرشوش والمنفوش والأظفار والشفاه الوردية أو المرجانية اللون - أن هذه هي فلورا، كنت سأرغب في أن أقول لها إنني كنت أعرف، أعرف قصتها، على الرغم من أننا لم نلتق قط. أتصور نفسي أحاول أن أخبرها. (هذا حلم الآن، أفهمه كحلم.) أتصورها تستمع، برزانة تحسد عليها، لكن ها هي تهز رأسها، تبتسم إلي، وفي ابتسامتها شيء من الاستهزاء، خبث خفي واثق، وسأم أيضا. بينما لا يدهشها أني أقول لها ذلك، تسأم من الأمر، مني، ومن فكرتي عنها، معلوماتي، فكرتي أنني ربما أعرف شيئا عنها.
بالطبع، إنها أمي التي أفكر بها، أمي مثلما كانت تظهر في تلك الأحلام، تقول بنبرة غفران أريحية مدهشة: «لا شيء، مجرد رجفة بسيطة. أوه، كنت أعلم أنك ستأتين يوما.» أمي تفاجئني، وتفعلها غير عابئة. قناع وجهها، مصيرها، ومعظم آلامها ذهبت عنها. كم كنت أشعر بالراحة، بالسعادة! لكن أتذكر الآن أنني كنت منزعجة أيضا، أقول إنني أشعر بأنني خدعت قليلا. نعم، أشعر بالإهانة، بالخديعة، بالغدر، بسبب هذا التحول المرحب به، هذا التحرر. كانت أمي تتحرك في غير اكتراث خارج سجنها القديم، مظهرة خيارات وقدرات لم أحلم قط أنها كانت تمتلكها، تحولات أكثر من ذاتها نفسها. لقد حولت أمي هذه الكتلة المريرة من الحب التي كنت أحملها كل هذا الوقت إلى شبح؛ شيء بلا نفع وغير مرغوب فيه، مثل الحمل الكاذب. •••
مثلما اكتشفت، فإن الكاميرونيين - أو بالأحرى كانوا - مجموعة متشددة متبقية من المعاهدين؛ أولئك الاسكتلنديين الذين في القرن السابع عشر تعاهدوا أمام الرب على رفض كتب الصلوات والأساقفة، أو أي مسحة من البابوية أو التدخل من قبل الملك. يأتي اسمهم من ريتشارد كاميرون، أحد الواعظين المحظورين، أو واعظي «الشوارع»، الذي سرعان ما جرى قتله. خاض الكاميرونيون - الذين ظلوا يفضلون لفترة طويلة أن يطلق عليهم المشيخيون الإصلاحيون - المعركة وهم ينشدون المزمارين الرابع والسبعين والثامن والسبعين. قطع الكاميرونيون أسقف كنيسة القديس أندروز إربا حتى الموت على الطريق العام، وامتطوا صهوة جيادهم فوق جسده. وقد شلح أحد قساوستهم - وهو منتش انتشاء بالغا وهو يعدم - جميع الواعظين الآخرين في العالم أجمع.
فايف بوينتس
أثناء شربهما الفودكا وعصير البرتقال في ساحة المقطورات (عربات الإقامة) على المنحدرات الصخرية فوق بحيرة هورون، يحكي نيل باور قصة لبريندا. وقعت أحداث القصة في مكان بعيد جدا، في مدينة فيكتوريا، بكولومبيا البريطانية، حيث نشأ نيل. رغم أن نيل ليس أصغر كثيرا من بريندا - أقل من ثلاث سنوات - يبدو بالنسبة لها في بعض الأحيان كما لو كان يفصل بينهما جيل كامل؛ لأن بريندا نشأت هنا، وأقامت هنا، وتزوجت كورنيليس زنت عندما كانت تبلغ عشرين عاما، بينما نشأ نيل على الساحل الغربي، حيث كانت الأشياء مختلفة جدا، وترك منزله - عندما كان يبلغ من العمر ستة عشر عاما - للسفر والعمل في أنحاء البلاد.
لم تر بريندا من مدينة فيكتوريا، في الصور، سوى الزهور والجياد. كانت الزهور تتدلى من سلال معلقة من أعمدة إنارة قديمة الطراز، التي تملأ المغارات وتزين المتنزهات، وكانت الجياد تجر عربات من السائحين لمشاهدة المناظر الرائعة.
يقول نيل: «ليست هذه سوى الأشياء التافهة التي يشاهدها السائحون ... تقريبا نصف المكان لا يضم إلا هذه الأشياء التافهة. ليست هذه هي الأماكن التي أتحدث عنها.»
يتحدث نيل عن فايف بوينتس، وهو كان - ولا يزال - قسما، أو ربما ركنا من المدينة؛ حيث كانت هناك مدرسة وصيدلية وبقالة صينية ومتجر حلوى. عندما كان نيل لا يزال في المدرسة، كانت تدير متجر الحلوى امرأة عجوز دائمة التبرم، لها حاجبان مرسومان. كانت معتادة على ترك قطتها تتمدد في الشمس على النافذة. بعد وفاتها، تولى أشخاص آخرون أوروبيون، لا بولنديون أو تشيكيون، بل من دولة ما أصغر - كرواتيا، أهذه دولة؟ - إدارة المتجر وأدخلوا تعديلات عليه؛ تخلصوا من الحلوى القديمة والبالونات البالية التي لا تنفخ، والأقلام الجافة التي لا تكتب، وحبات الفول المكسيكية النطاطة الفاسدة. قاموا بطلاء المتجر بالكامل ووضعوا بعض المقاعد والموائد. كانوا لا يزالون يبيعون الحلوى - لكن في برطمانات نظيفة الآن، بدلا من الصناديق الكرتونية التي تبول عليها القطط - والمساطر والمماحي. بدءوا أيضا في العمل كمقهى صغير، يقدم قهوة ومشروبات غازية وكعكا منزليا.
كانت الزوجة التي تصنع الكعك حيية وسريعة الاهتياج، وإذا جئتها وحاولت دفع مقابل ما اشتريت، فستنادي على زوجها باللغة الكرواتية، أو أي ما كانت اللغة التي تناديه بها - دعنا نفترض أنها الكرواتية - في رهبة بحيث تجعلك تشعر كما لو أنك قد اقتحمت منزلها وانتهكت خصوصيتها. كان الزوج يتحدث الإنجليزية بشكل جيد جدا. كان رجلا صغير الحجم أصلع، مهذبا وعصبيا، مدخنا شرها جدا، وكانت هي امرأة ضخمة، سمينة، كتفاها محنيتان، ترتدي دوما ميدعة وسترة صوفية مغزولة. كان يغسل النوافذ ويكنس الممر الجانبي ويتلقى الأموال من الزبائن، وكانت هي تعد المخبوزات وتصنع الكعك وتصنع أشياء لم يسمع الناس عنها من قبل، لكن سرعان ما تصير مشهورة، مثل البيروغة وخبز بذور الخشخاش.
كانت ابنتاهما تتحدثان الإنجليزية تماما مثل الكنديين، وكانتا تذهبان إلى مدرسة الراهبات. ترجع البنتان من مدرستهما مرتديتين زيهما المدرسي في آخر المساء، وتبدآن العمل مباشرة. كانت الأخت الصغرى تغسل فناجين القهوة والأكواب وتنظف الموائد، في حين كانت الأخت الكبرى تقوم بباقي الأعمال؛ فكانت تقدم الطلبات للزبائن، وتشغل ماكينة الدفع النقدي، وتضع الطلبات على صواني التقديم، وتفرق الأطفال الصغار الذين يقتربون من المحل دون أن يشتروا شيئا. وعندما تفرغ الأخت الصغرى من عملها، كانت تجلس في الغرفة الخلفية لتؤدي فروضها المنزلية، بينما لم تكن الأخت الكبرى تستريح قط، فإذا لم يكن لديها أي عمل عليها القيام به، فكانت تكتفي بالجلوس إلى ماكينة الدفع النقدي، تراقب ما يحدث.
كانت الأخت الصغرى تسمى ليزا، وكانت الأخت الكبرى تدعى ماريا، كانت ليزا صغيرة الحجم وجميلة الشكل بالنسبة لطفلة في سنها، في المقابل، كانت ماريا تقريبا في حدود الثالثة عشرة من عمرها، تمتلك نهدين كبيرين مترهلين، وبطنا كبيرة مستديرة، ورجلين سمينتين. كانت ترتدي نظارة، وكانت تضفر شعرها حول رأسها. كانت تبدو كما لو أنها في الخمسين من عمرها.
وكانت تتصرف كما لو أنها كذلك، على النحو الذي تولت به إدارة المتجر. كان والداها لا يمانعان في إفساح المجال لها. انسحبت الأم إلى الغرفة الخلفية، وصار الأب يكتفي بتقديم المساعدة لها. كانت ماريا تفهم الإنجليزية وتفهم في الأمور المالية، ولم يكن ثمة شيء يخيفها. كان كل الأطفال الصغار يقولون: «أف لماريا هذه، أليست فظة؟» كانت تبدو كما لو أنها تعرف كل شيء عن إدارة الأعمال. •••
كانت بريندا وزوجها يديران عملا حرا أيضا. اشتريا مزرعة جنوب بحيرة لوجان وملآ المخزن فيها بأدوات منزلية مستعملة (التي كان كورنيليس يعرف كيف يصلحها)، وأثاث مستعمل وأشياء أخرى كثيرة: أطباق، وصور، وسكاكين، وشوك، وحلي، ومجوهرات، يقبل الناس على شرائها نظرا لرخص ثمنها. كان اسم المكان مخزن زنت للأثاث. محليا، كان الكثير من الناس يشيرون إليه باسم «الأثاث المستعمل على الطريق السريع».
لم يكن هذا عملهما دوما. كانت بريندا تدرس في حضانة أطفال، وكان كورنيليس - الذي يكبرها باثني عشر عاما - يعمل في منجم الملح في والي، المطل على البحيرة. بعد وقوع الحادث له، كان عليهما أن يفكرا في شيء يمكنه فعله بينما هو جالس معظم الوقت، واستخدما المال الذي كان بحوزتهما في شراء مزرعة قديمة، لكن مبانيها في حالة جيدة. تركت بريندا عملها، نظرا لكثرة ما كان على كورنيليس عمله بنفسه. كانت تمر ساعات خلال اليوم، وفي بعض الأحيان أيام طوال كان يرقد فقط ويشاهد التليفزيون، أو كان يرقد على أرضية غرفة المعيشة يحاول التكيف مع الألم.
في الأمسيات، كان كورنيليس يحب أن يقود الشاحنة إلى والي. لا تبادر بريندا أبدا بالعرض عليه بأن تقود هي الشاحنة، بل تنتظره أن يبادر قائلا: «لماذا لا تقودين أنت؟» إذا لم يرد أن تؤثر حركة ذراعيه أو قدميه على ظهره. كان الأطفال معتادين على الذهاب معهم، لكنهم الآن في المرحلة الثانوية - لورنا في الصف الحادي عشر، ومارك في الصف التاسع - ولذلك فهم عادة لا يرغبون في ذلك الآن. تجلس بريندا وكورنيليس في الشاحنة الواقفة في مكان الانتظار، وينظرون إلى طيور النورس المتراصة حول حائل الأمواج، وصوامع الغلال، والأعمدة الهائلة المضاءة باللون الأخضر، والممرات المنحدرة التي توصل للمنجم الذي كان كورنيليس يعمل فيه؛ حيث توجد تلال من الملح الرمادي الخشن. في بعض الأحيان، كان يوجد قارب طويل في الميناء. بالطبع، توجد قوارب للتنزه في الصيف، وأشخاص يتزلجون على المياه، وأناس يصطادون من على رصيف الميناء. كان وقت الغروب يجري الإعلان عنه يوميا على لوحة في الشاطئ آنذاك؛ فكان الناس يأتون إلى الشاطئ خصيصى لرؤيته. الآن، في أكتوبر، اللوحة خالية والأنوار مضاءة بطول الميناء - لا يزال هناك واحد أو اثنان من هواة الصيد يصطادان - ويبدو الماء متلاطم الأمواج وباردا، ويبدو الميناء كمكان تجاري بحت.
لا يزال ثمة عمل يجري على الشاطئ. منذ أوائل الربيع السابق، وضعت صخور صلبة في بعض الأماكن، ووضعت رمال في أماكن أخرى، وأنشئ لسان صخري طويل، وكل هذا يكون معا حاجزا لحماية الشاطئ، مع وجود طريق غير ممهد بحذائه، كانا يقودان الشاحنة عليه. كان كورنيليس لا يعبأ بظهره؛ فكل ما كان يريده هو أن يشاهد كل هذا. كانت الشاحنات الكبيرة، والجرافات، والبلدوزرات تعمل طوال اليوم، ولا تزال قابعة هناك، كوحوش طيعة ساكنة مؤقتا، في المساء. هنا يعمل نيل؛ يقود نيل هذه الأشياء، ينقل الصخور في المكان، ويخلي المساحات المطلوبة، ويمهد الطريق الذي يقود بريندا وكورنيليس شاحنتهما عليه. إنه يعمل لدى شركة فوردايس للمقاولات، ومقرها لوجان، والتي تحظى بعقد تنفيذ هذا المشروع.
ينظر كورنيليس إلى كل شيء. يعرف ما تحمله القوارب (قمح لين، وملح، وذرة) وإلى أين تذهب، ويعرف طريقة تعميق مجرى الميناء، ويريد دوما أن يلقي نظرة على الأنبوب الهائل الذي يمتد بزاوية إلى الشاطئ ويعبره، مخرجا ماء ورواسب طينية وصخورا من قاع البحيرة الذي لم ير ضوء النهار قط. يذهب ويقف بجانب هذا الأنبوب ليستمع إلى الجلبة الجارية داخله، الأصوات المدوية للصخور والمياه التي تهدر في طريقها. يتساءل عما سيفعله شتاء قاس بكل هذه التغييرات والترتيبات إذا أزاحت البحيرة الصخور وما في الشاطئ، ثم طرحتها جانبا وبدأت في نحر المنحدرات الطينية، مثلما حدث من قبل.
تستمع بريندا إلى كورنيليس وتفكر في نيل. تشعر بالمتعة في أن تتواجد في المكان الذي يقضي نيل معظم أوقاته. تحب أن تفكر في الضوضاء والحركة المستمرة لهذه الآلات وفي الرجال ذوي الأذرع العارية الذين يقودون هذه الآلات القوية في سهولة بالغة، كما لو كانوا يعرفون على نحو طبيعي ما ستفضي إليه هذه الأصوات المدوية والحركة العنيفة التي تتم على الشاطئ. وكذلك شخصياتهم العفوية وحلاوة روحهم. إنها تعشق رائحة العمل في أجسادهم، اللغة التي يتحدثون بها، استغراقهم في أعمالهم، وتجاهلهم لها. ترغب في أن تحصل على رجل خرج لتوه من خضم كل ذلك.
عندما تكون هناك مع كورنيليس ولم تر نيل لفترة، تشعر بعدم راحة ووحدة، كما لو كان هذا عالم يدير ظهره لها، لكن بعد لقائها بنيل، تنظر إليه كمملكتها؛ وكل ما فيه ملكها. في الليلة السابقة على الليلة التي يلتقيان فيها - الليلة الماضية، على سبيل المثال - كان يجب أن تشعر بالسعادة والتلهف، لكن في حقيقة الأمر تبدو الأربع والعشرون ساعة الماضية، بل اليومان أو الثلاثة الأخيرة، مليئة أكثر مما ينبغي بالمتاعب، بحيث لم يكن بوسعها أن تشعر إلا بالحذر والقلق. عد تنازلي؛ فهي تعد الساعات حقيقة. لديها ميل إلى ملء الساعات المتبقية بأعمال طيبة؛ أعمال تنظيف في المنزل كانت تؤجلها، جز الحشائش، إجراء عملية إعادة ترتيب لمخزن الأثاث، بل انتزاع الحشائش الضارة من الحديقة الصخرية. صباح يوم اللقاء نفسه تمر الساعات أبطأ ما يكون وتمتلئ بالمخاطر. توجد لديها قصة دوما تختلقها حول المكان الذي من المفترض أن تذهب إليه فيما بعد الظهيرة، غير أن ما ستفعله لا يمكن أن يكون ضروريا جدا - حيث سيجذب هذا الانتباه أكثر من اللازم إلى الأمر - لذا ثمة احتمال، دوما، أن يحدث شيء يجعل كورنيليس يقول: «هلا تؤجلين ذلك إلى وقت لاحق خلال الأسبوع؟ هلا تفعلين ذلك في يوم آخر؟» ليس عدم قدرتها على لقاء نيل في هذه الحالة هو ما يزعجها؛ حيث سينتظر نيل ساعة أو ما إلى ذلك، ثم سيعرف ما حدث، بل هو أنها تعتقد أنها لم تعد تستطيع تحمل الأمر؛ أن تكون على هذا القدر من القرب منه، ثم لا تستطيع أن تقابله. غير أنها لا تشعر بأي اشتياق جسدي خلال ساعات العذاب الأخيرة تلك، حتى استعداداتها السرية - اغتسالها، إزالة الشعر الزائد من جسدها، دهان جسدها بالزيت، والتعطر - لم يكن يثيرها. تظل جامدة، تؤرقها التفاصيل، الأكاذيب، الترتيبات، حتى اللحظة التي ترى فيها سيارة نيل. كان يتبع الخوف من أنها لن تستطيع ترك زوجها للقاء نيل، خلال فترة القيادة التي تستمر خمس عشرة دقيقة؛ الخوف من عدم مجيئه إلى هذه البقعة الخالية المتطرفة، عند المستنقع التي هي مكان لقائهما. لعل ما كانت تتطلع إليه، خلال تلك الساعات الأخيرة، شيء غير مادي، شيء إذا فقدته فلن يصبح مثل فقدان وجبة يتوق المرء إليها في جوعه بل مناسبة تعتمد عليها حياتك أو خلاصك. •••
بحلول الوقت الذي صار نيل فيه مراهقا أكبر سنا - وإن لم يكن كبيرا بحيث يمكن أن يذهب إلى الحانات، بل كان ما زال يتردد على متجر حلوى فايف بوينتس (احتفظت العائلة الكرواتية بالاسم الأصلي) - كان التغيير قد بدأ، وهو ما يتذكره كل من كان حيا آنذاك. (هذا ما يعتقد نيل، لكن بريندا تقول: «لا أعرف، بالنسبة إلي كان كل ذلك مجرد تغيير في المكان.») أسقط في يد الجميع، لم يكن أحد مستعدا. كانت بعض المدارس تتشدد حيال إطالة الشعر «للصبية»، وظن البعض بإمكانية التغاضي عن ذلك والتركيز على الأمور المهمة. كان كل ما يطلبونه هو ربط الشعر برباط مرن. وماذا عن الملابس، السلاسل، القطع المصنوعة من حبات الخرز، والصنادل المصنوعة من الحبال، والملابس المصنوعة من القطن الهندي، والتطريزات الأفريقية؟ كل شيء صار هكذا فجأة ناعما وفضفاضا ولامعا. في فيكتوريا، ربما لم يجر احتواء التغيير بالقدر الكافي مثلما جرى في أماكن أخرى. تسرب التغيير. ربما جعل المناخ الناس أكثر لينا، لا الشباب فقط. كان ثمة انتشار هائل للزهور الورقية وتدخين الماريجوانا والموسيقى (الأشياء التي كانت تبدو غير مألوفة على الإطلاق آنذاك، مثلما يقول نيل، وتبدو الآن عادية جدا)، والموسيقى الخارجة من نوافذ مباني وسط المدينة التي كانت تتعانق مع أعلام مرخية، فوق أحواض الزهور في متنزه بيكون هيل بارك، وصولا إلى الأجمات الصفراء على المنحدرات الصخرية المطلة على البحر، إلى الشواطئ السعيدة المطلة على القمم السحرية لجبال الأولمب. كان الجميع مشاركا في الحدث. •••
كان أساتذة الجامعات يتجولون في الأرجاء واضعين زهورا خلف آذانهم، وكانت الأمهات تسير تفعل الشيء نفسه. كان نيل وأصدقاؤه يزدرون هؤلاء الناس فطريا؛ هؤلاء العجائز الهيبيز الحذرين. دخل نيل وأصدقاؤه عالم المخدرات والموسيقى بشكل جدي.
عندما كانوا يريدون أن يتعاطوا المخدرات، كانوا يذهبون إلى خارج متجر الحلوى. في بعض الأحيان، كانوا يذهبون إلى أماكن بعيدة مثل المقابر ويجلسون فوق الحاجز البحري. في بعض الأحيان كانوا يجلسون بجانب السقيفة خلف المتجر. لم يكن بإمكانهم الدخول؛ فقد كانت السقيفة مغلقة. ثم كانوا يدخلون متجر الحلوى ويشربون المياه الغازية ويأكلون سندويتشات الهمبورجر والهمبورجر بالجبن والكعك والحلوى المحلاة بالقرفة؛ لأنهم كانوا يتضورون جوعا. كانوا يسندون ظهورهم إلى مقاعدهم ويتأملون الزخارف تتحرك في السقف القديم المصنوع من الصفيح المضغوط، الذي قام الكرواتيون بطلائه باللون الأبيض. كانوا يتخيلون الزهور، والأبراج، والطيور، والوحوش، وكأنها تسبح عاليا فوق رءوسهم.
تقول بريندا سائلة: «ماذا كنتم تتعاطون؟» «صنف رائع جدا، إلا إذا كان ما اشتريناه فاسدا؛ حشيشا، ومواد مهلوسة، وميسكالين في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان مزيجا من هذا وذاك. أشياء غير ضارة على الإطلاق.» «أقصى ما فعلته هو أنني دخنت ثلث سيجارة على الشاطئ، حينما لم أكن متأكدة ماذا كان ذلك، وعندما عدت إلى المنزل صفعني أبي على وجهي.» (ليست هذه هي الحقيقة؛ كان ذلك كورنيليس، صفعها كورنيليس على وجهها. كان ذلك قبل أن يتزوجا، عندما كان كورنيليس يعمل في الدوام الليلي في المنجم، وكانت هي تجلس في منطقة الشاطئ بعد حلول الظلام مع بعض الأصدقاء من نفس عمرها. في اليوم التالي أخبرته، فصفعها على وجهها.)
كان كل ما فعلوه في متجر الحلوى هو الأكل، وعمل أفعال لا معنى لها، والجلوس في انتشاء، وممارسة ألعاب غبية، مثل عمل سباقات بينهم للسيارات اللعبة على الموائد. في إحدى المرات، رقد أحدهم على الأرض وقاموا برش الكاتشب عليه. لم يعبأ أحد؛ لم يكن زبائن النهار - ربات البيوت اللائي كن يشترين المخبوزات، وأرباب المعاشات الذين كانوا يقضون أوقات فراغهم يحتسون القهوة - يأتون ليلا قط. كانت الأم وليزا قد عادتا إلى المنزل الذي كانت العائلة تعيش فيه في المقطورة، ثم بدأ الأب في العودة إلى المنزل، بعد فترة قصيرة من وقت العشاء. كانت ماريا هي من تبقى بالمتجر. لم تكن تعبأ بما كانوا يفعلونه، طالما لم يسببوا أي خسائر، وطالما كانوا يدفعون.
كان هذا هو عالم المخدرات الذي كان الصبية الأكبر سنا ينتمون إليه، العالم الذي أبقوا الصبية الأصغر خارجه. مر وقت قصير قبل أن يلاحظوا أن الصبية الأصغر كانوا يخفون شيئا أيضا؛ كان لديهم عالمهم السري الخاص بهم. كانوا يزدادون وقاحة وإحساسا بذواتهم. كان بعضهم يضايقون بشدة الصبية الأكبر سنا حتى يشتروا لهم مخدرات. هكذا صار جليا كيف كانت تتوفر لديهم بعض الأموال التي مصدرها غير معروف.
لدى نيل الآن أخ أصغر منه يسمى جوناثان. شخص مستقيم جدا الآن، متزوج ويعمل مدرسا. بدأ جوناثان بالتلميح، وهو ما كان يفعله صبية آخرون، لم يستطيعوا الاحتفاظ بالسر لأنفسهم، وسرعان ما ذاع الأمر. كانوا يحصلون على أموالهم من ماريا. كانت ماريا تدفع لهم ليضاجعوها. كانوا يضاجعونها في السقيفة الخلفية بعد أن تغلق المتجر ليلا؛ حيث كان لديها مفتاح السقيفة.
كانت تتحكم أيضا في الدخل اليومي للمتجر. كانت تقوم بإفراغ درج ماكينة الدفع النقدي ليلا، وكانت تمسك الدفاتر. كان والداها يثقان فيها. لم لا؟ كانت حاذقة في الحساب، وكانت تكرس حياتها لإدارة أعمال المتجر. كانت تفهم عمليات إدارة المتجر بالكامل أفضل من والديها. كان يبدو أنهما يشعران بالطمأنينة إزاء الأمور المالية، ولم يكونا يريدان أن يضعا أموالهما في البنك. كانا يضعان الأموال في خزانة أو ربما في صندوق محكم الغلق في مكان ما، وكانا يأخذان منه قدر حاجتهما. لا بد أنهما شعرا أنهما لا يستطيعان الثقة بأحد، أو بالبنوك أو أي شخص، خارج دائرة العائلة. كم كانت ماريا عطية من الرب إليهما! فهي متزنة وذكية، ليست جميلة جدا ما يغريها بأن تضع آمالها أو طاقتها في أي شيء آخر بخلاف إدارة أعمال المتجر. كانت ماريا بمثابة الوتد في العائلة.
كانت أطول بمقدار رأس، وأثقل وزنا بمقدار ثلاثين أو أربعين رطلا من هؤلاء الصبية الذين كانت تدفع لهم. •••
توجد لحظات سيئة قليلة دوما بعد أن تقود بريندا شاحنتها من الطريق السريع - حيث يكون لديها عذر للقيادة هناك، حال رآها أحد - إلى الطريق الجانبي. كانت شاحنتها لافتة للانتباه، لا يمكن أن يخطئها أحد. لكن بمجرد أن تعزم أمرها وتشرع في الأمر، وهي تقود إلى مكان ليس من المفترض أن تكون فيه، تشعر أنها أقوى. وعندما تقود سيارتها إلى طريق المستنقع المهجور، لا يوجد أي عذر ممكن تقديمه. إذا رآها أحد هنا، فسيكون أمرها قد انتهى. عليها أن تقود مسافة نصف ميل تقريبا في العراء قبل أن تصل إلى منطقة الأشجار. كانت تأمل في أن تزرع الذرة، التي كانت ستنمو لارتفاعات طويلة وتخفيها، لكنهم لم يزرعوا ذرة بل فاصوليا. على الأقل لم يجر رش الطرق الجانبية هنا؛ كانت الحشائش والطحالب وأجمات التوت قد نمت عاليا، وإن لم يكن عاليا بما يكفي لإخفاء شاحنة. كانت هناك أزهار عصا الذهب والصقلاب، قرون بذورها مفتوحة، وكانت عناقيد متدلية من الفواكه السامة البراقة، والكرم البري فوق كل شيء، وتزحف حتى إلى الطريق. وأخيرا، صارت بريندا في الداخل، دخلت نفق الأشجار؛ شجر أرز وشوكران، وعند الدخول أكثر في المنطقة الأكثر بللا كانت توجد أشجار الطمراق الرفيعة، والكثير من أشجار القيقب اللينة ذات الأوراق الصفراء والبنية المرقطة. لا يوجد ماء آسن، ولا توجد برك سوداء، حتى في الأماكن القصية في منطقة الأشجار. كانا محظوظين في ظل الصيف الجاف والخريف. كانت ونيل محظوظين، وليس المزارعون؛ فإذا كانت السنة ممطرة، ما كانا سيلجئان لهذا المكان. كانت الأخاديد الصلبة التي تمر عجلات سيارتها فيها ستصبح طينا لزجا وكانت النقطة التي تنحرف عندها بالسيارة في آخر المكان ستصبح مجرد منخفض طيني.
تقع هذه البقعة داخل تلك المنطقة بنحو ميل ونصف الميل. هناك أماكن صعبة في القيادة فيها، تلي منحدرين صغيرين يبرزان من المستنقع، وجسرا خشبيا ضيقا فوق جدول لا تستطيع أن ترى أي ماء تحته، فقط بعض نباتات قرة العين والقراص المصفرة، التي تمتص غذاءها من الطين الجاف.
يقود نيل سيارة من طراز ميركوري زرقاء قديمة - أزرق قاتم - والتي يمكنها السير في بركة، بقعة من ظلام المستنقعات تحت الأشجار. جاهدت بريندا حتى ترى السيارة، وهي لا تمانع في أن تصل هناك قبله بدقائق، حتى تتمالك نفسها، وتفرد شعرها، وتفحص مكياجها، وترش عنقها (وفي بعض الأحيان بين رجليها أيضا) بعطر بحقيبة يدها. تصبح قلقة عند مرور أكثر من بضع دقائق. لا تخشى الكلاب البرية أو المعتدين أو الأعين التي تتلصص عليها من بين الأيكات - كانت معتادة على قطف التوت هنا عندما كانت طفلة؛ وهكذا عرفت هذا المكان. تخاف مما قد لا يكون هناك، لا مما هو موجود؛ غياب نيل، إمكانية تخليه عنها، إنكاره المفاجئ لها. إن هذا يمكن أن يحول أي مكان، أي شيء، إلى مكان قبيح وخطر وغبي. أشجار أو حدائق أو أماكن انتظار أو مقاهي - لا يهم. في إحدى المرات، لم يأت؛ كان مريضا، ربما كان بسبب تسمم غذائي أو آلام رهيبة بالرأس بسبب الإفراط في شرب الخمر، والتي لم يصادفها من قبل في حياته، مثلما أخبرها عبر الهاتف تلك الليلة، وكان عليها أن تتظاهر أن شخصا كان يهاتفهم ليبيعهم أريكة. لم تنس فترة انتظارها قط؛ فقدان الأمل، الحرارة، والبق - كان ذلك في شهر يوليو - وكان جسدها يرشح عرقا، هنا في شاحنتها، مثل إقرار يائس بالهزيمة.
ها هو، لقد أتى قبلها، تستطيع أن ترى أحد مصابيح السيارة الميركوري عبر ظلال أشجار الأرز الكثيفة. يبدو الأمر كشخص يلقي نفسه بالماء عندما يكون جسده شديد الحرارة، مجروحا ومقروصا في كل مكان جراء قطف التوت من الأجمة في الصيف؛ العذوبة المحيطة بالأمر، العطف البارد الذي يغرق جميع مشاكلك في أعماقه الفجائية. تركن بريندا شاحنتها وتعدل من شعرها وتقفز خارجة منها، وتجرب الباب لترى ما إذا كان موصدا، وإلا سيرسلها نيل على عجل إلى الشاحنة، مثل كورنيليس، لتتأكد من أنها قد أغلقتها. تسير عبر المسافة المشمسة الصغيرة، الأرض التي تتناثر الأوراق عليها، ترى نفسها تسير، مرتدية بنطالها الأبيض الضيق والبلوزة الفيروزية، وحزاما أبيض متدليا، وحذاء بكعب عال ، وحقيبتها فوق كتفها. امرأة رشيقة، بشرتها بيضاء منمشة، وعيناها زرقاوان تحفهما ظلال وخطوط تحديد زرقاء، والتي تغلق على نحو جذاب إزاء أي إضاءة. تنعكس الشمس على شعرها الأشقر الضارب إلى الحمرة - والذي تم تصفيفه بالأمس - مثل تاج من البتلات. ترتدي الكعب العالي فقط من أجل قطع هذه المسافة القصيرة، فقط من أجل لحظة عبور الطريق هذه عندما تقع عيناه عليها، من أجل حركة الحوض والطول الزائدين التي يمنحها الكعب إياها.
في الغالب، يتضاجعان في سيارته، هنا تماما في مكان لقائهما، رغم أنهما يظلان يخبر كل منهما الآخر أن ينتظر: توقف، انتظر حتى نصل إلى المقطورة. تعني «انتظر» عكس ما تشير إليه، بعد برهة. في إحدى المرات، بدآ المضاجعة بينما كانا لا يزالان يقودان. خلعت بريندا بنطالها وتنورتها الصيفية الفضفاضة، غير منبسة بكلمة، ناظرة إلى الأمام مباشرة، وانتهى بهما المطاف بالتوقف على جانب الطريق السريع، مخاطرين في ذلك أيما مخاطرة. الآن، عندما يمران بهذه النقطة، تقول دوما شيئا من قبيل: «لا تحد عن الطريق هنا.» أو «يجب أن توضع علامة تحذيرية هنا.»
يقول نيل: «لافتة تاريخية!»
لديهما تاريخ من العلاقة الجسدية، تماما مثل العائلات أو الأشخاص الذين يذهبون إلى المدرسة معا. ليس لديهما أشياء أخرى أكثر من ذلك. لم يتناولا وجبة واحدة معا، أو يشاهدا فيلما. مع ذلك، يمران معا ببعض المغامرات المعقدة والأخطار، ليس فقط مغامرة من نوع التوقف على جانب الطريق السريع للمضاجعة. ويقومان بأشياء خطرة، كل يدهش الآخر بها، على نحو صحيح دوما. في الأحلام، يراودك إحساس أنك شاهدت هذا الحلم من قبل، أن هذا الحلم يتكرر مرارا، وتعلم أن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة. تعلم أن ثمة نظاما خفيا كاملا يطلق عليه اسم «الأحلام»، بما أنه ليس ثمة اسم أفضل تطلقه عليه، وأن هذا النظام لا يشبه الطرق أو الأنفاق، بل يشبه أكثر الشبكة الجسدية الحية، التي تنكمش وتتمدد كلها، والتي تكون غير متوقعة لكنها مألوفة في نهاية المطاف؛ حيث توجد أنت الآن، حيث كنت دوما. كانت الأمور تمضي على هذا النحو معهما ومع الجنس، تسير إلى مكان كذلك، وكانا يفهمان الأشياء نفسها حول الأمر برمته ويثقان أحدهما في الآخر، حتى الآن.
في مرة أخرى على الطريق السريع، رأت بريندا سيارة بيضاء ذات غطاء قابل للطي، سيارة بيضاء قديمة من طراز موستانج غير مكشوفة تقترب - كان ذلك في الصيف - فاختبأت في أرضية السيارة. قالت: «من في تلك السيارة؟ انظر، سريعا، قل لي.»
قال نيل: «فتيات، أربع أو خمس فتيات يبحثن عن شباب.»
قالت بريندا مختبئة مرة أخرى: «ابنتي! من الجيد أنني لم أربط حزام الأمان.» «هل لديك ابنة كبيرة بما يكفي كي تقود سيارة؟ وهل ابنتك تمتلك سيارة ذات غطاء قابل للطي؟» «سيارة صديقتها. لا تقود لورنا بعد، لكنها تستطيع؛ فهي تبلغ من العمر ستة عشر عاما.»
شعرت أن ثمة أشياء كان يمكن أن يتفوه بها، والتي أملت ألا يفعل. الأشياء التي يشعر الرجال أنهم مدفعون لقولها عن الفتيات الصغيرات.
قالت بريندا: «كان من الممكن أن يكون لديك فتاة في مثل عمرها ... ربما لديك مثلها، لكنك لا تعرف. لقد كذبت علي هي أيضا، كانت تقول إنها ذاهبة لتلعب التنس.»
مرة أخرى لم يقل شيئا كانت تأمل ألا تسمعه، أي إشارة خبيثة تذكرها بالكذب. لقد مر الخطر.
كل ما قاله هو: «لا عليك، خذي الأمور ببساطة. لم يحدث شيء.»
لم يكن لديها سبيل لمعرفة كم كان يفهم مشاعرها في تلك اللحظة، أو ما إذا كان يفهم أي شيء عنها على الإطلاق. لم يذكرا كورنيليس قط، رغم أنه كان الشخص الذي تحدث نيل إليه أولا عندما جاء إلى مخزن الأثاث. كان يبحث عن دراجة، دراجة رخيصة كي يقودها في الطرق الريفية. لم يكن لديهما أي دراجات آنذاك، لكنه لم يرحل وظل يتحدث مع كورنيليس لفترة، عن نوع الدراجة التي يريدها، عن طرق إصلاح أو تحسين هذا النوع من الدراجات، عن كيف يمكن أن يجدا دراجة مثل التي يريدها. قال إنه سيمر عليهما مرة أخرى. حدث ذلك فعلا ، في وقت قريب جدا، ولم يكن هناك سوى بريندا. كان كورنيليس قد ذهب إلى المنزل ليستريح قليلا، كان ذلك اليوم أحد الأيام الصعبة بالنسبة إليه. أوضح نيل وبريندا أحدهما إلى الآخر كل شيء آنذاك، على الرغم أنهما لم يقولا شيئا محددا. عندما هاتفها نيل وطلب منها أن تحتسي معه شرابا، في حانة على طريق البحيرة، كانت تعلم ماذا كان يقصد وكانت تعلم كيف سترد عليه.
أخبرته أنها لم تفعل شيئا كذلك من قبل قط. كانت تلك كذبة من ناحية، وكان ذلك صحيحا من ناحية أخرى. •••
خلال ساعات عمل المتجر، لم تجعل ماريا التعاملات تتداخل بعضها مع بعض. كان الجميع يدفع مثلما هو معتاد. لم تكن تتصرف بطريقة مختلفة على الإطلاق؛ كانت لا تزال مسئولة عن أمور المتجر. كان الصبية يعلمون أن لديهم قوة تفاوضية، لكنهم لم يكونوا واثقين قط إلى أي مدى؛ دولار، دولارين، خمسة دولارات. لم يكن الأمر كما لو كان أن عليها أن تركن إلى واحد أو اثنين منهما. كان ثمة دوما أصدقاء في الخارج، منتظرين وراغبين، وكانت تصطحب أحدهم إلى السقيفة قبل أن تستقل الحافلة إلى المنزل. حذرتهم أنها ستتوقف عن التعامل معهم إذا تفوهوا بكلمة، وصدقوها لفترة. لم تكن تستخدمهم بانتظام في البداية، أو كثيرا جدا.
كان ذلك في البداية. مع مرور أشهر قليلة، بدأت الأمور تتغير. تزايدت احتياجات ماريا. صارت عملية التفاوض أقل سرية وأكثر صعوبة. شاع الأمر. تقلصت سلطة ماريا، ثم سحقت سحقا. «هيا ماريا، أعطني عشرة دولارات. أنا أيضا. ماريا، أعطني عشرة دولارات أنا أيضا. هيا ماريا، تعرفينني جيدا.» «عشرين دولارا ماريا. أعطني عشرين دولارا هيا. عشرين دولارا. أنت مدينة لي ماريا. هيا الآن. لا ترغبين في أن أخبر أحدا. هيا ماريا.» «عشرون، ثم عشرون، عشرون». ماريا تستسلم. تذهب إلى السقيفة كل ليلة. ثم بدأ بعض الصبية في الرفض، وكأن ليس لديها ما يكفيها من متاعب. يريدون المال أولا. يأخذون المال ثم يرفضون. يقولون إنها لم تدفع لهم. كانت تدفع لهم، كانت تدفع لهم أمام شهود، وكان الشهود ينكرون ذلك. يهزون رءوسهم، ويسخرون منها. «لم تدفعي له قط. لم أرك قط. ادفعي لي الآن وسأذهب. أعدك بأن أفعل. سأذهب. ادفعي لي عشرين دولارا ماريا.»
وها هم الصبية الأكبر سنا، الذين عرفوا من أشقائهم الأصغر ماذا يجري، يأتون إليها عند ماكينة الدفع النقدي ويقولون: «ماذا عني ماريا؟ تعرفينني أنا أيضا. هيا ماريا، ماذا عن عشرين دولارا؟» هؤلاء الفتية لا يذهبون معها إلى السقيفة أبدا. هل كانت تظن أنهم سيفعلون؟ لا يعدونها حتى بذلك، لا يسألونها إلا مالا فقط. «أنت تعرفينني منذ فترة طويلة ماريا.» يهددون ويتملقون: «ألست صديقك أنا أيضا، يا ماريا؟»
لم يكن أحد صديقا لماريا.
كان هدوء ماريا الوقور المترقب قد ذهب. صارت شرسة، ومتجهمة، وخبيثة. بينما كانت ترمقهم بنظرات مفعمة بالكراهية، واصلت إعطاءهم المال، واصلت إعطاءهم الدولارات. لا تحاول حتى أن تتفاوض، أو تجادل، أو ترفض، بعد الآن. في إحدى نوبات غضبها العارم فعلت ذلك، غضب عارم صامت. كلما زادت إهاناتهم لها، كانت الأوراق المالية فئة العشرين دولارا تطير خارجة من درج ماكينة الدفع النقدي. لم تفعل إلا أقل القليل، ربما لا شيء، لكسب مودتهم الآن.
كان نيل وأصدقاؤه منتشين طوال الوقت. طوال الوقت الآن توفر لديهم هذا المال. يرون تدفقات جميلة لذرات متطايرة من أسطح موائد الفورميكا. تهرب أرواحهم المغيبة من تحت أظافر أصابعهم. ذهب صواب ماريا، واستنزفت أموال المتجر. كيف يمكن أن يستمر ذلك؟ ما نهاية ذلك كله؟ يجب أن تلجأ ماريا الآن إلى صندوق المال محكم الإغلاق؛ لا تكاد تكفيها الأموال في درج ماكينة الدفع النقدي بنهاية اليوم. وتظل أمها تعد المخبوزات طوال الوقت وتصنع البيروغة، ويظل الأب يكنس الممر الجانبي ويحيي الزبائن. لم يخبرهم أحد بالأمر، وتمضي بهم الأمور كالمعتاد.
كان يجب أن يعرفا بأنفسهما. وجدا فاتورة لم تدفعها ماريا - شيئا من هذا القبيل، شخص أتى معه فاتورة غير مدفوعة - وذهبا لأخذ مال لتسديدها، فلم يجدا أي نقود. لم يكن ثمة مال حيث كانوا يحتفظان به، في خزانة، أو صندوق محكم الإغلاق، أو أي شيء من هذا القبيل، ولم يكن موجودا في أي مكان آخر؛ ذهب المال. هكذا عرفوا بالأمر.
أنفقت ماريا كل المال، كل ما ادخروه، كل أرباحهم التي تراكمت ببطء، كل الأموال التي كانوا يديرون عملهم من خلالها. حقا، كل شيء! لا يستطيعون دفع الإيجار الآن، لا يستطيعون دفع فاتورة الكهرباء أو الدفع لموردي بضائعهم. لا يستطيعون الاستمرار في إدارة متجر الحلوى. على الأقل، اعتقدوا أنهم لا يستطيعون ذلك. ربما لا يملكون الحماس اللازم للاستمرار في إدارة المتجر.
أغلق المتجر. وضعت لافتة على الباب تقول: «مغلق حتى إشعار آخر.» مر عام كامل قبل إعادة فتح المتجر. تحول المتجر إلى مغسلة قائمة على الخدمة الذاتية.
قال الناس إن السبب في ذلك كان أم ماريا، تلك المرأة الضخمة الخنوعة المحنية، التي أصرت على إثبات التهمة على ابنتها. كانت مذعورة من اللغة الإنجليزية وماكينة الدفع النقدي، لكنها دفعت بماريا إلى المحكمة. بالطبع، أدينت ماريا لكنها كحدث جرى إيداعها في مكان لرعاية الأحداث، ولم يكن ثمة شيء يمكن عمله حيال الصبية على الإطلاق. كذبوا كلهم على أي حال؛ قالوا إنهم لا علاقة لهم بالأمر. لا بد أن والدي ماريا وجدا عملا، لا بد أنهما واصلا العيش في فيكتوريا؛ نظرا لأن ليزا واصلت العيش فيها. كانت لا تزال تسبح لدى مسابح جمعية الشبان المسيحيين، وخلال بضع سنوات كانت تعمل في متجر إيتون في مجال مستحضرات التجميل. كانت ساحرة ومتغطرسة جدا آنذاك. •••
يحضر نيل فودكا وعصير برتقال دوما ليشرباهما هو وبريندا. هذا اختيار بريندا. قرأت في موضع ما أن عصير البرتقال يجدد فيتامين سي الذي تستنزفه المشروبات الكحولية، وهي تأمل ألا يلاحظ أحد أنها احتست الفودكا من خلال رائحة فمها. ينظم نيل الأشياء داخل المقطورة، أو هكذا تعتقد؛ نظرا للحقيبة الورقية الممتلئة بعلب الجعة الموضوعة على خزانة المؤن، وكومة من الصحف المكبوسة معا - غير المثنية في حقيقة الأمر - وزوج الجوارب الموضوع في أحد الأركان. ربما يفعل زميله في السكن ذلك؛ رجل يدعى جاري، لم تقابله بريندا قط أو ترى صورة له، ولن تعرفه إذا التقيا في الشارع. هل سيعرفها هو؟ يعرف أنها تأتي هنا، ويعرف متى؛ هل يعرف حتى اسمها؟ هل يميز عطرها، رائحة علاقتها الجنسية مع نيل، عندما يعود إلى البيت في المساء؟ تحب المقطورة، النحو الذي لا يبدو أي شيء فيها منظما أو دائما. توضع الأشياء حيثما تصبح مناسبة. لا توجد ستائر أو حصائر طعام، ولا توجد حتى زجاجات ملح وفلفل، فقط ملاحة وعلبة فلفل، مثلما تأتي من المطعم. تعشق رؤية فراش نيل غير مرتب، عليه غطاء فوقه نقوش مربعة، ووسادة مستوية، ليس فراش زوجين أو فراش مرض وراحة وتعقيد، بل فراش شهوته ونومه، وكلاهما مجهد وداع إلى الغفلة. إنها تحب حياة جسده، على يقين تام بحقوقه. تريد أوامر منه لا طلبات. تريد أن تصبح مرتعه.
لا يزعجها قليلا إلا قذارة الحمام، مثل قذارة أي شخص آخر، وترغب في أن يهتما أكثر بتنظيف الحمام وحوض الاغتسال.
يجلسان إلى المائدة لاحتساء الشراب، ينظران إلى الخارج عبر نافذة المقطورة إلى ماء البحيرة الفولاذي، المتلألئ المضطرب. الأشجار هنا - نظرا لأنها مكشوفة للرياح التي تهب على البحيرة - عارية تقريبا من الأوراق. هياكل شجر البتولا والحور متصلبة وبراقة والقش يحيط بالماء. ربما تكون هناك ثلوج خلال شهر، وبالتأكيد خلال شهرين. سيجري إغلاق طريق البحر، وربط القوارب الصغيرة في الشتاء، وسيكون ثمة مساحة ثلجية رائعة من الشاطئ إلى المياه. يقول نيل إنه لا يعرف ماذا سيفعل، بمجرد انتهاء العمل في الشاطئ. ربما سيبقى، ويحاول الحصول على وظيفة أخرى. ربما سيتقدم بطلب تأمين بطالة لفترة، ويشتري عربة ثلجية، ويستمتع بالشتاء، أو قد يرحل ويبحث عن وظيفة في مكان آخر، ويزور الأصدقاء. لديه أصدقاء في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وخارجها، ولديه أصدقاء من بيرو.
تقول بريندا: «ماذا حدث بعد ذلك؟ هل لديك أدنى فكرة عما حدث لماريا؟»
يقول نيل: لا، ليس لديه أدنى فكرة عنها.
لن تبرح القصة بريندا وشأنها؛ فستلازمها مثل طبقة على اللسان، مذاق في الفم.
تقول بريندا: «حسنا، ربما تزوجت بعد أن خرجت. تتزوج كثيرات ممن هن لسن على قدر كبير من الجمال. هذا مؤكد. ربما فقدت بعض الوزن وتبدو أجمل.»
يقول نيل: «مؤكد ... ربما يدفع رجال لها، وليس العكس.» «أو ربما لا تزال قابعة في واحد من تلك الأماكن، تلك الأماكن التي يضعون الناس فيها.»
تشعر بألم الآن بين رجليها، أمر معتاد بعد واحد من هذه اللقاءات. إذا كانت ستقف في هذه اللحظة، فكانت ستشعر بارتجاف في ذلك المكان، ستشعر بأن الدماء تتدفق ثانية عبر الأوردة والشرايين الصغيرة جميعها التي جرى سحقها وجرحها، ستشعر بنفسها ترتجف مثل بثرة كبيرة منتفخة.
ترتشف رشفة طويلة وتقول: «إذن، كم استطعت أن تحصل منها؟»
يقول نيل: «لم أحصل على أي شيء على الإطلاق؛ كنت فقط أعرف هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يفعلون ذلك. لقد كان أخي جوناثان هو من يأخذ منها أموالا. أتساءل عما سيقوله إذا ذكرته بالأمر الآن.» «الصبية الأكبر أيضا! كنت تقول: إن الصبية الأكبر كانوا يعرفون. لا تقل لي إنك كنت فقط تشاهد ما يحدث ولم تحصل على نصيبك.» «إن ما «أقوله» لك هو الحقيقة، لم أحصل على شيء البتة.»
طقطقت بريندا بلسانها تعبيرا عن امتعاضها، وأفرغت محتويات الكأس في فمها ثم حركته على المائدة، وهي تنظر في ريبة إلى الدوائر التي بداخله.
يقول نيل: «هل تريدين كأسا آخر؟» يتناول الكأس منها.
تقول له: «علي أن أذهب ... حالا.» ربما تضاجع أحدا في عجلة إذا كان هذا ضروريا، لكنك تحتاج إلى وقت كي تتعارك معه. هل هذا هو ما هما في طريقهما إليه؟ عراك؟ تشعر بالتوتر لكنها سعيدة. سعادتها قصيرة وخاصة، ليست سعادة من ذلك النوع الذي يفيض خارجك ويلون كل شيء من حولك، ويجعلك غير مكترث في أريحية بما تقول. العكس تماما؛ تشعر بالخفة والتوتر والتشرذم. عندما يأتيها نيل بكأس آخر ممتلئ، تتجرع رشفة واحدة منه مباشرة، حتى تحافظ على هذا الإحساس.
تقول: «اسمك كاسم زوجي! من المضحك أنني لم أفكر في ذلك من قبل .»
كانت قد فكرت في ذلك من قبل. لم تذكر ذلك فقط من قبل، ظانة أن هذا شيئا لن يحب نيل أن يسمعه.
يقول: «كورنيليس ليس كنيل.» «هذا اسم هولندي. وبعض الهولنديين يختصرون الاسم إلى نيل.» «حسنا، لكنني لست هولنديا، واسمي ليس كورنيليس، بل نيل.» «لكن يظل الأمر أن اسمه إذا جرى اختصاره كنت ستدعى مثله.» «اسمه ليس مختصرا.» «لم أقل ذلك. قلت إذا كان سيجري اختصاره.» «إذن، لماذا تقولين إذا لم يختصر؟»
لا بد أن شعورا مماثلا يراوده هو أيضا؛ ذلك الصعود البطيء الذي لا يقاوم لانفعال جديد، الحاجة إلى قول وسماع أشياء سيئة. يا لها من متعة جامحة ومحررة للمشاعر التي توجد في الحركة الأولى! ويا له من إغراء مثير للاستمرار، والذي سيؤدي حتما إلى خراب! لا تستطيع أن تتوقف من أجل التفكير في السبب عن حاجتك إلى ذلك الخراب. فأنت تفعل ذلك وحسب.
يسأل نيل فجأة: «لماذا علينا أن نشرب في كل مرة؟ هل نرغب في أن نتحول إلى مدمني كحوليات أو شيء من هذا القبيل؟»
ترتشف بريندا رشفة سريعة وتدفع بكأسها بعيدا، وتقول له: «من عليه أن يشرب؟»
تعتقد أنه يقصد أنهما يجب أن يشربا القهوة، أو المشروبات الغازية، لكنه ينهض ويذهب إلى التسريحة حيث يحتفظ بملابسه، ويفتح درجا، ويقول لها: «تعالي إلى هنا.»
تقول له: «لا أريد أن أرى أيا من هذه الأشياء.» «أنت لا تعرفين أصلا ما يوجد هنا.» «بالطبع أعرف.»
بالطبع هي لا تعرف، ليس على وجه التحديد. «هل تظنين أن شيئا ما سيعضك؟»
ترتشف بريندا رشفة أخرى من كأسها وتظل تنظر خارج النافذة. تبدأ الشمس في الغروب، دافعة بضوئها البراق عبر المائدة لتدفئ يديها.
يقول نيل: «أنت ترفضين؟»
تقول: «أنا لا أرفض أو أقبل.» بدأت تشعر أنها فقدت بعض السيطرة، بعدم السعادة مثلما كانت تشعر. «لا أعبأ بما تفعل؛ هذا شأنك.»
يقول نيل في نبرة رقيقة متكلفة: «أنا لا أرفض أو أقبل! ... لا أعبأ بما تفعل!»
هذه هي الإشارة، التي كان على أحدهما أن يعطيها. لمحة كراهية، وضاعة محضة، مثل ومضة نصل. إشارة على أن العراك سيبدأ من فوره. أخذت بريندا رشفة كبيرة، كما لو كانت تستحقها. تشعر برضاء بائس. تقف وتقول: «حان موعد ذهابي.»
يقول نيل: «ماذا لو كنت غير مستعد للذهاب بعد؟» «أتحدث عن نفسي، ليس أنت.» «أوه! هل شاحنتك بالخارج؟» «أستطيع أن أسير.» «لكن المسافة إلى شاحنتك تبلغ خمسة أميال.» «سار الناس خمسة أميال من قبل.»
يقول نيل متعجبا: «في حذاء كهذا؟!» نظر كلاهما إلى حذائها الأصفر، الذي يتوافق لونه مع الطيور المطرزة من الستان على سترتها فيروزية اللون. كانت قد اشترتهما وارتدهما من أجله!
يقول: «أنت لم ترتدي هذا الحذاء للسير به ... أنت ترتدينه حتى تظهر كل خطوة تخطينها مؤخرتك الكبيرة.» •••
تسير في الطريق المحاذي لشاطئ البحيرة، في الحصى، وهو ما جرح قدميها عبر الحذاء، وجعلها تنتبه إلى كل خطوة تخطوها؛ تحسبا أن يلتوي كاحلها. يعتبر الطقس الآن في ذلك الوقت - في فترة ما بعد الظهيرة - أبرد من أن تكتفي بارتداء سترة. تهب الرياح على البحيرة على جانبيها، وفي كل مرة تمر مركبة - خاصة الشاحنة - تدور دوامة من الرياح الجافة حولها وترتطم حبات الرمل بوجهها. تبطئ بعض الشاحنات بالطبع، وكذلك بعض السيارات أيضا، ويصيح الرجال فيها عبر النوافذ. تتوقف إحدى السيارات على نحو مباغت على الحصى أمامها. تقف جامدة، لا تستطيع أن تفكر فيما عساها أن تفعل، وبعد لحظة تتحرك السيارة بقوة ثانية ناحية الرصيف ثم تبدأ هي في السير مجددا.
هذا جيد، فهي ليست في خطر حقيقي. لا تقلق حتى أن يراها أحد يعرفها. تشعر أنها حرة أكثر من أن تعبأ بأي شيء. تفكر في المرة الأولى التي أتى نيل فيها إلى مخزن الأثاث، وفي طريقة وضعه لذراعه حول عنق شمشون، وقوله له: «ليس هذا كلب حراسة، سيدتي.» كانت تعتقد أن كلمة «سيدتي» وقحة مصطنعة، مستقاة من أحد أفلام ألفيس بريسلي القديمة. وكان ما قاله بعد ذلك أسوأ. نظرت إلى شمشون، وقالت: «هو أفضل ليلا.» وقال نيل: «وأنا أيضا.» وقح متغطرس متعال، هكذا ظنت. وهو ليس صغيرا بما يكفي حتى يمكن التغاضي عن ذلك. لم يتغير رأيها كثيرا في المرة الثانية. ما حدث هو أن كل ذلك صار شيئا لا بد من تخطيه. كان بمقدورها أن تبين له أن ليس عليه أن يتصرف على هذا النحو. كانت مهمتها أن تتلقى هداياه بجدية، بحيث يكون هو جادا أيضا، وأريحيا وممتنا. كيف كانت متأكدة مبكرا هكذا أن ما لم يعجبها فيه لم يكن حقيقيا؟
بعد أن تجاوزت الميل الثاني، أو ربما النصف الثاني من الميل الأول، لحقت بها السيارة الميركوري. تقف السيارة فوق الحصى عبر الطريق. تمضي إليها وتدخلها. لا ترى سببا في ألا تفعل ذلك. لا يعني ذلك أنها ستتحدث إليه، أو أن تكون معه مدة أطول من الدقائق القليلة التي ستستغرقها القيادة إلى طريق المستنقع والشاحنة. لا يجب أن يكون وجوده مؤثرا عليها تماما مثل حبات الرمل المتطايرة على جانبي الطريق.
تفتح النافذة بالكامل حتى يشوش تيار الريح البارد على أي شيء ربما يريد أن يقوله.
يقول: «أريد أن أعتذر عن التعليقات الشخصية التي بدرت مني.»
ترد: «لم؟ هذا صحيح. مؤخرتي كبيرة.» «لا.»
تقول: «بل هي كذلك.» في نبرة ختامية صادقة يائسة. يخرسه ذلك بضعة أميال، حتى يستديرا عبر طريق المستنقع ويقودان عبر الأشجار. «إذا كنت تظنين أن ثمة إبرة في الدرج، فهذا غير صحيح.»
ترد: «ليس من شأني على الإطلاق أن أعرف ما كان في الدرج.» «كل ما كان هناك هو بعض المسكنات والمهدئات وبعض الحشيش.»
تتذكر شجارا مع كورنيليس، شجارا كاد أن يفضي إلى فسخ خطبتهما. لم تكن هذه هي المرة التي صفعها على وجهها فيها لتدخينها الماريجوانا. استطاعا تجاوز ذلك سريعا. لم يكن الأمر يتعلق بأي شيء في حياتهما. كانا يتحدثان عن رجل كان كورنيليس يعمل معه في المنجم، وزوجته وطفلهما المعاق ذهنيا. قال كورنيليس: إن هذا الطفل كان متخلفا، وكان كل ما يفعله هو التحدث بكلام غير مفهوم في مكان منعزل بأحد أركان غرفة المعيشة والتبرز في بنطاله. كان الطفل يبلغ من العمر ستة أو سبعة أعوام، وكان ذلك هو كل ما كان يفعله. قال كورنيليس إنه يعتقد أن أي شخص لديه طفل كذلك له الحق في التخلص منه. قال إن ذلك ما كان سيفعله. لا مراء في ذلك. هناك طرق كثيرة يمكن من خلالها عمل ذلك والإفلات من العقاب، وراهن أن كثيرا من الناس يفعلون ذلك. تشاجر هو وبريندا شجارا عنيفا حول ذلك، لكن طوال وقت جدالهما وعراكهما كانت بريندا تشك في أن هذا شيئا لم يكن كورنيليس ليفعله حقيقة. كان شيئا عليه أن يقول إنه سيفعله. يقوله لها. بالنسبة إليها، كان عليه أن يصر أنه سيفعل هذا، وهو ما جعلها تغضب أكثر منه مما لو كانت تعتقد أنه صادق تماما ومباشر بشكل قاس فيما يقول. أرادها أن تناقش معه هذا الأمر. أراد أن يرى اعتراضها، رعبها. ولم ذلك؟ يريد الرجال أن يختلقوا أمورا من لا شيء، مثل التخلص من طفل معاق ذهنيا، أو تعاطي المخدرات، أو قيادة السيارات بسرعة وطيش شديدين. ولم ذلك؟ حتى يتباهوا بإظهار طبيعتهم القاسية المصطنعة إزاء طيبتك الأنثوية الغضة؟ حتى يستسلموا لك في النهاية متبرمين، ولا يكون عليهم أن يتظاهروا بالسوء والطيش بعد ذلك؟ مهما كان من أمر، فأنت تسأمين من ذلك.
في حادث المنجم، كان من الممكن أن يسحق كورنيليس حتى الموت. كان يعمل في الدوام الليلي عندما وقعت الحادثة. يحفر قطع سفلي في الجدران الكبيرة للصخور الملحية، ثم تحفر ثقوب لوضع المتفجرات فيها، ثم تركب وصلات المتفجرات؛ حيث يقع انفجار كل ليلة قبل خمس دقائق من منتصف الليل. تتفكك شريحة الملح الهائلة، لتبدأ رحلتها إلى السطح. رفع كورنيليس في قفص في نهاية ذراع رافعة. كان عليه أن يزيل المادة المتكسرة الموجودة على السقف ويثبت الوصلات في مكانها من أجل تنفيذ عملية التفجير. حدثت مشكلة في أدوات التحكم الهيدروليكية التي كان كورنيليس يشغلها. توقف كورنيليس في مكانه، وحاول إعادة تشغيلها لكن تيارا زائدا تسبب في جعله يندفع في قوة إلى الأعلى، بحيث رأى السقف الصخري يطبق عليه مثل غطاء. خفض رأسه، وتوقف القفص، وصدمه نتوء صخري في ظهره.
كان كورنيليس قد عمل في المنجم مدة سبعة أعوام قبل هذه الحادثة، وكان بالكاد يتحدث إلى بريندا عن طبيعة العمل فيه. ها هو الآن يخبرها. يقول: إن هذا عالم قائم بذاته، كهوف وأعمدة، تمتد أميالا تحت البحيرة. إذا دخلت ممرا لا توجد معك آلات تضيء الجدران الرمادية - الهواء المليء بالغبار الملحي - وأغلقت مصباح الرأس، فستعرف معنى الظلام على حقيقته؛ الظلام الذي لا يراه الأشخاص الموجودون على سطح الأرض أبدا. تبقى الآلات في الأسفل إلى الأبد. يجري تجميع بعضها في الأسفل، تؤخذ إلى الأسفل في أجزاء، ويجري تركيبها جميعا بالأسفل، وأخيرا، يجري فحصها جيدا للحصول على الأجزاء الصالحة للاستخدام فيها قبل خروجها من الخدمة، ثم يجري وضعها في ممر مغلق، والذي يعد بمثابة مقبرة لهذه الآلات. تصدر هذه الآلات ضوضاء هائلة عندما تعمل، وتشوش الضوضاء التي تصدر عنها وعن مراوح التهوية على أي صوت إنساني. والآن توجد آلة جديدة تستطيع القيام بما ذهب كورنيليس في القفص لعمله؛ تستطيع تلك الآلة تنفيذ العمل بمفردها، دون تدخل من إنسان.
لا تعرف بريندا ما إذا كان يتوق إلى العمل بالمنجم. إنه يقول لا. يقول إنه لا يستطيع النظر إلى سطح الماء دون أن يتصور كل شيء تحته، وهي أشياء لا يستطيع أحد لم يرها أن يتخيلها. •••
يسير نيل وبريندا بالسيارة تحت الأشجار، حيث لا تكاد تشعر بالرياح على الإطلاق.
يقول نيل: «بالمناسبة، أخذت بعض المال. حصلت على أربعين دولارا، وهي - مقارنة ببعض ما حصل عليه الصبية الآخرون - شيء لا يذكر. أقسم أن هذا هو كل شيء، أربعين دولارا. لم أحصل على أكثر من ذلك.»
لم تنبس ببنت شفة.
يقول: «لم أكن أتوقع أن أعترف بالأمر. كنت فقط أريد أن أتحدث عنه، ثم إن ما يضايقني هو أنني كذبت على أي حال.»
الآن تستطيع أن تسمع صوته بصورة أفضل، وتلاحظ أن صوته على وتيرة واحدة ومتعب مثل صوتها. ترى يديه على عجلة القيادة وتفكر في مدى صعوبة محاولة وصف كيف يبدو. من على بعد - في السيارة، منتظرا إياها - يبدو دوما شيئا براقا يخطف الأبصار، حضوره بارز وواعد. عند الاقتراب منه، يمتلك بعض المناطق المتعارضة؛ بشرة حريرية أو خشنة، شعر منتصب أو ذقن حليقة بها بعض الشعيرات، روائح فريدة أو مشتركة مع رجال آخرين. لكن هناك نوع من الحيوية؛ صفة فيه تراها في أصابعه القصيرة البليدة، أو الانحناءات الضاربة إلى السمرة في جبهته، وحتى تسمية ذلك بحيوية لا يعتبر وصفا دقيقا؛ يعتبر ذلك مثل طاقة تنبعث منه، تصعد من الجذور، واضحة ومتحركة، تملؤه كله. هذا هو ما أرادت أن تتبعه؛ الطاقة، التيار، تحت الجلد، كما لو كان ذلك هو الشيء الوحيد الحقيقي.
إذا حولت بصرها إلى جانبها الآن، فستراه على حقيقته؛ تلك الجبهة المنحنية الضاربة إلى السمرة، الحافة المتراجعة من شعر بني متجعد، وحواجب ثقيلة بها بعض الشعر الرمادي، عينان عميقتان لونهما فاتح، وفم طلق، متجهم وأبي. رجل صبياني آخذ في الكبر، على الرغم من أنها لا تزال تشعر بخفته وحيويته، وهو يعلوها عندما يضاجعها، في مقابل جسد كورنيليس الذي يقبع فوقها في امتلاك، مثل أطنان من الأغطية. مسئولية، هكذا تشعر بريندا حينها. هل ستشعر بالمثل حيال هذا الرجل أيضا؟
يستدير نيل بالسيارة، ويشير إلى أنها الآن مستعدة للعودة، وأن الوقت قد حان لها كي تخرج من السيارة وتذهب إلى شاحنتها. يرفع يديه عن عجلة القيادة أثناء دوران المحرك، ويحرك أصابعه، ثم يمسك بعجلة القيادة بقوة مرة أخرى، بقوة شديدة، حتى تكاد تظنها تنفجر. يقول: «يا إلهي! لا تخرجي من السيارة الآن! لا تخرجي من السيارة!»
لم تضع حتى يدا على مقبض الباب، لم تبادر بحركة تشير إلى انصرافها. ألا يعرف ما يجري؟ ربما يحتاج المرء إلى المرور بخبرة الدخول في الكثير من المعارك الزوجية حتى يفهم الأمر، حتى يعرف أن ما تفكر في أنه النهاية - ولفترة ما تأمل ذلك - بالنسبة إليك، ربما لا يمثل إلا بداية مرحلة جديدة، استمرار للعلاقة. هذا هو ما يحدث، هذا ما قد حدث. لقد فقد بعض بريقه بالنسبة إليها، وربما لا يستطيع استرجاعه أبدا. ربما ينطبق الأمر نفسه بالنسبة إليها معه. تشعر بوطأة ثقله وغضبه ومفاجأته، تشعر بذلك أيضا في نفسها. تعتقد أن الأمر كان حتى الآن جيدا.
مينسيتونج
1
زهور الحوض، والزهور الدموية،
والبرجموت البري،
نجمع منها ملء الذراعين،
ونمضي غير عابئين.
يسمى الكتاب «عطايا». مكتوب عنوانه بحروف ذهبية على غلاف أزرق باهت، وأسفل منها اسم المؤلفة بالكامل: ألميدا جوينت روث. أشارت الجريدة المحلية «فيديت» إليها باعتبارها «شاعرتنا». يبدو أن ثمة مزيجا من الاحترام والازدراء، لعملها وجنسها، أو للوضع المتوقع من هذا. توجد صورة فوتوغرافية في واجهة الكتاب، واسم المصور في أحد الأركان، والتاريخ: 1865. نشر الكتاب لاحقا، في عام 1873.
للشاعرة وجه طويل، أنف طويل نسبيا، عينان داكنتان شجيتان، تبدو على استعداد للانحدار على وجنتيها مثل دموع عملاقة، وكثير من الشعر الداكن ينسدل حول وجهها في لفائف متدلية. هناك مسحة بارزة من الشعر الرمادي، على الرغم من أنها في هذه الصورة كانت لا تزيد عن خمسة وعشرين عاما. هي ليست فتاة جميلة لكنها من نوع النساء اللائي ربما يكبرن في صحة وجمال، ولا يسمن أبدا. ترتدي فستانا أو سترة داكنة اللون بها ثنايات ومزينة بزركشة مضفرة، وزخارف شريطية، مرنة من قماش أبيض - كشكشة أو عقدة - تملأ منطقة فتحة الرقبة. ترتدي قبعة أيضا، قد تكون مصنوعة من القطيفة، بلون داكن لتتلاءم مع الفستان. قبعة غير مزركشة، لا شكل لها، شيء مثل بيريه لين، وهو ما يجعلني أرى مقاصد فنية، أو على الأقل غرابة خجولة وعنيدة، في هذه المرأة الشابة التي يشير عنقها الطويل ورأسها المائل إلى الأمام أيضا إلى أنها طويلة القامة، هيفاء، وصعبة المراس إلى حد ما. من خصرها إلى أعلى، تبدو مثل أحد النبلاء الشباب من زمن آخر. ربما كانت هذه موضة تلك الأيام.
كتبت في مقدمة كتابها: «في عام 1854، جاء بنا والدي - أمي، وأختي كاثرين، وأخي ويليام، وأنا - إلى كندا الغربية (مثلما كانت تسمى آنذاك). كان أبي يتخذ صناعة السروج مهنة له، لكنه كان رجلا مثقفا يستطيع الاستشهاد عن ظهر قلب من الكتاب المقدس، وأعمال شكسبير، وكتابات إدموند بيرك. راجت صناعته في هذه الأراضي الجديدة واستطاع تأسيس متجر سروج ومنتجات جلدية، وبعد عام استطاع بناء بيت مريح أعيش فيه (وحيدة) الآن. كنت أبلغ من العمر أربعة عشر عاما، أكبر الأبناء، عندما جئنا إلى هذه الأنحاء قادمين من كينجستون، وهي مدينة أتذكر شوارعها الأنيقة كثيرا وإن لم أرها مجددا. كانت أختي تبلغ من العمر أحد عشر عاما وأخي تسعة أعوام. عند حلول الصيف الثالث الذي عشنا أثناءه هنا، أصيب أخي وأختي بحمى كانت منتشرة آنذاك، وقضى كلاهما نحبه لا يفصل موت أحدهما عن الآخر إلا أيام قليلة. لم تستطع أمي أن تستعيد قواها بعد هذه الطامة التي أصابت عائلتنا. تدهورت صحتها، وبعد ثلاث سنوات أخرى ماتت هي الأخرى. صرت بعدها قائمة على شئون المنزل لأبي، وكنت سعيدة لقيامي بذلك مدة اثني عشر عاما، حتى مات فجأة ذات صباح في متجره.
منذ نعومة أظفاري، كنت مغرمة بالشعر، وشغلت نفسي - وفي بعض الأحيان كنت أخفف من أحزاني، التي لم تكن في نظري أكثر مما يمكن أن يصادفه أي شخص يعيش على هذه الأرض - من خلال محاولاتي المتعثرة العديدة لقرضه. لم تكن أصابعي بارعة بما يكفي، حقا، لأعمال الكروشيه، كما تأكدت من عدم مهارتي في صنع المنتجات المبهرة المطرزة التي يراها المرء كثيرا اليوم - التي عليها صور سلال الفواكه والزهور الممتلئة، والصبية الهولنديين الصغار، والفتيات المرتديات قبعات حاملات أوعية رش الزهور - لذا، أقدم بدلا من ذلك كنتاج لأوقات فراغي، ما يلي من أبيات شعر عفوية، وقصائد قصصية، وثنائيات شعرية، وتأملات.»
ها هي عناوين بعض القصائد: «الأطفال في ألعابهم»، و«سوق الغجر»، و«زيارة إلى عائلتي»، و«ملائكة في الجليد»، و«تشامبلين عند مصب نهر مينسيتونج»، و«موت الغابة العجوز»، و«مزيج حديقة». هناك قصائد أخرى أقصر، حول الطيور والزهور البرية والعواصف الثلجية . هناك بعض الشعر الهزلي حول ما يفكر الناس فيه عند استماعهم إلى العظة في الكنيسة. «الأطفال في ألعابهم»: الكاتبة، طفلة، تلعب مع أخيها وأختها، واحدة من تلك الألعاب التي يحاول الأطفال على الجانبين المتنافسين استدراج وإمساك بعضهم بعضا. تستمر الكاتبة في اللعب في ضوء الشفق الآخذ في الإظلام، حتى تدرك أنها وحدها، وقد كبر سنها. لا تزال تسمع الأصوات (الشبحية) لأخيها وأختها يناديان: «تعال، تعال، دع ميدا تأت.» (ربما كان يطلق على ألميدا ميدا بين أفراد العائلة، أو ربما اختصرت اسمها حتى يتلائم مع القصيدة.) «سوق الغجر»: يعيش الغجر في مكان قرب المدينة، «سوق» يبيعون فيه الملابس والحلي، وتخشى الكاتبة كطفلة صغيرة أن يسرقها الغجر، وأن يأخذوها بعيدا عن عائلتها. بدلا من ذلك، أخذت عائلتها منها، سرقها مجموعة من الغجر التي لا تستطيع العثور عليهم أو التفاوض معهم على عودة عائلتها. «زيارة إلى عائلتي»: زيارة إلى المقابر، حوار من طرف واحد. «ملائكة في الجليد»: علمت الكاتبة أخاها وأختها ذات مرة طريقة صنع «الملائكة» من خلال الرقود في الجليد وتحريك ذراعيهما في شكل أجنحة. كان أخوها يقفز دوما في غير اكتراث، صانعا ملاكا مشلول الجناح. هل سيصبح هذا الملاك كاملا في السماء، أم هل سيطير بجناح بديل، في شكل دائري؟ «تشامبلين عند مصب نهر مينسيتونج»: تحتفي هذه القصيدة بالاعتقاد الشائع، غير الصحيح، الذاهب بأن المستكشف أبحر في اتجاه الشاطئ الشرقي من بحيرة هورون وبلغ مصب النهر العظيم هذا. «موت الغابة العجوز»: قائمة بجميع الأشجار - أسمائها، وشكلها، واستخداماتها - التي جرى قطعها في الغابة الأصلية، مع وصف عام للدببة، والذئاب، والعقبان، والغزلان، والطيور المائية. «مزيج حديقة»: ربما جرى وضعها كقصيدة قرينة لقصيدة الغابة. تعرض قائمة بالنباتات المجلوبة من دول أوروبية، مع بعض شذرات تاريخية وأسطورية، مع عرض للطابع الكندي للغابة الناتج عن هذا المزيج.
القصائد مكتوبة في رباعيات أو ثنائيات. هناك محاولتان لكتابة القصائد القصصية، قافيتها بسيطة،
a b a b
أو
a b c b . القافية المستخدمة هي ما كان يطلق عليها «مذكرة»
shore/before ، على الرغم من استخدام قافية «مؤنثة»
quiver/river . هل لا تزال هذه المصطلحات مستخدمة إلى الآن؟ فلا توجد قصيدة غير مقفاة.
2
الورود البيضاء باردة كالثلج
تزهر حيث يرقد هؤلاء «الملائكة».
هل يبقون هنا على الأرض،
أم يطيرون في ملكوت الرب العجيب؟
في عام 1879، كانت ألميدا روث لا تزال تعيش في المنزل الواقع على ناصية شارعي بيرل ودوفرين، المنزل الذي كان والدها قد بناه لعائلته. لا يزال المنزل موجودا اليوم، يعيش صاحب متجر الكحوليات فيه. تغطى جوانب المنزل بألواح من الألومنيوم، وحل رواق مغلق محل الشرفة. سقيفة الحطب، السياج، البوابات، الحمام الخارجي، الإسطبل، كل ذلك لم يعد موجودا. تظهر صورة التقطت في ثمانينيات القرن التاسع عشر جميع هذه الأشياء في مواضعها. يبدو المنزل والسياج متهالكين بعض الشيء، في حاجة إلى طلاء، لكن ربما يرجع ذلك إلى الشكل الباهت للصورة الفوتوغرافية الضاربة للون البني. تبدو النوافذ ذات الستائر الشريطية مثل العيون البيضاء. لا توجد شجرة ظليلة كبيرة على مرمى البصر، وفي حقيقة الأمر، صارت أشجار الدردار الطويلة - التي كانت تلقي بظلالها على المدينة حتى خمسينيات القرن العشرين، فضلا عن أشجار الإسفندان التي تظللها الآن - أشجارا صغيرة نحيفة تسورها سياجات خشنة لحمايتها من الأبقار. في غياب ظلال تلك الأشجار، توجد مساحات مكشوفة تماما - أفنية خلفية، وحبال غسيل، وأكوام خشب، وسقائف مرقعة، وإسطبلات، وحمامات خارجية - مشهد عار تماما، ومكشوف، وشائع. لا توجد سوى منازل قليلة يوجد بها ما يشبه الحديقة، بل مجرد رقعة من موز الجنة وكثيبات نمل والبقايا الناتجة عن تقليب وتسوية الأرض. ربما تنمو بعض زهور البتونيا فوق جذل شجرة، في صندوق مستدير. الطريق الرئيسي فقط مفروش بالحصى، بينما لا تعدو الشوارع الأخرى عن طرق غير ممهدة، موحلة أو ترابية وفق فصول السنة. يجب أن تسيج الأفنية لإبعاد الحيوانات عن البيوت. وتعقل الأبقار في أراضي خالية أو تترك لترعى في أفنية خلفية، لكن في بعض الأحيان تهرب الأبقار. تهرب الخنازير أيضا، وتتجول الكلاب في حرية أو تغفل بطريقة متعالية على الممرات. لقد ترسخت جذور للمدينة، ولن تختفي، إلا أنها صارت تبدو كمخيم. وكما هو الحال في أي مخيم، فهي مزدحمة دوما؛ مليئة بالناس الذين يسيرون عادة داخل المدينة حيث يشاءون؛ مليئة بالحيوانات، التي تخلف روث خيول، وفضلات أبقار، وبراز كلاب، ترفع السيدات تنوراتهن لتفاديها؛ وممتلئة بضجيج المباني والسائقين الذين يصيحون في جيادهم وضجيج القطارات التي تجيء إلى المدينة عدة مرات يوميا.
أقرأ عن تلك الحياة في جريدة «فيديت».
كانت شريحة الشباب ضمن السكان أكبر مما هي عليه الآن، ومما ستكون عليه مستقبلا في أي وقت. لا يأتي الأشخاص الذين تخطوا عمر الخمسين إلى مكان جديد، غير مجهز. هناك عدد قليل إلى حد ما من الأشخاص مدفونون في المقابر، لكن مات معظمهم صغيرا في حوادث، أو أثناء الولادة، أو بسبب الأوبئة. يسود الشباب المدينة الآن. يطوف الأطفال - الصبية - في الشوارع في مجموعات. الذهاب إلى المدرسة إجباري فقط مدة أربعة أشهر سنويا، وهناك الكثير من الأعمال المؤقتة التي يستطيع طفل في الثامنة أو التاسعة أن يقوم بها، مثل جمع الكتان، ورعاية الجياد، وتوصيل البقالة، وتنظيف الممرات أمام المتاجر. يقضي الأطفال وقتا كبيرا يبحثون عن المغامرات. في أحد الأيام، تتبعوا امرأة عجوزا مخمورة تكنى كوين آجي، ووضعوها في عربة يد وداروا بها حول المدينة، ثم ألقوها في مصرف لإفاقتها. يقضون أيضا وقتا طويلا في محيط محطة السكك الحديدية؛ يقفزون بين عربات القطار، ويتحدون بعضهم بعضا في المخاطرة بذلك، وهو ما يؤدي من حين إلى آخر إلى إحداث عاهة بأحدهم أو قتله. ويراقبون أي غرباء يأتون إلى المدينة؛ يتبعونهم، يعرضون مساعدتهم وحمل حقائبهم، ويوصلونهم (مقابل خمسة سنتات) إلى أحد الفنادق. أما الغرباء غير الموسرين، فيتعرضون للإهانة والتوبيخ. تحيط التخرصات بجميع الغرباء، مثل سحابة من الذباب. هل يأتون إلى المدينة لبدء أعمال جديدة، لإقناع أهل المدينة بالاستثمار في أحد المشاريع، لبيع الأدوية أو الأدوات الجديدة، لإلقاء المواعظ على نواصي الشوارع؟ تجري هذه الأشياء في أي يوم من أيام الأسبوع. خذ حذرك، هكذا تحذر جريدة «فيديت» الناس، هناك احتمالات لاقتناص الفرص وأخرى للتعرض للخطر. يجوب الطرق - خاصة السكك الحديدية - متشردون، ومحتالون، وباعة جائلون نصابون، وأفاقون، ولصوص. يجري الإعلان عن السرقات: تستثمر الأموال ولا يراها أصحابها مرة ثانية، بنطال يسرق من حبل غسيل، وخشب من كومة أخشاب، وبيض من حظيرة دجاج، ولا يعاد كل ذلك ثانية. تزداد مثل هذه الحوادث في الجو الحار.
يتسبب الطقس الحار في حوادث أيضا؛ تهتاج كثيرا من الجياد، وتقلب العربات التي تقودها. تعلق الأيادي في آلات العصر أثناء الغسيل، وينشطر رجل إلى نصفين في مصنع قطع الأخشاب، ويقتل طفل يقفز عند سقوط قطع خشب في فناء الأخشاب. لا ينام أحد جيدا. يصاب الأطفال بالجفاف بسبب حالات الإسهال الصيفي الشديدة، ولا يستطيع البدناء التقاط أنفاسهم بسهولة. يجب أن تورى الأجساد الثرى بسرعة. ذات يوم، يتجول رجل في الشوارع ويقرع جرس بقرة وينادي قائلا: «توبوا! توبوا!» ليس هذا رجلا غريبا هذه المرة، بل شاب يعمل لدى الجزار. خذوه إلى المنزل، لفوه في ملابس مبللة باردة، وأعطوه دواء مهدئا للأعصاب، واجعلوه يلزم الفراش، وصلوا من أجل شفاء عقله. إذا لم يتعاف، فيجب أن ينقل إلى مستشفى الأمراض العقلية.
يواجه منزل ألميدا روث شارع دوفرين، وهو شارع راق بعض الشيء. في هذا الشارع، يمتلك تجار وصاحب مصنع ومسئول آبار ملحية منازلهم الخاصة، لكن شارع بيرل، الذي تطل عليه نوافذ منزلها الخلفية وتفتح البوابة الخلفية للمنزل عليه، يختلف تماما عنه. تجاور منازل العمال منزلها. صف من المنازل الصغيرة لكن المحترمة المتشابهة المتلاصقة، وهو ما لا غبار عليه. تتدهور الأحوال مع الاتجاه نحو نهاية المربع السكني، ويصير المربع الأخير مؤسفا. لا يعيش فيه أحد إلا أفقر الأشخاص، الأشخاص غير المحترمين، الذين لا يستحقون المساعدة، هناك على حافة حفرة طينية (جرى تصريفها مذ ذاك)، تسمى مستنقع شارع بيرل. هناك تنمو الأعشاب الكثيفة والمتنامية، ويتم إنشاء أكواخ مؤقتة، وتتراكم أكوام من النفايات والحطام، وتتجمع مجموعات من الأطفال الأقزام، وتلقى المياه القذرة عبر الأبواب. تحاول المدينة أن تجبر هؤلاء الناس على بناء حمامات داخلية، لكنهم يذهبون إلى قضاء حاجتهم بين الأجمات. إذا قصدت مجموعة من الصبية شارع بيرل بحثا عن مغامرة، فيحصلون على الأرجح على أكثر مما كانوا يقصدونه. يقال إن مأمور المدينة لا يستطيع أن يذهب إلى شارع بيرل ليلة السبت. لم تتجاوز ألميدا روث صف المنازل المجاور لها أبدا. تعيش في أحد هذه المنازل فتاة صغيرة اسمها آني، التي تساعدها في تنظيف المنزل. لم تبلغ تلك الفتاة الصغيرة؛ نظرا لأنها فتاة محترمة، المربع الأخير من شارع بيرل أو المستنقع. لن تذهب أي امرأة محترمة إلى هناك أبدا.
على الرغم من ذلك، يمثل هذا المستنقع نفسه، الذي يقع إلى الشرق من منزل ألميدا روث، مشهدا رائعا عند الفجر. تنام ألميدا في الجزء الخلفي من المنزل. لا تزال تمكث في غرفة النوم نفسها التي كانت تشاركها فيها أختها كاثرين، لا تفكر في الانتقال إلى غرفة النوم الأمامية الكبيرة، حيث كانت أمها ترقد في الفراش طوال اليوم، والتي صارت لاحقا مكان إقامة والدها الوحيد. من نافذتها، تستطيع أن ترى الشمس تشرق، وضباب المستنقع يمتلئ بالضوء، وتتحرك الأشجار الكبيرة الأقرب إلى المستنقع عبر الضباب، وتتحول الأشجار الأبعد إلى لون شفاف. أشجار البلوط، والإسفندان اللينة، والتمرك، والجوز المر الخاصة بالمستنقع.
3
هنا حيث يلتقي النهر البحر الداخلي،
تنشر تنوراتها الزرقاء من الغابة المهيبة،
أفكر في الطيور والوحوش والرجال الميتين،
الذين تنتصب بيوتهم على هذه الرمال الشاحبة.
كان جارفيس بولتر أحد الغرباء الذين وصلوا إلى محطة السكك الحديدية قبل سنوات قليلة، وهو يعيش حاليا في المنزل المجاور لألميدا روث، لا يفصله عنها سوى أرض خالية اشتراها، في شارع دوفرين. المنزل أكثر بساطة من منزل روث، ولا يحتوي على أشجار فاكهة أو زهور مزروعة حوله. من المفهوم أن هذا يمثل نتيجة طبيعية لكون جارفيس بولتر أرملا ويعيش وحده. ربما يحافظ أي رجل على نظافة وترتيب بيته، لكنه أبدا - إذا كان رجلا بحق - لن يسرف في تزيينه. يجبر الزواج الرجل على أن يعيش وسط زينة وفي غمار عاطفة أكبر، ويحميه أيضا من شطحات طبيعته - من التقتير الشديد أو الكسل المترف، من القذارة، ومن النوم أو القراءة، الشرب، التدخين، أو العقلانية المفرطة.
بالنظر إلى المصلحة الاقتصادية، يعتقد أن أحد الرجال المحترمين في مدينتنا يواظب على جلب الماء من الصنبور العام، ويعمل على دعم مخزونه من الوقود من خلال التقاط الفحم المتناثر على خط السكك الحديدية. هل يفكر هذا الرجل في دفع مقابل ما أخذ إلى المدينة أو شركة السكك الحديدية، من خلال توريد الملح بشكل مجاني؟
هذه هي صحيفة «فيديت»، المليئة بالنكات الخبيثة والتعريض والاتهامات الصريحة، التي لا يمكن أن تمر بالنسبة إلى أي جريدة اليوم دون حساب. إنها تتحدث هنا عن جارفيس بولتر، على الرغم من الحديث عنه في احترام بالغ في مقاطع أخرى، باعتباره قاضيا مدنيا، رب عمل، وقسيسا. هو رجل متحفظ، هذا كل ما في الأمر. غريب الأطوار، إلى حد ما. وكل هذا ربما يرجع إلى وحدته، حياة الترمل التي يحياها. حتى ملؤه للماء بنفسه من صنبور المدينة وملؤه لدلو الفحم من خط السكك الحديدية. إنه مواطن كريم، ميسور الحال: رجل طويل - ممتلئ الجسم قليلا؟ - يرتدي حلة سوداء وحذاء لامع عالي الرقبة. هل له لحية؟ ذو شعر أسود به مسحة من الشعر الرمادي. له هيئة صارمة وواثقة، وبثرة كبيرة شاحبة اللون وسط الشعر الكث لأحد حاجبيه؟ يتحدث الناس عن زوجة شابة جميلة حبيبة، ماتت أثناء الوضع أو بسبب حادث مريع، مثل حريق في المنزل أو حادث قطار مروع. لا يوجد أي أساس لهذه الأقاويل، لكنها تثير الفضول أكثر حوله. كل ما قاله الرجل لهم إن زوجته ماتت.
أتى إلى هذا الجانب من البلاد بحثا عن النفط. كان أول آبار النفط على الإطلاق التي جرى اكتشافها في العالم في مقاطعة لامتون، إلى الجنوب من هنا، في خمسينيات القرن التاسع عشر. بحثا عن النفط، اكتشف جارفيس بولتر الملح. شرع في العمل على اكتشاف الملح لتحقيق أقصى ربح منه. عندما يذهب إلى المنزل عائدا من الكنيسة بصحبة ألميدا روث، يخبرها عن آبار الملح التي يمتلكها. تبلغ ألفا ومائتي قدم عمقا . يجري ضخ المياه الساخنة إليها، وهو ما يسهم في إذابة الملح. ثم يجري ضخ الماء المالح إلى السطح، الذي يجري صبه في أواني تبخير هائلة موضوعة فوق نيران بطيئة ثابتة، بحيث يجري تبخير الماء ويبقى الملح الصافي عالي الجودة. هذه سلعة لن يتوقف الطلب عليها أبدا.
تقول ألميدا: «ملح الأرض!»
يقول، مقطبا: «نعم.» ربما يعتقد أن ذلك ينطوي على إهانة له. لم تكن تقصد ذلك. يتحدث عن المنافسين في المدن الأخرى الذين يسيرون على نهجه ويحاولون الاستيلاء على أكثر من حصتهم في السوق. لحسن الحظ، آبارهم غير محفورة إلى أعماق سحيقة، ولا تجري عمليات التبخير لديهم على نحو فعال. وبينما يوجد ملح في كل مكان تحت هذه الأرض، لا يسهل استخراجه كما يظن البعض.
تقول ألميدا: ألا يعني هذا أنه كان هناك بحر عظيم هنا في وقت سابق؟
يرد جارفيس بولتر: إن هذا جائز جدا، جائز جدا. يستمر في الحديث مخبرا إياها عن مشاريع أخرى له، مصنع طوب، فرن حجر جيري. ويشرح لها طريقة عمل ذلك، ويشير إلى أماكن وجود الطفلة الجيدة. يمتلك أيضا مزرعتين، تزود الأخشاب فيهما العمليات اللازمة لصناعاته بالوقود.
بين الأزواج السائرين على مهل إلى المنزل من الكنيسة صبيحة يوم أحد قريب مشمس، لاحظنا رجلا معروفا يعمل في صناعة الملح وأديبة، ربما ليسا في ريعان شبابهما، لكنهما مع ذلك لا تظهر عليهما علامات الكبر. هل نخمن من هما؟
تظهر أخبار كتلك طوال الوقت في صحيفة «فيديت».
هل يخمنون من هما، وهل يعني هذا وجود علاقة بينهما؟ تمتلك روث بعض المال الذي تركه والدها لها، ولديها منزلها. ليست كبيرة في السن بحيث لا يمكنها إنجاب طفلين. هي ربة منزل ممتازة، تستطيع صنع الكعك المثلج المطعم والفطائر المحلاة بمهارة عالية، والتي غالبا ما لا تجدها إلا في السيدات الأكبر سنا. (إشارة توقير لها في معرض الخريف.) لا يوجد ثمة ما يعيب مظهرها، وهي أجمل من معظم النساء المتزوجات في مثل عمرها، فلم يثقل كاهلها بعد بالأعمال المنزلية والأطفال. لكن لم مر قطار الزواج عليها خلال سنوات حياتها الأولى التي كان يمكن أن تتزوج فيها، في بلد يريد من النساء أن يكن متزوجات ومنجبات؟ كانت فتاة كئيبة إلى حد ما، ربما كانت تلك هي المشكلة. أثر موت أخيها وأختها، ثم أمها، التي طار صوابها - في حقيقة الأمر - قبل عام من وفاتها، وكانت ترقد في فراشها تتفوه بالترهات؛ كل هذا أثر عليها ولم تكن صحبة جيدة. أضف إلى هذا كل هذه القراءة والشعر - بدا ذلك مثل عقبة، عائق، هاجس، لدى فتاة شابة أكثر مما هو لدى امرأة في منتصف العمر، التي كانت تحتاج إلى شيء في النهاية حتى تشغل أوقاتها. على أي حال، مرت خمس سنوات منذ نشر كتابها؛ لذا ربما تخطت هذه المرحلة. ربما كان الأب الفخور، المطلع هو الذي كان يشجعها؟
يسلم الجميع جدلا أن ألميدا روث ترى في جارفيس بولتر زوجا مناسبا لها، وستوافق إذا طلب منها الزواج. وهي تفكر فيه. لا ترغب أن ترتفع بآمالها إلى أبعد الآفاق، ولا ترغب في أن تجعل نفسها أضحوكة. ترغب في إشارة. إذا كان يأتي إلى الكنيسة في أمسيات الآحاد، فستكون ثمة فرصة، خلال بعض شهور السنة، للعودة إلى المنزل بعد حلول الظلام. سيحمل مصباحا. (لا توجد بعد إضاءة في شوارع المدينة.) سيؤرجح المصباح لإنارة الطريق أمام الآنسة الكريمة ويلاحظ قوامها النحيف الرقيق. ربما يمسك بذراعها عند نزولهما عن الرصيف. لكنه لا يذهب إلى الكنيسة ليلا.
بل إنه لا يناديها، أو يصحبها إلى الكنيسة في صباح الآحاد. سيكون هذا بمثابة إعلان. يصحبها إلى المنزل، مرورا ببوابة منزله، يرفع قبعته، ثم يتركها. لا تدعوه إلى منزلها؛ فلا تستطيع امرأة تعيش وحدها أن تفعل ذلك أبدا. بمجرد أن يصبح رجل وامرأة من أي عمر وحدهما بين أربعة جدران، من المفترض أن يحدث أي شيء؛ مشاعر ملتهبة عفوية، شهوة فجائية، رغبة متوحشة، انتصار الحواس. أي احتمالات لا بد أن يراها الرجال والنساء بعضهم في بعض لاستنباط هذه الأخطار، أو بالاعتقاد في وجود أخطار، كم مرة يجب أن يفكروا في الاحتمالات؟
عندما يسيران جنبا إلى جنب، تستطيع أن تشم صابون وزيت الحلاقة خاصته، تبغ غليونه، رائحة صوف وكتان وجلد الملابس الرجالية التي يرتديها. تشبه الملابس المناسبة، المهندمة، الثقيلة التي يرتديها تلك التي اعتادت أن تنظفها بالفرشاة وتنشيها وتكويها لوالدها. تفتقد عمل ذلك؛ امتنان والدها، سلطته الأبوية العميقة العطوفة. تجعل ملابس جارفيس بولتر ورائحته وحركاته جميعا الجلد على جانب جسدها المجاور له يقشعر أملا، وتؤدي أي ارتعاشة خفيفة إلى وقوف الشعر في ذراعيها. هل يمكن أن يعتبر ذلك علامة على الحب؟ تتصوره يأتي إلى غرفتها - غرفتهما - في لباسه الداخلي الطويل وقبعته. تعلم أن ملابسه هذه مثيرة للسخرية، لكنه لا يبدو كذلك في عقلها، فهو يحظى بصورة الوقاحة الجليلة لشخص يظهر في حلم. يدخل الغرفة، ويرقد على الفراش إلى جوارها، مستعدا لأخذها في أحضانه. أسيخلع قبعته؟ لا تعرف؛ حيث تتغلب عليها عند هذه النقطة حالة من الترحاب والخضوع، آهة مكبوتة. سيكون زوجها.
شيئا واحدا لاحظته بشأن النساء المتزوجات؛ ألا وهو طريقة تكوين كثيرات لصور محددة لأزواجهن. يبدأن بتحديد تفضيلات أزواجهن، وآراءهم، وطرقهم السلطوية. تقلن مثلا، زوجي مميز جدا. زوجي لا يأكل اللفت. لا يأكل اللحم المحمر. (أو لا يأكل إلا اللحم المحمر.) يفضل اللون الأزرق (البني) في ملابسه طوال الوقت. لا يستطيع احتمال موسيقى الأرغن. يكره أن يرى امرأة تخرج وهي مكشوفة الرأس. سيقتلني إذا دخنت بعض التبغ. على هذا النحو، يجري صنع صورة رجال غير واثقين، لا يرون إلا أنفسهم، يجري صنع أزواج، أرباب بيوت. لا تستطيع ألميدا روث تخيل نفسها تفعل ذلك. تريد رجلا لا يحتاج أن يصنع، رجلا حازما وواثقا وغامضا بالنسبة إليها. لا تبحث عن رفقة. يبدو الرجال - عدا والدها - ناقصين على نحو ما، تنقصهم العاطفة. لا شك في أن ذلك ضروري، بحيث يقومون بما يجب عليهم القيام به. هل ستكتشف هي نفسها، مع معرفتها بوجود ملح في الأرض، طريقة استخراجه وبيعه؟ ليس على الأرجح. ستفكر في البحر القديم. لا يملك جارفيس بولتر ، مثلما هو متوقع تماما، وقتا لتأمل مثل هذه التخرصات.
وبدلا من أن يصطحبها بولتر إلى الكنيسة، يتقدم بفكرة أخرى أكثر جرأة. ربما يستأجر جوادا ويأخذها في نزهة في الريف. إذا فعل ذلك، فستشعر بالسرور والأسف معا؛ بالسرور لأنها تجلس إلى جانبه، يقودها، تتلقى انتباهه أمام العالم بأسره. وبالأسف لعدم قدرتها على تأمل المناظر الريفية بنفسها؛ حيث ستتغلف نظرتها إليها، بطريقة ما، بحديثه واهتماماته. يحتاج الريف الذي تكتب عنه في قصائدها إلى مثابرة وعزم في تأمله. يجب تجاهل بعض الأشياء. أكوام الروث، بالطبع، والحقول السبخية الممتلئة بأجذال الأشجار العالية المحترقة، والأكوام الهائلة من أغصان الأشجار في انتظار يوم مناسب لحرقها. سوي الاعوجاج في الجداول، وتحولت إلى مصارف ذات ضفاف مرتفعة موحلة. وبينما سور بعض حقول المحاصيل والمراعي بأجذال أشجار كبيرة، غير مشذبة، مقتلعة، سورت مزارع ومراع أخرى بسياجات غير مصقولة مصنوعة من قضبان سكة حديد موصولة بعضها ببعض. أعيد زرع كل الأشجار الموجودة في الأحراج؛ لذا فهي تعد زرعة ثانية. لا توجد أشجار بحذاء الطريق أو الممرات الضيقة أو حول المزارع، ما عدا بضع أشجار صغيرة هزيلة، جرى زراعتها حديثا. يجري البدء في بناء مجموعات من المخازن الخشبية - المخازن الكبرى التي ستنتشر في الريف في السنوات المائة التالية - ومنازل خشبية كئيبة، وكل أربعة أو خمسة أميال توجد قرية صغيرة مهلهلة تضم كنيسة ومدرسة ومتجرا ودكان حدادة. ريف نقي جرى انتزاعه انتزاعا من الغابة، لكنه يعج بالناس. توجد مزرعة كل مائة فدان، تحظى كل مزرعة بعائلة، تمتلك معظم العائلات عشرة أو اثني عشر طفلا. (هذه هي الأراضي التي سيخرج منها أمواج تلو أمواج من المستوطنين - بدأت بالفعل في إرسال المستوطنين - إلى شمال أونتاريو والغرب.) صحيح أن بإمكان المرء جمع الزهور البرية في الربيع من الأحراج، غير أن على المرء أن يخوض في قطعان من الأبقار القرناء للوصول إليها.
4
رحل الغجر.
موضع معسكرهم خال.
أوه، سأساوم الآن في ثقة
في سوق الغجر.
تعاني ألميدا إلى حد كبير من الأرق، ووصف لها الطبيب مستحضرات بروميد وأدوية مهدئة للأعصاب. تتناول البروميد، لكن قطراته تجعلها تحلم أحلاما حية ومزعجة جدا؛ لذا نحت الزجاجة جانبا لتستخدمها في حالات الطوارئ فقط. أخبرت الطبيب أنها تشعر بأن مقلتي عينيها جافتان، مثل الزجاج الساخن، وأن مفاصلها تؤلمها. طلب منها ألا تقرأ كثيرا، وألا تجلس إلى المكتب كثيرا، وأن تشغل نفسها بأعمال المنزل وتمارس التمارين الرياضية. يعتقد أن مشاكلها الصحية ستنتهي إذا تزوجت. يعتقد ذلك على الرغم من أن العقاقير المهدئة للأعصاب توصف لنساء متزوجات.
هكذا، تنظف ألميدا المنزل وتسهم في تنظيف الكنيسة، وتساعد أصدقاءها الذين يقومون بلصق ورق حائط أو يتأهبون للزفاف، وتخبز إحدى كعكاتها الشهيرة لنزهة يوم الأحد المدرسية. في يوم سبت حار في شهر أغسطس، تقرر صنع جيلي من الكرم. ستكون الدوارق الصغيرة من جيلي الكرم هدايا جميلة في الكريسماس، أو للمرضى، لكنها بدأت إعداد الجيلي في وقت متأخر من اليوم، ولم تنته منه بحلول الليل. في حقيقة الأمر، وضعت الثمار الساخنة في الكيس القماشي لتوها كي ينزل العصير منها. تحتسي ألميدا بعض الشاي، وتتناول قطعة من الكعك بالزبد (وهي أحد الأشياء التي تستمتع بها منذ طفولتها)، وهذا هو كل ما تحتاج إليه في العشاء. تغسل شعرها في الحوض وتغسل جسدها بالإسفنج حتى تصبح نظيفة يوم الأحد. لا تنير مصباحا. ترقد على الفراش والنافذة مفتوحة على مصراعيها ولا توجد سوى ملاءة تصل إلى وسطها، وتشعر شعورا رائعا بالإجهاد، بل وتشعر حتى بقليل من النسيم.
عندما تستيقظ، يبدو الليل شديد الحرارة ومليئا بالأخطار. ترقد متعرقة في فراشها، ويتولد لديها الانطباع بأن الضوضاء التي تسمعها هي أصوات سكاكين، ومناشير، وفئوس - كلها أدوات غاضبة تقطع وتطعن وتخرق رأسها. لكن هذا ليس صحيحا؛ مع استفاقتها أكثر، تميز الأصوات التي سمعتها من قبل في بعض الأحيان - شجار في أحد أيام السبت في الصيف في شارع بيرل. عادة، تتمحور أصوات الضوضاء حول أحد الشجارات. الناس مخمورة، وهناك الكثير من الصياح والتشجيع فيما يتعلق بالشجار، سيصرخ أحدهم قائلا: «جريمة قتل!» في إحدى المرات، كانت ثمة جريمة قتل، لكنها لم تقع خلال أحد الشجارات. طعن رجل عجوز حتى الموت في كوخه، ربما بسبب بضعة دولارات كان يحتفظ بها في حاشية فراشه.
تنهض من الفراش وتذهب إلى النافذة. سماء الليل صافية، بلا قمر وبها نجوم براقة. كوكبة الفرس الأعظم أمامها مباشرة، فوق المستنقع. عرفها والدها بهذه الكوكبة من النجوم - تلقائيا، تعد نجومها. تستطيع الآن تمييز الأصوات، أصوات فردية. لا شك أن بعض الناس استيقظوا، مثلها، من النوم. وهم يصرخون: «اصمتوا!» «توقفوا عن هذا العويل وإلا سأنزل وأوجعكم ضربا!»
لكن لا يسكت أحد. كان الأمر كما لو كان ثمة كرة من النار تتدحرج في شارع بيرل، ينبثق منها شرر - فقط النار تحدث ضوضاء؛ صياح وضحك وصراخ وشتائم، وشرر نيران تمثل أصواتا تنبثق وحدها. يميز صوتان نفسهما تدريجيا: صراخ شديد صاعد وهابط وسيل منتظم، سريع وبنبرة خفيضة من السباب الذي يتضمن جميع تلك الكلمات التي تربط ألميدا بينها وبين الخطر والانحلال الأخلاقي والروائح الكريهة والمناظر المنفرة. ثمة شخص ما يضرب، شخص يصيح قائلا: «اقتلني. اقتلني الآن.» إنها امرأة. تستمر في البكاء قائلة: «اقتلني. اقتلني.» وفي بعض الأحيان يبدو فمها مختنقا من كثرة الدماء. لكن ثمة شيء مستفز ونبرة انتصار في صراخها. ثمة شيء متكلف بشأن صراخها. ويصيح الأشخاص حولها قائلين: «توقف! توقف عن ذلك!» أو «اقتلها. اقتلها.» في نوبة محمومة، كما لو كانوا في مسرح أو مباراة رياضية أو مباراة ملاكمة مقابل المال. تحدث ألميدا نفسها أنها رأت ذلك من قبل؛ دائما ما يكون الأمر في جزء منه نوع من المباراة التمثيلية بين هؤلاء الأشخاص. هناك نوع من المحاكاة الساخرة الفجة، مبالغة، حلقة مفقودة، كما لو أن أي شيء فعلوه - حتى القتل - ربما لم يكن شيئا يؤمنون به، لكن لم يكن لهم قدرة على منعه.
هناك الآن صوت شيء يقذف - مقعد، لوح خشب؟ - وصوت كومة حطب أو جزء من سياج ينهار. كثير من الصرخات الجديدة المندهشة، صوت عدو، أشخاص يخرجون عن مسارهم، وصوت جلبة يقترب أكثر. تستطيع ألميدا أن تميز جسدا محنيا، يجري مرتديا فستانا رقيقا. هذه هي المرأة. تمسك بشيء مثل عصا من الخشب أو لوح خشبي، وتستدير وتلقي بها في اتجاه الجسد غير واضح الملامح الذي يطاردها.
تصيح الأصوات: «هيا، أمسك بها.» «هيا، اضربها بقوة.»
يتراجع الكثيرون الآن. يقترب الجسدان الآن من أحدهما من الآخر ويشتبكان، ثم يفترقان مجددا، ثم يسقطان أخيرا على سياج ألميدا. يصبح الصوت الذي يصدر عنهما الآن صوتا مرتبكا كثيرا - صوت تكميم، وقيء، ونخير، ولكم. ثم يصدر صوت طويل مهتز مختنق من الألم والذل، والاستسلام الكامل، وهو صوت ربما يصدر عن أي منهما أو كليهما.
تراجعت ألميدا عن النافذة وجلست على الفراش. هل كان ذلك الذي سمعته صوت جريمة قتل؟ ما العمل؟ ماذا ستفعل؟ يجب أن تضيء مصباحا، يجب أن تنزل إلى الأسفل لتضيء مصباحا، يجب أن تنزل إلى الفناء، يجب أن تنزل إلى الأسفل، إلى الفناء، المصباح، تنام على فراشها وتضع الوسادة على وجهها في دقيقة. الدرج، المصباح. ترى نفسها بالأسفل، في القاعة الخلفية، تسحب مقبض الباب الخلفي. تغط في النوم.
تستيقظ، جافلة، في ضوء النهار المبكر. تظن أن ثمة غرابا كبيرا يجلس على حافة نافذتها، يتحدث على نحو استنكاري لكن غير مندهش عن أحداث الليلة السابقة. «استيقظي وحركي عربة اليد!» يقول لها، مؤنبا، وتفهم أنه يعني شيئا آخر ب «عربة اليد»، شيئا سيئا ومحزنا. ثم تستفيق ولا ترى أي غراب. تنهض من الفراش على الفور وتنظر من النافذة.
يوجد كومة شاحبة تركن في الأسفل قبالة سياجها - جسد إنسان. «عربة يد.»
تضع روبا فوق رداء نومها وتنزل إلى الأسفل. لا يزال الضوء في الغرف الأمامية ضعيفا جدا، ستائر المطبخ منسدلة. يصدر صوت «بلوب بلاب» على نحو متمهل، صوت ناقد، يذكرها بحديث الغراب. ليس هذا إلا عصير الكرم، تتساقط قطراته خلال الليل. تجذب مقبض الباب وتخرج من الباب الخلفي. تنسج العناكب خيوطها فوق المدخل ليلا، وزهور الخطمي تتدلى مثقلة بالندى. عند السياج، تفرج بين زهور الخطمي اللزجة وتنظر إلى الأسفل كي ترى.
ترى جسد امرأة مكوما هناك، مقلوبة على جانبها، ووجهها مسحوق في الأرض. لا تستطيع ألميدا أن ترى وجهها. لكن هناك نهدا عاريا، بحلمة بنية اللون بارزة مثل حلمة ضرع بقرة، ومؤخرة ورجلا عاريين، يظهر في المؤخرة جرح في حجم زهرة دوار شمس. لون البشرة غير المجروحة مائل للرمادي، مثل دبوس دجاجة نيء منزوع. ترتدي شيئا مثل رداء نوم أو فستان عادي. رائحتها قيء. بول، شراب، قيء.
وهي حافية القدمين، مرتدية رداء النوم والروب الشفاف، تعدو ألميدا هاربة. تجري حول جانب منزلها بين أشجار التفاح والشرفة. تفتح البوابة الأمامية وتهرب عبر شارع دوفرين إلى منزل جارفيس بولتر، الأقرب إليها. تخبط بباطن يدها الباب عدة مرات.
تقول عندما يظهر جارفيس بولتر أخيرا: «هناك جسد امرأة.» يرتدي بنطاله ذي اللون الداكن، الذي ترفعه حمالات، وقميص نصف مفتوح، وجهه غير حليق، شعره واقف في رأسه. «سيد بولتر، عذرا. هناك جسد امرأة، عند بوابتي الخلفية.»
ينظر إليها مليا: «هل هي ميتة؟»
نفسه بارد، ووجهه مكفهر، وعيناه شديدتا الاحمرار.
تقول ألميدا: «نعم، أعتقد أنها قتلت.» تستطيع أن ترى جزءا من القاعة الأمامية الكئيبة بمنزله بينما تستقر قبعته على أحد المقاعد. تقول وهي تجاهد في أن تجعل صوتها خفيضا ومفهوما: «استيقظت ليلا. سمعت صوت جلبة آتية من شارع بيرل. كنت أستطيع سماع هذا - شخصين. كنت أستطيع سماع رجل وامرأة يتشاجران.»
يلتقط قبعته ويضعها على رأسه. يغلق ويحكم إغلاق الباب الأمامي بالمفتاح، ويضع المفتاح في جيبه. يسيران معا على الممر وترى أنها حافية القدمين. تحجم عن قول ما تشعر أنها تحتاج لأن تقوله بعد ذلك؛ أنها مسئولة عما حدث، كان بإمكانها الخروج بمصباح، كان بإمكانها الصراخ (لكن من عساه كان في حاجة إلى مزيد من الصراخ؟) كان بإمكانها إبعاد الرجل. كان بإمكانها طلب المساعدة آنذاك، لا الآن.
يقصدان شارع بيرل، بدلا من دخول فناء روث. بالطبع، لا يزال الجسد موجودا، مقوسا، نصف عار، تماما مثلما كان من قبل.
لا يسرع جارفيس بولتر في السير أو يتوقف. يتجه مباشرة نحو الجسد وينظر إليه، يلكز القدم بطرف حذائه، مثلما قد تلكز كلبا أو خنزيرا.
يقول: «أنت.» لا بصوت مرتفع جدا وإن كان حازما، ثم يلكز الجسد مرة أخرى.
تشعر ألميدا بمرارة في حلقها.
يقول جارفيس بولتر: «إنها حية.» وتثبت المرأة صدق ظنه. فتتحرك، وتتأوه في ضعف.
تقول ألميدا: «سأحضر الطبيب.» لو أنها لمست المرأة، لو أنها أجبرت نفسها على لمسها، لم تكن لترتكب هذا الخطأ.
يقول جارفيس بولتر: «انتظري، انتظري. دعينا نر إذا ما كانت تستطيع النهوض أم لا.»
يقول مخاطبا المرأة: «هيا انهضي الآن. هيا انهضي، الآن. انهضي.»
يحدث الآن شيء مدهش. ينهض الجسم على أطرافه الأربعة، الرأس مرفوعة - الشعر ملطخ بالدماء والقيء - وتبدأ المرأة في ضرب رأسها، بعنف وعلى نحو متكرر، إزاء سياج ألميدا روث الوتدي. مع ضربها رأسها تستعيد صوتها، وتطلق صراخا بفم مفتوح مفعم بالقوة وما يبدو كما لو كان نوعا من السرور المأزوم.
يقول جارفيس بولتر: «بعيدة كل البعد عن الموت ... لن أزعج الطبيب حتى.»
تقول ألميدا مع إدارة المرأة وجهها الملطخ: «هناك دماء.»
يقول: «نزف من أنفها ... ليس حديثا.» ينحني ويمسك بالشعر الفظيع القريب من فروة الرأس ليمنعها من ضرب رأسها.
يقول: «هلا توقفت عن هذا الآن ... توقفي. اذهبي إلى المنزل، الآن. اذهبي إلى المنزل من حيث أتيت.» توقف الصوت الصادر عن فم المرأة. يهز رأسها قليلا محذرا إياها، قبل أن يترك شعرها: «اذهبي إلى المنزل!»
بإطلاق شعرها، تهب المرأة إلى الأمام، تنهض على قدميها. تستطيع السير. تترنح وتتعثر في الشارع، صانعة أصوات صراخ متقطعة حذرة. يراقبها جارفيس بولتر لبرهة ليتأكد أنها في طريقها إلى منزلها، ثم يأخذ ورقة كبيرة لزهور الأرقطيون، يمسح فيها يده. ويقول: «ها هو الجسد الميت يرحل!»
لأن البوابة الخلفية كانت مغلقة، سارا معا إلى البوابة الأمامية. البوابة الأمامية مفتوحة. لا تزال ألميدا تشعر بالغثيان. معدتها منتفخة، تشعر بالحرارة والدوار.
تقول في وهن: «الباب الأمامي مغلق ... خرجت من المطبخ.» لو أنه يتركها، فستذهب مباشرة إلى الحمام، لكنه يتبعها وصولا إلى الباب الخلفي وإلى القاعة الخلفية. يتحدث إليها في نبرة مرح مزعجة لم تسمعها منه من قبل. يقول: «لا داعي للانزعاج ... ليس هذا إلا نتيجة السكر. لا يجب أن تعيش آنسة كريمة وحدها على مقربة هكذا من حي سيئ.» يمسك بذراعها من فوق الكوع. لا تستطيع فتح فمها لتتحدث إليه لتشكره؛ فإذا فتحت فمها ستتقيأ.
ما يشعر جارفيس بولتر به في هذه اللحظة تجاه ألميدا روث لم يشعر به خلال جميع رحلات السير المشوبة بالحذر تلك، وجميع حساباته حول قيمتها المحتملة، احترامها الذي لا مراء فيه، وجمالها المقبول. لم يستطع تخيلها كزوجة. الآن، صار هذا ممكنا. يثيره بما يكفي شعرها السائب - الرمادي قبل أوانه، الكثيف، الناعم - وجهها المتورد بشدة، ملابسها الشفافة التي لا يجب أن يراها إلا زوجها، رعونتها، ارتباكها، حماقتها، حاجتها؟
يقول لها: «سأمر عليك لاحقا ... سأصطحبك إلى الكنيسة.»
عند ناصية شارعي بيرل ودوفرين صبيحة الأحد الماضي جرى اكتشاف - من قبل آنسة كريمة مقيمة هناك - جسد امرأة من شارع بيرل، ظن أنها ميتة لكن، كما اتضح، لم تكن إلا في حالة سكر بين. استفاقت من غيبوبتها الشديدة - أو غير ذلك - بسبب حزم السيد بولتر، جار وقاض مدني، والذي استدعي من قبل الآنسة الكريمة. حوادث من هذا النوع، غير لائقة ومزعجة ومخزية لمدينتنا، صارت مؤخرا شائعة جدا.
5
أجلس في قاع النوم،
كأنني في قاع البحر.
ومواطنون رائعون من الأعماق
يحيونني في لطف.
بمجرد رحيل جارفيس بولتر وسماعها صوت إغلاق البوابة الأمامية لمنزلها، تهرع ألميدا إلى الحمام، لكن لا تكتمل راحتها، وتدرك أن الألم والاحتقان في الجزء السفلي من جسدها يأتيان من تراكم دماء الحيض الذي لم تبدأ في التدفق بعد. تغلق الباب الخلفي وتحكم إغلاقه. ثم، متذكرة كلمات جارفيس بولتر عن الكنيسة، تكتب على قطعة ورق: «لست على ما يرام، وأرغب في أن أستريح اليوم.» تلصق الورقة جيدا في الإطار الخارجي للنافذة الصغيرة في الباب الأمامي. تحكم إغلاق هذا الباب أيضا. ترتعش كما لو كان ذلك جراء صدمة أو خطر عظيم. مع ذلك، توقد نارا حتى تصنع شايا. تغلي الماء، تأخذ كمية من أوراق الشاي، وتصنع قدرا كبيرا من الشاي، الذي يصيبها بخاره ورائحته بالغثيان أكثر. تصب فنجانا بينما لا يزال الشاي خفيفا، وتضيف عدة قطرات من الدواء المهدئ للأعصاب. تجلس لتتناول الشاي دون فتح ستائر المطبخ. هناك وسط الأرض يوجد كيس الجيلي معلقا على عصا المقشة بين ظهري مقعدين. بقعت ثمار وعصير الكرم القماش المنتفخ باللون البنفسجي الداكن. يقطر العصير - «بلوب بلاب» - في الحوض بالأسفل. لا تستطيع أن تجلس وتنظر إلى شيء كهذا. تأخذ فنجانها، قدر الشاي، وزجاجة الدواء إلى غرفة الطعام.
لا تزال تجلس هناك عندما بدأت الجياد في المرور في طريقها إلى الكنيسة، مثيرة سحبا من الغبار. ستصبح الطرق ساخنة كالرماد. تظل في مكانها عندما تفتح البوابة ويتناهى إلى سمعها وقع خطوات رجل واثق في الشرفة. سمعها حاد جدا إلى درجة أنها تستطيع سماع صوت الورقة تنزع من الإطار وتفتح، تكاد تسمعه يقرؤها، تسمع الكلمات تدور في رأسه. ثم تمضي الخطوات في الاتجاه المعاكس، أسفل الدرج. تغلق البوابة. ترد إلى ذهنها صورة شواهد قبور، ما يجعلها تضحك. تسير شواهد القبور في الشارع على أقدامها الصغيرة المنتعلة، أجسادها الطويلة منحنية إلى الأمام، تعبيراتها تبدو عليها أمارات الانشغال والقسوة. تقرع أجراس الكنائس.
ثم تدق الساعة في قاعة الكنيسة معلنة الثانية عشرة، وهكذا تمر ساعة.
يزداد المنزل حرارة. تشرب المزيد من الشاي وتضيف إليه المزيد من الدواء. تعرف أن الدواء يؤثر عليها، مسئول عن كسلها غير العادي، عدم قدرتها على الحركة، استسلامها دون أي مقاومة لبيئتها المحيطة. هذا حسن. يبدو ضروريا.
بيئتها المحيطة - جانب من بيئتها المحيطة - في غرفة الطعام تتمثل في الآتي: جدران مغطاة بورق حائط مزخرف لونه أخضر داكن، ستائر ذات شرائط وستائر قطيفة أرجوانية داكنة تغطي النوافذ، مائدة عليها مفرش كروشيه وطبق من فواكه مغطاة بمادة شمعية، بساط رمادي مائل إلى اللون الوردي تزينه باقات ورد زرقاء ووردية، وبوفيه عليه مفارش مزدانة ويشتمل على أطباق ودوارق مزركشة ومستلزمات شاي فضية. أشياء كثيرة يمكن مشاهدتها. تبدو الزخارف مفعمة بالحياة، وكل واحدة من هذه الأشياء في حالة حركة وتدفق وتغير. أو ربما انفجار. تنشغل ألميدا روث خلال اليوم بمراقبتها، لا منعها من التغير بل مشاهدتها وهي تتغير، حتى تفهم التغير، حتى تكون جزءا منه. تجري أمور كثيرة في هذه الغرفة بما لا يدع مجالا لمغادرتها. لا ترد لها حتى فكرة مغادرتها.
بالطبع، لا تستطيع ألميدا من خلال ملاحظاتها الفكاك من الكلمات. تظن أنها تستطيع، لكنها لا تقدر على ذلك. سرعان ما يوحي هذا التوهج والتمدد بكلمات، لا كلمات محددة بل فيض من الكلمات في مكان ما، توشك أن تفصح عن نفسها لها. بل قصائد. نعم، مرة أخرى، قصائد. أو قصيدة واحدة. أليس هذا هو بيت القصيد، قصيدة واحدة عظيمة تتضمن كل شيء ومن ثم، آه، تجعل جميع القصائد الأخرى - القصائد التي كتبتها - غير مترابطة، مجرد محاولة وخطأ، مجرد حطام؟ نجوم وزهور وطيور وأشجار وملائكة في الثلوج وأطفال ميتون عند الشفق، هذا لا يمثل حتى نصف القصيدة. يجب الإيغال في الجلبة القذرة في شارع بيرل والطرف المصقول لحذاء جارفيس بولتر وعجزه الذي يشبه عجز دجاجة مقطعة في لباسه الأسود المائل إلى الزرقة. لقد ابتعدت ألميدا الآن كل البعد عن المشاركات الوجدانية الإنسانية، أو مشاعر الخوف، أو الأمور المنزلية الحميمية. لا تفكر فيما قد يجري بالنسبة إلى تلك المرأة، أو في الحفاظ على سخونة عشاء جارفيس بولتر وتعليق ملابسه الداخلية الطويلة على حبل الغسيل. فاض حوض عصير الكرم وسال العصير فوق أرضية المطبخ، مبقعا ألواح الأرضية، ولن تزول البقعة أبدا.
عليها أن تفكر في أشياء كثيرة في آن واحد - تشامبلين والهنود العراة والملح في أغوار الأرض، لكن بالإضافة إلى الملح هناك أيضا المال، الرغبة في جني المال المختمرة في رءوس كرأس جارفيس بولتر. هناك أيضا العواصف العاتية في الشتاء والأفعال الخرقاء والجهولة في شارع بيرل. التحولات في المناخ حادة في الغالب، وإذا تأملتها مليا، فلن تجد سلاما حتى في النجوم. كل ذلك يمكن التعبير عنه فقط إذا جرى تمريره من خلال قصيدة، وتعتبر كلمة «تمريره» ملائمة؛ نظرا لأن اسم القصيدة سيكون - بل هو - «مينسيتونج». اسم القصيدة هو اسم النهر. لا، في حقيقة الأمر النهر مينسيتونج هو القصيدة، بمواضعه العميقة ومنحدراته وأجزائه الهائلة العميقة تحت أشجار الصيف وكتله الثلجية القاسية المتناثرة في نهاية الشتاء ومواسم فيضانه المدمرة في الربيع. تنظر ألميدا بعمق، بعمق شديد في صورة النهر في عقلها، وفي مفرش المائدة، وترى زهور المفرش تطفو. تبدو بارزة وحمقاء، تلك الزهور التي نسجتها أمها بالكروشيه، لا تبدو مثل الزهور الحقيقية. لكن يبدو جهدها، استقلالها الطافي، وسرورها بذواتها السخيفة مثيرا جدا للإعجاب بها. إشارة أمل. «مينسيتونج.»
لا تبرح غرفتها حتى الغسق، وعندما تذهب إلى الحمام ثانية تكتشف أنها تنزف، فقد بدأ تدفق دم حيضها. عليها أن تحصل على منشفة تربطها، وتضمد نفسها. لم تمض من قبل قط، في كامل صحتها، يوما بكامله مرتدية رداء النوم. لا تشعر بأي قلق حيال ذلك. في طريقها إلى المطبخ، تسير عبر بركة من عصير الكرم. تعرف أن عليها تجفيفها، لكن ليس الآن، وتصعد إلى الطابق العلوي مخلفة آثار أقدام قرنفلية اللون، وهي تشم رائحة دمها المتدفق وعرق جسدها الذي ظل موجودا طوال اليوم في الغرفة الحارة المغلقة.
لا حاجة للانزعاج.
لم تكن تظن أن ورود الكروشيه تسطيع أن تطفو سابحة، أو أن شواهد القبور تستطيع الهرولة في الشارع. لا تخلط بين ذلك والواقع، ولا تخلط بين أي شيء آخر والواقع، وهكذا تعرف أنها لا تزال سليمة العقل.
6
أحلم بكم ليلا،
أعودكم نهارا.
أبي، أمي،
أختي، أخي،
أليس لديكم ما تقولونه؟
22 أبريل 1903. في محل إقامتها، في الثلاثاء الماضي، بين الثالثة والرابعة عصرا، ماتت امرأة ذات موهبة وذوق رفيع، أثرى قلمها، في الأيام الخالية، أدبنا المحلي بمجموعة شعرية تتسم بالرقة والبلاغة. لعل من المحزن أن في السنوات الأخيرة صار عقل هذه المرأة الكريمة مشوشا بعض الشيء وسلوكها بالتبعية طائشا وغير معتاد إلى حد ما. تأثر اهتمامها بأصول اللياقة وباهتمامها بنفسها وأناقتها ، إلى درجة أنها صارت - في عيون أولئك الذين لا يعرفون كبرياءها وتأنقها السابقين - شخصا مألوفا غريب الأطوار، أو - وهو ما يثير الحزن - محل سخرية. لكن محيت هذه الهفوات جميعها من الذاكرة، ولا يذكر إلا شعرها المنشور الممتاز، جهودها في الأيام الخالية في مدرسة الأحد، عنايتها الفائقة بوالديها، طبيعتها النسائية النبيلة، واهتماماتها الخيرية، وإيمانها الديني الذي لا يتزعزع. استغرق مرضها الأخير فترة قصيرة رحيمة. أصيبت بالبرد، بعد تبللها بالكامل خلال تجولها في مستنقع شارع بيرل. (قيل إن بعض الأطفال المشاغبين طاردوها حتى سقطت في الماء. وهكذا هي وقاحة وقسوة بعض شبابنا الصغير، ومضايقتهم المستمرة لهذه الآنسة الكريمة، بحيث لا يمكن غض الطرف عن ذلك تماما في السياق.) تطور البرد إلى التهاب رئوي، وماتت، لم يجاورها حتى النهاية إلا جارة سابقة، السيدة بيرت (آني) فريب، التي شهدت نهايتها الهادئة المفعمة بالإيمان.
يناير 1904. اختفى أحد مؤسسي مجتمعنا، شخص من أوائل أصحاب الأعمال في هذه المدينة، فجأة من بين ظهرانينا صبيحة يوم الإثنين الماضي، بينما كان ينظر في المراسلات الواردة إليه في مكتبه بشركته. كان السيد جارفيس بولتر يمتلك روحا تجارية رائعة وحية، روحا كانت فاصلة في إقامة لا شركة واحدة فقط بل عدة شركات محلية، جالبا فوائد الصناعة والإنتاجية والعمالة إلى مدينتنا.
هكذا تمضي صحيفة «فيديت» في عرضها الأحداث، في فيض وثقة. لا تكاد حالة وفاة تمر دون الإشارة إليها، أو لا يجري تقييم حياة أحد. •••
بحثت عن قبر ألميدا روث في المقابر. وجدت شاهد مقبرة العائلة. كان ثمة اسم واحد فقط عليه، روث. ثم، لاحظت شاهدين مستويين في الأرض، على مسافة أقدام قليلة - تراها مسافة ستة أقدام؟ - من الشاهد القائم. كتب على أحدهما «بابا»، وعلى الآخر «ماما». بعيدا عن هذين الشاهدين، وجدت شاهدين مستويين آخرين، مكتوبا عليهما اسما ويليام وكاثرين. كان علي أن أزيح جانبا بعض الحشائش الزائدة والتراب حتى أرى اسم كاثرين كاملا. لا توجد تواريخ ميلاد أو وفاة لأي شخص، لا شيء يشير إلى عامل القرابة. كان هذا نوعا من إحياء الذكرى، ليس من أجل العالم. لم تكن ثمة ورود أيضا؛ لا توجد أي آثار على وجود شجيرات ورود. ربما جرى اقتلاعها. لا يحب حارس المقابر هذه الأشياء، التي تعترض عمل جزازات العشب، وإذا لم يكن ثمة أحد يعترض، فسيقتلعها على أي حال.
ظننت أن ألميدا جرى دفنها في مكان آخر. عندما جرى شراء قطعة الأرض هذه - وقت موت الطفلين - كان لا يزال متوقعا أن تتزوج، وأن ترقد في نهاية المطاف إلى جوار زوجها. ربما لم يدع أحد لها مكانا هنا. ثم، رأيت الشواهد المستوية في الأرض تمتد من الشاهد القائم. أولا شاهدا الأبوين، ثم شاهدا الطفلين، اللذين جرى وضعهما على نحو يفسح مكانا لشخص ثالث، لاستكمال دائرة الشواهد. خطوت عدد خطوات من شاهد «كاثرين» يساوي نفس عدد الخطوات للوصول من شاهد «كاثرين» إلى شاهد «ويليام»، وعند هذه النقطة بدأت في نزع الحشائش وإزالة التراب بيدي العاريتين. سرعان ما تحسست الشاهد وكنت أعلم أنني على صواب. واصلت ما كنت أفعل وعملت على تنظيف الشاهد، وقرأت عليه اسم «ميدا». ها هو مع الشواهد الأخرى يحدق في السماء.
تيقنت من بلوغي حافة الشاهد. كان ذلك هو الاسم المنقوش عليه، ميدا. هكذا، كان صحيحا أنها كانت تدعى بهذا الاسم بين أفراد العائلة، لا فقط في القصيدة، أو ربما اختارت اسمها من القصيدة، حتى يكتب على شاهد قبرها.
ظننت أن لا أحد حيا في العالم بأسره سواي سيعرف هذا، سيكتشف العلاقة. وسأكون آخر شخص يفعل ذلك. لكن ربما ليس الأمر كذلك. الناس فضوليون، القليل منهم ربما، وسيدفعهم دافع إلى اكتشاف الأشياء، حتى التافهة منها. سيربطون بين الأشياء. تراهم يتجولون بكراسات، يزيلون التراب من شواهد القبور، يستعرضون الميكروفيلم، أملا في رؤية هذه الشذرة من الزمان، وعمل ربط ما، ينقذون شيئا ما من الأنقاض.
وربما لا يفهمون الأمر، في النهاية. ربما فهمت أنا نفسي الأمر خطأ. لا أعلم إذا ما كانت قد تناولت اللودانوم (مستحضرا أفيونيا) أم لا. تفعل الكثير من السيدات ذلك. لا أعلم إذا ما كانت قد أعدت جيلي الكرم يوما.
أمسكيني جيدا، لا تدعيني أسقط
أطلال «كنيسة الغابة». مقبرة قديمة، إعلان ويليام والاس حامي اسكتلندا هنا، 1298.
قاعة المحكمة حيث كان يقيم الأحكام، 1799-1832.
فيليفو؟ 1945.
مدينة رمادية. أحجار رمادية قديمة مثل إدنبرة. يوجد أيضا جص بني مائل إلى الرمادي، ليس عتيقا تماما. المكتبة التي كانت يوما سجنا (محبسا).
المنطقة المحيطة تلالية الطابع جدا، عبارة عن جبال منخفضة. الألوان قمحي، وبنفسجي فاتح، ورمادي. بعض المساحات الداكنة، تبدو مثل الصنوبر. عملية إعادة تحريج؟ الغابات على حافة المدينة، بلوط، وزان، وبتولا، وإيلكس. ألوان الأوراق متحولة إلى اللون البني الذهبي. الشمس غائبة، لكن تبدو الرياح العاتية والرطبة كما لو كانت تأتي من باطن الأرض. نهر صغير نظيف جميل.
أحد شواهد القبور غاطس في الأرض مائل، الاسم، التاريخ، وغير ذلك، كلها ذهبت، فقط جمجمة وعظمتان متقاطعتان. فتيات ذوات شعر وردي يمررن وهن يدخن.
شطبت هازل كلمة «أحكام» وكتبت «العدالة»، ثم شطبت «بنفسجي فاتح»، التي بدت كلمة ضعيفة أكثر مما ينبغي للتعبير عن التلال الجميلة العابسة. لم تكن تعرف ماذا تكتب مكانها.
كانت قد ضغطت على الزر الموجود إلى جانب المدفئة، أملا في طلب شراب، لكن لم يأتها أحد.
كانت هازل تشعر بالبرد في هذه الغرفة. عندما قامت بالحجز في فندق رويال، في وقت مبكر من بعد الظهيرة، ألقت عليها امرأة ذات شعر ذهبي منفوش، ووجه ناعم مدبب، نظرة فاحصة سريعة، وأخبرتها بالوقت الذي يقدمون العشاء فيه، وأشارت إلى الردهة في الدور العلوي كمكان تستطيع الجلوس فيه، مستبعدة - على هذا النحو - الحانة الدافئة الصاخبة في الدور السفلي. تساءلت هازل عما إذا كانت النزيلات من السيدات محترمات إلى درجة أنهن لا يمكنهن الجلوس في الحانة، أم أنها لم تكن محترمة بما يكفي. كانت ترتدي بنطالا مخمليا مضلعا ومعطفا ثقيلا، وتنتعل حذاء رياضيا. كانت المرأة ذات الشعر الذهبي ترتدي سترة مهندمة ذات لون أزرق فاتح وأزرار لامعة، وجوربا أبيض مزينا بشريط، وحذاء عالي الكعب كان يمكن أن يقتل هازل لو مشت به نصف ساعة. عندما قدمت إلى الفندق بعد ساعتين من السير، فكرت في أن ترتدي فستانا، لكنها قررت أن ترتدي ملابس عادية. استبدلت ملابسها، فارتدت بنطالا مخمليا أسود وقميصا حريريا، حتى تظهر أنها تبذل بعض المجهود، ومشطت وأعادت ربط شعرها، الذي كان رماديا قدر ما هو أشقر الآن، وكان جميلا بما يكفي بحيث كان يمكن أن يتشابك في حركات مثيرة مع الرياح.
كانت هازل أرملة. كانت في خمسينيات عمرها، وكانت تدرس الأحياء في المدرسة الثانوية في والي، أونتاريو. كانت هذه السنة في إجازة. كانت امرأة لن تتعجب في أن تجدها تجلس وحدها في ركن ما من هذا العالم حيث لا تنتمي، تدون ملاحظات في مفكرتها حتى تحول دون أن تشعر بالذعر. تجد نفسها تشعر بتفاؤل غير عادي في الصباح، لكن كان الشعور بالذعر مشكلة عند الغسق. لم يكن لهذا النوع من الذعر أي صلة بالمال أو التذاكر أو الترتيبات أو أي أخطار ربما تصادفها في مكان غريب، بل كان يتعلق بهبوط الهمة والابتعاد عن الهدف، وسؤالها نفسها: لماذا أنا هنا؟ من الممكن أن يسأل المرء نفسه ذلك السؤال في المنزل، وبعض الناس يفعلون، لكن عادة ما تجري أمور كثيرة تمنع المرء من توجيه هذا السؤال لنفسه.
لاحظت الآن التاريخ الذي كانت قد كتبته إلى جانب «فيليفو»، 1945، بدلا من 1645. ظنت أنها لا بد وأن تأثرت بطراز الغرفة. نوافذ من الطوب الزجاجي، بساط أحمر داكن زخارفه متموجة، ستائر من الكريتون تزينها زهور حمراء وأوراق خضراء إزاء خلفية بيج. أثاث ضخم، مترب، منجد، داكن اللون. أباجورات طويلة. كل هذا من الممكن أنه كان موجودا هنا عندما كان زوج هازل، جاك، يأتي إلى هذا الفندق خلال الحرب. لا بد أن ثمة شيئا كان في المدفأة آنذاك، مدفأة غاز، أو شبكة حديدية لحمل الفحم. لا يوجد شيء هناك الآن. ربما ظل البيانو مفتوحا مجهزا استعدادا للرقص، أو ربما كان هناك جرامافون، سرعة أسطواناته 78 لفة في الدقيقة. ربما امتلأت الحجرة بالضباط والفتيات. تستطيع أن ترى أحمر الشفاه الداكن للفتيات، وشعرهن الملفوف إلى أعلى، وفساتينهن الجميلة المصنوعة من قماش الكريب ذات التقويرات التي تتخذ شكل قلب، أو الياقات ذات الأشرطة البيضاء المطرزة المستقلة. كان ملمس البزات العسكرية سيكون جامدا وخشنا على أذرع وخدود الفتيات، وكانت ستصبح رائحتها لاذعة، وداخنة، ومثيرة. كانت هازل تبلغ خمسة عشر عاما من العمر عندما وضعت الحرب أوزارها؛ لذا لم تذهب إلى أي حفلات من ذلك النوع، وحتى عندما ذهبت إلى إحدى هذه الحفلات، كانت أصغر كثيرا من أن يهتم بها أحد، وكان عليها أن تراقص الفتيات الأخريات أو ربما الأخ الأكبر لإحدى صديقاتها. ربما لم تكن رائحة وملمس الزي العسكري إلا شيئا تخيلته.
والي ميناء مطل على بحيرة. نشأت هازل هناك وكذلك جاك، لكنها لم تعرفه، أو تراه بحيث تتذكره، حتى ظهر في إحدى حفلات رقص المدرسة الثانوية بصحبة مدرسة اللغة الإنجليزية، التي كانت إحدى المرافقات. بحلول ذلك الوقت، كانت هازل تبلغ من العمر سبعة عشر عاما. عندما كان جاك يراقصها، كانت في غاية القلق والعصبية مما جعلها ترتجف. سألها عما بها، واضطرت إلى أن تقول إنها تظن أنها ستصاب بالبرد. تحدث جاك مع مدرسة اللغة الإنجليزية طويلا قبل أن يقنعها باصطحاب هازل إلى المنزل.
تزوجا عندما بلغت هازل الثامنة عشر عاما. في السنوات الأربع الأولى من زواجهما، رزقا بثلاثة أطفال. ولم يرزقا بأطفال بعدها. (أخبر جاك الناس أن هازل اكتشفت سبب ذلك.) عمل جاك لدى شركة بيع وإصلاح الأجهزة المنزلية بمجرد تركه للقوات الجوية. كانت الشركة ملكا لأحد أصدقائه الذي لم يسافر إلى الخارج. حتى يوم وفاته، ظل جاك يعمل في تلك الشركة، نفس الوظيفة بشكل أو بآخر. بالطبع، كان عليه أن يتعرف على أشياء جديدة، مثل أفران الميكروويف.
بعد أن ظلت متزوجة مدة خمسة عشر عاما تقريبا، بدأت هازل في تلقي دورات إضافية، ثم ذهبت إلى الجامعة التي كانت على مسافة خمسين ميلا، طالبة بنظام الانتظام. حصلت هازل على شهادتها الجامعية وصارت مدرسة، وهو ما كانت تخطط له قبل أن تتزوج.
لا بد أن جاك كان يوجد في هذه الغرفة. كان سينظر إلى هذه الستائر، وسيجلس على هذا الكرسي.
دخل رجل، أخيرا، ليسألها عما تريد أن تشربه.
قالت: سكوتش. جعله ذلك يبتسم. «سيفي «الويسكي» بالغرض.»
بالطبع. في اسكتلندا لا يسمى ويسكي السكوتش إلا ويسكي وحسب.
كان معسكر جاك قرب وولفرهامبتون، لكنه اعتاد المجيء هنا خلال إجازاته. جاء بحثا عن قريبه الوحيد الذي كان يعرفه - والإقامة معه - في بريطانيا؛ ابنة عم أمه، امرأة تدعى مارجريت دوبي. لم تكن متزوجة، وكانت تعيش وحدها. كانت في منتصف العمر آنذاك، لذا ستكون مسنة جدا الآن، إذا كانت لا تزال حية. لم يواصل جاك مراسلتها بعد أن عاد إلى كندا؛ لم يكن جاك يحب كتابة الخطابات، لكن كان يتحدث عنها، ووجدت اسمها وعنوانها عندما كانت تنظم أشياءه. كتبت خطابا إلى مارجريت دوبي، فقط لتقول لها إن جاك مات وأنه كان دوما يذكر زياراته إلى اسكتلندا، لكن لم يرد أي رد على الخطاب.
بدا أن جاك وابنة العم تلك صارا قريبين من بعضهما سريعا. أقام جاك معها في منزل كبير، بارد، مهمل في مزرعة توجد فوق تل، حيث كانت تعيش مع كلابها وخرافها. كان يقترض دراجتها البخارية ويتجول في أنحاء الريف. كان يقود الدراجة البخارية إلى المدينة، إلى هذا الفندق تحديدا، ليحتسي الشراب ويكون صداقات، أو يتشاجر مع الضباط الآخرين، أو يطارد الفتيات. التقى هنا ابنة مدير الفندق أنطوانيت.
كانت أنطوانيت تبلغ من العمر ستة عشر عاما، أصغر مما ينبغي لأن تذهب إلى الحفلات أو أن يسمح لها بارتياد الحانة. كان عليها أن تخرج متسللة لتلتقي جاك خلف الفندق أو على الطريق الممتد بحذاء النهر. كانت فتاة جذابة، طائشة، رقيقة، شديدة التهور. «أنطوانيت الصغيرة». تحدث عنها جاك إلى هازل بسهولة بالغة كما لو كان قد عرفها ليس فقط في دولة أخرى، بل أيضا في عالم آخر. كانت هازل تطلق عليها صرتك الشقراء. كانت هازل تتخيلها مرتدية ثوب نوم رقيقا صوفيا، وكانت تظن أن شعرها طفولي، حريري الملمس، وفمها غض متشقق.
كانت هازل نفسها شقراء عندما التقاها جاك للمرة الأولى، وإن لم تكن طائشة. كانت خجولة ومحتشمة جدا وذكية. استطاع جاك التغلب بسهولة على الخجل والاحتشام الشديد، ولم يكن يشعر بالغضب مثلما كان معظم الرجال يشعرون، آنذاك، حيال ذكائها. لم يكن يأخذ الأمر بمحمل الجد.
عاد الرجل الآن حاملا صينية. كان هناك كأسا ويسكي ودورق مياه على الصينية.
قدم إلى هازل شرابها وتناول الآخر. جلس إلى المقعد المقابل لها.
إذن، ليس هذا هو النادل. كان رجلا غريبا جلب لها كأسا. بدأت تتذمر.
قالت: «دققت الجرس ... ظننتك أتيت لأني دققت الجرس.»
قال في رضا: «هذا الجرس بلا فائدة ... أخبرتني أنطوانيت أنها جعلتك تجلسين هنا، لذا فكرت في أن آتي وأسأل إذا ما كنت تشعرين بالعطش.»
أنطوانيت.
قالت هازل: «أنطوانيت! أليست هذه هي السيدة التي كنت أتحدث إليها بعد الظهيرة؟» شعرت بهبوط يسري داخلها. قلبها، معدتها، شجاعتها، أيما كان ذلك الذي تشعر بهبوط فيه.
قال: «أنطوانيت. نعم هي.» «وهل هي مديرة الفندق؟» «هي مالكة الفندق.»
كانت المشكلة عكس ما توقعتها. لم يكن الأمر أن الناس كانوا قد انتقلوا بعيدا، وأن المباني اختفت ولم يبق لها أثر. العكس تماما. كان أول شخص تتحدث إليه فيما بعد الظهيرة هو أنطوانيت.
لكن كان يجب أن تعرف، كان يجب أن تعرف أن هذه المرأة المهندمة أنطوانيت، لم تكن لتوظف هذا الرجل كنادل. انظر إلى بنطاله البني الفضفاض، والثقب المحترق في الجزء الأمامي من سترته التي تتخذ ياقتها شكل الرقم 7. أسفل السترة كان هناك قميص داكن ورابطة عنق، لكن لم يبد الرجل أنه غير مهتم بنفسه أو محبطا، بل كان يبدو مثل رجل يثق في نفسه جدا إلى درجة ألا يعبأ أن يبدو غير مهندم بعض الشيء. كان جسده ممتلئا وقويا، وصاحب وجه مربع متورد، وهناك شعر أبيض خفيف يتناثر حول جبهته. شعر بالسرور أنها ظنته النادل، كما لو كان ذلك خدعة مارسها ضدها. في الصف، كانت ستميزه باعتباره شخصا يتسبب في المشكلات، لا من النوع المشاكس أو السخيف أو المتهكم والمقزز، بل من النوع الذي يجلس في آخر الصف، ذكي وكسول، يقول تعليقات لا تدري إلام ترمي تحديدا. تمرد طفيف، ذكي، متواصل، أحد أكثر الأشياء صعوبة في اجتثاثها من أي صف مدرسي. ما يجب أن تفعله - كان هذا هو ما قالته هازل إلى المدرسات الأصغر سنا، أو إلى أولئك الذين كانت تثبط همتهم بسرعة أكبر مما كانت تثبط همتها هي - هو أن تجد طريقة ما لإذكاء ذكائهم، جعله أداة لا لعبة. ذكاء هذا الشخص غير موظف توظيفا جيدا.
فيم اهتمامها بهذا الرجل على أي حال؟ ليس العالم صفا دراسيا. حدثت نفسها قائلة: لدي رقمك، لكن لا يوجد ما يمكن أن أفعله حياله.
كانت تفكر فيه حتى تبعد تفكيرها عن أنطوانيت.
أخبرها أن اسمه كان دادلي براون، وأنه كان يعمل محاميا. قال إنه يعيش هنا (فهمت من ذلك أنه كان ينزل في إحدى غرف الفندق)، وأن مكتبه كان في نهاية الشارع. نزيل دائم، أرمل، آنذاك، أو أعزب. كانت تظنه أعزب. هذا الأسلوب البراق الوثاب من الرضاء لا يتحمل عادة الحياة الزوجية.
صغير جدا في السن، على الرغم من الشعر الأبيض، أصغر بضع سنوات من أن يكون قد شارك في الحرب.
قال: «إذن هل أتيت هنا تبحثين عن أصولك؟» أسبغ على الكلمة نطقها الأمريكي الأكثر تمييزا.
قالت هازل في سرور بالغ: «أنا كندية ... لا ننطق كلمة «أصول» على هذا النحو.»
قال: «آه، أستميحك عذرا ... أخشى أننا ننطقها على هذا النحو. نميل إلى أننا نضمكم كلكم معا، أنتم والأمريكيين.»
شرعت تخبره عن سبب قدومها - لم لا؟ أخبرته أن زوجها كان موجودا هنا أثناء الحرب، وأنهما كانا يخططان دوما للقيام بهذه الرحلة معا، لكنهما لم يفعلا، وأن زوجها قد مات، والآن قدمت هنا وحدها. كان ذلك نصفه صحيح؛ بينما كانت تقترح على جاك القيام بهذه الرحلة كثيرا، كان دوما يرفض. كانت تظن أن ذلك بسببها؛ كان لا يرغب في القيام بالرحلة معها. كانت تأخذ الأمور على نحو شخصي أكثر مما كان يجب أن تفعل، لفترة طويلة. ربما كان يقصد ما قاله فقط. قال: «لا، سيكون الأمر مختلفا.»
كان مخطئا إذا كان يعني أن الناس لن يكونوا في نفس المكان الذي كانوا موجودين فيه. حتى الآن، عندما سأل دادلي براون عن اسم ابنة عم جاك التي تعيش في الريف وقالت هازل: مارجريت دوبي، الآنسة دوبي، لكنها على الأرجح ماتت، لم يملك الرجل إلا أن يضحك. ضحك وهز رأسه وقال: آه، لا، ليس بأي حال من الأحوال، بالطبع لا. «ماجي دوبي لم تمت قط، هي سيدة مسنة جدا بالتأكيد، لكنني لا أظن أن فكرة الموت وردت إلى ذهنها بأي حال من الأحوال. تعيش في البقعة التي كانت تعيش دوما فيها، وإن كان المنزل مختلفا الآن. إنها تتمتع بوافر الصحة.» «لم ترسل إلي ردا على خطابي.» «نعم، لن تفعل.» «أظن إذن أنها لا ترغب في أي زائرين، أيضا؟»
كانت ترغب تقريبا في أن يقول لا. أن يقول لها: الآنسة دوبي شخص منعزل جدا، أخشى ذلك. لا، لا زوار. لماذا ترغب في هذا، بعد أن قطعت كل هذه المسافة؟
قال دادلي براون: «حسنا، إذا ذهبت بمفردك إليها في السيارة، لا أعرف، من الممكن عمل ذلك ... لا أعرف كيف ستتقبل الأمر، لكنني إذا هاتفتها وأخبرتها عنك، ثم ذهبنا معا إليها، فأعتقد أنها سترحب بك ترحيبا بالغا. هل تمانعين في ذلك؟ ستكون الرحلة ممتعة أيضا. اختاري يوما يكون الجو فيه غير ممطر.» «هذا لطف بالغ منك.» «آه، ليست المسافة بعيدة تماما.» •••
في غرفة الطعام، كان دادلي براون يأكل على مائدة صغيرة، وكانت هازل تأكل على مائدة أخرى. كانت تلك غرفة جميلة، حوائطها زرقاء ونوافذها عميقة في الجدران تطل على الميدان الرئيسي بالمدينة. لم تشعر هازل بالكآبة والإهمال اللذين كانا يهيمنان عليها في الردهة. كانت أنطوانيت تقوم بخدمتهما. قدمت خضراوات في أطباق تقديم فضية باستخدام أدوات تقديم صعبة الاستخدام بعض الشيء. كانت أنطوانيت مدققة جدا، بل كانت مترفعة للغاية في طريقة تقديمها. عندما لا تكون تخدم أحدا، كانت تقف إلى جانب البوفيه منتبهة مستقيمة، شعرها منتصب في الشبكة التي تلفه بها، سترتها مهندمة لا شية فيها، قدمها رشيقة وغير منتفخة في حذائها مرتفع الكعب.
قال دادلي إنه لن يتناول السمك. هازل أيضا رفضت تناوله.
قال دادلي: «أترين، حتى الأمريكيون ... حتى الأمريكيون لا يأكلون هذه الأشياء المجمدة، وتظنين أنهم سيعتادون عليها. كل شيء لديهم مجمد.»
قالت هازل: «أنا كندية.» ظنت أنه سيعتذر، متذكرا أن ذلك قيل له مرة من قبل، لكن لم يعرها أو تعرها أنطوانيت أي انتباه. كانا قد شرعا في نقاش جعلت نبرة حدته المعهودة يبدوان كما لو كانا متزوجين.
قالت أنطوانيت: «حسنا، لن آكل شيئا آخر ... لن آكل سمكا لم يكن مجمدا، ولن أقدمه. ربما كان ذلك لا بأس به في الأيام الخالية، عندما لم تكن هناك كل هذه المواد الكيميائية التي توجد الآن في الماء، وكل هذا التلوث. تمتلئ الأسماك بالتلوث الآن إلى درجة أننا نحتاج إلى تجميدها للقضاء عليه. هذا صحيح، أليس كذلك؟» قالت ذلك مستديرة جهة هازل. «يعلمون كل ذلك في أمريكا.»
قالت هازل: «كنت أفضل السمك المشوي.»
قالت أنطوانيت متجاهلة هازل: «إذن، السمك الآمن بالنسبة إليك هو السمك المجمد فقط ... شيء آخر، يأخذون أفضل الأسماك لتجميدها، أما الأسماك الأخرى التي لا تجمد تباع طازجة.»
قال دادلي: «أعطني إذن الأسماك غير المجمدة ... دعيني أجربها بالكيماويات.» «يا لك من أحمق! لن أضع أي قطعة من السمك الطازج في فمي.» «لن تنال فرصة تناول ذلك هنا. ليس هنا.»
بينما كان يجري الحديث على هذا النحو حول مسألة تناول السمك، وقعت عينا دادلي براون مرة أو مرتين على عين هازل. حافظ دادلي براون على ثبات ملامح وجهه، الذي كان يشير - أكثر مما قد تفعل ابتسامة متكلفة - إلى مزيج مركز من الود والازدراء. ظلت هازل تنظر إلى سترة أنطوانيت. جعلتها سترة أنطوانيت تفكر في جوان كروفورد. ليس طراز السترة بل حالتها الرائعة. كانت قد قرأت مقابلة منشورة مع جوان كروفورد، منذ سنوات مضت، تشير إلى حيل صغيرة كثيرة كانت جوان كراوفورد تصنعها حتى تحافظ على الشعر والملابس والأحذية والأظافر في حالة رائعة. تذكرت شيئا عن طريقة كي الكسرات. لا تقوم بكي الكسرات وهي مفتوحة أبدا. كانت أنطوانيت تبدو مثل امرأة تستوعب هذه الأمور جيدا.
لم تكن تتوقع، على أي حال، أن تجد أنطوانيت لا تزال طفولية الملامح ومتهورة وساحرة. هي بعيدة كل البعد عن ذلك. كانت هازل قد تخيلت - برضا - امرأة بدينة قصيرة تضع أسنانا صناعية. (كان جاك يذكر باستمرار عادة أنطوانيت في قذف قطع الكراميل إلى فمها بين القبلات، وجعله ينتظر حتى تمتص آخر رشفة حلاوة من القطعة الأخيرة.) سيدة طيبة، ثرثارة، رتيبة، جدة صغيرة تمشي متهادية، كان ذلك هو ما ظنت أنه متبق من أنطوانيت، ولكن ها هي هذه المرأة الرشيقة، اليقظة، الغبية الحصيفة، المرشوشة الشعر المهتمة بمظهرها وذات الحياة المنمقة. كانت طويلة أيضا. ليس على الأرجح أنها مرت بأي تجربة رومانسية من أي نوع، حتى عندما كانت تبلغ ستة عشر عاما.
لكن كم ستجد في هازل من الفتاة التي اصطحبها جاك إلى المنزل من الحفل الراقص؟ كم ستجد من هازل جودري، الفتاة الشاحبة، ذات الصوت الرفيع التي كانت ترفع شعرها الأشقر إلى الوراء عن طريق رباطين من السليولويد الوردي، في هازل كيرتس؟ كانت هازل نحيفة أيضا - نحيلة في قوة على عكس أنطوانيت. كان لديها عضلات تكونت من خلال أعمال الحديقة والسير مسافات طويلة للتنزه والتزلج عبر البلاد. أفضت هذه الأنشطة أيضا إلى جفاف وتغضن وتخشن بشرتها، وفي مرحلة ما توقفت عن الانزعاج حيال ذلك. ألقت بجميع المعاجين الملونة وأقلام التجميل والكريمات التي كانت قد اشترتها في لحظات اندفاع أو يأس. تركت شعرها ينمو في أي لون وعقصته خلف رأسها. كسرت قوقعة جمالها غير البادي والغالي؛ لم تظل أسيرته. بل إنها فعلت ذلك قبل سنوات من موت جاك. كان الأمر يتعلق بطريقة تسييرها لحياتها. كانت تقول وتظن أنه قد حان الوقت الذي كان يجب عليها أن تسير حياتها بنفسها، وحثت الآخرين على أن يسيروا على النهج نفسه. تحث الآخرين على اتخاذ خطوات جادة، وممارسة الرياضة، وتحديد الاتجاه في الحياة. لا تكترث بأن تقول للآخرين إنها عندما كانت في الثلاثينيات من عمرها كانت مصابة بما كان يطلق عليه انهيارا عصبيا. كانت لا تقوى على مغادرة المنزل لمدة قاربت على شهرين. كانت ترقد في الفراش معظم الوقت. كانت ترسم الصور في كتب التلوين للأطفال. كان ذلك هو كل ما تستطيع فعله حتى تتحكم في خوفها وحزنها العام، ثم أخذت بزمام حياتها. أرسلت في طلب كتيبات مناهج الجامعات. ماذا جعلها تمضي في حياتها مجددا؟ لا تعرف. يجب أن تقول إنها لا تعرف. ربما شعرت بالملل، يجب أن تقر بذلك. ربما شعرت بالملل من إصابتها بانهيار عصبي.
كانت تعلم أنها عندما كانت تنهض من الفراش (هذا ما لا تقوله)، كانت تترك جزءا من نفسها خلفها. كانت تشك في أن ذلك كان جزءا له علاقة بجاك، لكنها لم تظن وقتها أن أي هجر يجب أن يكون دائما. على أي حال، لم يكن بالإمكان الحيلولة دون وقوع ذلك.
عندما فرغ من تناول السمك المشوي والخضراوات، نهض دادلي فجأة. أومأ إلى هازل وقال لأنطوانيت: «سأمضي الآن، يا حملي.» هل قال ذلك حقا، «يا حملي»؟ أيا كان الأمر، كان في الكلمة نبرة سخرية تعبيرا على مشاعر الإعزاز بينه وبين أنطوانيت. ربما قال «يا حبيبتي». يقول الناس هنا «حبيبتي». قالها سائق الحافلة من إدنبرة لهازل في ذلك اليوم.
قدمت أنطوانيت إلى هازل قطعة من كعكة مشمش، وبدأت من فورها في الثرثرة مع دادلي. كان من المفترض أن يكون الناس متحفظين في بريطانيا - هكذا كانت هازل تعتقد، من خلال قراءاتها، إذا لم يكن من خلال جاك - لكن بدا أن الأمر لم يكن دوما كذلك.
قالت أنطوانيت: «سيذهب لزيارة أمه قبل أن تتدثر في غطاء فراشها ليلا ... يعود إلى البيت مبكرا دوما ليلة الأحد.»
قالت هازل: «ألا يعيش هنا؟ أعني في الفندق؟»
قالت أنطوانيت: «هل قال ذلك؟ أنا واثقة أنه لم يقل ذلك. لديه منزله الخاص به. لديه منزل جميل. يشارك أمه المنزل. ترقد في الفراش طوال الوقت حاليا - هي من أولئك الأشخاص الذين يجب أن يجري عمل كل شيء لهم. جلب لها ممرضة تخدمها نهارا وأخرى تخدمها ليلا أيضا، لكنه يرعاها دوما ويتحدث إليها في ليالي الآحاد، حتى لو لم تستطع التعرف عليه على الإطلاق. لا بد أنه كان يعني أنه يتناول الوجبات هنا. لا يتوقع أن تعد الممرضة الوجبات له. لن تفعل ذلك على أي حال. لا تفعل الممرضات أي شيء زائد عن عملها في هذه الأيام. يردن أن يعرفن فقط المطلوب منهن، ولن يفعلوا شيئا أكثر البتة. يشبه الأمر ما يحدث هنا. إذا قلت للعاملات هنا «اكنسن الأرضية»، ولم أقل «ضعن المقشة في مكانها بعد الفراغ من الكنس»، سيتركن المكنسة على الأرض.»
حدثت هازل نفسها بأن الوقت قد حان. لن تستطيع أن تصرح بالأمر إذا أجلته أكثر من ذلك.
قالت: «كان زوجي معتادا على المجيء هنا. كان معتادا على المجيء هنا أثناء الحرب.» «حسنا، كان ذلك منذ وقت طويل، أليس كذلك؟ هل ترغبين في قدح من القهوة؟»
قالت هازل: «من فضلك ... جاء هنا بناء على أن لديه قريبة تعيش هنا؛ امرأة تدعى الآنسة دوبي. يبدو أن السيد براون يعلم من تكون.»
قالت أنطوانيت في استنكار، مثلما ظنت هازل: «إنها امرأة مسنة جدا ... تعيش بعيدا في الوادي.»
قالت هازل: «كان اسم زوجي جاك.» وانتظرت، لكن لم تتلق أي إجابة. كانت القهوة سيئة، وهو ما كان مفاجأة؛ نظرا لأن الوجبة كانت أكثر من جيدة.
قالت: «جاك كيرتس ... كانت أمه قريبة لدوبي. كان معتادا على المجيء هنا أثناء إجازاته ويقيم مع ابنة العم هذه، ويأتي إلى المدينة في الأمسيات. كان معتادا على التردد هنا في فندق رويال.»
قالت أنطوانيت: «كان هذا المكان مزدحما جدا أثناء الحرب ... أو هكذا يخبرونني.»
قالت هازل: «كان يتحدث عن فندق رويال وذكرك أيضا ... دهشت عندما سمعت اسمك؛ لم أكن أظن أنك لا زلت هنا.»
قالت أنطوانيت: «لم أكن هنا طوال الوقت.» كما لو أن وجودها كان سيمثل إهانة لها. «عشت في إنجلترا عندما كنت متزوجة؛ لهذا السبب لا أفكر بالطريقة التي يفكر الناس بها هنا.»
قالت هازل: «زوجي متوفى الآن ... ذكرك. قال إن والدك كان يمتلك الفندق. قال إنك كنت شقراء.»
قالت أنطوانيت: «لا أزال كذلك ... لا يزال لون شعري كما كان دوما. لم أكن مضطرة أن أغير فيه شيئا. لا أستطيع أن أتذكر سنوات الحرب جيدا. كنت لا أزال فتاة صغيرة جدا آنذاك. لا أعتقد أنني ولدت عندما بدأت الحرب. متى بدأت الحرب؟ ولدت في عام 1940.»
كذبتان في حديث واحد، لا مراء في ذلك. أكاذيب صارخة، وواضحة، وعمدية، ونفعية. لكن كيف تستطيع هازل أن تعرف إذا ما كانت أنطوانيت تكذب حول عدم معرفتها بجاك؟ لم يكن أمام أنطوانيت أي خيار إلا أن تقول ذلك، بالنظر إلى الكذبة التي ظلت ترددها طوال الوقت حول عمرها. •••
في الأيام الثلاثة التالية ظلت تمطر بصورة متقطعة. عندما لم يكن هناك مطر، كانت هازل تتجول في المدينة، تنظر إلى الكرنب المنتفخ في الحدائق المنزلية الصغيرة، ستائر النوافذ البسيطة غير المبطنة المزخرفة بالزهور، بل كانت تنظر حتى إلى أشياء من قبيل أواني الفواكه المغطاة بمادة شمعية على المائدة في غرفة طعام مصقولة ضيقة. لا بد أنها اعتقدت أنها غير مرئية، بالنظر إلى الطريقة المتمهلة التي كانت تسير بها والتي كانت تحدق بها في الأشياء. كانت معتادة على تلاصق المنازل بعضها ببعض. عند ناصية الشارع، ربما تجد منظرا مفاجئا، ضبابيا للتلال الفاتنة. سارت بحذاء النهر وولجت إلى غابة كانت كلها من أشجار الزان، لها لحاء مثل جلد الفيل ونتوءات مثل الأعين المنتفخة. أضفت تلك الأشجار نوعا من الضوء الرمادي إلى الهواء.
عندما كان المطر يهطل، كانت تمكث في المكتبة، تقرأ كتب تاريخ. قرأت عن الأديرة العتيقة التي كانت هنا في مقاطعة سيلكيرك، والملوك بغابتهم الملكية، والحروب مع الإنجليز. معركة فلودن. كانت تعرف بعض الأشياء من خلال قراءاتها في الموسوعة البريطانية قبل أن تبرح منزلها. كانت تعلم من هو ويليام والاس، وأن ماكبث قتل دانكن في معركة وليس على فراشه.
كان دادلي وهازل يحتسيان الويسكي في الردهة، كل ليلة قبل العشاء. كان قد ظهر جهاز تدفئة كهربي، ووضع أمام المدفأة. كانت أنطوانيت تجلس معهما بعد العشاء. كانوا يتناولون القهوة معا. كان دادلي وهازل يتناولان كأسا آخر من الويسكي في وقت لاحق في المساء. كانت أنطوانيت تشاهد التليفزيون.
قالت هازل في تأدب: «يا له من تاريخ طويل!» أخبرت دادلي جانبا مما قرأت وشاهدت. «عندما رأيت اسم فيليفو للمرة الأولى منقوشا على تلك البناية عبر الشارع لم أكن أعرف ماذا يعني.»
قال دادلي مستشهدا فيما يبدو: «في فيليفو بدأت الهجمات ... هل تعرفين الآن معناه؟»
قالت هازل: «المعاهدون.» «هل تعلمين ما حدث بعد معركة فيليفو؟ قام المعاهدون بشنق جميع السجناء، هناك في الميدان الرئيسي بالمدينة، أسفل نوافذ غرفة الطعام، ثم ذبحوا جميع النساء والأطفال في أرض المعركة. انتقلت الكثير من العائلات مع جيش مونتروز؛ نظرا لأن كثيرا منهم كان من المرتزقة الأيرلنديين. كاثوليكيون بالطبع. لا، لم يذبحوهم كلهم. قادوا بعضهم سيرا إلى إدنبرة. في الطريق، قرروا إلقاءهم من فوق أحد الجسور.»
قال لها ذلك في صوت ودود، مبتسما. كانت هازل قد رأت هذه الابتسامة من قبل ولم تكن متأكدة تماما ماذا تعني: هل يتحداك أي رجل يبتسم على هذا النحو ألا تصدقين، ألا تقرين، ألا توافقين، أن هكذا يجب أن تكون الأمور، إلى الأبد؟ •••
كان جاك صعب المراس في النقاش معه؛ كان يستطيع التعامل مع أي هراء - من العملاء، من الأطفال، وربما من هازل أيضا. في المقابل، كان يغضب كل عام يوم الذكرى؛ نظرا لأن الجريدة المحلية كانت تنشر قصة حزينة عن الحرب. «لا أحد ينتصر في الحرب.» هكذا كان العنوان في قصص كتلك. كان جاك يلقي بالصحيفة على الأرض. «يا إلهي! هل كانوا يظنون أن الأمور كانت ستصبح هي نفسها إذا كان هتلر قد انتصر؟»
كان يغضب أيضا عندما كان يرى مسيرات مناهضي الحرب في التليفزيون، على الرغم من أنه لم يكن يقول شيئا، فقط كان يصدر أصوات استهجان أمام الشاشة على نحو مكبوت، ضجر. وبقدر ما كانت هازل تستطيع أن ترى، كان يظن أن الكثيرين - النساء بالطبع، لكن مع مرور الوقت، رجال أكثر وأكثر أيضا - عازمون على إفساد صورة أفضل جانب في حياته. كانوا يفسدون تلك الصورة من خلال تعبيرات الأسف الخاشعة والاستنكار وقدر معين من الكذب الكامل. لم يكن أي من هؤلاء يقر بأن أي جانب من الحرب كان ممتعا. حتى في رابطة المحاربين، كان من المفترض أن تعبر عن استيائك من الحرب؛ لم يكن يجدر بك أن تقول شيئا أكثر من أنك لا تفتقد أيام الحرب مهما كان الأمر.
عندما تزوجا، اعتاد جاك وهازل على الذهاب إلى حفلات الرقص، أو إلى رابطة المحاربين، أو إلى منازل أزواج آخرين، وعاجلا أو آجلا يبدأ الرجال في سرد قصتهم مع الحرب. لم يكن جاك يتلو قصصا كثيرة، ولا كانت قصصه الأطول، ولم تكن قصصه قط ممتلئة بالأعمال البطولية ولحظات مواجهة الموت. كان يتحدث عادة عن أشياء كانت مضحكة. لكن كانت قصصه تلقى الإعجاب الأكبر؛ نظرا لأنه كان قائد طائرة قاذفة، وهو ما كان من أكثر الأشياء إثارة للإعجاب بالنسبة لأي رجل. كان قد شارك في جولتين كاملتين من العمليات العسكرية. بعبارة أخرى، كان قد شارك في خمسين غارة قصف جوي.
كانت هازل معتادة على الجلوس مع الزوجات الشابات الأخريات وتستمع، في استسلام وفخر - وفي حالتها، على الأقل تشتت بسبب الرغبة. كان هؤلاء الأزواج يأتون إليهن ممتلئين عن آخرهم بشجاعة مثبتة. كانت هازل تشفق على النساء اللائي كن تسلمن أنفسهن إلى رجال أقل شأنا.
بعد عشرة أعوام أو خمسة عشر عاما كانت النساء نفسها تجلس بوجوه متوترة أو يتبادلن النظرات أو حتى يتغيبن (كانت هازل تفعل ذلك، في بعض الأحيان) عندما كان يجري سرد تلك القصص. كانت جماعة الرجال التي كانت تحكي تلك القصص قد تضاءلت، وأخذت تتضاءل أكثر فأكثر، لكن كان جاك لا يزال في مركز الاهتمام فيها . صار جاك أكثر تفصيلا في حكيه، وأكثر تأملا، وربما يقول البعض أكثر إطنابا. كان يتذكر الآن ضجيج الطائرات في القاعدة الجوية الأمريكية القريبة، صوتها الجبار وهي تدير محركاتها في الفجر المبكر قبل أن تقلع، ثلاثا فثلاثا، تطير فوق بحر الشمال في تشكيلات عظيمة. طائرات فلاينج فورترس. كان الأمريكيون يدكون أهدافهم نهارا، ولم تكن طائراتهم تطير وحدها قط. لم؟
قال جاك: «لم يكونوا يتقنون الملاحة ... حسنا، كانوا يعرفون ذلك، لكنهم لم يتقنوا الملاحة مثلنا.» كان فخورا بامتلاكه مهارة إضافية، أو طيش، لدرجة أنه لم يعبأ بتبريره. كان يبين كيف كانت طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني تفقد بعضها أثر بعض على الفور تقريبا، وكانت تطير ست أو سبع ساعات وحدها. في بعض الأحيان، كان الصوت الذي يوجههم، عبر جهاز اللاسلكي، صوتا ألمانيا ذا لكنة إنجليزية متقنة، يقدم معلومات خاطئة مميتة لهم. كان يتحدث عن طائرات تظهر من حيث لا تدري، تطير في خفة فوق أو أسفل الطائرات، وعن تدمير الطائرات في ومضات خاطفة مثل الأحلام. لم يكن الأمر مثلما هو في الأفلام، لا يوجد شيء مركز أو منظم، لم يكن ثمة شيء منطقي. في بعض الأحيان، كان يظن أنه يستطيع سماع الكثير من الأصوات، أو الآلات الموسيقية، أصوات غريبة لكنها مألوفة، أصوات تتجاوز ضوضاء الطائرة أو في خضمها.
ثم بدا كما لو كان يعود أدراجه إلى الأرض - بأكثر من طريقة - وكان يحكي قصصا عن فترات الإجازة وأوقات السكر، وعن الشجارات خارج الحانات، والمقالب في الثكنات. •••
في الليلة الثالثة، ظنت هازل أن من الأفضل أن تتحدث إلى دادلي عن الذهاب لزيارة الآنسة دوبي. كان الأسبوع يمر، ولم تكن فكرة الزيارة تزعجها كثيرا، الآن وقد اعتادت قليلا على البقاء هنا.
قال دادلي: «سأهاتفك في الصباح.» بدا مسرورا أن جرى تذكيره بالأمر. «سأرى إن كان ذلك يلائمها. هناك أمل في أن يصفو الجو أيضا. سنذهب غدا أو بعد غد.»
كانت أنطوانيت تشاهد أحد البرامج التليفزيونية كان الأزواج يختارون بعضهم فيه، من خلال عملية معقدة للالتقاء للمرة الأولى، ثم يعودون في الأسبوع التالي ويقصون كيف صارت الأمور. كانت تضحك في الحال على الاعترافات المذهلة.
كانت أنطوانيت معتادة على الخروج لملاقاة جاك وهي لا ترتدي إلا ثوب النوم تحت معطفها. كان والدها يعنفها، يعنف كلينا، مثلما كان جاك يقول. •••
قالت أنطوانيت لهازل أثناء الإفطار: «سأصطحبك إذن لزيارة الآنسة دوبي ... دادلي منشغل للغاية.»
قالت هازل: «لا، لا، لا بأس، إذا كان دادلي منشغلا جدا.»
قالت أنطوانيت: «كل الأمور معدة الآن ... سنذهب مبكرا بعض الشيء مما كان دادلي عازما. كنت أفكر في الذهاب في وقت لاحق هذا الصباح قبل الغذاء؛ لدي أمران يجب أن أتولاهما أولا.»
وهكذا، انطلقا في سيارة أنطوانيت، حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف. كانت الأمطار قد توقفت، وكانت السحب قد تحولت إلى اللون الأبيض، وكانت أشجار البلوط والزان تقطر مياه أمطار الليلة السابقة مع خفقان أوراقها الذهبية الشاحبة. كان الطريق يقع بين جدارين حجريين منخفضين. كان يقطع النهر الصغير الصافي المتدفق في ثبات.
قالت أنطوانيت: «تمتلك الآنسة دوبي منزلا جميلا ... بيتا صغيرا جميلا، يقع في أحد أركان المزرعة القديمة. عندما باعت المزرعة، احتفظت بأحد أركانها وأنشأت لنفسها بيتا صغيرا فوقه. استوطنت طيور الغدفان منزلها القديم الآخر.»
كانت هازل تمتلك صورة واضحة في ذهنها عن ذلك المنزل القديم الآخر. تستطيع أن ترى المطبخ الكبير مغطى بالجص، نوافذه بلا ستائر. ثلاجة اللحم، الموقد، الأريكة الملساء المصنوعة من شعر الخيول. كمية كبيرة من الدلاء، والأدوات، والبنادق، صنارات الصيد، صفائح الزيت، والمصابيح، والسلال. راديو يعمل بالبطارية. ستكون ثمة امرأة ضخمة، قوية البنية، ترتدي بنطالا، وتجلس في مقعد بلا ظهر، تزيت بندقية أو تقطع البطاطس أو تنظف سمكة. لا يوجد شيء لا تستطيع أن تقوم به بنفسها، هكذا كان جاك يقول، مناولا هذه الصورة إلى هازل. وضع نفسه في الصورة أيضا. كان قد جلس على درجات السلم خارج باب المطبخ، في الأيام المشمسة الضبابية كاليوم - فيما عدا أن الحشائش والأشجار كانت خضراء - وكان يقضي الوقت يلاعب الكلاب، أو يحاول إزالة الأوساخ من الحذاء الذي كان قد استعاره من مضيفته.
قالت لأنطوانيت: «اقترض جاك حذاء الآنسة دوبي ذات مرة ... كانت قدماها كبيرتين فيما يبدو. كانت تنتعل دوما أحذية الرجال. لا أدري ماذا حدث لحذائه. ربما كان لديه حذاء عالي الرقبة فقط. على أي حال، ارتدى حذاءها في حفل راقص وذهب قاصدا النهر، لا أعلم لم.» - كان ذلك لملاقاة فتاة بالطبع، ربما لملاقاة أنطوانيت - «ثم تبلل حذاؤه تماما وتغطى بالأوساخ. كان ثملا جدا إلى درجة أنه لم يخلع أيا من ملابسه عند ذهابه إلى الفراش، فقط ارتمى فوق غطاء الفراش. لم تتفوه الآنسة دوبي بأي شيء حيال ذلك. في الليلة التالية، عاد إلى المنزل متأخرا مرة أخرى وزحف إلى الفراش في الظلام، وصدمه في وجهه دلو ممتلئ بالمياه الباردة! كانت قد نصبت ترتيب الأوزان والحبال، بحيث عندما ترتخي زنبركات السرير تحت وطأة ثقله، ينقلب دلو الماء وينسكب الماء على هذا النحو في وجهه، حتى ينال ما يستحقه.»
قالت أنطوانيت: «لا بد أنها لم تعبأ بأن تقع في مشكلات كبرى.» ثم قالت إنهما ستتوقفان لتناول الغذاء. كانت هازل قد ظنت أن الغرض من مغادرتهما في الوقت الذي غادرتا فيه كان الانتهاء من الزيارة مبكرا؛ نظرا لأن أنطوانيت لا تمتلك وقتا كثيرا. أما الآن، فيما يبدو، كانتا حريصتين على ألا تصلا سريعا.
توقفتا عند حانة اسمها مشهور. كانت هازل قد قرأت عن مبارزة وقعت فيها. جرى ذكر هذه المبارزة في قصيدة قصصية قديمة. أما الآن، تبدو الحانة عادية، وكان يديرها رجل إنجليزي كان في منتصف عملية إعادة تجديد المكان. سخن السندويتشات التي طلباها في فرن ميكروويف.
قالت أنطوانيت: «لن أسمح لأي من هؤلاء بالنزول في إحدى الغرف ... إنهم يفسدون الطعام.»
بدأت تتحدث عن الآنسة دوبي وعن الفتاة التي كان عليها أن تتولاها. «لم تعد فتاة بالكاد الآن. اسمها جودي أرمسترونج. كانت واحدة من - ماذا تسمينهم - الأيتام. كانت تعمل لدى والدة دادلي. عملت لديها لفترة، ثم أوقعت نفسها في مشاكل. كانت النتيجة أنها أنجبت طفلا، على النحو الذي يحدث دوما. لم تستطع البقاء في المدينة بسهولة بعد ذلك؛ لذا كان من قبيل حسن الحظ أن الآنسة دوبي كانت في طريقها إلى البحث عن شخص لخدمتها. ذهبت جودي وطفلها إلى هناك، وبدا أن ذلك هو أفضل الترتيبات على الإطلاق.»
مكثتا في الحانة طويلا حتى رأت أنطوانيت أن الوقت حان حتى تكون جودي والآنسة دوبي مستعدتين لاستقبالهما.
ازداد الوادي ضيقا. كان منزل الآنسة دوبي قريبا من الطريق، تعلو التلال في حدة خلفه. أمام المنزل كان ثمة سياج مورف لامع من الشجيرات وبعض الأجمات الندية، جميعها حمراء الأوراق أو تساقط توتا. كان المنزل مغطى بالجص، وكانت الأحجار متراصة هنا وهناك على طراز غريب خاص بضواحي المدن.
وقفت امرأة شابة في مدخل المنزل. كان شعرها بهيا؛ شعرا أحمر متموجا، يلمع فوق كتفيها. كانت ترتدي فستانا غريبا إلى حد ما بالنسبة إلى هذا الوقت من اليوم؛ فستان حفلات من مادة رفيعة، حريرية، بنية، يتخلله خيط ذهبي معدني. لا بد أنها كانت تشعر ببرد شديد فيه - كانت قد عقدت ذراعيها، ضاغطة على صدرها.
قالت أنطوانيت، وهي تتحدث بصوت مفعم بالحماس كما لو كانت تتحدث إلى شخص أصم أو ثائر بعض الشيء: «ها نحن إذن يا جودي. لم يستطع دادلي المجيء. كان منشغلا بشدة. هذه هي السيدة التي أخبرك عنها في الهاتف.»
تورد خدا جودي أثناء مصافحتها إياها. كان حاجباها شقراوين جدا، بالكاد يريان، ما أصبغ على عينيها البنيتين الداكنتين صبغة مسالمة. بدت محبطة جراء شيء ما؛ هل كان ذلك بسبب الزائرين، أو ترى كان ذلك يرجع إلى توهج شعرها السائب؟ لكن لا بد أنها قامت بنفسها بتمشيطه بحيث يصبح على هذا النحو من اللمعان، وصففته هكذا ليظهر على هذا النحو.
سألت أنطوانيت إذا ما كانت الآنسة دوبي بصحة جيدة.
أدت كتلة من البلغم إلى تغليظ صوت جودي وهي تحاول الإجابة. تنحنحت وقالت: «إن الآنسة دوبي بصحة جيدة طوال هذا العام.»
هناك شيء من الارتباك حيال خلع معطفيهما؛ لا تعرف جودي تماما كيف تطلب منهما خلع معطفيهما، أو كيف تقود أنطوانيت وهازل إلى المكان الذي ستجلسان فيه. لكن أخذت أنطوانيت بزمام المبادرة وقادت الطريق عبر القاعة إلى غرفة الجلوس، التي كانت تعج بأثاث منجد مزركش، قطع ديكورية من النحاس والخزف، وحشائش زينة، وريش طاووس، زهور مجففة، ساعات وصور ووسائد. في وسط كل هذا كانت هناك سيدة عجوز تجلس في مقعد مرتفع الظهر، قبالة ضوء النوافذ، تنتظرهما. على الرغم من أنها كانت عجوزا، فلم تكن متجعدة البشرة على الإطلاق. كانت تمتلك ذراعين وقدمين سميكات وهالة كثيفة من الشعر الأبيض. كانت بشرتها بنية اللون، مثل لون تفاحة خمرية، وكان لديها انتفاخات كبيرة أرجوانية اللون تحت عينيها. لكن كانت عيناها نفسيهما براقتين وغير مستقرتين، كما لو كان ثمة ذكاء يتطلع إلى الخارج متى شاء - شيء في سرعة وطيش سنجاب يمر ذهابا وإيابا خلف هذا الوجه العجوز، الداكن، الثقيل، الممتلئ بالبثور.
قالت لأنطوانيت: «إذن، أنت المرأة من كندا.» كان صوتها قويا. كانت البقع المتناثرة على شفتيها تشبه الكرم الأسود المائل إلى الزرقة.
قالت أنطوانيت: «لا، ليس أنا ... أنا من فندق رويال، وقد التقيتني من قبل. أنا صديقة لدادلي براون.» أخرجت زجاجة من الخمر - من نوع ماديرا - من حقيبتها وقدمتها لها، كدليل على صحة كلامها. «أليس هذا هو النوع الذي تفضلينه؟»
قالت الآنسة دوبي آخذة الزجاجة: «كل هذا الطريق من كندا.» كانت لا تزال ترتدي أحذية رجالية، كانت ترتديها الآن غير مربوطة.
كررت أنطوانيت ما قالته من قبل بصوت أعلى، وقامت بتقديم هازل.
قالت السيدة دوبي: «جودي، جودي، تعرفين أين توجد الأكواب؟» كانت جودي آتية لتوها حاملة صينية. كان عليها مجموعة من الفناجين وصحون الفناجين، براد شاي، وطبق من شرائح كعكة فواكه، ولبن، وسكر. بدا طلب الأكواب كما لو كان يخرجها من مسارها، ونظرت حولها في حيرة. تناولت أنطوانيت الصينية منها.
قالت أنطوانيت: «أعتقد أنها ستفضل تذوق الخمر أولا، يا جودي ... أليس هذا جميلا! هل صنعت الكعكة بنفسك؟ هل أستطيع أن آخذ قطعة لدادلي عندما نذهب؟ يحب دادلي كعك الفواكه جدا. سيعتقد أنها صنعت خصيصى من أجله. لا يمكن أن يكون هذا صحيحا، بما أنه هاتفني هذا الصباح وتستغرق كعكة الفواكه وقتا أطول كثيرا من ذلك، أليس كذلك؟ لكنه لن يستطيع تمييز الفرق.»
قالت الآنسة دوبي: «أعلم من أنت الآن ... أنت المرأة من فندق رويال. هل تزوجت أنت ودادلي براون؟»
قالت أنطوانيت في غضب: «أنا متزوجة فعلا ... سأحصل على الطلاق، لكنني لا أعرف مكان زوجي.» ثم سرعان ما تحول صوتها إلى النعومة، بحيث بدت كما لو كانت تطمئن الآنسة دوبي. «ربما في الوقت المناسب.»
قالت الآنسة دوبي: «لهذا إذن ذهبت إلى كندا.»
جاءت جودي ببعض كئوس الخمر. كان بمقدور أي شخص أن يلاحظ أن يديها كانتا مرتعشتين جدا إلى درجة أنها لن تتمكن من صب الخمر. انتزعت أنطوانيت الزجاجة من قبضة الآنسة دوبي ورفعت إحدى كئوس الخمر في الضوء.
قالت أنطوانيت: «هلا أحضرت لي منشفة ... أو فوطة شاي نظيفة. تأكدي أنها نظيفة!»
تدخلت هازل في حسم، موجهة حديثها إلى الآنسة دوبي، قائلة: «زوجي جاك، زوجي جاك كيرتس، كان في القوات الجوية، وكان معتادا على زيارتك أثناء الحرب.»
سمعت الآنسة دوبي هذه العبارة بوضوح. «لماذا يرغب زوجك في زيارتي؟» «لم يكن زوجي حينها. كان صغيرا جدا آنذاك. كان ابن عم لك. من كندا. جاك كيرتس، كيرتس. لكن ربما كان هناك أقارب كثر لك يزورونك، عبر السنين.»
قالت الآنسة دوبي في حزم: «لم نستقبل زائرين من قبل قط. نحن بعيدون تماما عن الطريق الرئيسي ... كنت أعيش في المنزل مع أمي وأبي، ثم صرت أعيش مع أمي، ثم صرت أعيش وحدي. تخليت عن تربية الأغنام وذهبت للعمل في المدينة. كنت أعمل في مكتب البريد.»
قالت أنطوانيت مطرقة: «هذا صحيح، حدث ذلك.» مناولة إياها الخمر.
قالت الآنسة دوبي في كبرياء مبهم حقود: «لكنني لم أعش في المدينة قط ... لا، كنت أذهب كل يوم، كل هذا الطريق على متن الدراجة البخارية.»
قالت هازل حتى تشجعها على الحديث: «ذكر جاك دراجتك البخارية.» «كنت أعيش في المنزل القديم آنذاك. تعيش أناس فظيعة هناك الآن.»
مدت يدها بالكأس طلبا للمزيد من الخمر.
قالت هازل: «كان جاك يقترض منك دراجتك البخارية ... وكان يذهب إلى الصيد بصحبتك، وعندما كنت تنظفين السمك، كانت الكلاب تأكل رءوس السمك.»
قالت أنطوانيت: «أف!»
قالت الآنسة دوبي: «أنا ممتنة لأني لا أستطيع أن أرى ذلك من هنا.»
قالت أنطوانيت في نبرة آسفة: «المنزل ... الزوجان اللذان يعيشان فيه غير متزوجين. قاما بإصلاح المنزل لكنهما غير متزوجين.» وكما لو كانت تذكرت بطريقة طبيعية، قالت مخاطبة جودي: «كيف حال تانيا؟»
قالت جودي التي لم تحصل على أي خمر: «بخير.» وحملت طبق كعكة الفواكه ثم وضعته مضيفة: «تذهب إلى الحضانة الآن.»
قالت الآنسة دوبي: «تذهب في الحافلة ... تأتي الحافلة وتأخذها من أمام الباب.»
قالت أنطوانيت: «أليس هذا شيئا رائعا؟»
واصلت الآنسة دوبي قائلة في انبهار: «وتقلها إلى المنزل ... تقلها حتى باب المنزل.»
قالت هازل: «قال جاك إن لديك كلبا كان يأكل العصيدة ... وفي إحدى المرات اقترض منك حذاءك. أعني جاك زوجي.»
بدت الآنسة دوبي كما لو كانت تفكر في ذلك مليا لبرهة، ثم ما لبثت أن قالت: «تمتلك تانيا شعرا أحمر.»
قالت أنطوانيت: «لديها شعر مثل شعر أمها ... وعينان مثل عيني أمها البنيتين. نسخة من جودي.»
قالت الآنسة دوبي، بنبرة شخص يزيح جيدا كثيرا من اللغط: «إنها بنت غير شرعية ... لكن قامت جودي بتربيتها جيدا. جودي عاملة مجدة. أشعر بالسرور لأن لديهما منزلا. على أي حال، لا يجري الإمساك إلا بالأبرياء.»
ظنت هازل أن هذا سيجهز على جودي تماما، يجعلها تعدو مسرعة إلى المطبخ. لكن بدلا من ذلك، بدت كما لو كانت توصلت إلى قرار. نهضت وناولت الموجودات كلا قطعة من الكعك. لم يبرح اندفاع الدماء في وجهها أو عنقها أو الجزء من صدرها الذي ترك عاريا من فستان السهرة. كان جلدها يحترق كما لو أن شخصا صفعها، وكان التعبير المرتسم على وجهها، وهي تنحني نحو كل واحدة تناولها قطعة من الطبق، هو ذلك التعبير المرتسم على وجه طفل غاضب، شاعر بالمرارة، مزدر يمسك نفسه عن الصراخ. تحدثت الآنسة دوبي إلى هازل قائلة: «هل يمكنك أن تلقي أي شيء؟»
كان على هازل أن تفكر برهة لتتذكر ما هو الإلقاء، ثم قالت إنها لا تستطيع.
قالت الآنسة دوبي: «سألقي أنا مقطوعة، إذا كنت لا تمانعين في ذلك.»
وضعت كأسها الفارغ، وفردت كتفيها، وضمت قدميها معا.
قالت: «أستميحكم عذرا لعدم نهوضي.»
بدأت تتحدث في صوت بدا مجهدا ومتلعثما في البداية، وسرعان ما صار لاهثا ومنغمسا. تزايدت لكنتها الاسكتلندية. لم تعر محتوى القصيدة انتباها قدر ما أعارت الجهد المتواصل في إلقائها بالترتيب الصحيح، كلمة بعد كلمة، شطرا بعد شطر، بيتا بعد بيت. أظلم وجهها أكثر من خلال المجهود. إلا أن الإلقاء لم يكن دون تعبير على الإطلاق؛ كانت طريقة الإلقاء مثل طرق الإلقاء الجامدة من «صنع الذاكرة» التي تذكرت هازل حاجتها إلى تعلمها في المدرسة. كان الأمر بمثابة عرض أفضل الملقين في حفل المدرسة، نوع من الشهادة العامة الطوعية، من خلال كل تغيير في مقام الصوت، وكل إشارة جرى التمرن عليها واعتمادها.
بدأت هازل في إدراك جانب من القصيدة. حكاية مطولة كلها هراء حول الجنيات؛ صبي جرى إمساكه من قبل الجنيات، ثم فتاة تسمى الجنية جينيت تقع في حبه. كانت تلك الجنية ترد في فظاظة على والدها وتلف نفسها في عباءتها الخضراء ذاهبة إلى مقابلة حبيبها، ثم بدا كما لو أن الهالوين قد جاء وحلت ظلمة الليل القاحلة، وهلت أعداد كبيرة من الجنيات ممتطية ظهور الجياد. ليست جنيات طيبة، بأي حال من الأحوال، بل عصبة متوحشة كانت تنتقل في الليل وتطلق صراخا مزعجا. «وقفت الجنية جينيت، جامدة، غير متأثرة،
في مرج مقبض،
أكثر فأكثر ارتفع الصوت،
أثناء مجيئهن ممتطيات الجياد!»
جلست جودي واضعة طبق الكعك في حجرها، وهي تتناول شريحة كبيرة من كعكة الفواكه، ثم تناولت شريحة أخرى، لا يزال وجهها مشتعلا بالغضب غير مسامح. عندما انحنت لتقديم الكعكة، شمت هازل رائحة جسدها؛ ليست رائحة سيئة، لكنها رائحة جعلت عمليات التنظيف والتطهير منها رائحة غير مألوفة. كانت رائحتها تنبعث في حرارة من بين الصدر المتورد للفتاة.
شغلت أنطوانيت، التي لم تعبأ بأن تظل ساكنة، نفسها بطفاية سجائر نحاسية صغيرة، أخرجت سجائرها من حقيبتها، وبدأت تدخن. (قالت إنها لا تدخن أكثر من ثلاث سجائر يوميا.) «أولا امتطت الجواد الحالك السواد،
ثم امتطت الجواد البني،
ثم أخيرا أمسكت بسرعة بزمام الجواد شاهق البياض،
وأسقطت من تقوده!»
ظنت هازل أنه لا جدوى من السؤال عن جاك أكثر من ذلك. ربما تذكره أحد هنا؛ شخص رآه يسير في الطريق وهو يقود الدراجة البخارية، أو تحدث إليه في إحدى الليالي في الحانة. لكن كيف يمكن أن تجد هذا الشخص؟ ربما من الأرجح أن أنطوانيت كانت قد نسيته. وفي ضوء ما يجري الآن، لا بد وأن ذهن أنطوانيت مشغول بما يكفي. أما ما كان يدور في ذهن الآنسة دوبي، فبدا كأفكار عشوائية غير مرتبة، شيء عفوي ومتقلب. ها هو جني قزم في قصيدتها المزعجة يتخذ موضع الصدارة الآن. «شكلوه بين ذراعي الجنية جينيت،
سمندل ماء، وحية سامة،
تمسكت به جيدا في كل صورة،
حتى يصبح والد طفلها!»
أشارت نبرة رضاء عابس في صوت الآنسة دوبي إلى أن نهاية القصيدة ربما تكون قد اقتربت. ما سمندل الماء؟ لا يهم، كانت جينيت تلف حبيبها في عباءتها الخضراء، «رجل عار كما ولدته أمه»، وكانت ملكة الجنيات ترثي فقدانه، وعند بلوغ النقطة التي كان يمكن أن يخشى المستمعون أن تتطور القصة مرة أخرى - كان صوت الآنسة دوبي قد انخفض مجددا، ثم تسارع كما لو كان يتأهب لإلقاء مطول - توقف الإلقاء.
قالت أنطوانيت عندما تأكدت أن الآنسة دوبي توقفت عن الإلقاء: «يا إلهي! كيف تستطيعين الاحتفاظ بكل هذا في رأسك؟ يستطيع دادلي أن يفعل ذلك أيضا. أنت ودادلي، يا لكما من ثنائي رائع!»
بدأت جودي في إحداث جلبة عند توزيع الفناجين وصحون الفناجين. بدأت في صب الشاي. تركتها أنطوانيت تفعل ذلك قبل أن توقفها.
قالت أنطوانيت: «أظن أن ذلك سيكون أكثر من اللازم، أليس كذلك يا عزيزتي؟ أخشى أن يكون ذلك أكثر من اللازم بالنسبة إلي. يجب أن نعود على أي حال. سترغب الآنسة دوبي في أخذ قسط من الراحة، بعد كل ذلك.»
تناولت جودي الصينية دون إبداء أي اعتراض واتجهت إلى المطبخ. تبعتها هازل حاملة طبق الكعك.
قالت لجودي بهدوء: «أظن أن السيد براون كان ينوي أن يأتي ... لا أعتقد أنه كان يعرف أننا سنرحل مبكرا هكذا.»
قالت تلك الفتاة المتوردة، التي تشعر بالمرارة، وهي تسكب الشاي المصبوب في الحوض: «أوه، نعم.» •••
قالت أنطوانيت: «هل تمانعين في فتح حقيبتي ومناولتي سيجارة أخرى؟ يجب أن أشرب سيجارة أخرى. إذا أخذتها بنفسي فسأشعر بالغثيان. أشعر بصداع آت بسبب كل ذلك النواح والإلقاء الرتيب.»
أظلمت السماء مرة أخرى، وكانتا تقودان تحت أمطار خفيفة.
قالت هازل: «لا بد أنها تعيش في وحدة ... أقصد جودي.» «لديها تانيا.»
كان آخر شيء فعلته أنطوانيت عندما كانت تغادر هي وهازل، هو وضع بعض النقود في يد جودي.
قالت: «هذا لتانيا.»
قالت هازل: «ربما تود أن تتزوج ... لكن هل تلتقي أحدا هناك حتى تتزوجه؟»
قالت أنطوانيت: «لا أعرف مدى سهولة أن تجد أحدا في أي مكان بالنسبة لها ... في وضعها ذلك.»
قالت هازل: «لا يهم هذا الأمر كثيرا هذه الأيام ... تنجب الفتيات أولا ثم تتزوجن لاحقا. نجوم السينما، الفتيات العاديات أيضا. طوال الوقت. لا يهم هذا.»
قالت أنطوانيت: «أعتقد أن هذا أمر مهم هنا ... لسنا نجوم سينما هنا. سيفكر الرجل مرتين قبل أن يقترن بفتاة كتلك. سيفكر في عائلته. سيكون الأمر بمثابة إهانة لأمه. سيظل الأمر بمثابة إهانة لها حتى لو لم تكن تعرف أي شيء عن الأمر. وإذا كان عمل الرجل يعتمد على التعامل مع الناس، فيجب عليه التفكير في ذلك أيضا.»
أوقفت السيارة على جانب الطريق. قالت: «أستميحك عذرا.» ثم خرجت من السيارة وسارت في اتجاه الجدار الحجري. انحنت إلى الأمام. هل كانت تبكي؟ لا، كانت تتقيأ. كان كتفاها منحنيتين ومرتعشين. تقيأت على الحائط وعلى الأوراق المتساقطة لأشجار البلوط. فتحت هازل باب السيارة وأسرعت نحوها، لكن أنطوانيت أشاحت إليها بالابتعاد بيد واحدة.
صوت التقيؤ البائس المألوف، وسط سكون الريف، والأمطار الضبابية.
انحنت أنطوانيت إلى الأسفل وتمسكت بالجدار لبرهة، ثم استقامت وعادت إلى السيارة وجففت آثار التقيؤ بمنديل وهي ترتجف، لكن في عناية.
قالت: «يحدث هذا لي ... عندما أصاب بنوبات الصداع التي تنتابني.»
قالت هازل: «هل ترغبين في أن أقود السيارة؟» «لست معتادة على القيادة في هذا الجانب من الطريق.» «سأقود بحرص.»
تبادلتا مكانيهما - تفاجأت هازل بموافقة أنطوانيت - وقادت هازل السيارة ببطء، بينما كانت أنطوانيت جالسة مغمضة العينين معظم الوقت ويداها موضوعتان على فمها. حالت بشرتها إلى اللون الرمادي من خلال المكياج الوردي. لكن قرب حدود المدينة، فتحت عينيها وأنزلت يديها وقالت شيئا من قبيل «هذه كاثو.»
كانتا تمران بحقل خفيض بحذاء النهر. قالت أنطوانيت في عجلة، مثلما يفعل شخص يخشى أن تنتابه نوبة تقيؤ أخرى: «هذا هو المكان في تلك القصيدة ... الذي تخرج منه الفتاة وتفقد عذريتها، وهكذا.»
كان الحقل بنيا ورطبا ومحاطا بما بدا مثل مساكن شعبية.
اندهشت هازل أنها تذكرت مقطعا شعريا كاملا الآن. تستطيع سماع صوت الآنسة دوبي يدندن بأبياته في عنفوان. «الآن، خواتم ذهبية ربما تشترين، يا فتيات،
عباءات خضراء ربما تغزلن،
أما، إذا فقدتن عذريتكن،
فلن تسترجعنها أبدا!»
تحتفظ الآنسة دوبي بأعداد هائلة من الكلمات في ذاكرتها. •••
قالت هازل لدادلي براون عندما أتيا إلى الردهة ذلك المساء: «أنطوانيت ليست على ما يرام ... لديها صداع رهيب. ذهبنا اليوم لزيارة الآنسة دوبي.»
قال دادلي: «تركت لي رسالة بهذا المعني.» واضعا الويسكي والماء.
كانت أنطوانيت راقدة في الفراش. كانت هازل قد ساعدتها على الرقود، حيث كانت أنطوانيت تشعر بدوار شديد ولم تستطع معه تمالك نفسها. ذهبت أنطوانيت إلى الفراش مرتدية قميصها التحتي وطلبت منشفة حتى تزيل ما تبقى من مكياجها ولا تفسد كيس الوسادة، ثم طلبت منشفة في حال تقيأت مرة أخرى. أخبرت هازل كيف تعلق سترتها - السترة نفسها، لا تزال ناصعة بطريقة مدهشة - في شماعتها المبطنة. كانت غرفة نومها كئيبة وصغيرة. كانت تطل على الجدار المطلي بالجص للمصرف الذي يوجد في الجوار. نامت في سرير نقال إطاره معدني. في التسريحة كانت توجد جميع مستلزمات صبغة شعرها. هل ستنزعج لو أنها أدركت أن هازل رأت هذه الأشياء؟ ربما لا، ربما نسيت هذه الكذبة فعلا، أو ربما هي مستعدة للمضي في الكذب، مثل الملكة، التي تجعل كل ما تقول حقيقة.
قالت هازل: «ذهبت المرأة التي تعمل في المطبخ لتعد لها العشاء ... سيكون العشاء في البوفيه، وعلينا أن نتناول غذاءنا بأنفسنا.»
قال دادلي: «نتناول هذا أولا.» كان قد جلب زجاجة الويسكي. «لم تتمكن الآنسة دوبي من تذكر زوجي.» «ألم تتذكره؟» «كانت هناك فتاة، امرأة شابة بالأحرى تعتني بأمور الآنسة دوبي.»
قال دادلي: «جودي أرمسترونج.»
انتظرت حتى ترى إذا كان سيحجم عن السؤال أكثر، إذا كان سيجبر نفسه على تغيير الموضوع. لم يستطع. «هل لا تزال تحتفظ بشعرها الأحمر المدهش؟»
قالت هازل: «نعم ... هل تظن أنها ستقوم بإزالته عن آخره؟» «تفعل الفتيات أشياء رهيبة في شعورهن. أرى مناظر عجيبة هذه الأيام، لكن لا تنتمي جودي إلى ذلك النوع من الفتيات.»
قالت هازل: «قدمت كعكة فواكه داكنة لذيذة جدا ... طلبت أنطوانيت أن تجلب قطعة لك. أظنها نسيت. أعتقد أنها كانت تشعر بالغثيان عندما رحلنا.»
قال دادلي: «ربما كانت الكعكة مسممة ... على نحو ما تكون غالبا في القصص.» «أكلت جودي قطعتين، وتناولت أنا بضع قطع وأكلت الآنسة دوبي بعض القطع؛ لذا لا أظن أن الأمر كذلك.» «ربما كانت قطع أنطوانيت فقط.» «لم تتناول أنطوانيت أي قطع، فقط بعض الخمر وسيجارة.»
بعد لحظة صمت، قال دادلي: «كيف استضافتكم الآنسة دوبي؟» «ألقت قصيدة طويلة.» «نعم، أتوقع أن تفعل ذلك. قصائد قصصية، مثلما تسمى حقا، لا قصائد. هل تتذكرين أي قصيدة قصصية كانت هذه؟»
كانت الأبيات التي وردت إلى ذهن هازل هي تلك التي تتحدث عن العذرية، لكنها أحجمت عن إلقائها باعتبارها خارجة جدا، وحاولت أن تفتش في ذاكرتها عن غيرها.
قالت في حذر: «اغمسيني أولا في سطل لبن؟ ... ثم في سطل ماء؟»
صرخ دادلي قائلا في سرور بالغ: «لكن أمسكيني جيدا، لا تدعيني أسقط، سأكون والد طفلك!»
بينما كانت الأبيات الأولى التي تذكرتها أولا تتسم بعدم لباقة بالغة، لم يبد أنه يعبأ بذلك. في حقيقة الأمر، أسند ظهره إلى مقعده وبدا مستريحا، ورفع رأسه وبدأ في إلقاء القصيدة نفسها التي كانت قد ألقتها الآنسة دوبي، وإن كانت بوقع هادئ، بأسلوب مميز، وفي صوت ذكوري رائع، حزين، دافئ. اتسع استخدامه للكنة الاسكتلندية، لكن مع سماعها جانب كبير من القصيدة من قبل، ضد إرادتها تقريبا، استطاعت هازل تمييز كل كلمة. أمسك الصبي من جانب الجنيات، يعيش حياة المغامرات والترف - لا يستطيع الشعور بالألم - لكنه يصبح متحفظا أكثر مع كبره في السن، مذعورا من أن «يدفع ضريبة للجحيم»، ويتوق إلى الدفء البشري؛ لذا قام بإغواء فتاة وقحة وأرشدها إلى طريقة تحريرها إياه. كان عليها أن تحرره عن طريق الإمساك به بقوة، الإمساك بأي شيء تحوله الجنيات إليه، الإمساك به حتى تستنفد حيلهم، ويدعونه يذهب. بالطبع، كان أسلوب دادلي في الإلقاء قديما، بالطبع كان يسخر من نفسه قليلا. كان ذلك ظاهريا فقط. كان هذا الإلقاء مثل الغناء. تستطيع أن تعبر أيما تعبير عن رغبتك الشديدة دون أن تخشى أن تصبح مغفلا. «شكلوه بين ذراعيها أخيرا،
رجلا عاريا كما ولدته أمه،
لفته في عباءتها الخضراء،
وهكذا صار حبها الحقيقي!»
أنت والآنسة دوبي، يا لكما من ثنائي رائع! •••
قالت هازل: «رأينا المكان حيث ذهبت لملاقاته ... في طريق عودتنا، أرتني أنطوانيت المكان. هناك بحذاء النهر.» كانت تظن أن من الأمور العجيبة أن تكون هنا، في خضم حياة هؤلاء الناس، شاهدة على ما رأته من تدبير أمرهم، على جراحهم. لم يكن جاك هنا، لم يكن جاك هنا، لكن ها هي كانت هنا.
قال دادلي، بنبرة إزدراء وانفعال، «كارترهو؟ ... لا يقع بحذاء النهر! لا تعرف أنطوانيت عما تتحدث! هذا هو الحقل المرتفع الذي يطل على النهر. هناك حيث كانت توجد خواتم الجنيات. فطريات. إذا ظهر القمر، نستطيع أن نخرج الليلة ونلقي نظرة على المكان.»
كان هازل تستشعر شيئا، وبدأ الشك يتسرب إليها. الجنس. شعرت بأن عينيها تتسعان، جلدها يتقلص، أطرافها تتراخى، في حذر. لم يكن القمر ليظهر؛ كان ذلك هو الشيء الآخر الذي أوضحته نبرة صوته. صب المزيد من الويسكي، ولم يكن ذلك بغرض تيسير عملية الإغواء. كل الإيمان والطاقة، البراعة، النسيان اللازم للتحكم في أية علاقة قصيرة - كانت هازل تعرف؛ إذ دخلت من قبل في علاقتين قصيرتين، واحدة في الجامعة والأخرى في أحد مؤتمرات المدرسين - كل ذلك تجاوزاه الآن. كانا سيرغبان في السماح للانجذاب بأن يكتسحهما ثم ينحسر. كانت أنطوانيت ستصبح غير ممانعة، هكذا كانت هازل متأكدة. كانت أنطوانيت ستفسح المجال لشخص سيمضي إلى حال سبيله - شخص لا يهم على الإطلاق - أشبه بالأمريكيين. كان ذلك شيئا آخر يجعلهما يتراجعان؛ عدم ممانعة أنطوانيت. كان ذلك كافيا حتى يفكرا في الأمر مليا، حتى يدققا في الأمر.
قال دادلي بنبرة أكثر خفوتا: «الفتاة الصغيرة ... هل كانت هناك؟» «لا، تذهب إلى الحضانة.» فكرت هازل في كيف كانت تحتاج شيئا ليس بالكثير في واقع الأمر - مجرد إلقاء قصيدة - حتى تتحول بأفكارها من القلق إلى الطمأنينة. «هل تذهب حقا إلى الحضانة؟ يا له من اسم تحمله تلك الطفلة! تانيا!»
قالت هازل: «هذا ليس اسما غريبا جدا ... ليس في هذه الأيام.» «أعلم ذلك. جميعهن يحملن أسماء دولية غريبة، مثل تانيا وناتاشا وإيرين وسولانج وكارمن. لا تحمل أي منهن أسماء من العائلة. تلك الفتيات صاحبات الشعر الذي يشبه عرف الديك اللائي أراهن في الشوارع. ينتقين الأسماء. هن الأمهات.»
قالت هازل: «لدي حفيدة تدعى بريتاني ... وسمعت عن فتاة صغيرة تدعى كابتشينو.» «كابتشينو! هل هذا صحيح؟ لماذا لا يسمون طفلة باسم كاسوليه؟ فتوشيني؟ ألزاس-لورين؟» «ربما.» «شليسفيج-هولشتاين! هذا اسم آخر جيد لك!»
قالت هازل: «متى رأيتها آخر مرة؟ ... تانيا؟»
قال دادلي: «لا أراها ... لا أذهب إلى هناك. بيننا بعض المعاملات المالية، لكنني لا أذهب إلى هناك.»
كادت تقول له : حسنا، يجب أن تذهب. يجب أن تذهب، ولا تضع ترتيبات غبية تسمح بأن تتدخل أنطوانيت وتفسدها، مثلما فعلت اليوم. لكن كان هو من تحدث أولا. مال نحوها وتحدث إليها في نبرة مخلصة، ثملة. «ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أجعل امرأتين سعيدتين.»
عبارة ربما كانت سخيفة، متعجرفة، مراوغة.
لكنها كانت عبارة صحيحة. توقفت هازل. كانت العبارة صحيحة. في البداية، بدت العبارة منطبقة تماما على جودي، وذلك بالنظر إلى طفلتها ووحدتها وشعرها الجميل. لكن لماذا يجب أن تخسر أنطوانيت، فقط لأنها كانت دوما في منافسة لفترة طويلة، تستطيع الحساب، وتتحمل هجرها، وتعرف كيف تبذل مجهودا حتى تبدو في أجمل صورة؟ لا بد أن أنطوانيت كانت خدومة ووفية وربما رقيقة سرا. لم تطلب حتى الاستحواذ على قلب رجل بالكامل. ربما تغض الطرف عن زيارة سرية مرة كل حين. (لكنها ستحزن لا شك، سيكون عليها أن تدير رأسها بعيدا وتتقيأ.) لن تتسامح جودي مع هذا على الإطلاق. ستنفجر غاضبة مع حماسة قصيدة قصصية، تسب وتلعن. لا يستطيع تحمل هذه المعاناة، هذه الشكوى؛ إذن هل أحبطت أنطوانيت محاولاته لمصلحته؟ لا بد أن هذه هي الطريقة التي يجب أن ترى بها الأمور - الطريقة التي ربما يراها أيضا بعد فترة قصيرة. حتى الآن، ربما؛ وقد أثارت القصيدة القصصية قلبه وأراحته.
كان جاك قد قال شيئا مثل ذلك ذات مرة، لا عن امرأتين بل عن جعل امرأة واحدة - حسنا، كانت تلك هازل - سعيدة. رجعت بذاكرتها إلى ما قاله «أستطيع أن أجعلك سعيدة جدا.» كان يقصد أنه يستطيع أن يجعلها تبلغ قمة نشوتها الجنسية. كان شيئا يقوله الرجال آنذاك، عندما كانوا يحاولون أن يغرين النساء، وكان ذلك ما كانوا يقصدونه. ربما لا يزالون يقولون ذلك. ربما ليسوا على هذه الدرجة من المباشرة هذه الأيام. وقد كان صادقا فيما كان يعد به، لكن لم يخبر أحد هازل بذلك من قبل، وكانت مندهشة، أخذة الوعد بمعناه الظاهري. بدا الأمر طائشا، كاسحا بالنسبة إليها، باهرا، لكن وقحا. كان عليها أن تجرب حتى ترى نفسها آنذاك كشخص يمكن أن «يجعله آخر سعيدا». كل الكتلة المعقدة القلقة المتوترة التي تمثلها هازل؛ هل كان ذاك شيئا يمكن احتواؤه و«جعله سعيدا»؟
في أحد الأيام، بعدها بنحو عشرين سنة، كانت تقود السيارة في الشارع الرئيسي في والي ورأت جاك. كان ينظر من وراء الواجهة الأمامية لمتجر الأدوات المنزلية. لم يكن ينظر في اتجاهها، لم ير سيارتها. كان ذلك أثناء ذهابها إلى الجامعة. كان لديها بعض المهام التي تقوم بها، صفوف تحضرها، أوراق، معامل، أعمال منزلية. كانت تلاحظ وجود الأشياء فقط عندما كانت تتوقف دقيقة أو دقيقتين - مثلما توقفت الآن - تنتظر إشارة المرور. انتبهت إلى وجود جاك - كم كان يبدو نحيفا وشابا، في بنطاله الفضفاض وكنزته - كم كان واهيا، تنقصه الحيوية. لم ترد إلى ذهنها أي إشارة واضحة تقول: إن جاك سيموت هناك في المتجر. (مات هناك؛ سقط على الأرض بينما كان يتحدث إلى أحد العملاء - لكن كان ذلك بعدها بسنوات.) لم تأخذ في اعتبارها، هكذا فجأة، إلام صارت حياته - ليلتين أو ثلاث أسبوعيا في رابطة المحاربين، الليالي الأخرى يقضيها ممددا على الأريكة من وقت العشاء إلى النوم، يشاهد التليفزيون ويشرب. ثلاثة كئوس، أربعة. لم يكن قط دنيئا صاخبا، لم يفقد صوابه قط. كان يشطف كأسه في الحوض قبل أن يذهب إلى الفراش. حياة تتألف من مهام رتيبة، أعمال روتينية، مواسم، ومسرات. كان كل ما لاحظته هو هدوءه - يبدو كطيف. كانت ترى أن وسامته - نوعا من وسامة غالبة في زمن الحرب العالمية الثانية، مثلما شعرت، تميزها روح مرحة وسكون أبي - كانت لا تزال موجودة وإن زال عنها كثير من حيويتها. عذوبة كالطيف تلك التي ظهرت لها منه، عبر الواجهة الزجاجية.
ربما تجاهد من أجل بلوغه الآن مثلما كانت آنذاك. مفعمة بالآمال المحطمة، والاندفاع، والاتهامات. لم تطلق لنفسها العنان آنذاك - فكرت في أحد الاختبارات، أو في شراء البقالة. وإذا أطلقت لنفسها العنان الآن، فسيصبح الأمر مثل اختبار الشعور بالألم في أحد الأطراف المبتورة. اختبار سريع، وخزة تستجلب هيئة الشعور بكاملها متجسدة. سيكون ذلك كافيا. •••
كانت ثملة قليلا بحلول هذا الوقت، وحدثت نفسها بأن تقول لدادلي براون إنه ربما كان يجعل هاتين المرأتين سعيدتين بالفعل. ماذا عساها كانت تعني بذلك؟ ربما كان يمنحهما شيئا تصب كل واحدة منهما اهتمامها فيه. فاصل صعب البلوغ ربما تتخطينه يوما ما في رجل ما، عقدة في عقله ربما تحلينها، ثبات فيه ربما تحركينه، أو غياب ربما تجعلينه يأسف عليه - سيجعلك شيء كذلك تنتبهين، حتى عندما تظنين أنك طوعت نفسك على ألا تفعلي. هل يمكن أن يقال إن ذلك يجعلك سعيدة؟
في الوقت نفسه، ماذا يجعل الرجل سعيدا؟
لا بد أن ذلك شيئا مختلفا تماما.
البرتقال والتفاح
قال والد موراي: «عينت امرأة فاتنة من خارج شوتاون ... تنتمي إلى عائلة ديلاني، لكن حتى الآن لا يبدو أن لديها أي عادات سيئة. وضعتها في قسم ملابس الرجال.»
كان ذلك في ربيع عام 1955. كان موراي قد تخرج لتوه في الجامعة. عاد إلى دياره ورأى في الحال أي قدر كان في انتظاره. كان يستطيع أي شخص معرفة هذا القدر؛ كان باديا على وجه أبيه الداكن، الأجوف، والذي ينمو يوميا تقريبا في معدته الورم الذي سيؤدي إلى حتفه قبل الشتاء. خلال ستة أشهر سيتولى موراي المسئولية، سيجلس في مكتب الإدارة الصغير المعلق مثل قفص في الجانب الخلفي للمتجر، والذي كانت أرضيته مصنوعة من المشمع.
كان متجر زيجلرز آنذاك لا يزال يسمى زيجلرز ديبارتمنت ستور. كان عمر المتجر من عمر المدينة نفسها. المبنى الحالي - المكون من ثلاثة طوابق، المشيد من الطوب الأحمر، المكتوب اسمه بأحرف طوبية رمادية مائلة بدت دوما، بالنسبة إلى موراي، أنيقة وشرقية الطابع على نحو مدهش - كان قد أقيم في عام 1880، مكان مبنى آخر من الخشب. بينما لم يعد المتجر يبيع البقالة أو الأدوات المعدنية، كان لا يزال يبيع ملابس الرجال، والسيدات، والأطفال، والبضائع الجافة، والأحذية الطويلة العنق والعادية، والستائر، والأدوات المنزلية، والأثاث.
كان موراي يختلس النظر ليلقي نظرة على الموظفة الجديدة الفاتنة. وجدها مسمرة خلف صفوف القمصان المغلفة بالسلوفان. كان اسمها باربرا. كانت طويلة وجسدها ممشوق، مثلما قال والده في صوت خفيض آسف. لم يكن شعرها الأسود الكثيف ملفوفا أو مفرودا، كان منبثقا مثل قمة من جبهتها البيضاء العريضة. كان حاجباها كثين وأسودين أيضا، ولامعين. اكتشف موراي بعد ذلك أنها كانت تضع فازلين عليهما، وكانت تنتزع الشعر الذي كان يتلاقى أعلى أنفها.
كانت أم باربرا بمثابة عمود الخيمة في مزرعة ريفية قصية. عندما ماتت، هاجرت العائلة إلى شوتاون، التي كانت مستعمرة مزدحمة، نصف ريفية على حافة مدينة والي. كان والد باربرا يعمل في وظائف غريبة، وكان أخواها قد وقعا في مشكلات مع القانون، بسبب سرقة السيارات وبيعها. اختفى أحدهما لاحقا. وتزوج الآخر فتاة متسلطة إلى حد ما واستقر. كان هذا هو الأخ الذي كان يأتي إلى المتجر في هذا الوقت ويتجول فيه، بحجة زيارة باربرا.
كانت باربرا تقول للموظفين الآخرين: «راقبوه ... هو أبله، لكنه يعرف كيف يسرق الأشياء بخفة شديدة.»
عند سماعه ذلك، دهش موراي لانعدام الشعور العائلي لديها. كان موراي ابنا وحيدا، ليس ابنا مدللا بل مفضلا، وكان يشعر بأنه مقيد من خلال قيود الالتزام، والتأدب، والحب. بمجرد عودته إلى الديار من الجامعة، كان عليه أن يتجول محييا جميع الأشخاص الذين كانوا يعملون في المتجر، كان يعرف معظمهم منذ الطفولة. كان عليه أن يتبادل أطراف الحديث والابتسام في شوارع والي، في دماثة مثل ولي عهد.
كان أخو باربرا قد أمسك به ومعه زوج من الجوارب في أحد الجيوب، ولفافة من مشابك الستائر في الجيب الآخر.
سأل موراي باربرا قائلا: «ماذا تظنين أراد أن يصنع بمشابك الستائر؟» كان قلقا أن يمزح معها حول هذا الأمر، محاولا أن يظهر لها كيف أن لا غبار عليها بسبب أخيها.
قالت باربرا: «كيف لي أن أعرف؟»
قال موراي: «ربما يحتاج إلى علاج نفسي.» كان موراي قد تلقى بعض الدورات في علم الاجتماع؛ حيث كان يأمل أن يصبح في وقت ما قسا في الكنيسة المتحدة.
قالت باربرا: «ربما يجب شنقه.»
وقع موراي في حبها آنذاك، إذا لم يكن قد وقع في حبها قبل ذلك بالفعل. إنها فتاة نبيلة، هكذا حدث نفسه. زنبقة سوداء الشعر وبيضاء البشرة، جريئة خارجة من رحم مستنقع أيرلندي - مثل الشخصية الروائية المعروفة لورنا دون، لكن بلسان ألذع وعود أصلب. لن تحبها أمي، هكذا حدث نفسه. (كان محقا في ذلك تماما.) كان أكثر سعادة مما كان في أي وقت آخر منذ تخليه عن دينه. (كانت تلك طريقة غير مرضية للتعبير عن الأمر. كان الأمر كما لو كان قد ولج إلى غرفة محكمة الغلق، أو فتح درجا ووجد أن إيمانه قد نضب، وتحول إلى كومة من التراب في أحد الأركان.)
كان يقول دوما إنه قرر على الفور أن تكون باربرا له، لكنه لم يستخدم أي أساليب بخلاف إظهار تقديسه الشديد لها. كانت تتوفر لديه قدرة على تقدير الآخرين إلى حد التقديس خلال فترة دراسته كلها، فضلا عن طبيعته الطيبة وميله إلى مصادقة الأشخاص الأقل حظا، لكنه كان حازما بما يكفي - كانت تتوفر لديه ميزات خاصة - بحيث لا يقع في شرك مشكلات خطيرة. كان يستطيع تجاوز المشكلات الصغيرة.
رفضت باربرا أن تركب كممثلة لتجار وسط المدينة في عربة بموكب مسابقة ملكة الجمال، ضمن احتفالات يوم السيادة.
قال موراي: «أتفق معك تماما ... مسابقات الجمال أمر مهين.»
قالت باربرا: «السبب هو تلك الزهور الورقية، فهي تجعلني أعطس.» •••
يعيش موراي وباربرا الآن في منتجع زيجلرز، على بعد خمسة وعشرين ميلا أو نحو ذلك شمال غرب والي. الأرض هنا غير ممهدة ومنحدرة. ترك المزارعون الأراضي هنا في مطلع القرن وتركوها تتحول مجددا إلى أدغال. اشترى والد موراي مائتي فدان منها وشيد كوخا بدائيا وأطلق على المكان معسكر الصيد. عندما فقد موراي المتجر في والي، والمنزل الكبير والمنزل الصغير الموجودين على قطعة الأرض خلف المتجر، قدم إلى هنا بصحبة باربرا وطفليهما الصغيرين. كان يقود حافلة مدرسية للحصول على دخل نقدي، وكان يعمل طوال الوقت المتبقي في بناء ثمانية أكواخ جديدة وتجديد الكوخ الذي كان موجودا هناك، لتكون بمثابة منتجع ومقر سكن لعائلته. تعلم أعمال النجارة، والبناء، والأعمال الكهربية، والسباكة. كان يقطع الأشجار ويقيم السدود على الجدول وينظف قاع الجدول وينقل الرمال في شاحنات، لصنع حوض سباحة وشاطئ. لأسباب واضحة (مثلما يقول) كانت باربرا تتولى الأمور المالية.
يقول موراي إن قصته قصة شائعة. هل تستحق أن يطلق عليها قصة كلاسيكية؟ «بدأ جدي الأكبر المتجر. وضع حجر الأساس له كأحد أهم المتاجر في المنطقة. حافظ أبي على ذلك، وأضعت أنا كل شيء.»
لا يجد موراي حرجا في إخبار الآخرين بقصته، وإن كان لا يتحين الفرصة دوما للحديث عن الأمر بحيث يزيح عبء الأمر برمته عن كاهله. يعتاد الضيوف مشاهدة موراي يعمل دوما؛ إصلاح حوض الزوارق، طلاء الزوارق، نقل البقالة، شق المصارف. يبدو موراي كفئا ورزينا، وملتزما جدا في سعة صدر بأي عمل يقوم به، حتى إن الآخرين يظنون أنه مزارع تحول إلى مدير منتجع. يحظى موراي بنوع الصبر والود غير الفضولي، والجسد غير الرياضي لكن القوي الذي لا يخذله، والوجه الذي لفحته الشمس، والهيئة الصبيانية الآخذة في الهرم، التي يجدها الآخرون في رجل ريفي. يأتي الضيوف أنفسهم لزيارة المنتجع عاما بعد عام، وفي بعض الأحيان يصبحون أصدقاء تجري دعوتهم في الليلة الأخيرة لإقامتهم لتناول العشاء على مائدة العائلة. (يعتبر من قبيل الإنجاز، بين المترددين بانتظام على المنتجع، مصادقة باربرا الأبية. لا يستطيع البعض مصادقتها على الإطلاق.) ثم إنهم ربما يستمعون إلى موراي يروي حكايته.
يقول موراي: «كان جدي معتادا على الصعود إلى سطح مبنانا في والي ... كان يصعد إلى السطح ويلقي بالمال إلى الأسفل، عصر كل أيام السبت. عملات معدنية فئة ربع دولار، فئة عشرة سنتات، ونكلات - عملات فئة خمسة سنتات، أعتقد كان يطلق عليها هذا آنذاك. كان ذلك يجتذب جموع الناس. كان الرجال الذين أنشئوا مدينة والي رجالا يميلون إلى الاستعراض. لم يتلقوا تعليما جيدا. لم يكونوا راقين. كانوا يظنون أنهم يبنون مدينة مثل مدينة شيكاجو.»
يقول موراي إن الأمر اختلف بعد ذلك. جاءت السيدات الأرستقراطيات وأصحاب المدارس والمدرسة الثانوية. انتهى عصر الصالونات وبدأ عصر إقامة الحفلات في الحدائق. كان والد موراي أحد أكابر كنيسة سانت أندروز؛ كان يمثل حزب المحافظين. «هذا أمر مضحك، كنا معتادين على قول «يمثل» بدلا من «يترشح عن». كان المتجر بمثابة مؤسسة في ذلك الوقت. لم يتغير شيء لعقود طويلة. واجهات العرض القديمة ذات الغطاء الزجاجي المقوس، والعملات المعدنية تتساقط في حيوية فوق الرءوس في تلك الحاويات المعدنية. كانت المدينة بأسرها مثل ذلك، حتى الخمسينيات. لم تكن أشجار الدردار قد ماتت بعد. كانت قد بدأت تموت. في الصيف، كانت المظلات القماشية القديمة توجد في جميع أنحاء الميدان.»
عندما قرر موراي أن يحدث المتجر، قام بذلك على خير وجه. كان ذلك في عام 1965. غطى المبنى بأسره بالجص الأبيض، مع تغيير واجهات العرض القديمة. جلب واجهات عرض صغيرة، راقية المظهر، وضعت في مستوى العين، بطول الشارع، كما لو كانت مخصصة لعرض مجوهرات التاج الملكي. كان الاسم زيجلرز - كتب هذا الاسم فقط - مكتوبا عبر الجص في خط متدفق، ونيون وردي. تخلى عن الطاولات التي تصل إلى الوسط، وفرش البسط على الأرضيات الملمعة، وزود المتجر بمصادر إضاءة غير مباشرة ومرايا كثيرة. وضع مصدر إضاءة كبيرا فوق الدرج. (كان هناك تسرب منه، وكان لا بد من تصليحه، وجرى تفكيكه قبل الشتاء الثاني.) أشجار في الداخل وأحواض مائية صغيرة، وشيء يشبه النافورة في قسم ملابس السيدات.
ضرب من الجنون.
في الوقت ذاته، كان المركز التجاري قد فتح أبوابه جنوب المدينة. هل كان يجب على موراي الانتقال إلى هناك؟ كان موراي غارقا حتى أذنيه في الديون ما لم يمكنه من الانتقال. أيضا، صار مروجا لمنطقة وسط المدينة. فهو لم يكتف بتغيير صورة متجر زيجلرز، بل غير نفسه أيضا وصار مشاركا دائما وصاخبا في المجلس المحلي. كان عضوا في لجان كثيرة. كان عضوا في لجنة التشييد. هكذا اكتشف أن رجلا من لوجان، يعمل وسيطا ومطورا عقاريا، كان يحصل على تمويل حكومي لترميم المباني القديمة لكنه كان في حقيقة الأمر يهدم المباني القديمة، ويحافظ على جزء فقط من أساسها ليصبح بعد ذلك جزءا من وحداته السكنية الجديدة القبيحة، المشيدة تشييدا سيئا، والتي كانت تدر عليه أرباحا كبيرة.
يقول موراي عندما يتذكر ذلك: «يا له من فساد! ... قررت أن يعرف الناس بالأمر. كنت أكتب عنه بحماس شديد في الصحيفة المحلية، وأتحدث عنه في واقع الأمر مع المارة. ماذا كنت أظن حينها؟ هل كنت أظن أن الناس «لم تكن» تعرف؟ لا بد أن ذلك كان بمثابة تهور واضح معلوم العواقب. كان كذلك في حقيقة الأمر. صرت شخصا مهاجما ومصدرا للنميمة العامة، حتى جرى استبعادي من لجنة التشييد. فقدت المصداقية. هكذا قالوا. خسرت المتجر أيضا. انتقلت ملكية المتجر للمصرف. فقدت أيضا المنزل الكبير الذي بناه جدي، والمنزل الصغير الذي يوجد على قطعة الأرض نفسها؛ حيث كانت باربرا وأنا والأطفال نعيش. لم يستطع المصرف مصادرتهما، لكنني قمت ببيعهما، حتى أسدد ديوني، هكذا كنت أريد أن يكون الأمر. لحسن الحظ أن أمي ماتت قبل أن تحل هذه الكارثة.»
في بعض الأحيان، تترك باربرا الجمع أثناء حديث موراي. يمكن أن تذهب لجلب المزيد من القهوة، وربما تعود بسرعة، أو ربما تصطحب الكلب سادي في نزهة إلى حوض السباحة، وسط جذوع أشجار البتولا والحور الشاحبة، تحت أشجار الشوكران المتهدلة. لا يجد موراي حرجا في تفسير سبب غيابها، على الرغم من أنه يترقب، دون أن يبدو عليه ذلك، حتى تعود مجددا. كل من يصادقهما يجب أن يفهم كيف توازن باربرا بين التواصل مع الآخرين والانقطاع عنهم، مثلما يجب أن يفهم أن باربرا لا تريد أن «تفعل» أي شيء. بالطبع تقوم باربرا بالكثير من الأشياء؛ تطهو، تدير المنتجع، لكن عندما يكتشف الناس كم قرأت، وأنها لم تذهب إلى الجامعة قط، يشيرون عليها في بعض الأحيان بأنها يجب أن تذهب إلى الجامعة، وأنها يجب أن تحصل على درجة علمية.
تسأل باربرا: «لم؟»
ثم يتضح أنها لا ترغب في أن تكون مدرسة، أو أكاديمية، أو أمينة مكتبة، أو محررة، كما أنها لا تريد أن تصنع برامج وأفلاما وثائقية تليفزيونية، أو تقدم مراجعات للكتب، أو تكتب مقالات. إن قائمة الأشياء التي لا ترغب في أن تفعلها طويلة جدا. ظاهريا، هي ترغب في عمل ما تقوم به؛ تقرأ، تذهب في نزهات سير، تأكل وتشرب في متعة، ترافق صحبة ما. وما لم يقدر الآخرون ذلك فيها - أوقات انطوائها، كسلها الشديد (تساورها حالة من الكسل حتى حين تكون بصدد طهو وجبة رائعة لثلاثين شخصا) - لا يظلون ضمن الصحبة التي تسمح بمرافقتها.
عندما كان موراي مشغولا بعمليات التجديد واقتراض المال والانخراط في أنشطة المجلس المحلي، كانت باربرا تقرأ. إنها كانت تقرأ دوما، لكنها جعلت القراءة تأخذ قدرا أطول من وقتها. بدأ الأطفال في الذهاب إلى المدرسة. في بعض الأيام، لم تكن باربرا حتى تبرح المنزل. كان هناك فنجان قهوة دوما إلى جانب مقعدها، وكومة من الكتب المتربة الضخمة من المكتبة؛ «تذكر أشياء فائتة»، «يوسف وإخوته»، كتب ألفها كتاب روس أقل شهرة لم يسمع موراي عنهم من قبل قط. إن باربرا مهووسة بالقراءة، مثلما كانت أمه تقول - ألا تقلق من جلب كل هذه الكتب من المكتبة إلى المنزل؟ لا تستطيع أن تعرف أبدا من أمسك بهذه الكتب قبلها.
بقراءة هذه الكتب الثقيلة، صارت باربرا أثقل وزنا. ورغم أنها لم تصبح بدينة في حقيقة الأمر، زاد وزنها بمقدار عشرين أو خمسة وعشرين رطلا، كانت موزعة جيدا على قوامها الطويل، الذي لم يكن رقيقا قط. تغير وجهها أيضا - غشي اللحم معالمه الواضحة، ما جعلها تبدو أكثر نعومة وأصغر سنا. انتفخت وجنتاها وصار فمها أكثر غموضا. في بعض الأحيان، كان لديها - ولا تزال - تعبير الفتاة الصغيرة المستغرقة في أفكارها والعنيدة بعض الشيء. حاليا، تقرأ كتبا قصيرة لكتاب تشيكيين، أو يابانيين، أو رومانيين، لكنها لا تزال ثقيلة الوزن. لا يزال شعرها طويلا أيضا، وأسود، فيما عدا المنطقة حول الوجه، التي صارت بيضاء، كما لو كانت يلفها وشاح أبيض. •••
يقود موراي وباربرا السيارة خارج منطقة التلال، من الطرق المتعرجة التلية، إلى الطرق المستوية والمستقيمة للأراضي الزراعية. هما ذاهبان إلى والي لسبب محدد. قبل أسبوعين اكتشفت باربرا وجود ورم في أحد ردفيها. كانت تجفف نفسها بعد خروجها من بركة السباحة - كانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسبح فيها، الدفقة الأخيرة من الطقس الدفيء خلال العام. كان الورم في حجم البلية. قالت دون أي شعور بالندم أو الذعر: «إذا لم أكن بدينة جدا، كنت سأكتشف هذا الورم على الأرجح قبل ذلك.» كانت وموراي يتحدثان عن الورم كما لو أنه سن نخرها السوس؛ مصدر إزعاج يجب التعامل معه. أزالت الورم في المستشفى في والي، ثم كان لا بد من أخذ عينة منه.
سألت الطبيب: «هل يمكن أن يكون هناك سرطان في الأرداف؟ يا له من أمر مهين!»
قال الطبيب إن الورم ربما لا يكون سوى مؤشر لشيء ما أكبر؛ مجموعة من الخلايا الخبيثة مصدرها مكان ما في الجسد. رسالة خفية. وربما تبقى مجرد سر غامض - خلايا خبيثة قد لا يمكن اكتشاف مصدرها قط. هذا إذا ثبت أنها خلايا خبيثة من الأساس. قال الطبيب: «سيظل المستقبل غامضا حتى نعرف كنه الأمر.»
هاتفتهما بالأمس موظفة الاستقبال لدى الطبيب وقالت إن النتائج ظهرت، حددت موعدا لباربرا لرؤية الطبيب في عيادته في والي في ذلك اليوم.
قال موراي: «هل هذا هو كل ما في الأمر؟» «كل ماذا؟» «هل هذا هو كل ما قالته؟» «كانت هذه هي موظفة الاستقبال، كان ذلك هو كل ما يفترض أن تقول.»
يقودان بين جدران من الذرة. تبلغ السيقان ثمانية أو تسعة أقدام ارتفاعا. سيقوم المزارعون بقطعها في أي وقت خلال الفترة القادمة. كانت الشمس منخفضة بحلول منتصف ما بعد الظهيرة بما يكفي لتتخلل أشعتها سيقان الذرة وتحولها إلى اللون الذهبي النحاسي. يقودان عبر تألق منتظم من الضياء، ميلا بعد ميل.
ظلا مستيقظين إلى وقت متأخر في الليلة الماضية. شاهدا فيلما قديما جدا؛ «أثر شجرة الصنوبر الوحيدة». كان موراي قد شاهد الفيلم عندما كان طفلا، في سينما روكسي، في والي. كل ما كان يتذكره من الفيلم هو مقتل بادي وتكسير هنري فوندا التابوت المصنوع من شجر الصنوبر.
عند تفكيره في ذلك بدأ في الغناء. «أوه، قطعوا شجرة الصنوبر القديمة، ونقلوها إلى مصنع الأخشاب.» ثم يقول مقاطعا نفسه: «كنت أظن دوما ... أن تلك الأغنية كانت في ذلك الفيلم.»
تواصل باربرا الغناء: «لصنع تابوت من خشب الصنوبر، لحبيبتي.» ثم تقول: «لا تكن دقيقا هكذا.»
يقول موراي: «لم أكن كذلك ... نسيت ما جاء بعد ذلك.» «لا تأت وتجلس في غرفة الانتظار. إنها مريعة. اذهب إلى الشاطئ وانتظرني. سأنزل عبر درجات غروب الشمس.»
كان عليهما أن يقودا مرورا بالمزرعة حيث اعتادت بياتريس سويكي تربية الخيول. كانت لديها مدرسة للتدريب على امتطاء الخيول، لكنها لم تستمر طويلا. كانت تستضيف الجياد آنذاك، ولا بد أنها كانت تدر دخلا من وراء ذلك؛ نظرا لأنها كانت تواظب على عمل ذلك، كانت تقيم هناك حتى أربع أو خمس سنوات مضت، وعندما باعت المزرعة كما يبدو، انتقلت إلى مكان آخر. لم يعلما إلى أي مكان رحلت، كانا قد رأياها مرات قليلة في المدينة، لكنهما لم يتحدثا إليها قط. عندما كانا يمران على المزرعة، وكانا يريان الجياد في الحقول، كان يقول أحدهما: «ترى ماذا حدث لفيكتور؟» لم يكن ذلك في كل مرة كانا يمران فيها على المزرعة، بل مرة سنويا، كان أحدهما يقول ذلك، وكان الآخر يجيب قائلا: «الرب أعلم.» أو شيئا من هذا القبيل، لكنهما لا يكترثان بالإشارة إلى الأمر منذ أن رحلت بياتريس وجيادها. •••
في المرة الأولى التي جاء فيها فيكتور سويكي إلى المتجر، تفرقت الموظفات - مثلما قال موراي لباربرا - وكأنهن حمائم دنت منهن قطة. في حقيقة الأمر، كان كثير من الموظفات اللائي ورثهن موراي مع المتجر يبدون مثل الحمائم؛ كن آنسات ذوات شعر أبيض لم يمنع عدم زواجهن إصابتهن بالسمنة وكبر صدورهن. كان من السهل تصور وجود نوع من الإثارة داخل تلك الصدور عند رؤية فيكتور. جاءت إحداهن تهذي بكلام غير مفهوم وهي تصعد السلم إلى مكتب موراي الصغير لتخبره أن هناك رجلا غريبا عن البلدة بالمتجر، وأن أيا من الموظفات لم تستطع معرفة ماذا كان يريد.
كان يريد شراء ملابس عمل. كان من الصعب جدا تحديد ماذا كان يقول. (رغم كل شيء، كان قد عاش في إنجلترا عدة سنوات.) لم تكن لكنة فيكتور البولندية هي التي أزعجت الموظفات في متجر زيجلرز، بل هيئته. صنف موراي فيكتور مباشرة في الفئة نفسها من البشر التي تنتمي إليها باربرا، لكن من بين الاثنين وجد فيكتور الأكثر إبهارا وإزعاجا. فحين كان ينظر إلى باربرا كان يحدث نفسه قائلا: هذه فتاة نادرة، لكنها ما زالت فتاة، وكان يرغب في مضاجعتها. (هما الآن متزوجان منذ سبع سنوات.) أما فيكتور فقد جذب انتباهه باعتباره حيوانا بهيا أنيقا - قل، حصانا من فصيلة بالومينو ذهبيا، جريئا لكن عصبي المزاج، خجل من الضجة التي يثيرها. ستحاول أن تقول شيئا ملطفا لكن يشي بالاحترام، وتمسح على عنقه اللامعة، إذا سمح لك بذلك.
قال موراي: «ملابس عمل.»
كان فيكتور طويلا، ضعيف البنية، وكان يبدو مهذبا. في مقهى فندق بريتش إكستشينج، حيث اعتاد أن يذهب هو وموراي، قالت إحدى النادلات له في أحد الأيام: «هل تمانع في أن تخبرني بشيء؟ كم يبلغ طولك؟ لأننا نجري مراهنة على ذلك هنا.»
قال فيكتور: «أبلغ ستة أقدام وخمس بوصات.» «فقط؟ كنا نخمن أن طولك يبلغ سبعة أقدام.»
كان لون بشرته زيتونيا فاتحا، وشعره أشقر داكنا، وعيناه زرقاوين زرقة خفيفة وبراقتين. كانت عيناه جاحظتين قليلا، ولا يكاد جفناه يرتفعان تماما عن آخرهما. كانت أسنانه كبيرة وصفراء، مثل أصابعه، جراء النيكوتين. كان يدخن طوال الوقت. كان يدخن بينما كان يدقق بحيرة في الملابس الموجودة في متجر زيجلرز. كانت جميعها قصيرة جدا عند الأقدام بالنسبة له.
قال إنه وزوجته، التي كانت إنجليزية، كانا قد اشتريا مزرعة على حافة المدينة. أراد موراي أن يتحدث إليه في غياب الموظفات اللاتي كن يحمن حوله في اندهاش؛ لذا اصطحبه إلى الشارع، للمرة الأولى، وذهبا إلى بريتش إكستشينج. كان يعرف المزرعة التي كان فيكتور يتحدث عنها ، ولم يكن يفكر بها كثيرا، لكن قال فيكتور إنهما لا ينويان زراعتها، سيربيان الجياد ويقيمان مدرسة للتدريب على ركوب الخيل. سأل فيكتور موراي عن رأيه عما إذا كان ذلك سينجح أم لا. هل هناك فتيات ثريات صغيرات في المنطقة؟ «أعتقد إذا كان لديك مدرسة للتدريب على ركوب الخيل، فلا بد أن تكون هناك فتيات ثريات صغيرات. لا يركب سواهن الخيل.»
قال موراي: «تستطيع الإعلان عن ذلك في صحف المدينة، ويمكن أن يأتين في الصيف.» «بالطبع، يأتين إلى المعسكر، إلى معسكر الخيول، هنا وفي الولايات المتحدة، يذهبن دوما في الصيف إلى المعسكر، أليس كذلك؟»
بدا فيكتور مسرورا بهذه الفكرة. كل شيء كان عبثيا بالنسبة إليه، وكل شيء مقبول. فصول الشتاء - هل صحيح أن هناك ثلوجا تتساقط من أكتوبر إلى مايو؟ هل تبلغ الثلوج عتبات النوافذ؟ هل يمكن أن يشرب أحد ماء الأبار دون غليه، أم هل هناك خطر الإصابة بحمى التيفود؟ ما نوع الأشجار، عند قطعها، التي ستوفر أفضل حرارة في الموقد؟
لم يستطع موراي التذكر بعد ذلك أي أسئلة طرحت في اليوم الأول، أو إذا كان ثمة فاصل على الإطلاق بين الأسئلة العملية والأسئلة الأكثر عمومية أو الشخصية. لم يكن يظن أن هناك أي فواصل، كل الأسئلة مختلطة. عندما كان يشعر فيكتور بالحيرة من أي شيء، كان يسأل. متى أقيمت هذه البنايات؟ ما مذهب الناس الأساسي وهل هم متمسكون به؟ من هذا الرجل الذي تبدو عليه أمارات الأهمية، تلك المرأة التي تبدو حزينة؟ في أي نشاط يعمل الناس؟ هل هناك متمردون ملحدون، أشخاص أثرياء جدا شيوعيون؟ ما نوع الجرائم التي ترتكب، متى كانت آخر مرة ارتكبت فيها جريمة قتل، هل يشيع الزنا؟ هل يلعب موراي الجولف، أو يمتلك قاربا ترفيهيا أو يدعوه موظفوه: سيدي؟ (ليس كثيرا، ولا، ولا.) ظلت عينا فيكتور الزرقاوان تشعان سرورا، مهما كان السؤال، ومهما كانت الإجابة. كان يمدد رجليه الطويلتين، ويعقد يديه خلف رأسه. كان يستمتع بكل شيء يسمعه. سرعان ما أخبره موراي كيف كان جده يقذف العملات المعدنية في الشارع، وعن بذل أبيه الداكنة وستراته المبطنة بالحرير، وعن رغبته هو شخصيا في أن يصير قسا. «لكنك لم تصبح كذلك؟» «لقد كفرت.» كان موراي يشعر دوما بأن عليه أن يبتسم عندما يقول هذا. «هذا يعني ...» «أعرف ما الذي يعنيه هذا.»
عندما جاء للبحث عن موراي في المتجر، لم يكن فيكتور يسأل أيا من الموظفين إذا كان يستطيع مقابلة موراي أم لا، بل كان يذهب مباشرة إلى المكتب، عبر السلم إلى القفص الصغير. تحيط بالمكتب جدران من الحديد المطاوع، في مثل طول موراي - حوالي خمسة أقدام وتسع بوصات. كان فيكتور يحاول التسلل خلسة إلى مكتب موراي، لكن كان وجوده بالطبع يثير البلبلة في المتجر، مثيرا موجات متوالية من الانتباه والهواجس والإثارة. كان موراي يعرف في الغالب عندما كان يجيء فيكتور، لكنه كان يتظاهر بأنه لا يعرف. ثم يضع فيكتور - كنوع من المفاجأة - رأسه اللامعة أعلى الجدار، ورقبته بين اثنين من الأسياخ المدببة المزينة. كان يبتسم لهذا التصرف الأحمق.
وجد موراي في ذلك تملقا غير صريح.
بالطبع، كانت هناك قصة كبيرة وراء فيكتور. كان أكبر من موراي بعشر سنوات؛ كان في التاسعة عشرة عندما اندلعت الحرب. كان طالبا آنذاك، في وارسو. كان يتلقى دروسا في الطيران، لكن لم يكن قد حصل على إجازة طيران بعد. مع ذلك، كان يذهب إلى مدرج الطائرات حيث كانت تقبع طائرات القوات الجوية البولندية. وصبيحة الغزو الألماني لبولندا كان موجودا هناك هو وبعض أصدقائه بغرض المرح، وكنوع من المرح أيضا أخذوا بعض الطائرات وطاروا بها إلى السويد. بعد ذلك، ذهب إلى إنجلترا وانضم إلى القوات الجوية البولندية، التي كانت جزءا من سلاح الجو الملكي البريطاني. شارك في غارات كثيرة، وأسقطت طائرته فوق فرنسا. استطاع الهبوط بالمظلة؛ اختبأ في الغابات، وكان يأكل بطاطس نيئة من الحقول، وساعدته حركات المقاومة الشعبية الفرنسية، ثم شق طريقه إلى الحدود الإسبانية. عاد إلى إنجلترا. أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما عرف أنه غير مسموح له بالطيران مجددا. كان يعرف أشياء كثيرة أكثر مما ينبغي. إذا حدث وجرى إسقاط طائرته مجددا واعتقاله واستجوابه، كان يعرف أشياء أكثر مما ينبغي. كان يشعر بخيبة أمل بالغة، واضطراب شديد، وتسبب في إثارة جلبة حوله، حتى أعطي مهمة أخرى؛ إذ جرى إرساله إلى تركيا، في مهمة سرية بصورة أو بأخرى، ليكون جزءا من شبكة كانت تساعد بولنديين وآخرين، كانوا يحاولون الهروب عبر جبال البلقان.
كان ذلك ما كان يفعله بينما كان موراي وأصدقاؤه يبنون نماذج طائرات وينشئون شيئا شبيها بمقصورة القيادة في الطائرة في سقيفة الدراجات في المدرسة، بحيث يمثلون كما لو كانوا يقصفون ألمانيا.
قالت باربرا: «هل تصدق كل هذه الأشياء، حقا؟»
قال موراي في عناد: «كانوا يطيرون فعلا بطائرات بولندية إلى السويد دون أن يلحق الألمان بهم ... وكانت الطائرات تقصف فرنسا ويهرب طياروها.» «هل تظن أن شخصا لافتا للانتباه مثل فيكتور يستطيع الهروب؟ هل تظن أن شخصا لافتا للانتباه على هذا النحو سيجري إرساله في مهمة سرية؟ يجب أن يبدو المرء مثل الممثل أليك جينيس حتى يجري إرساله في مهمة سرية.»
قال موراي: «ربما لأنه يبدو لافتا للانتباه للغاية يبدو لا غبار عليه ... ربما سيبدو وكأنه آخر شخص على الأرض يمكن أن يرسل في مهمة سرية، وسيكون ذلك هو السبب في أن أحدا لن يشك فيه.»
ربما للمرة الأولى، ظن أن شكوك باربرا كانت تلقائية ومزعجة. كانت مثل سمة شخصية، حركة لاإرادية.
كان قد دار هذا الحديث بعد أن جاء فيكتور وبياتريس إلى العشاء. كان موراي قلقا حيال لقاء فيكتور وباربرا. كان يرغب في تقديم كل إلى الآخر، حتى يتباهى بكل منهما أمام الآخر. لكن عندما جاءت الفرصة لم يكونا في أفضل حالتهما، بدا كل منهما متحفظا فاترا عصبيا وساخرا.
كان يوم حفلة العشاء، في أواخر مايو، باردا وممطرا بشكل غريب. كان الطفلان - كانت فليسيتي تبلغ خمسة أعوام آنذاك، وآدم ثلاثة - يلعبان في الداخل طوال اليوم، معطلين باربرا عن أداء أعمالها، ومثيرين الفوضى في غرفة المعيشة، التي كانت قد نظفتها، وبحلول وقت النوم لم يكونا قد تعبا بما يكفي ليخلدا إلى النوم. لم تسهم الأمسية الخفيفة الطويلة بأي حال من الأحوال في جعل الطفلين ينامان. كانت هناك طلبات كثيرة لتناول الماء، وشكاوى من وجود مغص، وشكاوى من كلب كاد يعض فليسيتي الأسبوع الماضي. أخيرا، هرع آدم إلى غرفة المعيشة لا يرتدي سوى القطعة العلوية فقط من بيجامته، وهو يصرخ: «أريد بيكي، أريد بيكي.» كانت «بيكي» كلمة يستخدمها الصغير للإشارة إلى «البسكويت»، والتي لم يعد يستخدمها. كان يبدو على الأرجح أن فليسيتي أوحت إليه بعمل هذا المشهد التمثيلي، وربما دربته عليه. رفعه موراي إلى أعلى وحمله إلى غرفة الأطفال وضربه بشدة على مؤخرته العارية، ثم ضرب فليسيتي بشكل أعنف، وعاد إلى غرفة الطعام وهو يحك يديه معا، لاعبا دورا كان يكرهه، ألا وهو دور المؤدب الحازم. بينما ظل باب غرفة الأطفال مغلقا، لم يحل ذلك دون أن يخرج منها صوت صراخ طويل وغاضب.
سار كل شيء على نحو سيئ منذ بداية هذه الزيارة. كان موراي قد فتح الباب وقال دون تحفظ: «تلقي أشجار الكستناء بمشاعلها، وتتدفق الزهور من الزعرور البري بسبب الرياح!» مشيرا إلى الطقس، وظانا أن بياتريس ستستحسن سماع قصيدة إنجليزية. قال فيكتور باسما ومتحيرا: «ماذا؟ ماذا تقول؟» وقالت بياتريس: «إنها قصيدة.» كما لو كان قد سأل أحد: «ما هذا الذي يجري عبر الطريق؟» وأجابت قائلة: «هذا خنزير الأرض.»
ظل مرح فيكتور غير باد. بدت ابتسامته الكبيرة التي تبرق فيها عيناه، وضحكته، في غير موضعها ومصطنعة، بلا حيوية. حتى بشرته بدت باهتة ورمادية مصفرة. كان مثل تمثال أمير في قصة تذكرها موراي، قصة أطفال. ينتزع الأمير عينيه المصنوعة من الجواهر لبيعها لمساعدة الفقراء، ثم يتبرع بكل جلده المصنوع من أوراق الأشجار الذهبية لخدمة الغرض نفسه. يرشده طائر سنونو صغير أثناء عماه، ويظل صديقه الوحيد.
كانت رائحة الطهو تشيع في المنزل بأسره. كانت باربرا قد أعدت لحم خنزير مشوي. كانت قد أعدت البطاطس وفق وصفة جديدة، مقطعة وطاهية إياها في الفرن في إناء غطي بطبقة من الزبد. كانت قطع البطاطس تبدو دسمة، وغير ناضجة تماما بالنسبة إلى موراي. كانت الخضراوات الأخرى مسواة أكثر مما ينبغي؛ نظرا لأن باربرا كانت قد تعرضت لمضايقات وتوقفات كثيرة في المطبخ بسبب الأطفال. كانت فطيرة جوز البقان ثقيلة جدا على المعدة كحلوى تقدم بعد هذا الطعام، وكانت حوافها بنية أكثر مما ينبغي. لم تحاول بياتريس حتى أن تتناول قطعة منها، ولم تفرغ حتى من تناول قطع البطاطس في طبقها. لم تضحك عندما خرج آدم محمولا وهو يصرخ. ربما شعرت أن الطفلين يجب أن يجري تربيتهما والحد من جماحهما على نحو صارم مثل الجياد.
جال موراي بفكره، وأدرك أنه لم يلتق ويحب امرأة قط من قبل كانت شغوفة إلى حد الجنون بالجياد. كانت أولئك النساء ضيقات الأفق، متزمتات، لا حس دعابة لديهن، ولم يكن عادة جميلات. كانت بياتريس تمتلك بشرة وردية، تكاد تكون على طبيعتها. كان شعرها داكنا ويحيل إلى اللون الأبيض، وكان مقصوصا دون قصة مميزة. لم تكن تضع أحمر شفاه، وهو شيء عجيب كان بمثابة إشارة إلى الزهد أو الإهمال المزري لدى امرأة في ذلك الوقت. كان فستانها بلون عش الغراب غير مربوط من الوسط جيدا، ما كان يشي بأنها لم تكن مهتمة بحفلة العشاء هذه، ولم تكن مستعدة أن تقدم أي تنازلات.
كانت باربرا، في المقابل، ترتدي جونلة من القطن المصقول تمتزج فيها ألوان الأصفر والبرتقالي والنحاسي، وحزاما أسود مشدودا، وبلوزة سوداء مفتوحة الصدر، وأقراطا مستديرة كبيرة ورخيصة. كان أحد الأشياء في باربرا التي لم يكن موراي يفهمها ولم يكن فخورا بها - في مقابل الأشياء التي لم يكن يفهمها، لكنه كان فخورا بها - هو ميل باربرا هذا إلى ارتداء الملابس المثيرة الرخيصة؛ فتحات صدر كبيرة، أحزمة محكمة الربط، وبناطيل ضيقة جدا مثل تلك التي يرتديها مصارع الثيران. كانت تسير في شوارع والي مبرزة مفاتن جسدها، الذي كان جسدا مثيرا وفق نمط هذا الوقت - أو أحد نمطيه، ليس نمط أودري هيبورن بل نمط تينا لويز - وكان الإحراج الذي يتسبب فيه ذلك لموراي معقدا ولا يمكن وصفه؛ كان يشعر أنها تفعل شيئا لا يتلائم مع جديتها وتحفظها، نبرتها الساخرة. كانت تتصرف بطريقة ربما تنبأت بها أمه. (كانت أمه تقول: «أنا متأكدة أنها فتاة طيبة حقا، لكنني لست متأكدة تماما مما إذا كانت تلقت تعليما جيدا.» حتى مواري كان يدرك أن أمه لم تكن تشير إلى الكتب التي ربما قرأتها باربرا، أو إلى الدرجات التي كانت تحصل عليها في المدرسة.) كان الأمر الأكثر إزعاجا هو أنها كانت تتصرف على نحو لم يكن حتى يتوافق مع طبيعتها الجنسية، أو ما كان موراي يعرفه عنها، وكان عليه أن يفترض أنه يعرف كل شيء عنها. لم تكن شهوانية جدا في حقيقة الأمر. في بعض الأحيان كان يظن أنها تتظاهر بأنها شهوانية أكثر مما هي عليه في حقيقة الأمر. هذا ما كانت توحي به إليه الملابس المثيرة التي كانت ترتديها، وكان هذا هو السبب في كونه لم يستطع التحدث عن هذا الأمر لها. كان ثمة شيء غير مؤكد، خطر، مفرط في ملابسها. كان مستعدا للتغاضي عن أي أشياء سيئة في باربرا - ربما عدم تعاطفها أو عنادها - لكن كان لا يرغب في أن يتقبل فيها شيئا يجعلها تبدو حمقاء أو حزينة.
كانت هناك باقة من زهور الليلك في منتصف المائدة، كانت تشغل حيزا كبيرا بشكل لا يسمح بوضع الأطباق بشكل جيد، وكان يسقط منها بعض زهورها على المفرش. ازداد غضب موراي شيئا فشيئا بسبب هذا، ثم أخيرا قال (بصوت زوج حانق): «باربرا، هل يجب أن نضع تلك الزهور على المائدة؟ لا نستطيع حتى أن يرى أحدنا الآخر من خلالها حتى نتحدث.»
في تلك اللحظة، لم يكن أحد يتكلم.
انحنت باربرا إلى الأمام، مبرزة فتحة صدرها بلا حياء. رفعت باقة الزهور دون أن تنبس بكلمة، ما خلف سيلا من براعم الليلك على المفرش وطبق تقديم اللحم. سقط أحد أقراطها واستقر في بوريه التفاح.
كان من المفترض أن يضحك الجميع. لم يستطع أحد أن يضحك. ألقت باربرا نظرة حادة على موراي. ظن أنه ربما يجب على الجميع أن ينهض الآن، وربما يجب أن يترك الجميع المائدة ويترك الطعام الذي لا يرغب أحد في تناوله والحديث غير الودي. ربما يجب على الجميع أن ينصرف كل إلى حال سبيله.
التقط فيكتور القرط من البوريه بملعقة. مسحه في منشفته وانحنى قليلا تجاه باربرا، ووضعه إلى جانب طبقها. قال: «كنت أحاول تذكر اسم بطلة الرواية التي تذكريني بها.»
وضعت باربرا القرط مرة أخرى في أذنها. نظرت بياتريس خلف أو خلال رأس زوجها إلى ورق الحائط راقي الذوق، رخيص الثمن - الذي كان على هيئة تصميمات بيضاوية كريمية اللون على خلفية صفراء شاحبة - الذي كانت والدة موراي قد اختارته لوضعه في بيت البستاني.
قال فيكتور: «إنها كاترينا إيفانوفنا فيرخوفتسوف ... خطيبة ...»
قالت باربرا: «أعلم من هي ... أعلم جيدا.»
كان موراي يعلم من خلال توقف تدفق كلماتها المفاجئ أنها كانت على وشك أن تقول «أعلم جيدا أنها إنسانة مزعجة.» •••
قال موراي لبربارا: «إنها بياتريس.» أثناء مساعدته إياها في غسل الأطباق. كان قد اعتذر عن حادثة زهور الليلك. قال إن بياتريس أثارت غضبه، وأفسدت الأمسية عليهم جميعا. قال: «حتى فيكتور لا يبدو منسجما معها ... تبدو جاذبيته مخبأة تحت ركام عظيم.» كان يتصور أن كل ما في بياتريس يجعل فيكتور باهتا؛ عظامها المدكوكة، وتنوراتها الكئيبة.
قالت باربرا: «أستطيع أن أتخلى عن كليهما.» وهنا دار الحديث بينهما حول الأشخاص اللافتين للنظر والمهمات السرية. لكن انتهى بهما المطاف بتناول الخمر كله، والضحك على سلوك آدم وفليسيتي. •••
بدأ فيكتور في زيارتهما في أوقات المساء. فيما يبدو، لم يشر حفل العشاء بالنسبة له إلى أي توقف أو صعوبة في صداقتهما. في حقيقة الأمر، كان يبدو أن الأمر أشعره براحة أكبر. كان بمقدوره الآن أن يقول شيئا عن زواجه - ليس شكوى أو تفسيرا بل شيئا مثل «تريد بياتريس ...» أو «تعتقد بياتريس ...» - وأن يتأكد أن قدرا كبيرا من كلامه سيفهم.
وبعد فترة، قال أشياء أكثر عنها. «بياتريس تتذمر من أنني لم أنته بعد من إعداد الإسطبل للخيول، لكن علي أولا أن أتعامل مع مشكلات الصرف، ولم يرد البلاط بعد؛ لذا لا يعتبر الجو جيدا جدا في المزرعة، لكن الصيف جميل هنا. أنا سعيد هنا.»
ثم أخيرا قال: «تمتلك بياتريس المال. هل تعرف ذلك؟ لذا يجب أن تستدعي هي السباك، أليس كذلك؟ هل فهمت الأمر على نحو خاطئ؟»
كان الأمر كما توقع موراي.
قالت باربرا: «تزوجها من أجل مالها والآن عليه أن يعمل مقابل ذلك ... لكنه يمتلك بعض الوقت للقيام بزيارات.»
قال موراي: «لا يستطيع أن يعمل ليلا ونهارا ... لم يعد يأتي لتناول القهوة أثناء النهار.»
هكذا كانت الطريقة التي استمرا في الحديث بها عن فيكتور - تهاجم باربرا، ويدافع موراي. صارت لعبة. شعر موراي بالارتياح أن باربرا لم تشعر فيكتور أنه غير مرحب به؛ لا تبدو متضايقة عندما يأتي للبيت في المساء.
كان يصل عادة في الوقت الذي كان موراي ينتهي فيه من جز الحشائش، أو التقاط بعض لعب الأطفال، أو تفريغ حوض استحمام الأطفال، أو رش المياه على مرجة أمه. (كانت أمه، كالمعتاد، تقضي جزءا من الصيف بعيدا، في وادي أوكاناجين.) كان فيكتور يحاول تقديم يد المساعدة، كان ينكفئ ليؤدي هذه الأعمال مثل إنسان آلي محتار ورقيق. ثم كانا ينقلان المقعدين الخشبيين الموجودين على المرجة في منتصف الفناء ويجلسان. كانا يستطيعان سماع باربرا تعمل في المطبخ، دون إنارة الأضواء، لأنها - مثلما كانت تقول - تجعلها تشعر بالحرارة. عندما كانت تفرغ من أعمالها، كانت تذهب للاستحمام وتخرج إلى الفناء عارية القدمين، عارية الساقين، شعرها الطويل مبلل، تفوح منها رائحة الصابون الذي برائحة الليمون. كان موراي يذهب إلى الداخل ويعد ثلاثة كئوس، والتي هي خليط من الجين وماء الصودا والثلج والليمون. كان عادة ينسى أن باربرا لا تضع الليمون في الثلاجة، وكان في كل مرة يناديها ليعرف مكانه أو ما إذا كانت قد نسيت أن تشتري البعض منه. ترك فيكتور مقعده وتمدد على الحشائش، وكانت سيجارته تومض في ضوء المساء الخافت. نظروا إلى السماء وحاولوا أن يشاهدوا قمرا - وهو لا يزال شيئا نادرا ومدهشا يمكن أن يراه المرء. كانوا يستطيعون سماع رشاشات الماء، وفي بعض الأحيان صرخات، دوي صافرة شرطة، ضحكات بعيدة. كان ذلك صوت برامج تليفزيونية، يأتي من خلال النوافذ المفتوحة والأبواب الخارجية السلكية بطول الشارع. في بعض الأحيان، كانا يسمعان صوت صفق الأبواب الخارجية السلكية عند مغادرة مشاهدي تلك البرامج المنزل لبرهة، وأصوات صاخبة لكن غير واضحة المعالم تتحدث في الأفنية الخلفية الأخرى حيث يجلس الناس يحتسون الشراب، مثلما يفعلان، أو يتأملون السماء. إذا نظرت لحياة هؤلاء الأشخاص، فيمكن أن تشعر بأن لها صوتا مسموعا، لكنها وحيدة، تسبح طليقة بعيدة بعضها عن بعض تحت سقف أفرع أشجار الزان والإسفندان أمام المنازل، وفي المساحات الخالية في الخلف، مثل أشخاص في نفس الغرفة يتحدثون، تسبح أرواحهم طليقة على حافة النوم. كانت رنة صوت مكعبات الثلج غير المرئية مريحة، تثير التأمل.
في بعض الأحيان، كان الثلاثة يلعبون لعبة ابتدعتها باربرا أو أخذتها عن لعبة أخرى. كانت تسمى «البرتقال والتفاح»، وكانت تستعين بهذه اللعبة حتى تشغل الأطفال أثناء تحركاتهم بالسيارة. كانت لعبة اختيارات، تتدرج في مستوياتها من السهل جدا إلى الصعب جدا. ربما تبدأ اللعبة بالاختيار بين زبد الفول السوداني وعصيدة الشوفان، ثم تنتقل إلى الاختيار بين زبد الفول السوداني وبوريه التفاح، وهو ما كان أصعب. تقع الخيارات الصعبة حقا بين شيئين يحبهما اللاعبون كثيرا، أو بين شيئين لا يحبهما اللاعبون أبدا، أو بين شيئين يستحيل مقارنتهما لسبب ما. لا يوجد فائز في هذه اللعبة. كانت متعة اللعبة تكمن في التفكير في خيارات صعبة أو في المعاناة نتيجة ذلك، وكانت نهاية اللعبة تأتي عندما يصرخ أحد اللاعبين قائلا: «أستسلم. لا أستطيع تحمل ذلك. هذا شيء في منتهى الغباء. لا أرغب في التفكير في ذلك مرة أخرى!»
هل تفضل تناول كوز ذرة طازج على الفحم، أم آيس كريم من الفراولة مصنوع في المنزل؟
هل تغطس على الفور في بحيرة باردة في يوم شديد الحرارة، أم تدخل إلى مطبخ دافئ حيث تجري عملية خبيز لإعداد خبز طازج، بعد خوضك في مستنقع في عاصفة ثلجية؟
هل تفضل أن تضاجع زوجة خروشوف، أم زوجة أيزنهاور؟
هل تفضل تناول قطعة لحم خنزير باردة، أم الاستماع إلى خطاب أثناء مأدبة غداء في مؤتمر لمؤسسة كيوانيس الدولية؟ •••
كانت الأمور تسير إلى الأسوأ في المزرعة؛ لم يكن ماء البئر صالحا بما يكفي للشرب. ذوت الأجزاء العليا من ثمرات البطاطس بسبب آفة أصابت المحصول. غزت حشرات من أنواع عدة المنزل، ولم يجر الانتهاء من شبكة الصرف. لكن هذا شيء لا يذكر عند مقارنته بالدناءة البشرية. في إحدى الأمسيات قبل أن تأتي باربرا للانضمام إليهم، قال فيكتور لموراي: «لن أستطيع أن أتناول الطعام في المزرعة بعد الآن. يجب أن أتناول جميع الوجبات في المقهى.»
قال موراي: «هل الأمور هنا غير مرضية لك إلى هذا الحد؟» «لا، لا، الأمور غير مرضية دوما بالنسبة لي، لكن ما اكتشفته الآن أكثر سوءا من مجرد عدم الشعور بالرضا.»
سم. قال فيكتور إنه وجد زجاجة من حمض البروسيك. لم يعرف منذ متى تمتلكها بياتريس، لكن حسب رأيه ليس منذ فترة طويلة. لم يكن لهذا الحمض أي استخدام في المزرعة. كان يعتقد أنه ليس له إلا استخدام واحد فقط.
قال موراي: «بالتأكيد لا ... لن تفعل ذلك. ليست مجنونة. ليست من ذلك النوع من الأشخاص الذي يسم الآخرين.» «أنت لا تعرف أي شيء. لا تعرف أي نوع من الأشخاص هي أو ما قد تفعله. تظن أنها لن تسمم أحدا، فهي سيدة إنجليزية، لكن إنجلترا مليئة بالقتلة، وهم في الغالب السيدات والسادة الأرستقراطيون والأزواج والزوجات. لا أستطيع أن آكل في منزلها. لا أعرف حتى إذا كنت سأكون في أمان إذا نمت هناك. بالأمس، كنت أرقد مستيقظا إلى جانبها، وهي في نومها تكون باردة مثل الثعبان. نهضت ورقدت على الأرض في الغرفة الأخرى.»
تذكر موراي شقة الحارس، الخالية الآن لسنوات. كانت في الطابق الثالث من مبنى المتجر، في الخلف.
قال: «حسنا، إذا كنت تعتقد ذلك حقا ... إذا كنت ترغب حقا في الانتقال ...» وبعد أن قبل فيكتور متفاجئا مستريحا ممتنا، قال موراي: «ستتولى باربرا تنظيف الشقة لك.»
لم يجل بخاطره في ذلك الوقت أنه هو نفسه أو فيكتور ربما يستطيع تنظيف وكنس بعض الحجرات القذرة. لم يجل الأمر بخاطر باربرا أيضا. نظفت باربرا الشقة في اليوم التالي، ووضعت ملاءات ومناشف وبعض القدور والأطباق، على الرغم من أنها كانت تشك بالطبع في مسألة خطر تسمم فيكتور هذه. «بم ستستفيد من موته؟»
حصل فيكتور على وظيفة في الحال. صار الحارس الليلي على الآلات الموجودة خارج منجم الملح. كان يحب العمل ليلا. لم يعد في حاجة إلى استخدام السيارة بعد الآن؛ لذا كان يسير في منتصف الليل إلى العمل ويعود إلى الشقة في الصباح. إذا كان موراي موجودا في المتجر قبل الثامنة والنصف صباحا، يسمع فيكتور وهو يصعد درجات السلم الخلفية. كيف كان ينام، في ضوء النهار الساطع في ذلك الصندوق الصغير في حجرة تقع تحت السقف المستوي الساخن؟
قال فيكتور: «أنام جيدا ... أطهو، وآكل، وأنام. أنا مستريح. أشعر بالطمأنينة بشكل غير متوقع.» •••
عاد موراي إلى المنزل ذات يوم بشكل مفاجئ، بعد الظهر بقليل.
تبلورت تلك الكلمات في ذهنه بعد ذلك. كانت كلمات مبتذلة وكئيبة جدا. «ذات يوم عدت إلى المنزل بشكل مفاجئ ...» هل هناك قصة على الإطلاق لرجل يعود إلى المنزل فجأة ويجد مفاجأة سارة؟
عاد إلى المنزل فجأة، ووجد - ليس فيكتور وباربرا معا في السرير. لم يكن فيكتور في المنزل على الإطلاق - لم يكن هناك أحد في المنزل. لم يكن فيكتور موجودا في الفناء. كان آدم في الفناء، يسبح في حوض الاستحمام البلاستيكي. في موضع غير بعيد تماما عن الحوض، كانت باربرا راقدة على الغطاء الباهت اللون، داهنة جسدها بزيت الحماية من الشمس، الذي كانا يستخدمانه عند ذهابهما إلى الشاطئ. كانت ترتدي سترة الاستحمام السوداء بدون حمالات، وهي سترة كانت تشبه المشد والتي لن تصير شائعة على الإطلاق خلال بضعة أعوام. كانت السترة تبرز الفخذين تماما، وكانت تضغطهما معا بشدة. كانت تحصر بشدة الوسط والبطن والأرداف معا، وترفع وتبرز الثديين بحيث يبدوان كما لو كانا مصنوعين من شيء صلب مثل مادة الستيروفوم. كان لون ذراعيها ورجليها وصدرها وكتفيها يبدو أبيض في الشمس، على الرغم من أنها جميعها كانت تميل إلى السمرة عندما كانت تدخل إلى المنزل. لم تكن تقرأ، على الرغم من وجود كتاب مفتوح إلى جانبها. كانت ترقد على ظهرها وذراعاها مرتخيتان إلى جانبيها. كان موراي على وشك أن يناديها من خلف الباب الخارجي السلكي، لكنه لم يفعل.
لم لا؟ رآها ترفع إحدى ذراعيها لتحمي عينيها من الشمس، ثم رفعت ردفيها، غيرت من وضع جسدها قليلا. ربما بدت الحركة طبيعية جدا، عفوية - إحدى حركات تعديل وضع الجسم العفوية هذه التي تقوم بها أجسادنا. كيف عرف موراي أن هذه الحركة لم تكن عفوية؟ بعض التفكر أو التدبر، والوعي، بذلك الانتفاخ البسيط ووضع الجسم جعل الأمر جليا له - رجل يعرف جسد هذه المرأة - أن تلك المرأة لم تكن بمفردها. في أفكارها، على الأقل، لم تكن بمفردها.
اتجه موراي إلى النافذة المطلة على الحوض. كان يحجب الفناء الخلفي عن الحارة الخلفية ومنطقة الشحن خلف المتجر سياج عال من أشجار الأرز. لكن كان من الممكن رؤية الفناء الخلفي - ذلك الجزء من الفناء الخلفي حيث ترقد باربرا - من نافذة الشقة في الطابق الثالث. لم تضع باربرا أي ستائر في الشقة. رأى موراي فيكتور جالسا هناك، عند ذلك الشباك. كان فيكتور قد جلب كرسيا بحيث يستطيع الجلوس والتطلع من النافذة مثلما يشاء. كان ثمة شيء غريب حيال وجهه، كما لو كان يضع قناعا واقيا من الغاز.
ذهب موراي إلى غرفة النوم وجلب العدسات المكبرة التي كان قد اشتراها مؤخرا. (كان يفكر في الذهاب في نزهات سير في الريف وتعليم الأطفال أنواع الطيور.) كان يتحرك في هدوء بالغ في المنزل. كان آدم يصنع ضوضاء كثيرة في الخارج.
عندما نظر إلى فيكتور من خلال العدسات المكبرة، رأى وجها كوجهه هو - وجه تخفى بعض ملامحه خلف عدسات مكبرة. كان لدى فيكتور عدسات مكبرة أيضا. كان فيكتور ينظر إلى باربرا من خلال العدسات المكبرة.
اتضح أنه كان عاريا - على الأقل، كان الجزء الذي يمكن رؤيته منه عاريا - ويجلس على مقعد مستقيم الظهر عند النافذة في حجرته الحارة. كان موراي يستطيع استشعار حرارة الغرفة وقاعدة مقعده الصلبة التي تزيد من تعرقه وشعور الرجل بالإثارة، إثارة قوية لكنها مركزة وغير جامحة. وبالنظر إلى باربرا، كان يستشعر وميضا يشع من كل جسدها، الطاقة جميعها متجمعة في بشرتها، وهي تسلم نفسها إلى هذا الهجوم. لم تكن ترقد ساكنة تماما - كانت هناك تموجات حركية تمر فوق جسدها، مع بعض التقلبات والارتعاشات الصغيرة. عدم استقرار على حال، تغييرات في أوضاع الجسد. كان المنظر غير محتمل. في وجود طفلها في منتصف اليوم، في فنائها الخلفي، كانت ترقد على الحشائش داعية إياه. واعدة - لا، كانت تقدم بالفعل - أكثر صور التعاون روعة. كان المشهد بذيئا، ولافتا للانتباه، وغير محتمل.
كان باستطاعة موراي تخيل ما يبدو عليه شكله الآن؛ رجل يراقب من خلال عدسات مكبرة رجلا يراقب من خلال عدسات مكبرة امرأة. مشهد من فيلم كوميدي.
لم يعرف أين يذهب. لم يستطع الذهاب إلى الفناء ويوقف هذا الأمر. لم يستطع العودة إلى المتجر وهو يعرف ما يحدث فوق رأسه مباشرة. ترك المنزل وأخرج السيارة، التي كان يحتفظ بها في جراج أمه، وانطلق بها. لديه الآن مجموعة من الكلمات التي يضيفها إلى «ذات يوم عدت إلى المنزل بشكل مفاجئ؛ أدركت أن حياتي تغيرت.»
لكنه لم يكن يدرك معنى ما يقول. قال: حياتي تغيرت، حياتي جرى تغييرها، لكنه لم يدرك المعنى على الإطلاق.
قاد السيارة عبر الشوارع الخلفية في والي مارا بمزلقان سكة حديد، في اتجاه الريف. كان كل شيء يبدو كالمعتاد، لكنه في الوقت ذاته بدا كمحاكاة خبيثة في عينيه. قاد السيارة فاتحا نوافذها على آخرها، محاولا الحصول على نسمة هواء، لكنه كان يسير بسرعة بطيئة جدا. كان يقود بسرعة السير داخل المدينة بينما هو خارج حدود المدينة . أطلقت شاحنة بوقها حتى تمر. كان ذلك أمام مصنع الطوب. أزعجه بشدة صوت بوق الشاحنة العالي وضوء الشمس الساطع المنعكس من الطوب، مما أثر على رأسه وجعله يئن، كما لو كان لديه ألم شديد برأسه من آثار الشراب. •••
استمرت الحياة اليومية، تحوطها كارثة كما يحيطها خط من النار. كان يشعر أن منزله مكشوف، حياته مكشوفة - لكنها لا تزال قائمة - كان يشعر بأنه غريب، خفيف وقع القدم ومراقب في ضغينة خفية. ماذا سيتكشف له أكثر بعد ذلك؟ على العشاء، قالت ابنته: «أمي، لماذا لا نذهب إلى الشاطئ هذا الصيف؟» وكان من الصعب الاعتقاد بأنها لا تعرف كل شيء.
قالت باربرا: «ستذهبين أنت ... ستذهبين مع والدة هيثر.» «لماذا لا نذهب أنا وآدم وأنت معا؟» «نحب أنا وآدم الشاطئ الموجود هنا.» تحدثت باربرا بشكل بدا منه أنها شديدة الاعتداد والثقة بنفسها - متعالية بعض الشيء. «سئمت من الحديث إلى الأمهات الأخريات.» «ألا تحبين والدة هيثر؟» «بل أحبها.» «أنت لا تحبينها.» «بالطبع أحبها. أنا فقط كسولة يا فليسيتي. أنا شخص غير اجتماعي.»
قالت فليسيتي في رضا: «أنت لا تحبينها.» تركت المائدة، وبدأت باربرا في وصف معسكر الشاطئ الذي تقيمه الأمهات الأخريات، كما لو كان هذا أمرا يمتع موراي الاستماع إليه. المقاعد والشماسي القابلة للطي، اللعب والمراتب القابل للنفخ، المناشف والملابس البديلة، مستحضرات تنظيف البشرة، الزيوت، مطهرات الجروح، لاصقات الجروح، قبعات الشمس، شراب الليمون، مشروب كوول-إيد، المصاصات المجمدة في المنزل، والمنتجات الصحية المفضلة. قالت باربرا: «من المفترض أن تمنعن الأشقياء الصغار من التذمر لعدم تناول البطاطس المقلية ... هن لا ينظرن إلى البحيرة على الإطلاق إلا إذا كان أحد أطفالهن فيها؛ يتحدثن عن إصابة أطفالهن بالربو، أو عن أماكن حصولهن على أرخص الفانلات.»
لا يزال فيكتور يأتي لزيارتهما في المساء. لا يزالون يجلسون في الفناء الخلفي ويحتسون الجين. بدا الآن أن في الألعاب أو المحادثات التي لا هدف منها، كانا يفسحان المجال أمام موراي، يضحكان تقديرا، يثنيان على أي مزحة يقولها أو رؤيته لأي شهاب. كان يتركهما عادة معا وحدهما. كان يذهب إلى المطبخ للحصول على المزيد من الجين أو الثلج؛ كان يذهب ليطمئن على الطفلين، متظاهرا بسماعه أحدهما يبكي. كان يتصور آنذاك أن قدم فيكتور العارية الطويلة ستنزلق من صندلها وتمس، ثم تدلك، سمانة باربرا العارية، فخذها الممدد. ستنزلق أيديهما إلى أي أجزاء تستطيعان الوصول إليها. في لحظة مخاطرة، ربما يلمس لسان أحدهما لسان الآخر. لكن عندما كان يخرج من المنزل محدثا بعض الجلبة، كانا دوما تفصلهما مسافة مناسبة، يتحدثان في مسائل تافهة عادية.
كان على فيكتور الرحيل مبكرا أكثر من المعتاد، ليذهب إلى العمل في منجم الملح. كان يقول: «إلى منجم الملح.» - الشيء نفسه الذي كان الكثيرون هنا يقولونه، المزحة التي كانت صحيحة حرفيا.
ضاجع موراي باربرا آنذاك. لم يكن قط عنيفا أو متحررا جدا في العلاقة معها. كان لديه إحساس باليأس والمرارة. هذه هي النهاية، هكذا حدث نفسه. جملة أخرى أضافها في رأسه: «هذه نهاية الحب.» غط في النوم في الحال ثم استيقظ وضاجعها مرة أخرى. كانت مفعمة بالخنوع والاستسلام وقبلته مودعة عند الإفطار بما بدا له تعاطفا غريبا جديدا وهاجا. كانت الشمس تشرق كل يوم، وفي الصباح خاصة كانت تؤذي عينيه. كانا يشربان أكثر - ثلاثة أو أربعة كئوس الآن، بدلا من اثنين - في الأمسيات، وكان يضع المزيد من الجين في الكئوس.
جاءت فترة على موراي كان لا يستطيع في وقت ما بعد الظهيرة البقاء في المتجر مزيدا من الوقت؛ لذا كان يقود السيارة ذاهبا إلى الريف. كان يقود السيارة عبر المدن الداخلية - لوجان، وكارستيرز، ودالبي هيل. في بعض الأحيان، كان يقود السيارة بعيدا حتى يبلغ معسكر الصيد الذي كان والده يمتلكه والذي آل إليه الآن. هناك، كان يخرج من السيارة ويسير، أو كان يجلس على درجات سلم الكوخ المهمل، المصنوع من ألواح خشبية مستوية. في بعض الأحيان، كان يشعر في خضم متاعبه بنشوة غريبة. كان يسرق. كان يجري تحريره من حياته. •••
ذلك الصيف، مثلما في فصول الصيف الأخرى، كانوا يقضون أحد أيام الآحاد في التقاط حبات التوت الأسود بحذاء الطرق في الريف. كان موراي وباربرا وآدم وفليسيتي جميعا يلتقطون حبات التوت الأسود، وفي طريق العودة إلى المنزل كانوا يشترون ذرة سكرية من كشك خاص بأحد المزارعين. كانت باربرا تعد العشاء السنوي للاحتفال بظهور الذرة بصنع أول فطيرة من التوت الأسود الطازج. كان الطقس قد تغير حتى عندما كانوا يلتقطون التوت، وعندما كانوا يشترون الذرة التي كانت تضعها زوجة المزارع على مصراعي كشكها، وكانوا ينقلون كل ما لم تكن قد باعته ويضعونه في الجزء الخلفي من الشاحنة. كانوا آخر زبائنها. كانت السحب مظلمة، وكانت الرياح التي لم يكونوا قد شعروا بها شهورا تطير أفرع الأشجار وتوقع الأوراق الجافة. كانت قطرات قليلة من المطر ترتطم بالزجاج الأمامي للسيارة، وبحلول الوقت الذي بلغوا فيه والي كانوا يقودون السيارة عبر عاصفة ممطرة شديدة. كان المنزل غاية في البرودة، حتى إن موراي أشعل المدفأة، ومع أول موجة من الحرارة انتشرت رائحة من القبو عبر المنزل - رائحة الكهف تلك المنسية، رائحة الجذور، والتراب، والخرسانة المبللة.
خرج موراي في الأمطار والتقط رشاش المياه، والحوض البلاستيكي. دفع مقاعد الجلوس الموجودة على الحشائش تحت إفريز السطح.
قال لبربارا، نافضا عن رأسه قطرات المطر: «هل انتهى الصيف؟»
كان الأطفال يشاهدون أفلام كرتون من إنتاج والت ديزني، وقد أدى بخار غليان الذرة إلى تعتيم النوافذ. تناولوا بعد ذلك العشاء. كانت بربارا تغسل الصحون بينما كان موراي يضع الطفلين في الفراش. عندما أغلق الباب عليهما وخرج إلى المطبخ، وجد بربارا تجلس إلى المائدة في شبه ظلام، تحتسي القهوة. كانت ترتدي إحدى سترات الشتاء الماضي.
قال موراي: «ماذا عن فيكتور؟» أدار الأنوار. «هل تركت أي بطاطين له في الشقة؟»
قالت بربارا: «لا.» «إذن سيشعر بالبرد الليلة. لا يوجد مصدر تدفئة في المبنى.»
قالت بربارا: «ليأت ويأخذ بعض البطاطين إذا كان يشعر بالبرد.»
قال موراي: «لن يأتي ويطلب بطاطين.» «لم لا؟» «لن يأتي.»
ذهب موراي إلى خزانة البهو ووجد بطانيتين ثقيلتين، وحملهما إلى المطبخ. «ألا تعتقدين أن من الأفضل أن تأخذيهما إليه؟» وضع البطانيتين على المائدة أمامها.
قالت بربارا: «لم لا تأخذهما أنت؟ ... كيف تعرف أنه هناك أصلا؟»
اتجه موراي إلى النافذة فوق الحوض. «الأنوار مضاءة. إنه هناك.»
نهضت بربارا في جمود. ارتعشت كما لو كانت تحاول أن تتماسك، وشعرت الآن برجفة برد.
قال موراي: «هل ستكون هذه السترة كافية؟ ... ألا تحتاجين إلى معطف؟ ألن تمشطي شعرك؟»
ذهبت إلى غرفة النوم. عندما خرجت، كانت ترتدي بلوزة بيضاء من الستان وبنطالا أسود. كانت قد مشطت شعرها ووضعت أحمر شفاه جديدا، لونه باهت جدا. بدا لون فمها باهتا، في تناقض مع وجهها المائل إلى السمرة بسبب شمس الصيف.
قال موراي: «ألا ترتدين معطفا؟» «لن أبقى طويلا حتى أصاب بالبرد.»
وضعت البطانيتين على ذراعيها. فتح لها الباب.
قالت: «هذا يوم الأحد ... ستكون الأبواب مغلقة.»
قال موراي: «هذا صحيح.» وقام بإحضار المفاتيح الاحتياطية من خطاف المطبخ. تأكد أنها كانت تعرف أي مفتاح يفتح الباب الجانبي للمبنى.
ظل يراقب بريق بلوزتها حتى اختفت عن الأنظار، ثم سار عبر المنزل بسرعة، في أنفاس لاهثة. توقف في حجرة النوم والتقط الملابس التي كانت قد خلعتها؛ بنطالها الجينز، وقميصها، وسترتها. رفعها جميعا إلى وجهه وتشممها وحدث نفسه قائلا: هذا الأمر مثل مسرحية. أراد أن يرى إذا كانت قد غيرت سروالها التحتي. هز بنطالها الجينز لكنه لم يجد سروالها فيه. بحث في سلة الملابس المتسخة لكنه لم يجده. هل كانت خبيثة بما يكفي بحيث خبأته تحت أغراض الأطفال؟ ما جدوى أن تكون خبيثة الآن؟
كانت رائحة بنطالها الجينز مثل رائحة الجينز عندما يكون قد جرى ارتداؤه لفترة دون غسله - ليس فقط رائحة الجسد بل كل مجهود بذله. كان بإمكانه أن يشم مسحوق التنظيف فيه، ورائحة طهو قديمة. وها هو بعض الدقيق كانت قد أزالته عنه الليلة، وهي تصنع عجينة الفطيرة. كانت رائحة القميص رائحة صابون وعرق وربما دخان. هل كان ذلك دخانا - دخان سجائر؟ لم يكن متأكدا، عند شمه القميص مجددا، إذا ما كان ذلك دخانا على الإطلاق أم لا. كان يفكر في أمه التي كانت تقول: إن بربارا لم تتلق تعليما جيدا. لم تكن ملابس أمه لتخرج منها رائحة كتلك، رائحة جسدها وحياتها. كانت تعني أن بربارا لم تكن مهذبة، لكن ألا يمكن أنها كانت تعني أيضا منحلة؟ امرأة منحلة. عندما كان يسمع الناس يقولون ذلك، كان يرد إلى خاطره دوما بلوزة غير مزررة، ملابس تنزلق من الجسد، للإشارة إلى شهوتها وإتاحتها. صار الآن يعتقد أن أمه لم تكن تعني سوى ذلك، منحلة. امرأة يمكن أن تصبح منحلة، أن ينفلت لجامها، امرأة لا يمكن الوثوق بها، امرأة يمكن أن يفلت زمامها في أي وقت.
ابتعدت عن عائلتها. تركتهم كلية. ألم يكن يجب أن يدرك من خلال ذلك كيف يمكن أن تتركه؟
ألم يكن يدرك ذلك، طوال الوقت؟
كان قد أدرك أن ثمة مفاجآت ستحدث.
عاد إلى المطبخ. (يتعثر في طريقه إلى المطبخ.)
صب لنفسه نصف كأس من الجين، دون ماء صودا أو ثلج. (يصب نصف كأس من الجين.) فكر في صفعات أخرى. ستتغير نظرة أمه للحياة. ربما ستتولى أمر الأطفال. ربما سينتقل هو والأطفال إلى منزل أمه، أو ربما ينتقل الأطفال إلى منزل أمه ويبقى هو هنا، يشرب الجين. ربما يأتي بربارا وفيكتور لزيارته، يريدان أن يصبحا صديقين له. ربما يؤسسان بيتا ويدعونه في الأمسيات، وربما يذهب.
لا، لن يفكرا فيه. سيدعان كل تفكير فيه، وسيذهبان بعيدا.
عندما كان موراي طفلا، كان نادرا ما يشارك في الشجارات. كان دبلوماسيا ومرحا. لكن في إحدى المرات تشاجر مع أحدهم وطرح أرضا في فناء مدرسة والي، ظل طريح الأرض، ربما لنصف دقيقة. كان يرقد على ظهره في دوار، ورأى الأوراق على فرع الشجرة فوقه تتحول إلى طيور سوداء، ثم براقة أثناء تخلل الشمس لها وإثارة الرياح إياها. طرح في حيز خال، كثير النسمات، فضاء كان كل شكل فيه خفيفا ومتغيرا وكان هو على حاله. رقد هناك وحدث نفسه قائلا: «لقد حدث هذا لي من قبل.» •••
تسمى الدرجات البالغ عددها ثمانيا وسبعين من الشاطئ إلى المنتزه أعلى الجرف درجات غروب الشمس. هناك لافتة إلى جانب هذه الدرجات تشير إلى وقت الغروب لكل يوم من بداية يونيو إلى نهاية سبتمبر. تقول اللافتة: «شاهد غروب الشمس مرتين.» مع وجود سهم يشير إلى الدرجات. تتمثل الفكرة هنا في أنه إذا جرى المرء بسرعة جدا من أسفل السلالم إلى أعلاها فيمكن أن يرى آخر قوس من أشعة الشمس يختفي مرة ثانية. يعتقد السائحون أن هذه الفكرة، فضلا عن عادة إعلان وقت الغروب، يجب أن تكون تقليدا قديما في والي. في حقيقة الأمر، لم يكن الأمر سوى بدعة حاذقة جاءت بها الغرفة التجارية.
الممشى الخشبي جديد أيضا. منصة الفرق الموسيقية قديمة الطراز في المنتزه جديدة أيضا. لم يكن ثمة منصة فرقة موسيقية على الإطلاق من قبل. تسعد كل هذه الأشياء الرائعة السائحين - لا يعارض موراي ذلك البتة؛ إذ إنه يعمل في مجال السياحة - وفي الوقت الحالي تسعد هذه الأشياء قاطني المدينة أيضا. خلال ذلك الصيف في الستينيات، عندما كان موراي يقضي وقتا طويلا يتجول بسيارته في أنحاء الريف، بدا كما لو أن كل شيء آت من زمن فائت جرى تمزيقه، وإزاحته بعيدا، ترك ليبلى ويهمل. كانت الآلات الجديدة تدمر تصميم المزارع، وكانت الأشجار تقطع لإنشاء طرق أوسع، وكانت متاجر ومدارس ومنازل القرى تهجر. بدا الجميع تواقا إلى أماكن الانتظار ومراكز التسوق والمتنزهات في الضواحي التي تكسوها حشائش ناعمة مثل الطلاء. كان على موراي تقبل الآراء الأخرى، وتقييم أشياء - كما لو كانت نهائية - لم تكن إلا عرضية ومؤقتة.
من رحم التقبل هذا، لا شك، جاءت فورة الهدم والتجديد، التي كان سينخرط فيها في غضون شهور قليلة قادمة.
والآن يبدو كما لو كان العالم يتحول إلى طريقة موراي القديمة في التفكير. يقوم الناس بترميم المنازل القديمة وبناء منازل جديدة ذات شرفات قديمة الطراز. من الصعب العثور على شخص لا يفضل أشجار الظل والمتاجر الكبرى، المضخات، الإسطبلات، الأرجوحات، والأشياء الغريبة المثيرة. لكن لا يجد موراي أي متعة في هذه الأشياء، أو يجد بديلا آخر.
عندما عبر الممشى إلى حيث توجد أشجار الأرز وصولا إلى الشاطئ، جلس على صخرة كبيرة. أولا، لاحظ كم كانت هذه الصخرة غريبة وجميلة، يمر بها خط كما لو كان قد جرى شقها عرضيا وضم نصفاها معا مرة أخرى بطريقة غير صحيحة تماما - لم يكن سطح الصخرة مستويا تماما بل مسننا. كانت لديه بعض المعلومات عن علم الجيولوجيا، بحيث يدرك أن ذلك الخط كان صدعا، وأن الصخرة لا بد أنها آتية من منطقة درع عصر ما قبل الكمبري التي تبعد مائة ميل عن هنا. كانت صخرة تشكلت قبل العصر الجليدي الأخير، وكانت أقدم كثيرا من الشاطئ الذي تقبع فوقه. انظر إلى طريقة تشكلها وانقسامها - الطبقة على السطح تصلبت في صورة أمواج مثل كريم مخفوق في دوائر.
توقف موراي عن الاهتمام بالصخرة وجلس عليها الآن. يجلس الآن ناظرا إلى البحيرة. أمواج لونها أزرق فيروزي تبدو عبر الأفق، رائعة كما لو كانت مرسومة بحبر فيروزي، ثم يتحول لونها إلى أزرق صاف حتى حاجز صد الأمواج، ثم تتدرج في لونها إلى الأخضر والفضي حتى تتكسر على الرمال. كان الفرنسيون يطلقون على هذه البحيرة «البحر الهادئ»، لكنها بالطبع يمكن أن تغير لونها في غضون ساعة؛ ربما تصبح قبيحة، وذلك حسب الرياح وما يجري في قاعها.
سيجلس الناس ويشاهدون البحيرة كما لو كانوا لم يشاهدوا حقلا من الحشائش أو المحاصيل المتموجة من قبل. لم يحدث ذلك، رغم أن حركة التموج واحدة؟ ربما يرجع ذلك إلى عملية النحر، إلى التفتت الذي يجبرهم على المشاهدة. يعود الماء طوال الوقت، ناحرا مغيرا الشاطئ.
يحدث شيء مشابه إلى شخص يموت على غرار هذا النمط من الموت. كان قد رأى والده، كان قد رأى آخرين. تفتت، اختفاء - طبقة رقيقة إثر أخرى حتى العظام.
بينما لا ينظر في ذلك الاتجاه، يعلم عندما تلوح بربارا في الأفق. يستدير ويراها أعلى السلالم. بربارا الطويلة، في ردائها الخريفي المصنوع من الصوف، القمحي اللون، المغزول يدويا، تبدأ في النزول في غير عجلة أو تردد، لا تمسك بالدرابزين - هيئتها الواثقة، غير المكترثة المعتادة. لا يستطيع أن يستشف أي شيء من خلال طريقة سيرها. •••
عندما فتحت بربارا الباب الخلفي، كانت شعرها مبللا جراء الأمطار - مفتولا - وكانت بقع الماء تتناثر في كل مكان من سترتها الستان.
قالت: «ماذا تفعل؟ ... ماذا تحتسي؟ هل هذا جين صاف؟»
ثم قال موراي ما لم يذكره أو ينساه أيهما. قال: «ألم يرغب بك؟»
جاءت بربارا إلى المائدة وضمت رأسه إلى سترتها الستان المبللة والأزرار الصغيرة الصلبة، ضمت رأسه بلا رحمة بين ثدييها. قالت: «لن نتحدث عن ذلك أبدا ... أبدا. أليس كذلك؟» يستطيع شم رائحة السجائر في جسدها الآن، ورائحة ملمس غريب. ضمته إليها حتى أمن على ما تقول. «حسنا.»
تشبثت بما قالت، حتى عندما أخبرها أن فيكتور كان قد رحل في حافلة الصباح وترك رسالة إلى كليهما. لم تطلب منه أن ترى أو أن تلمس الرسالة، لم تسأل عما كان فيها. «إنني في غاية الامتنان ولدي الآن مال كاف ما يجعلني أرى أن الوقت مناسب الآن كي أواصل حياتي في مكان آخر. أفكر في الذهاب إلى مونتريال حيث سأستمتع بالحديث بالفرنسية.» •••
أسفل الدرجات تنحني بربارا إلى أسفل وتلتقط شيئا أبيض. تمشي وموراي إحداهما تجاه الأخرى بطول الممشى، ويستطيع موراي أن يرى بسرعة ذلك الشيء؛ بالونة بيضاء، تبدو إلى حد ما غير منتفخة تماما ومتغصنة.
تقول بربارا وهي تقترب منه: «انظر إلى هذا.» تقرأ من بطاقة ملتصقة بخيط البالون: ««أنطوني بيرلر. اثنتا عشرة سنة. مدرسة جوليت الابتدائية. كرومبتون، إلينوي. 15 أكتوبر.» كان ذلك منذ ثلاثة أيام! هل طارت هذه البطاقة إلى هنا في ثلاثة أيام فقط؟»
ثم أضافت: «أنا بخير ... لم يكن هناك شيء. لم يكن هناك شيء سيئ. لا يوجد ما يستدعي القلق.»
يقول موراي: «لا.» يمسك ذراعيها، يستنشق رائحة المطبخ وأوراق الشجر التي كانت تتخلل شعرها الأسود الذي به مسحة من الشعر الأبيض.
تسأله: «هل ترتجف؟»
لا يعتقد أنه يرتجف.
ببساطة، دون أي شعور بالذنب، على النحو الذي يتصرف به المتزوجون لفترة طويلة، يتخلص من الرسالة التي كانت جالت بخاطره عندما رآها أعلى درجات السلم: «لا تخذليني مجددا.»
ينظر إلى البطاقة في يدها ويقول: «هناك المزيد. الكتاب المفضل، «الموهيكان الأخير».»
تقول بربارا، في نبرة صوتها المألوفة الضاحكة، الرافضة والواعدة في آن واحد: «أوه! هذه البطاقة خاصة بالمدرسة ... ليست هذه إلا كذبة.»
صور الثلج
قبل ثلاثة أسابيع من وفاته - غرقا في حادث قارب في بحيرة لم يسمعه أحد يذكر اسمها - كان أوستن كوبت يقف أمام مرآة ثلاثية في متجر كروفورد لملابس الرجال، في لوجان، ينظر إلى نفسه مرتديا قميصا رياضيا عنابي اللون، وبنطالا مربع النقش؛ ألوانه الكريمي والبني والعنابي. كلاهما غير قابل للكرمشة.
قال جيري كروفورد له: «استمع إلي ... سيكون اختيارا موفقا إذا ارتديت القميص الغامق والبنطال الفاتح. سيمنحك هذا مظهرا شبابيا.»
قهقه أوستن قائلا: «هل سمعت من قبل بالتعبير «خروف في زي حمل»؟»
قال جيري: «يشير هذا إلى النساء ... على أي حال، تغيرت الأمور الآن تماما. لا يوجد شيء اسمه ملابس للرجال أو للسيدات كبار السن. تصلح الموضة للجميع.»
عندما اعتاد أوستن على ما كان يرتديه، بدأ جيري إقناعه بارتداء وشاح رقبة ذي ألوان مناسبة وكنزة كريمية اللون. كان أوستن في حاجة إلى كل وسائل التمويه الممكنة. فمنذ وفاة زوجته، قبل حوالي عام، ومجيء قس جديد في «الكنيسة المتحدة» (كان أوستن - الذي كان فوق السبعين - قد تقاعد بصورة رسمية من وظيفته كقس بتلك الكنيسة، لكن كان مستمرا في القيام بمهام عمله بينما كانوا لا يزالون يتجادلون حول تعيين قس جديد والمبلغ الذي سيدفعونه له)، كان قد فقد كثيرا من وزنه، وكانت عضلاته قد تقلصت، وكانت هيئته تتحول إلى هيئة رجل عجوز ذي بطن عظيم وظهر محني. كانت عنقه ناتئة العروق وأنفه طويلة وخدوده متدلية. كان مثل ديك نحيف عجوز - نحيف لكنه قوي - ومثابرا بما يكفي ليستعد لزواج ثان.
قال جيري: «يجب تضييق البنطال ... أمهلنا فقط بعض الوقت، هل تمانع في ذلك؟ متى هو هذا اليوم السعيد ؟»
كان أوستن سيتزوج في هاواي، حيث كانت زوجته - زوجته المستقبلية - تعيش. حدد موعدا للزواج بعد أسبوعين.
جاء فيل ستادلمان من مصرف تورونتو دومنيون آنذاك ولم يتعرف على أوستن من ظهره، على الرغم من أن أوستن كان القس السابق له. لم يره في ملابس كهذه من قبل.
قال فيل مزحة الإيدز. لم يستطع جيري إيقافه.
لماذا يضع شخص من نيوفاوندلاند واقيا ذكريا على أذنيه؟
لأنه لم يكن يرغب في أن يصاب بالإيدز في أذنيه.
استدار أوستن، وبدلا من أن يقول: «حسنا، لا أعرف ماذا بكم يا رفاق، لكنني لا أرى في الإيدز أي شيء مضحك.»، أو «أتساءل عن نوع النكات التي يطلقونها في نيوفاوندلاند عن الناس التي تعيش في مقاطعة هورون.» قال: «هذه مزحة مضحكة.» وضحك. «هذه مزحة مضحكة.» ثم سأل فيل عن رأيه في ملابسه. «هل تظن أنهم سيضحكون إذا رأوني مرتديا هذا في هاواي؟» •••
سمعت كارين بهذا عندما ذهبت إلى متجر المخبوزات لاحتساء قدح من القهوة بعد الفراغ من نوبة عملها في فترة ما بعد الظهيرة كمنظمة مرور. جلست إلى طاولة التقديم وسمعت الرجال يتحدثون على مائدة خلفها. استدارت في مقعدها المرتفع الذي بلا ظهر أو ذراعين وقالت: «اسمعوا، أستطيع أن أقول لكم إنه تغير. أراه يوميا وأستطيع أن أجزم بذلك.»
كارين امرأة طويلة نحيفة، جلدها خشن وصوتها أجش وتمتلك شعرا طويلا أشقر، داكنا من جذوره بطول بوصتين. تترك كارين شعرها يتحول إلى اللون الداكن، بحيث يستطيل إلى الدرجة التي تستطيع تقصيره معها، لكنها لا تفعل. كانت فتاة شقراء طويلة ونحيفة، خجولة وجميلة، تركب خلف زوجها على الدراجة البخارية. صارت غريبة بعض الشيء، ليس كثيرا وإلا لم تكن لتصبح منظمة مرور، حتى في ظل توصية أوستن كوبت عليها. تقاطع كارين المحادثات. يبدو أنها لا ترتدي سوى بنطالها الجينز ومعطف قديم داكن الزرقة من الصوف الخشن. يبدو على وجهها الصرامة والارتياب، كما لا تخفي مشاعر الضغينة التي تكنها لزوجها السابق. تكتب عبارات على سيارته، بأصبعها، «مسيحي مزيف»، «منافق متملق»، «برنت دوبري ثعبان». لا يعرف أحد أنها كتبت «لعازر دنيء»؛ نظرا لأنها كانت تعود (تقوم بذلك في الليل) وتمسحه بكمها. لماذا؟ بدا الأمر خطرا، شيء قد يفضي بها إلى المتاعب؛ متاعب روحية، لا مجرد استجواب من رئيس الشرطة. كما أنها لا تكن أي شيء إزاء لعازر، الشخصية الإنجيلية، بل ضد «دار علاج لعازر»، المكان الذي يديره برنت، ويعيش فيه حاليا.
تعيش كارين حيث كانت وبرنت يعيشان معا خلال الشهور القليلة الماضية؛ أعلى متجر الأدوات، في الخلف، غرفة كبيرة بها تجويف في الجدار (لسرير الطفل) ومطبخ في أحد الجوانب. تقضي وقتا طويلا في منزل أوستن، تنظف منزله، وتعد كل شيء لرحلته إلى هاواي. المنزل الذي يعيش فيه، حتى الآن، هو المنزل المخصص لإقامة القس، في شارع بونديتشري. شيدت الكنيسة منزلا جديدا للقس الجديد، منزلا جميلا حقا، له فناء ملحق به ومرآب مزدوج. تعمل زوجات القساوسة غالبا الآن؛ ويعد من قبيل النفع الكبير إذا استطعن الحصول على وظائف كممرضات أو مدرسات، وفي تلك الحالة سيحتاج القس إلى سيارتين. منزل إقامة القس القديم مبني من الطوب ولونه أبيض مائل إلى الرمادي، تزينه حواف زرقاء في الشرفة والجمالونات. يحتاج المنزل إلى الكثير من العمل لإصلاحه: وضع مواد عازلة، التنظيف باستخدام الرمل المدفوع بالهواء، طلاء جديد، أطر نوافذ جديدة، بلاط جديد في الحمام. عند عودتها سيرا إلى منزلها ليلا، تشغل كارين نفسها في بعض الأحيان من خلال التفكير فيما ستفعل بذلك المكان إذا كان منزلها هي وكانت تتوفر لديها الأموال اللازمة. •••
يريها أوستن صورة شيلا براذرز، المرأة التي سيتزوجها. في حقيقة الأمر، تظهر الصورة ثلاثتهم؛ أوستن، وزوجته، وشيلا براذرز، أمام مبنى خشبي وبعض أشجار الصنوبر؛ منتجع، حيث التقى - التقيا - شيلا للمرة الأولى. يرتدي أوستن قميص القس الأسود والياقة المقلوبة؛ يبدو شخصية مراوغة، وابتسامة القس التبريرية ترتسم على ملامحه. تنظر زوجته بعيدا عنه، بينما ترفرف العقدة الكبيرة لوشاحها المزين بالزهور على رقبته. شعر أبيض رقيق، هيئة مهندمة، أنيقة. شيلا براذرز - السيدة براذرز، أرملة - تنظر أمامها مباشرة، وهي الوحيدة التي تبدو مبتهجة حقا. شعرها أشقر قصير ممشط حول وجهها مثل سيدات الأعمال، بنطال بني، سترة بيضاء، وثدياها وبطنها بارزة، تنظر بشكل عفوي إلى الكاميرا ولا تبدو قلقة من الشكل الذي تبدو به في الصورة.
تقول كارين: «تبدو سعيدة.» «حسنا. لم تكن تعرف أنها ستتزوجني، آنذاك.»
يريها بطاقة بريدية في ظهرها صورة للمدينة التي تعيش شيلا فيها. المدينة التي سيعيش فيها في هاواي. ويريها أيضا صورة فوتوغرافية لمنزلها. يوجد في الشارع الرئيسي للمدينة صف من أشجار النخيل في وسطه، ومبان منخفضة بيضاء أو مائلة للون الوردي، وأعمدة إنارة معلق بها سلال زهور تفيض بما فيها، وتعلو كل ذلك سماء ذات لون فيروزي داكن حيث كتب اسم المدينة - اسم بلغة هاواي لا يمكن بأي حال من الأحوال نطقه أو تذكره - بأحرف متدفقة على شريط من الحرير. بدا الاسم الطافي في السماء ممكنا ككل شيء متعلق بالمدينة. بالنسبة إلى المنزل، لا يكاد المرء يراه على الإطلاق؛ مجرد بلكونة صغيرة وسط أشجار وأجمات مزهرة حمراء ووردية وذهبية. كان الشاطئ يمتد أمام المنزل، وكانت رماله نقية ذات لون كريمي والأمواج البراقة مثل الجواهر تتكسر عليه. وهناك ربما سيسير أوستن كوبت مع شيلا الودودة. لا عجب أنه بحاجة لشراء ملابس جديدة. •••
يريد أوستن من كارين أن تخلي المنزل. حتى كتبه، الآلة الكاتبة القديمة، صور زوجته وأولاده. يعيش ابنه في دنفر، وابنته في مونتريال. كتب إليهما، وتحدث إليهما عبر الهاتف، وطلب منهما أن يأخذا أي شيء يريدانه. يريد ابنه أن يأخذ أثاث غرفة الطعام، الذي ستنقله شاحنة نقل أثاث الأسبوع القادم. قالت ابنته إنها لا تريد شيئا. (تعتقد كارين أنها لا تزال تفكر؛ يريد الناس دوما «شيئا» ما.) كل الأثاث، الكتب، الصور، الستائر، البسط، الأطباق، القدور، الأواني ستعرض في مزاد تقوم به شركة أوكشن بارن. سيجري بيع سيارة أوستن بالمزاد أيضا، فضلا عن آلة جز الحشائش الكهربية وآلة إزاحة الثلج التي أعطاه إياها ابنه في الكريسماس الماضي. ستباع هذه الأشياء بعد رحيل أوستن إلى هاواي ، وستذهب حصيلة عملية البيع إلى دار علاج لعازر. كان أوستن قد أنشأ هذه الدار عندما كان لا يزال قسا. لم يطلق عليها ذلك الاسم. أطلق عليها دار الإصلاح. لكن قرروا الآن - قرر برنت دوبري - أن من الأفضل اختيار اسم ديني أكثر، مسيحي أكثر.
في البداية، كان أوستن سيعطيهم جميع هذه الأشياء كي تستفيد منها الدار. ثم، حدث نفسه أنه من اللائق أكثر أن يعطيهم الأموال، ويدعهم ينفقونها حسب ما يرونه مناسبا؛ يشترون أشياء يرغبون فيها، بدلا من استخدام أطباق زوجته والجلوس على أريكة زوجته المكسوة بقماش قطني منقوش.
تقول له كارين: «ماذا إذا أخذوا المال واشتروا به تذاكر يانصيب؟ ... ألا تظن أن المال سيمثل إغراء كبيرا لهم؟»
يقول أوستن، في ابتسامة صغيرة، تثير الغيظ: «في كل خطوة نخطوها في الحياة إغراءات ... ماذا إذا فازوا باليانصيب؟» «برنت دوبري ثعبان.»
سيطر برنت على إدارة دار علاج لعازر بالكامل، التي كانت قد أسسها أوستن. كانت مكانا مخصصا لإقامة الأشخاص الذين كانوا يرغبون في التوقف عن شرب الخمر أو تغيير نمط أي حياة كانوا يعيشونها. حاليا، حدثت تحولات كبيرة بالمكان؛ حيث تقام فيه جلسات طوال الليل للصلاة والغناء والشكوى والاعتراف. هكذا وضع برنت يديه على المكان؛ بأن صار يبدو أكثر تدينا من أوستن. جعل أوستن برنت يتوقف عن شرب الخمر؛ أخذ يجرجر برنت شيئا فشيئا حتى أخرجه من الحياة التي كان يحياها، وقاده إلى حياة جديدة في إدارة هذه الدار من خلال أموال توفرها الكنيسة، الحكومة ... إلخ، وارتكب خطأ كبيرا - أقصد أوستن - بأن اعتقد أنه استطاع إخراج برنت مما كان فيه إلى الأبد. بمجرد دخول برنت في طريق الصلاح، بدأ في محاولة إقصاء أوستن؛ استطاع برنت أن يتجاوز طريقة أوستن الحذرة، الهادئة في تعليم الدين في وقت قصير، ويعزل أوستن عن الناس في كنيسته، الذين أرادوا نوعا آخر من المسيحية، أكثر تزمتا وتطرفا. جرى إقصاء أوستن عن إدارة دار علاج لعازر ومنصبه بالكنيسة تقريبا في نفس الوقت، واستطاع برنت أن يهيمن على القس الجديد دون أية صعوبة. وبالرغم من هذا - أو بسبب هذا - يريد أوستن أن يمنح دار علاج لعازر المال.
يقول: «من ذا الذي يستطيع أن يقول إن طريقة برنت ليست أقرب إلى الرب من طريقتي؟»
تقول كارين الآن كل ما تريده لأي أحد. تقول لأوستن: «لا تجعلني أتقيأ.»
يقول أوستن إنها يجب أن تحسب جيدا الوقت الذي قضته في ترتيب الأشياء بالمنزل، بحيث يدفع لها مقابل كل ما قامت به، وكذلك عليها أن تخبره إذا كانت ترغب في أي شيء بالمنزل ليرى إذا كان يستطيع منحه إياها.
يقول: «في إطار المعقول ... إذا قلت أود أن آخذ السيارة أو آلة إزاحة الثلج، فأظن أنني سأكون مضطرا أن أرفض؛ لأن هذا سيكون بمثابة إنقاص للمال الذي سأتبرع به لدار علاج لعازر. ماذا عن المكنسة الكهربائية؟»
هل هذه الطريقة التي يراها بها؛ كشخص يفكر دوما في تنظيف المنازل؟ المكنسة الكهربائية قديمة جدا، على أي حال.
تقول: «أراهن أنني أعلم ماذا قال برنت عندما أخبرته أنني سأكون مسئولة عن بيع كل ذلك ... أراهن أنه قال: «هل ستستعين بمحام لمراجعة ما تقوم به؟» قال ذلك! أليس كذلك؟»
يقول أوستن بدلا من الإجابة على ذلك: «لماذا أثق في أي محام أكثر مما أثق بك؟» «هل هذا هو ما قلته له؟» «أقول هذا لك. أرى أن المرء إما أن يثق في شخص أو لا يثق به. عندما تقرر أنك ستثق في أحد، يجب أن تستمر في هذا إلى النهاية.»
لا يذكر أوستن الرب إلا نادرا. في المقابل، يشعر المرء أن طيف الرب يحوم حول جمل كهذه، وهو ما يجعل المرء يشعر بعدم الارتياح على الإطلاق - تشعر كارين وكأن ظهرها يتكسر - حتى إنه يتمنى أن يقولها أوستن ويتم تجاوز الأمر. •••
منذ أربع سنوات، كانت كارين وبرنت لا يزالان متزوجين، ولم يكونا قد أنجبا الطفل بعد أو انتقلا إلى مسكنهما فوق متجر الأدوات. كانا يعيشان في المجزر القديم. كان ذلك بيتا صغيرا رخيصا يمتلكه موريس فوردايس، والذي كان عبارة - في وقت من الأوقات - عن مجزر. في الطقس الممطر، كانت كارين تشم رائحة خنازير، وكانت دوما تشم رائحة أخرى كانت تعتقد أنها رائحة دماء. كان برنت يتشمم الجدران ثم يهبط بأنفه ويتشمم الأرضية، لكنه لم يكن يشم ما كانت تشمه. كيف يمكن أن يشم أي شيء غير سحب نفسه المخمورة التي كانت تتصاعد من جوفه؟! كان برنت سكيرا آنذاك، لكن لم يكن معاقرا للخمر بحيث يهمل كل شيء في حياته. كان يلعب الهوكي في فريق أو تي (الذي يتكون من لاعبين فوق سن الثلاثين) - كان أكبر سنا من كارين - وكان يزعم أنه لم يلعب الهوكي قط إلا وهو مخمور. عمل في شركة فوردايس للإنشاءات لفترة، ثم عمل لدى مجلس المدينة، يقطع الأشجار. كان يحتسي الخمر أثناء عمله متى استطاع، وبعد الانتهاء من العمل كان يشرب الخمر في نادي فيش آند جيم أو في حانة نزل جين هيفن، المسماة جريزي هيفن. في إحدى الليالي، قام بقيادة إحد البلدوزرات، الذي كان قابعا خارج جريزي هيفن، واتجه به عبر المدينة إلى نادي فيش آند جيم. بالطبع، جرى القبض عليه، واتهامه بتهمة قيادة بلدوزر تحت تأثير الكحول، وصار الأمر مزحة كبرى تم تداولها في أنحاء المدينة. لم يأت أحد ممن ضحك على المزحة لكي يدفع عنه الغرامة. وهكذا صار برنت أكثر جموحا في تصرفاته. في ليلة أخرى، انتزع السلالم التي كانت تفضي إلى بيتهما. لم ينتزع السلالم بصورة عنيفة في إحدى نوبات الغضب العارم، بل نزعها بعناية وبطريقة منهجية، السلالم والدعائم، الواحدة تلو الأخرى، داعما السلالم السفلية أثناء نزعه السلالم وتاركا كارين تقذف بأقذع الشتائم في الأعلى. في البداية، كانت تضحك على ما فعل - كانت قد تناولت بعض أقداح الجعة آنذاك - ثم، عندما أدركت أنه ماض فيما يفعل في عزم وحماس، وأنها عالقة هناك، بدأت في قذفه بالشتائم. شاهد الجيران الجبناء خلسة ما حدث من أبواب بيوتهم التي توجد في مقابل بيت برنت.
جاء برنت عصر اليوم التالي وأصيب بالدهشة، أو تظاهر بذلك. وصرخ قائلا: «ماذا حدث للسلالم؟» كان يسير في المدخل في غضب عارم، كان وجهه المجعد، المتعب، المستثار، يختلج، وكانت عيناه الزرقاوان تطرفان، وكانت ابتسامته بريئة، متواطئة. «لعن الله موريس ذلك! لعن الله السلالم المتهالكة. سأقاضيه. اللعنة!» كانت كارين في الأعلى بلا أي طعام تأكله سوى لفافة من حبوب «رايس كريسبيز» دون لبن، وعلبة فاصوليا صفراء. كانت تفكر في مهاتفة أحد حتى يأتي بسلم، لكنها كانت في شدة الغضب والعناد. إذا أراد برنت أن يجعلها تتضور جوعا، فستريه. ستتضور جوعا.
ذلك الوقت كان بحق بداية النهاية؛ التغيير. ذهب برنت ليرى موريس فوردايس حتى يضربه ويخبره كيف سيقاضيه، وتحدث إليه موريس بطريقة متعقلة، راشدة حتى قرر برنت ألا يقاضي موريس أو يضربه بل أن ينتحر. هاتف موريس أوستن كوبت آنذاك؛ حيث إن أوستن كان معروفا عنه أنه يعرف كيف يتعامل مع الأشخاص الذين كانوا يسيرون في طريق اللاعودة. بينما لم يقنع أوستن برنت آنذاك بالإقلاع عن شرب الخمر، أو بالانضمام إلى الكنيسة، أقنعه بعدم الانتحار. ثم - بعد عامين عندما توفي الطفل - كان أوستن هو القس الوحيد الذي كانوا يعرفونه الذي يمكنهم استدعاؤه للقيام بمراسم الجنازة. لدى وصوله إليهم - للقيام بمراسم الجنازة - كان برنت قد شرب كل ما في المنزل من خمر وخرج يبحث عن المزيد. خرج أوستن في إثره وقضى الأيام الخمسة التالية - باستثناء وقت قصير قضاه في دفن الطفل - بصحبة برنت وهو يشرب. ثم قضى الأسبوع التالي يحاول إخراجه من حالة السكر البين هذه، وقضى الشهر التالي يتحدث إليه أو يجلس معه، حتى قرر برنت ألا يعاود الشراب، وأنه قد أقام صلة بينه وبين الرب. قال أوستن: إن برنت كان يعني بذلك أنه أدرك المعنى الحقيقي لوجوده في هذه الحياة وأدرك أيضا قوة ذاته الداخلية. قال برنت إنه لم يكن سببا ولو للحظة في إيابه إلى رشده؛ بل الرب.
ذهبت كارين إلى كنيسة أوستن بصحبة برنت لفترة؛ لم تكن تمانع في ذلك. رغم ذلك، كانت ترى أن ذلك لم يكن كافيا لاحتواء برنت. رأته يهب واقفا لينشد المزامير، مؤرجحا ذراعيه وضاما قبضتيه، جسده كله مبرمج. كان يمر بالحالة ذاتها مثلما كان بعد احتساء ثلاثة أو أربعة أقداح من الجعة عندما لم يكن هناك ما يمنعه من شرب المزيد. كان ينفجر. وسرعان ما انفلت من قبضة أوستن واستحوذ على جزء غير يسير من الكنيسة. كان كثير من الناس يرغبون في ذلك التحرر، ضوضاء أكثر وصلاة أكثر وغناء أكثر وليس الحديث المقنع الهادئ؛ كانوا يرغبون في ذلك منذ فترة طويلة.
لم يدهشها أي من ذلك. لم يدهشها أن برنت تعلم تقديم الأوراق بشكل محترف وترك الانطباع الصحيح والحصول على التمويل الحكومي؛ لم يدهشها أنه تولى إدارة دار الإصلاح، التي كان أوستن قد أدخله فيها، وطرد أوستن منها. كان برنت دوما منبعا للاحتمالات. لم يدهشها حقا غضبه الشديد منها الآن لاحتسائها قدحا من الجعة وتدخين سيجارة واحدة مثلما لم يكن يدهشها ما كان يفعله معها عندما أرادت التوقف عن إقامة الحفلات والذهاب إلى الفراش في الساعة الثانية. قال لها إنه يمهلها أسبوعا حتى تقرر. لا مزيد من الشراب، لا مزيد من التدخين، والمسيح مخلصها. أسبوع واحد. لم تأبه كارين بالأمر. بعد انفصالها عن برنت، أقلعت عن التدخين، وأقلعت تقريبا عن الشراب، وتوقفت أيضا عن الذهاب إلى كنيسة أوستن. تخلت عن كل شيء تقريبا، لكنها لم تتخل عن الضغينة الداخلية التي أصبحت تكنها لبرنت، التي كانت تنمو أكثر فأكثر. ذات يوم، استوقفها أوستن في الشارع وظنت أنه سيقول شيئا لطيفا، شخصيا، مؤنبا لها، لضغينتها أو لتركها الكنيسة، لكن كان كل ما فعله هو سؤالها أن تأتي لتساعده في العناية بزوجته، التي كانت عائدة إلى المنزل من المستشفى ذلك الأسبوع. •••
يتحدث أوستن في الهاتف إلى ابنته في مونتريال؛ اسمها ميجان، تبلغ من العمر ثلاثين عاما تقريبا، غير متزوجة، وتعمل كمنتجة تليفزيونية.
يقول أوستن: «تمتلئ الحياة بالكثير ... تعرفين أن الأمر لا صلة له بأمك. هذه حياة جديدة تماما. أشعر بالندم ... لا، لا. أعني أن ثمة أكثر من طريقة لحب الرب ، ويعتبر الاستمتاع بالعالم بالتأكيد أحد هذه الطرق. هذا كشف ظهر لي مؤخرا، متأخرا أكثر مما ينبغي بحيث لا يعد ذا نفع بالنسبة لأمك ... لا. الإثم خطيئة وإغواء. قلت ذلك للكثير من المساكين الذين كانوا يحبون الانغماس فيه. الندم شيء آخر. كيف للمرء بعد أن توهب له حياة طويلة يحاول أن يهرب منها؟»
تحدث كارين نفسها: كنت محقة؛ تريد ميجان شيئا. لكن بعد قليل من الكلام، يقول أوستن إنه ربما يلعب الجولف، لا تضحك، وإن شيلا تنتمي إلى أحد أندية قراءة المسرحيات، وإنه يتوقع أن يكون نجما في ذلك، بعد كل هذه الخطب الرنانة على منبر الوعظ - انتهت المحادثة. يخرج أوستن إلى المطبخ - الهاتف في القاعة الأمامية، فهذا منزل قديم الطراز - ويتطلع إلى كارين، التي تنظف الخزانات العليا.
يقول متنهدا، ثم متنهدا، بشكل مضحك: «الآباء والأبناء، يا كارين ... آه، يا لها من شبكة معقدة نغزلها، عندما يولد لنا أولا، أطفال! ثم، يريدوننا أن نصبح دوما كما نحن، يريدون أن نصبح آباء؛ نهزهم من الأعماق بشكل مفزع إذا فعلنا شيئا لا يظنون أننا سنفعله. بشكل مفزع.»
تقول كارين، في غير تعاطف كبير: «أظن أنها ستعتاد على الأمر.» «حسنا، ستفعل، ستفعل. ميجان المسكينة.»
ثم يقول إنه ذاهب إلى أقصى المدينة لقص شعره. لا يرغب في أن يتركه يطول؛ حيث إنه يبدو ويشعر دوما بأنه في غاية الحماقة عند حلاقة شعره. يتدلى فمه إلى الأسفل عند ابتسامه، أولا إلى أعلى، ثم إلى أسفل. هذا التدلي لافت فيه في كل مكان يذهب إليه، الوجه متدل حتى لغد الرقبة، الصدر مفرغ ومنحدر في صورة كرش صغير، غريب. ترك التدفق قنوات جافة، خطوطا عميقة. غير أن أوستن يتحدث - من سوء خلاله كثرة الحديث - كما لو كان يخرج صوته من جسد خفيف، في حالة تأهب، لديه متعة في الانتقال من مكان إلى آخر.
بعد وقت قصير، يرن جرس الهاتف مرة أخرى، وكان على كارين أن تهبط وتجيب عليه. «كارين؟ هل هذا أنت، كارين؟ أنا ميجان.» «ذهب والدك لتوه ليقص شعره.» «جيد. هذا جيد. أنا مسرورة. يعطيني هذا فرصة الحديث إليك. كنت آمل أن أتحدث إليك.»
تقول كارين: «حسنا.» «كارين. الآن، أنصتي إلي. أعرف أنني أتصرف على النحو الذي من المفترض أن يتصرف الأبناء الناضجون في مثل هذا الموقف. لا يعجبني هذا الأمر. لا أحب هذا الأمر في نفسي. لكنني لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير في الأمر. أشك في الأمر. أتساءل عما يجري. هل هو على ما يرام؟ ماذا تعتقدين؟ ما رأيك في المرأة التي سيتزوجها؟»
تقول كارين: «لم أر إلا صورتها.» «أنا مشغولة جدا الآن ولا أستطيع ترك كل شيء والعودة إلى المنزل والتحدث معه بصراحة. على أي حال، هو صعب جدا في الحديث معه. بينما يبدو متحمسا ومنفتحا في الحوار، في حقيقة الأمر هو شخصية منغلقة جدا. لم يكن قط من النوع الذي يهتم بالجانب الشخصي في تعامله، هل تعرفين ما أقصده؟ لم يفعل شيئا قط من قبل لأي سبب «شخصي». كان يقوم بالأشياء دوما «من أجل» الآخرين. كان يحب دوما أن يجد أشخاصا «بحاجة» إلى أن يساعدهم أحد على قضاء حوائجهم. حسنا، أنت تعرفين ذلك. حتى جلبك إلى المنزل، مثلما تعرفين، للعناية بأمي؛ لم يكن ذلك تماما من أجل خاطر أمي أو خاطره.»
تستطيع كارين أن تتخيل ميجان - الشعر الطويل، الداكن، الناعم، المفروق في المنتصف والممشط فوق كتفيها، العينان الملونتان بكثافة والبشرة المسمرة والفم المطلي بأحمر شفاه بلون وردي خفيف، الجسد السمين المغطى بملابس أنيقة. هل يستحضر صوتها هذه الهيئة إلى الذهن حتى لو لم يكن المرء قد رآها من قبل؟ هذه النعومة، هذا الإخلاص الجم. لمعة رقيقة في كل كلمة ومساحات تقدير صغيرة بين كل منها والأخرى. تتحدث كما لو كانت تستمع إلى نفسها. هذا أكثر من اللازم، في حقيقة الأمر. هل هي ثملة؟ «دعينا لا نهرب من مواجهة الأمر، كارين. كانت أمي متغطرسة. (نعم، هي ثملة.) حسنا، كان لا بد أن يكون لديها شيء. مجرجرة من مكان إلى آخر، دوما لفعل الخير. لم يكن فعل الخير من الأمور التي تهم أمي على الإطلاق. لذا الآن - «الآن» فقط - يتخلى عن كل شيء، يمضي إلى الحياة المريحة. في هاواي! أليس ذلك غريبا؟» «غريبا.» تسمع كارين تلك الكلمة في التليفزيون يقولها أشخاص، معظمهم من المراهقين. تذهب بتفكيرها إلى الأسواق الخيرية التي تنظمها الكنيسة التي تتحدث عنها ميجان. هذا هو المعنى الذي يجيء إلى ذهنها عندما تسمع تلك الكلمة؛ أسواق الكنيسة الخيرية التي اعتادت والدة ميجان على تنظيمها، محاولة دوما أن تضفي عليها طابعا خاصا وتجعلها تبدو مختلفة. المظلات المخططة ومقهى في ممر جانبي في أحد الأعوام، وشاي ديفونشاير وتعريشة ورود في عام تال. ثم، تتصور والدة ميجان راقدة على الأريكة المكسوة بقماش قطني منقوش في غرفة المعيشة، ضعيفة ومنهكة بعد إحدى جلسات العلاج الكيماوي، وأحد المناديل الأنيقة، المبطنة ملفوف حول رأسها شبه الخالية من الشعر. لكن كانت لا تزال تستطيع التطلع إلى كارين في دهشة مكتومة، تقليدية، عندما تلج كارين إلى الغرفة. «هل كنت تريدين شيئا، يا كارين؟» الشيء الذي كان من المفترض أن تطلبه منها كارين، ستطلبه هي من كارين. «غريب». «سوق خيري». «متغطرسة». عندما بلغت ميجان ذلك المبلغ في حديثها، كان يجب على كارين أن تقول - على الأقل - «أعلم ذلك.» لكنها لم تملك إلا أن تقول: «ميجان. هذا يكلفك مالا.» «مال، كارين! أتحدث هنا عن أبي. أتحدث عما إذا كان أبي في رشده أو عما إذا كان فقد رشده، كارين!» •••
في اليوم التالي، جاءت مكالمة من دنفر. كان دون - ابن أوستن - يتصل ليخبر أباه أن من الأفضل عدم نقل أثاث غرفة الطعام؛ حيث إن تكلفة الشحن مرتفعة جدا. يوافقه أوستن الرأي. يقول، يمكن صرف المال في وجوه أفضل. ما فائدة الأثاث في نهاية الأمر؟ ثم، يطلب من أوستن تفسير مسألة مزاد أوكشن بارن وما تفعله كارين.
يقول أوستن: «بالطبع، بالطبع، لا غضاضة في ذلك ... سيقومون بعمل قائمة بكل شيء يحصلون عليه ويحددون فيها ثمن بيعه. يمكن بسهولة أن يتم إرسال نسخة منها. أعتقد أن لديهم جهاز كمبيوتر. انقضت أيام العصور المظلمة هنا ...
نعم ... آمل أن تنظرا إلى هذا المال كما أنظر إليه. هذا مشروع قريب إلى قلبي. أنت وأختك تعيشان عيشة كريمة. أنا محظوظ للغاية في أبنائي ... معاش التقاعد ومعاش القس ... ماذا أريد أكثر من ذلك؟ وهذه السيدة، هذه السيدة، أؤكد لك، شيلا، لا ينقصها مال، إذا جاز أن أعبر عن ذلك على هذا النحو ...» ثم يضحك في خبث على شيء يقوله ابنه.
بعد إغلاقه الخط، يقول لكارين: «حسنا، ابني قلق بشأن أموري المالية وابنتي قلقة بشأن حالتي العقلية. حالتي العقلية والعاطفية. طريقة الذكر والأنثى في النظر إلى الأمور. طريقة الذكر والأنثى في التعبير عن القلق. تحت ذلك يوجد الشيء نفسه. يتغير النظام القديم، مفسحا المجال أمام النظام الجديد.»
لا يتذكر دون كل شيء كان في المنزل، على أي حال. كيف ذلك؟ كان هنا يوم الجنازة ولم تكن زوجته بصحبته؛ كانت في شهورها الأخيرة من الحمل ولم يمكنها المجيء. لم يكن سيأتي بها للاعتماد عليها في هذا الأمر. لا يتذكر الرجال هذه الأشياء جيدا. لم يطلب إلا القائمة بحيث يبدو الأمر كما لو كان يتابع كل شيء وحتى لا يحاول أحد أن يخدعه. أو يخدع أباه.
كانت هناك أشياء ستأخذها كارين، ولم يكن أحد ليسألها من أين جاءت بها. لم يكن أحد ليذهب إلى منزلها؛ طبق عليه نقوش على هيئة شجر الصفصاف، الستائر المزدانة بالزهور ذات اللونين الأزرق والرمادي، دورق صغير، كنز من زجاج ياقوتي اللون وغطاء من الفضة، قطعة قماش بيضاء من الحرير، مفرش مائدة كانت قد قامت بكيه حتى صار يلمع مثل حقل ثلجي متجمد، والمناشف الضخمة المصاحبة له. كان المفرش ثقيلا جدا، وكانت المناشف تتدلى من كئوس الخمر مثل الزنابق، إذا كان ثمة كئوس خمر لديك. كبداية فقط، أخذت إلى المنزل ست ملاعق فضية في جيب معطفها. تعرف كيف يجب ألا تبدو الأشياء ناقصة بما يكفي بحيث لا تأخذ أي شيء من طاقم الشاي الفضي أو الأطباق الجيدة. لكن خطف بصرها بعض أطباق الحلوى الزجاجية الوردية، ذات النقوش التي على هيئة سيقان نباتات طويلة. ترى أن منزلها قد تغير كثيرا، مع وجود هذه الأشياء به. الأكثر من ذلك، تستطيع أن تشعر بالهدوء والسرور اللذين تشعهما هذه الأشياء في المكان. بجلوسها في غرفة بها أشياء رائعة على هذا النحو، لن تحتاج إلى الخروج منها. لن تحتاج إلى التفكير في برنت، وفي طرق للانتقام منه. يستطيع أي شخص يجلس في غرفة كهذه أن يطرد، بل يطرح أي أحد أرضا يحاول أن يتطفل عليه. «هل كنت تريدين شيئا؟»
في يوم الإثنين في الأسبوع الأخير لأوستن - كان من المفترض أن يسافر إلى هاواي يوم السبت - بدأت أول عاصفة كبيرة في الشتاء. هبت الرياح من الغرب، فوق البحيرة؛ كانت الثلوج تسقط بقوة ليلا ونهارا. كانت المدارس مغلقة يومي الاثنين والثلاثاء؛ لذا لم يكن على كارين أن تعمل منظمة مرور. لكنها لم تستطع تحمل البقاء في المنزل؛ لبست معطفها الصوفي الثقيل ولفت رأسها ونصف وجهها بوشاح من الصوف وخاضت في صعوبة بالغة في الشوارع الممتلئة بالثلوج إلى منزل القس.
المنزل بارد، الرياح تهب بقوة حول الأبواب والنوافذ. في خزانة المطبخ بطول الحائط الغربي، تبدو الأطباق مثل الثلج. أوستن مرتد ملابسه لكنه يرقد على أريكة غرفة المعيشة، ملفوفا في ألحفة وأغطية مختلفة. لا يقرأ أو يشاهد التليفزيون أو ينعس، بقدر ما تستطيع أن ترى، لا يفعل إلا الحملقة. تصنع له قدحا من القهوة السريعة.
تقول: «هل تظن أن هذا الجو سيتحسن بحلول يوم السبت؟» لديها شعور أنه إذا لم يذهب يوم السبت، فربما لا يذهب على الإطلاق. ربما يجري إلغاء الأمر برمته، وربما ترتبك جميع الخطط.
يقول: «سيتوقف كل ذلك في الوقت المناسب ... لست قلقا.»
مات طفل كارين في عاصفة ثلجية. ففي فترة ما بعد الظهيرة، عندما كان برنت يشرب مع صديقه روب ويشاهد التليفزيون، قالت كارين إن الطفل مريض، وكانت في حاجة إلى مال لتستقل سيارة أجرة لتذهب به إلى المستشفى. نهرها برنت، فقد كان يظن أنها تحاول أن تضايقه فقط. وكانت إلى حد ما تفعل ذلك؛ كان الطفل قد تقيأ مرة، وكان يئن، ولم يكن ساخنا جدا. ثم، قرابة وقت العشاء، عند خروج روب، ذهب برنت ليأخذ الطفل ويلعب معه، ناسيا أنه كان مريضا. صرخ في كارين قائلا: «الطفل مثل الفحمة المشتعلة!» وأراد أن يعرف لماذا لم تحضر الطبيب، لماذا لم تصطحب الطفل إلى المستشفى. قالت كارين: «أتسألني لماذا؟!» ثم بدآ في الشجار. قالت كارين: «قلت إنه ليست هناك حاجة ملحة لذهابه ... حسنا، هو ليس في حاجة إلى الذهاب إلى الطبيب.» هاتف برنت شركة سيارات الأجرة، ولم تكن سيارات الأجرة ستخرج بسبب العاصفة، التي لم يلاحظها هو أو كارين حتى الآن. هاتف برنت المستشفى وسألهم ماذا يفعل، وقالوا إنه يمكنه أن يقلل من درجة حرارة الحمى عن طريق لف الطفل في مناشف مبللة. هكذا فعلا، وبحلول منتصف الليل كانت العاصفة قد هدأت، وكانت كاسحات الثلج في الشوارع، فذهبا بالطفل إلى المستشفى، لكنه مات. ربما كان سيموت مهما كانا سيفعلان؛ كان يعاني من الالتهاب السحائي. حتى إذا كان طفل صغير محل اهتمام عظيم في منزل لا يعاقر الأب فيه الخمر ولا يتشاجر الأب والأم، فربما كان سيموت. على الأرجح كان سيموت، على أي حال.
رغم ذلك، كان برنت يرى أن ذلك كان خطأه. وفي بعض الأحيان، كان يرى أن ذلك كان خطأهما. كان الأمر بالنسبة له مثل مص الحلوى، ذلك الاعتراف. طلبت كارين منه أن يصمت، أمرته أن «يصمت».
قالت: «كان سيموت على أي حال.»
عندما انتهت العاصفة، عصر الثلاثاء، ارتدت كارين معطفها وخرجت تنظف ممشى بيت القس. تبدو الحرارة كما لو كانت تنخفض أكثر فأكثر؛ السماء صافية. يقول أوستن إنهما سيذهبان إلى البحيرة لمشاهدة الثلوج. إذا كانت هناك عاصفة كبيرة كهذه في وقت مبكر من العام كهذا، فستحرك الرياح الأمواج إلى أعلى حتى الشاطئ ثم تتجمد هناك. الثلج في كل مكان، في تشكيلات غير معقولة. يذهب الناس إلى البحيرة ويلتقطون صورا. عادة، تنشر الجريدة أفضل هذه الصور. يريد أوستن أن يلتقط بعض الصور، أيضا. يقول إنه سيري هذه الصور للناس في هاواي. تزيح كارين الثلوج عن السيارة، أيضا، ثم يمضيان معا، يقود أوستن في حرص بالغ. لا يوجد أي شخص عند البحيرة. الطقس بارد جدا. يتعلق أوستن بكارين أثناء سيرهما في صعوبة بالغة على الممشى، أو حيث يجب أن يكون الممشى، تحت الثلج. تتساقط طبقات من الثلج من أفرع أشجار الصفصاف المثقلة إلى الأرض، وتسطع الشمس خلالها من جهة الغرب: تبدو مثل حوائط من اللؤلؤ. الثلج مغزول خلال سلك السياج المرتفع بحيث يجعله يبدو مثل قرص شمع العسل. تجمدت الأمواج أثناء ارتطامها بالشاطئ، صانعة هضابا وكهوفا، مشهد عجيب حقا، حتى حافة المياه. جميع معدات ملعب الأطفال؛ أراجيح الأطفال وقضبان التسلق، حولها الثلج، وبدت وكأنها معلقة مثل أنابيب الأرغن أو مدفونة فيما يبدو مثل تماثيل نصف منحوتة، أشكال من الثلج قد تكون أشخاصا، حيوانات، ملائكة، وحوش، تركت دون الفراغ منها.
تشعر كارين بالقلق عندما يقف أوستن وحده ليلتقط الصور. يبدو غير متزن بالنسبة لها، ماذا لو وقع؟ ربما تنكسر قدمه، أو وركه. تنكسر أوراك الأشخاص كبار السن ثم يكون ذلك بمثابة نهايتهم. حتى خلع قفازه لتشغيل الكاميرا يعتبر مخاطرة. ربما لا يتطلب الأمر سوى إصبع متجمد حتى يبقى هنا، وتفوته طائرته.
عند عودته إلى السيارة، يكون عليه أن يحك وينفخ في يديه. يدعها تقود السيارة. إذا حدث أي مكروه له، فهل ستأتي شيلا براذرز إلى هنا، تتولى العناية به، تستقر في بيت القس، تنقض أوامره؟
يقول: «هذا طقس غريب ... في شمال أونتاريو الطقس معتدل، حتى البحيرات الصغيرة مفتوحة، لا تقل درجات الحرارة عن الصفر. وها نحن هنا في قبضة الثلج والرياح القادمة مباشرة من منطقة السهول العظمى.»
تقول كارين في حزم: «سيكون الأمر كذلك بالنسبة إليك عندما تذهب إلى هاواي ... شمال أونتاريو أو السهول العظمى أو هنا، سيسعدك أن ترحل من هنا. ألا تهاتفك أبدا؟»
يقول أوستن: «من؟» «هي. السيدة براذرز.» «أوه، شيلا. تهاتفني في وقت متأخر من الليل. يكون الوقت مبكرا جدا في هاواي.» •••
يرن جرس الهاتف بينما كارين وحدها في المنزل قبل صبيحة اليوم الذي يرحل فيه أوستن. صوت رجل، غير واثق، وكئيب.
تقول كارين: «ليس هنا الآن.» ذهب أوستن إلى المصرف. «سأجعله يهاتفك عندما يجيء.»
يقول الرجل: «حسنا، أكلمك من مسافة بعيدة ... بحيرة شافت.»
تكرر كارين قائلة: «بحيرة شافت.» وهي تبحث على رف الهاتف عن قلم. «كنا نتساءل فقط لنعرف الوقت الذي سيصل فيه. سيأتي أحدهم ليلاقيه. إذن، سيذهب إلى ثاندر باي في الساعة الثالثة، أليس هذا صحيحا؟»
توقفت كارين عن البحث عن قلم. تقول أخيرا: «أظن هذا صحيحا. بقدر ما أعلم. إذا هاتفتني قرب وقت الظهيرة، فسيكون هنا.» «لست متأكدا إذا كنت سأستطيع الاتصال في وقت الظهيرة. أنا في الفندق هنا لكن علي أن أذهب إلى مكان آخر. سأترك له رسالة. سيلاقيه أحد الأشخاص في المطار في ثاندر باي في الساعة الثالثة غدا. حسنا؟»
تقول كارين: «حسنا.» «يمكنك أن تخبريه أن لدينا مكانا يقيم فيه، أيضا.» «حسنا.» «عربة مقطورة. قال إنه لا يمانع أن يعيش في مقطورة. أترين، لم يكن لدينا أي قس هنا منذ وقت طويل.»
تقول كارين: «أوه ... حسنا. نعم. سأخبره.»
بمجرد أن وضعت السماعة، وجدت رقم ميجان في قائمة الأرقام الموضوعة فوق الهاتف، وهاتفتها. يرن الهاتف ثلاث أو أربع مرات ثم يأتي صوت ميجان، يبدو أكثر حيوية من المرة السابقة التي كانت كارين سمعته فيها، أكثر حيوية لكن مستفز. «تأسف صاحبة المنزل أنها لا تستطيع تلقي مكالمتك في الوقت الحالي، لكن إذا كنت ترغب في ترك اسمك، ورسالة، ورقم هاتفك، فستعاود الاتصال بك في أقرب وقت ممكن.»
كانت كارين قد بدأت بإبداء أسفها، لكن الأمر مهم، قبل أن يقاطعها صوت صفير، وتدرك أن ما سمعته لم يكن إلا ماكينة الرد الآلي. تعيد كلامها مجددا، وهي تتحدث بسرعة وفي وضوح بعد أخذ نفس عميق. «كنت فقط أريد أن أخبرك. كنت فقط أريدك أن تعرفي. والدك بخير. حالته الصحية جيدة، وهو بخير من الناحية العقلية، وكل شيء على ما يرام. لذا، ليس عليك أن تقلقي. سيسافر إلى هاواي غدا. كنت فقط أفكر، كنت فقط أفكر في حديثنا عبر الهاتف. لذا، أعتقد أنني يجب أن أخبرك ألا تقلقي. هذه كارين تتحدث.»
قالت كل ذلك في وقت مناسب؛ إذ سمعت صوت أوستن عند الباب. قبل أن يسأل أو يتساءل عما كانت تفعل في البهو، أطلقت وابلا من الأسئلة نحوه. هل ذهب إلى المصرف؟ هل جعل البرد صدره يؤلمه؟ متى ستأتي شاحنة أوكشن بارن؟ متى يريد مجلس إدارة الكنيسة مفاتيح البيت؟ هل سيهاتف دون وميجان قبل أن يرحل أم بعد رحيله إلى هناك، أم ماذا سيفعل؟
نعم. لا. تصل الشاحنة يوم الإثنين. تسلم المفاتيح يوم الثلاثاء، لكن لا حاجة إلى العجلة؛ إذا لم تكن قد فرغت مما تفعل، فسيكون يوم الأربعاء مناسبا. لن تكون هناك مكالمات أخرى. قال هو وأبناؤه كل ما يمكن أن يقال. بمجرد أن يصل هناك، سيكتب إليهما خطابا. سيكتب إلى كل منهما خطابا. «بعد أن تتزوج؟»
نعم. حسنا. ربما قبل ذلك.
كان قد وضع معطفه على درابزين السلم. ثم تراه يمد يدا حتى يتزن في مشيته، ممسكا بالدرابزين. يتظاهر بأنه يتلاعب بأصابعه بالمعطف.
تقول: «هل أنت بخير؟ ... هل تريد قدحا من القهوة؟»
للحظة، لا يقول شيئا. عيناه تتجاوزها. كيف يصدق أي إنسان أن هذا الرجل العجوز المترنح، الذي يذبل جسده يوما بعد يوم، في طريقه إلى الزواج من أرملة مسلية ويقضي أيامه من الآن فصاعدا يسير على شاطئ مشمس؟ ما كان لأوستن أن يفعل أشياء كهذه، على الإطلاق. يسعى دوما إلى بذل كل جهده في مساعدة أشخاص لا يردون الجميل، أشخاص ناكرين للجميل مثل برنت. في المقابل، كان يخدعهم جميعا بأن يجعلهم يظنون أنه يحاول تغيير جلده، وإلا ربما يتمكن أحدهم من اكتشاف أمره. كان يتملص منهم، يخدعهم، مستمتعا بالأمر كله.
لكن كان يبحث عن شيء في المعطف حقا. يخرج قنينة صغيرة من الويسكي.
يقول: «ضعي قليلا من هذا في كوب لي ... لا عليك من القهوة. مجرد إجراء وقائي. ضد الضعف. ضد البرد.»
يجلس على درجات السلم عندما تجلب الويسكي له. يشرب الويسكي وهو يرتجف. يهز رأسه إلى الوراء وإلى الأمام، كما لو كان يجعلها أكثر صفوا. ينهض. ويقول: «هذا أفضل كثيرا ... أوه، أفضل كثيرا جدا. الآن، فيما يتعلق بصور الثلج تلك، يا كارين. كنت أتساءل، هل تستطيعين أخذها الأسبوع القادم؟ إذا تركت لك ثمنها؟ ليست جاهزة بعد.»
على الرغم من أنه دخل توا من الخارج حيث البرد، تكتسي ملامحه باللون أبيض. إذا وضعت شمعة خلف وجهه، فستسطع عبر وجهه كما لو كان وجهه مصنوعا من الشمع أو الخزف الصيني الخفيف.
تقول: «يجب أن تترك عنوانك لي ... إلى حيث أرسل إليك الصور.» «فقط احتفظي بها حتى أبعث إليك بخطاب. هذا سيكون أفضل شيء.» •••
هكذا، انتهى بها المطاف بمجموعة كبيرة من صور الثلج، بالإضافة إلى تلك الأشياء الأخرى التي عزمت على الحصول عليها. تظهر الصور السماء في لون أكثر زرقة مما تكون عليه في أي وقت، لكن لا يبدو نسيج السياج، شكل أنابيب الأرغن واضحا تماما. لا بد أن يوجد إنسان، أيضا، لمقارنة حجمه بحجم الأشياء في الصور حتى يمكن التعرف على حجمها الحقيقي. كان يجب عليها أن تأخذ الكاميرا وتلتقط صورا لأوستن، الذي اختفى. اختفى تماما مثل الثلج، إلا إذا طفا جثمانه على الشاطئ في الربيع. ذوبان، غرق، وكلاهما يختفي. تنظر كارين إلى صور الكتل الثلجية الشاحبة المخيفة، هذه الصور التي التقطها أوستن، تنظر كثيرا جدا حتى إن شعورا تولد لديها بأن أوستن موجود فيها، بشكل أو بآخر. أوستن موجود في هيئة شاحبة جدا لكنها واضحة.
تعتقد الآن أنه كان يعرف. مؤخرا جدا عرف أنها أدركت كل شيء، كانت تفهم ما كان يعتزم عمله. مهما كنت وحيدا، ومهما كنت مخادعا وعازما، ألا تحتاج إلى شخص واحد على الأقل يعرف ما تفعله؟ ربما كانت هي ذلك الشخص بالنسبة إليه. كان كلاهما يعلم ماذا كان الآخر يعتزم، ولم يبح أي منهما بمكنون نفسه ، وذلك كان صلة غير عادية. في كل مرة تفكر في الأمر، تستحسنه، شيء غير متوقع على الإطلاق.
تضع إحدى تلك الصور في ظرف، وترسلها إلى ميجان. (مزقت قائمة العناوين وأرقام الهواتف المعلقة على الحائط، كإجراء احترازي.) ترسل صورة أخرى إلى دون. وصورة ثالثة، مختومة ومصحوبة بعنوان، عبر المدينة، إلى برنت. لا تكتب أي شيء على الصور أو ترفق أي تعليق. لن تهتم بأمر أي من هؤلاء الأشخاص بعد ذلك. حقيقة الأمر أنه لن يمر وقت طويل قبل أن ترحل من هنا.
تريد فقط أن تجعلهم يتساءلون.
خير ورحمة
ودعت باجز الأرض التي كانت تتوارى عن الأنظار، شبه جزيرة لابرادور التي تحيط بها مياه داكنة الزرقة. كانت السفينة تعبر خلال مضيق جزيرة بيل، في يومها الثالث من إبحارها من مونتريال.
قالت: «علي أن أرحل إلى أجراف دوفر البيضاء.» ورسمت تعبيرا على وجهها، مديرة عينيها وفمها الصغير الحذق، فم المغنية، كما لو كان عليها أن تتقبل بعض المضايقة: «وإلا سألقي نفسي في الماء كي أكون طعاما للسمك.»
كانت باجز في أيامها الأخيرة، لكنها كانت امرأة رشيقة القوام، بيضاء البشرة، قبل أن تبدأ في الذبول، لذا لم يكن ثمة فرق صادم. كان شعرها الفضي البراق مقصوصا بشكل قصير بطريقة ماهرة من قبل ابنتها آفريل. لم يكن شحوب وجهها رهيبا، وأخفت الأردية العلوية والمعاطف الطويلة الفضفاضة التي صنعتها آفريل لها حالة ذراعيها ونصف جسدها العلوي. امتزجت تعبيرات الإجهاد والإرهاق التي تظهر على وجهها بين الحين والآخر مع تعبير قديم كان لديها؛ أسى ضاحك، جامد. لم تكن تبدو في حالة سيئة على الإطلاق، وكان سعالها معقولا.
قالت لآفريل - التي دفعت ثمن الرحلة من مال تركه لها أب لم تره قط - لتتذكر: «هذه مزحة.» عندما فرغا من الترتيبات، لم تكونا تعلمان ماذا كان سيحدث، أو أن الأمر كان سيحدث بسرعة مثلما بدا الآن.
قالت باجز: «في واقع الأمر، أنوي أن أظل على قيد الحياة حتى أجعل حياتك بائسة لعدة سنوات قادمة ... أبدو أفضل حالا. ألا تعتقدين ذلك؟ في الصباح، على أي حال. أتناول الطعام. كنت أفكر في أن أبدأ في السير قليلا. سرت إلى سياج السفينة بالأمس، عندما لم تكوني هنا.»
كانت كابينتهما على سطح السفينة، وهناك كرسي موضوع لباجز خارجها. كان هناك مقعد تحت نافذة الكابينة، تجلس آفريل عليه الآن وفي الصباح يجلس عليه الأستاذ الجامعي من جامعة تورونتو الذي كانت باجز تطلق عليه أحد معجبيها، أو «ذلك الأستاذ الجامعي الأحمق».
كان ذلك يحدث على متن سفينة نرويجية ناقلة للركاب، في أواخر السبعينيات، في شهر يوليو. كان الجو عبر شمال المحيط الأطلنطي مشمسا، والبحر هادئا وبراقا مثل الزجاج. •••
كان اسم باجز الحقيقي - بالطبع - هو جون. كان اسمها الحقيقي - في عالم الغناء - جون رودجرز. خلال العام والثلاثة أشهر الأخيرة لم تقم أي حفلات غناء عامة. لم تكن قد ذهبت إلى معهد الموسيقى لإلقاء المحاضرات في الشهور الثمانية الأخيرة. كان هناك عدد قليل من الطلاب يأتون إلى الشقة في شارع هورون، في الأمسيات وأيام السبت؛ حتى تمرنهم آفريل على البيانو. كانت آفريل تعمل في معهد الموسيقى، في وظيفة إدارية. كانت تذهب إلى المنزل راكبة دراجة لتناول الغداء يوميا، لترى إذا كانت باجز على ما يرام. لم تكن تقول إنها تذهب إلى المنزل لهذا السبب. كان لديها سبب الاستئذان لتناول غدائها الخاص: لبن منزوع الدسم، حبوب قمح، وموزة، جميعها مضروبة في الخلاط. كانت آفريل تحاول أغلب الوقت أن تنقص من وزنها.
كانت باجز تغني في حفلات الزفاف، كانت تغني غناء منفردا تتلقى فيه أجرا مع الجوقات الكنسية، غنت الأنشودتين الدينيتين «المسيح» و«آلام المسيح بحسب القديس متى» وأيضا في أوبرات جلبرت وسوليفان. كانت تغني في أدوار ثانوية في أوبرات تورونتو مع نجوم مشهورين من الخارج. لفترة - في الخمسينيات - كانت قد شاركت في تقديم برنامج في الراديو مع مغني أوبرا مشهور سكير، الأمر الذي جعل المحطة تستغني في نهاية المطاف عن كليهما. كان اسم جون رودجرز معروفا جدا خلال الوقت الذي كانت آفريل تكبر فيه. كان معروفا بما يكفي ، على الأقل، بين الأشخاص الذين عادة ما كانت آفريل تلتقيهم. كان الأمر بمثابة مفاجأة بالنسبة إلى آفريل، أكثر مما هو لباجز، أن تلتقي أناسا مصادفة الآن لا يعرفونها.
لم يتعرف الأشخاص على السفينة على باجز. كان نصف الثلاثين شخصا أو ما يقارب ذلك من الركاب من الكنديين، معظمهم من تورونتو وما حولها، لكنهم لم يتعرفوا عليها. قالت آفريل خلال أول محادثة لها مع الأستاذ الجامعي: «كانت أمي تلعب دور زرلينا ... في «دون جيوفاني»، في عام 1964.» كان عمرها عشرة أعوام آنذاك، وتذكرت المناسبة باعتبارها مناسبة مجيدة. قلق شديد، اضطراب عصبي، أزمة، حلق ملتهب يعالج عن طريق اليوجا. حلة فلاحة بتنورة ذات نقوش وردية وذهبية فوق مجموعة كبيرة من التنورات التحتية. مناسبة مجيدة.
قالت باجز لها لاحقا: «حبيبتي، زرلينا ليست مألوفة لدى كثير من الناس ... أيضا، أساتذة الجامعات أغبياء. أغبى من الأشخاص العاديين. أستطيع أن أكون لطيفة وأن أقول إنهم يعرفون أشياء لا نعرفها، لكن كما أعرف، أستطيع أن أؤكد لك أنهم لا يعرفون إلا قشورا.»
لكنها كانت تدع الأستاذ الجامعي يجلس إلى جانبها وتدعه يخبرها أشياء عن نفسه في كل صباح. أخبرت آفريل عما عرفته عنه. كان يسير على سطح السفينة لمدة ساعة قبل الإفطار. في دياره، كان يسير ستة أميال يوميا. كان قد تسبب في فضيحة في الجامعة قبل سنوات قليلة عندما تزوج زوجته الشابة (قالت باجز: زوجته الغبية)، التي كان اسمها ليزلي. بسبب ذلك، كون عداءات، وأثار الغيرة والاستياء بين زملائه بسبب تحرره، ثم بسبب تطليق زوجته وتزوج هذه الفتاة التي كانت أصغر بعام واحد من أكبر أبنائه. من ذلك الحين فصاعدا، عزم بعض الأشخاص على النيل منه، وهكذا فعلوا. كان عالم أحياء، لكنه كان قد صمم منهجا علميا شاملا - كان يطلق عليه منهج أمية علمية - للطلاب في أقسام العلوم الإنسانية، منهجا يتسم بالحيوية، والبساطة والذي أمل في أن يمثل فتحا متواضعا في مجال تعليم العلوم. حصل على موافقة رؤسائه على المنهج، لكن تم استبعاده من قبل زملاء له في القسم الذي ينتمي إليه، الذين وضعوا متطلبات وشروط سخيفة ومعقدة للمنهج. كانت النتيجة أنه تقاعد مبكرا.
قالت باجز: «أظن أن الأمر كان كذلك ... لا أستطيع تركيز ذهني على الأمر. أيضا، يمكن أن تدمر النساء الشابات حياة أزواجهن كبار السن. قد يكون الشباب مملا. نعم، بالتأكيد. يستطيع الرجل أن يشعر بالراحة مع امرأة أكبر سنا. إيقاعات أفكارها وذكرياتها ... نعم، إيقاعات أفكارها وذكرياتها ستتوافق بشكل أكبر مع أفكاره وذكرياته. يا للقرف!»
في ركن بسطح السفينة، كانت الزوجة الشابة، ليزلي، تجلس منهمكة في غزل مفرش لمقعد غرفة الطعام. كان هذا هو المفرش الثالث الذي تصنعه. كانت في حاجة إلى ستة مفارش. كانت المرأتان الجالستان إلى جانبها تعبران عن إعجابهما بجمال نمط تطريزها - كان يسمى وردة تيودور - وكانتا تتحدثان عن المفارش المطرزة بالإبرة التي كانتا قد صنعتاها. كانتا تشيران إلى كيف كانت تلك المفارش تتماشى مع أثاث منزليهما. كانت ليزلي تجلس بينهما، تتمتع بالحماية إلى حد ما. كانت فتاة ذات بشرة ناعمة، وردية، وشعر بني، كان شبابها يذوي. كان مظهرها يستدر التعاطف، لكن باجز لم تظهر أي تعاطف تجاهها عندما أخرجت أدوات التطريز من حقيبتها.
قالت باجز: «يا إلهي!» ثم فردت يديها وهزت أصابعها النحيفة وقالت: «هاتان اليدان»، ثم انتابتها نوبة من السعال: «هاتان اليدان فعلتا أشياء كثيرة لست فخورة بها، لكنني يجب أن أقول إنهما لم تمسكا بإبرة خياطة أو إبرة تطريز أو إبرة كروشيه أو حتى خاطت زرا إذا كان ثمة دبوس مشبك في متناول اليد. لذا لست الشخص الذي يمكن أن يقدر ما تفعلينه يا عزيزتي.»
ضحك زوج ليزلي.
كانت آفريل تدرك أن ما قالته باجز لم يكن صحيحا تماما. كانت باجز هي من علمتها كيف تخيط. كانت باجز وآفريل مهتمتين بشدة بالملابس وكانتا تتابعان الموضة، على نحو مرح وجرئ. كانت بعض أفضل الأوقات التي قضياها معا هي الأوقات التي كانتا تقصان القماش فيها، وتحيكان الأجزاء معا؛ مما كان يؤدي لإنتاج تصميمات ملهمة.
كانت المعاطف الطويلة والأردية الفوقية الفضفاضة التي كانت ترتديها باجز على متن السفينة - المصنوعة من الحرير والقطيفة والقطن البراق المزخرف والأشرطة المغزولة بالكروشيه - كلها مأخوذة من فساتين، وستائر، ومفارش مائدة قديمة كانت آفريل اشترتها من متاجر بيع الملابس القديمة. كانت جينين - وهي امرأة أمريكية على متن السفينة، كانت تصنع صداقات على نحو محموم - معجبة بشدة بهذه التصميمات.
قالت جينين: «من أين جئت بهذه الأشياء الرائعة؟» وأجابت باجز: «آفريل. صنعتها آفريل. أليست حاذقة؟»
قالت جينين: «إنها عبقرية ... أنت عبقرية يا آفريل.»
قالت باجز: «يجب أن تصنع ملابس مسرحية ... ألح عليها كثيرا في هذا الأمر.»
قالت جينين: «نعم، لم لا تفعلين ذلك؟!»
توردت آفريل خجلا ولم تستطع أن تقول أي شيء، أي شيء لوقف تعليقات باجز وجينين اللتين كانتا تبتسمان لها.
قالت باجز: «رغم ذلك، أنا مسرورة أنها لم تفعل ذلك. أنا مسرورة أنها هنا معي. آفريل كنزي.»
سائرة على سطح السفينة، مبتعدة عن باجز، سألت جينين آفريل قائلة: «هل تمانعين في أن تخبريني كم عمرك؟»
قالت آفريل ثلاثة وعشرون، وتنهدت جينين. قالت إنها تبلغ اثنتين وأربعين. إنها متزوجة، لكن لا يرافقها زوجها. كان وجهها طويلا مسمرا، ولها شفاه لامعة، بنفسجية مائلة للون الوردي، وشعر يصل إلى كتفيها، كثيف وناعم مثل قطعة خشب من شجرة بلوط. قالت إن الناس كثيرا ما يقولون لها إنها تبدو كما لو كانت من كاليفورنيا، لكنها كانت في حقيقة الأمر من ويسكونسن. كانت من مدينة صغيرة في ويسكونسن؛ حيث كانت مقدمة برنامج إذاعي يتلقى تعليقات من المستمعين. كان صوتها خفيضا ومقنعا ومليئا بالرضا، حتى إن كانت تتحدث عن مشكلة، أو تعبر عن حزن، أو تكشف عن عمل مخز.
قالت: «والدتك امرأة ساحرة.»
قالت آفريل: «الناس إما يرون ذلك وإما لا يستطيعون تحملها.» «هل هي مريضة منذ فترة طويلة؟»
قالت آفريل: «إنها تتعافى ... كان تعاني من التهاب رئوي حاد الربيع الماضي.» كان هذا ما اتفقتا على قوله.
كانت جينين متحمسة كي تصبح صديقة لباجز أكثر من شغف باجز بذلك. مع ذلك، عادت باجز إلى حميميتها غير الكاملة المعتادة، كاشفة عن بعض الأشياء عن الأستاذ الجامعي، وذاكرة الاسم الذي كانت قد اخترعته له: دكتور فاوست. كان اسم زوجته وردة تيودور. ظنت جينين أن هذين الاسمين ملائمان ومضحكان. قالت: أوه، يا له من أمر مضحك!
لم تكن تعرف الاسم الذي منحته إياها باجز: جلامور بوس.
تجولت آفريل على سطح السفينة واستمعت إلى الناس تتحدث. فكرت كيف أن الرحلات البحرية كان من المفترض أن تبتعد بالمرء عن كل شيء، وكيف أن «كل شيء» كان يعني افتراضيا حياة المرء كلها، الطريقة التي يحيا بها، الشخص الذي يكونه في المنزل. غير أن جميع المحادثات التي استرقت السمع إليها كانت عكس ذلك تماما. كان هؤلاء يذكرون تفاصيل حيواتهم، ذاكرين طبيعة وظائفهم، وأطفالهم، وحدائقهم، وغرف طعامهم. كان يجري تبادل وصفات الأشياء: كعكات الفواكه، والسماد العضوي. كانوا أيضا يتحدثون عن طرق التعامل مع زوجات الأبناء وإدارة الاستثمارات. حكايات المرض، الخيانة، العقارات. «قلت». «فعلت». «أعتقد دوما». «حسنا، لا أعرف كيف تفكر في الأمر، لكنني ...»
تساءلت آفريل - التي كانت تمر مولية وجهها شطر البحر - كيف يفعل المرء ذلك؟ كيف يتعلم المرء أن يكون بهذا العناد والإصرار وأن يأخذ دورك؟ «جددت المكان بأسره الخريف الماضي باللونين الأزرق والمحاري.» «أخشى أنني لم أتمكن قط من مشاهدة أعمال الأوبرا الساحرة.»
كانت الجملة الأخيرة جملة الأستاذ الجامعي، متصورا أنه يستطيع أن يلزم باجز حدودها. لكن لماذا قال «أخشى»؟
لم تذهب آفريل للسير وحدها طويلا. كان لديها شخص معجب بها، الذي كان يتتبعها خلسة ويقطع عليها طريقها إلى سياج السفينة. كان فنانا، فنانا كنديا من مونتريال، كان يجلس قبالتها في غرفة الطعام. عندما سئل - أثناء الوجبة الأولى - عن نوع من اللوحات التي يرسمها، قال إن آخر أعماله لوحة لشخص يبلغ تسعة أقدام طولا، وهو ملفوف بالكامل في ضمادات، عليها عبارات مأخوذة من إعلان الاستقلال الأمريكي. قال بعض الأمريكيين المهذبين: «يا لها من لوحة رائعة!» وقال الفنان في سخرية مكتومة: «أنا مسرور أنكم تعتقدون ذلك.»
قالت جينين: «لكن لماذا ...» بنبرة مقدم البرامج الذي يجيب بشكل حاذق على أسلوب عدائي في الحديث (نوع خاص ثري من الطيبة في الصوت، ابتسامة أكثر انتباها واهتماما): «لماذا لم تستخدم أي مقولات كندية من أي نوع؟»
قالت آفريل: «نعم، كنت أتساءل عن ذلك أيضا.» في بعض الأحيان، كانت تحاول أن تشترك في المحادثات على هذا النحو، كانت تحاول التكرار أو التوسع في الأشياء التي كان الآخرون يقولونها. عادة، لم يكن الأمر ينجح.
تحول موضوع الاستشهاد بمقولات كندية إلى موضوع شائك مع الفنان. كان قد تعرض لنقد لاذع على يد النقاد لهذا السبب ذاته، متهمين إياه بعدم الوطنية الكافية، متجاهلين الفكرة التي كان يحاول أن يبينها من خلال عمله. تجاهل جينين، وتتبع آفريل من المائدة وظل يحاضرها ما بدا ساعات طويلة، مبديا إعجابا شديدا بها أثناء ذلك. في صباح اليوم التالي، كان ينتظر الذهاب إلى تناول الإفطار معها، وبعد ذلك سألها إذا ما كانت قد وقفت قبل ذلك أمام فنان ليرسمها.
قالت آفريل: «أنا؟ ... أنا بدينة بعض الشيء.»
قال إنه لم يقصد أن تفعل ذلك وهي مرتدية ملابسها. قال إنه إذا كان من النوع الآخر من الفنانين (ألمت مما قال أن النوع الآخر كان النوع الذي يحتقره) لكان سيختارها مباشرة لجعلها موديل يرسمه. فخذاها الذهبيان الكبيران (كانت ترتدي سروالا قصيرا، لم تلبسه بعد ذلك) شعرها الطويل الذي يشبه الكراميل، كتفاها العريضتان وخصرها الأهيف. إلهة رائعة الجمال، تحظى ببشرة إلهة، إلهة الحصاد. قال إن تعبيرات وجهها العابس نقية وطفولية.
رأت آفريل أن عليها أن تتذكر أن تبتسم دوما.
كان رجلا قصيرا ممتلئ الجسم داكن البشرة، ويبدو أنه عصبي المزاج. أطلقت باجز عليه تولوز-لوتريك.
كان هناك رجال قد وقعوا في حب آفريل من قبل. كانت قد وعدت مرتين أنها ستتزوج، ثم رأت أنها يجب أن تهرب من الأمر. كانت قد ضاجعت الرجال الذين خطبت إليهم، واثنين أو ثلاثة آخرين. في حقيقة الأمر، أربعة آخرين. كانت قد أجهضت مرة من قبل. لم تكن باردة جنسيا - لم تكن تعتقد ذلك - لكنها كانت تشعر ببعض الاستحياء والخوف عندما كانت تمارس الجنس، وكانت تشعر دوما براحة كبيرة عندما ينتهي الأمر.
كانت تتعامل مع الفنان من خلال الإنعام عليه بمحادثة في وقت مبكر من اليوم، عندما كانت تشعر بالقوة وصفاء الذهن. لم تكن تجالسه، وخلال فترتي ما بعد الظهيرة والمساء كانت تحافظ على مسافة كافية بينهما. كان جزء من استراتيجيتها يتمثل في قضاء بعض الوقت مع جينين. كان ذلك جيدا، طالما كانت جينين تتحدث عن حياتها الخاصة ولم تنتقل للحديث عن حياة آفريل.
قالت جينين: «والدتك امرأة شجاعة وجذابة جدا ... لكن الأشخاص الجذابين قد يكونون مراوغين جدا. تعيشين معها، أليس كذلك؟»
أجابت آفريل بالإيجاب، فقالت جينين: «أوه! أنا آسفة. آمل ألا أكون متطفلة أكثر مما ينبغي. آمل ألا أكون قد أزعجتك.»
شعرت آفريل بحق بالحيرة، بالطريقة المعتادة. لماذا يسلم الآخرون سريعا بأنها غبية؟
قالت جينين: «أتعرفين، لقد اعتدت على استضافة الآخرين في برنامجي الحواري ... أنا في غاية السوء عندما يأتي الأمر للمحادثات العادية. لقد نسيت كيف أتواصل في مواقف غير مهنية. أنا فظة أكثر مما ينبغي و«أظهر اهتماما» أكثر مما ينبغي. أحتاج إلى مساعدة في هذا الأمر.»
قالت إن الهدف من هذه الرحلة هو أن تعود بنفسها إلى واقعها العادي وتكتشف من تكون حقا عندما لا تقف أمام الميكروفون. وحتى تعرف من هي خارج إطار زواجها. كان اتفاقا بينها وبين زوجها، مثلما قالت، أن يرحل كل منهما بعيدا عن الآخر في رحلات صغيرة كهذه كثيرا؛ بحيث يمكنهما أن يختبرا حدود العلاقة فيما بينهما.
كانت آفريل تكاد تسمع ما كانت باجز ستقوله عن ذلك. كانت ستقول: «اختبار حدود العلاقة ... تعني المضاجعة على متن سفينة.»
قالت جينين إنها لم تستبعد أن تمر بعلاقة جنسية على متن السفينة. بعبارة أخرى، قبل أن تلقي نظرة على الرجال المتاحين على السفينة، لم تكن قد استبعدت هذا الاحتمال. لكن بمجرد أن ألقت نظرة، وجدت أن هذا مستبعد. من عساه يكون هذا الرجل؟ كان الفنان قصيرا وقبيحا وكارها للأمريكيين . بينما لم يكن ذلك في حد ذاته أمرا يثنيها عنه، كان هو متيما بآفريل. كان لدى الأستاذ الجامعي زوجة على متن السفينة، ولن تقدم جينين على العبث معه في أي مكان. بالإضافة إلى ذلك، كان ثرثارا إلى حد الملل، لديه بعض البثور الصغيرة على جفني عينيه، كما كان معجبا بباجز. جميع الرجال الآخرين كانوا خارج إطار تفكيرها لسبب أو لآخر؛ بعضهم لديه زوجة، أو كان بعضهم طاعنا أو صغيرا في السن جدا بحيث لا يمكن أن يسعدها، أو كانوا مغرمين ببعضهم، أو مغرمين بأعضاء في طاقم السفينة. عليها أن تستغل الوقت لتعتني ببشرتها اعتناء كاملا ولتقرأ كتابا أثناء الرحلة.
قالت لآفريل: «من كنت ستختارين، إذا كنت تختارين لي؟»
قالت آفريل: «ماذا عن ربان السفينة؟»
قالت جينين: «رائع، احتمال بعيد لكن رائع.»
وجدت أن عمر الربان معقول، كان في الرابعة والخمسين. كان متزوجا، لكن كانت زوجته قد عادت إلى برجن. لديه ثلاثة أطفال، بالغون أو قريبون من ذلك. لم يكن هو نفسه نرويجيا بل كان اسكتلنديا، ولد في أدنبرة. كان قد خرج إلى عالم البحار في عمر السادسة عشرة وصار ربانا على هذه الناقلة منذ عشرة أعوام حتى الآن. عرفت جينين كل ذلك عن طريق سؤاله. قالت له إنها ستكتب مقالة لإحدى المجلات عن سفن نقل الركاب (ربما تقوم بذلك فعلا)، اصطحبها في جولة حول السفينة، بما في ذلك قمرته. ظنت أن في ذلك إشارة طيبة.
كانت قمرته غاية في النظافة والنظام. كانت هناك صورة فوتوغرافية لامرأة بدينة، حسنة المظهر ترتدي سترة ثقيلة. كان الكتاب الذي يقرؤه من تأليف جون لو كاريه.
قالت باجز: «لن يمنحها فرصة الإيقاع به. هو أكثر حذرا منها. اسكتلندي حذر.»
لم تكن آفريل قد فكرت للحظة في إفشاء أسرار جينين، إن كانت تلك أسرارا على الإطلاق. كانت معتادة على سرد جميع المعلومات التي حصلت عليها، جميع الحكايات المثيرة - في المنزل في شقة شارع هورون، في الكابينة على ظهر السفينة - إلى باجز. كانت تخبرها بكل الحكايات. كانت باجز نفسها رائعة في حث الآخرين على إخراج ما لديهم، كانت تتلقى أسرارا خطيرة معقدة من مصادر غير محتملة. حتى الآن بقدر ما تعرف آفريل، لم تحتفظ بأي شيء سرا.
قالت باجز إن جينين كانت نوعا من البشر مألوفا لها. واجهة براقة من الخارج وكارثة من الداخل. قالت لآفريل إن من الخطأ الاقتراب منها كثيرا، لكنها تظل هي نفسها شخصية ودودة إلى حد كبير. حكت لجينين قصصا كانت آفريل قد سمعتها من قبل.
أخبرتها عن والد آفريل، الذي لم تصفه بالأحمق أو المحب، بل بالتافه العجوز الحذر. كان عجوزا بالنسبة لها، في الأربعينيات من عمره. كان طبيبا في نيويورك. كانت باجز تعيش هناك، كانت مغنية شابة تحاول أن تشق طريقها. ذهبت إليه تشكو من التهاب بالحلق، الحلق الملتهب هو مصدر القلق الأكبر في حياتها.
قالت باجز: «العين، والأذن، والأنف، والحلق. كيف كان لي أن أعلم أنه لن يتوقف عند ذلك؟»
كانت لديه عائلة. بالطبع. جاء إلى تورونتو، لمرة واحدة، في مؤتمر طبي. رأى آفريل. «كانت تقف في سريرها، وعندما رأته أطلقت صراخا مشئوما. قلت له: هل تعتقد أنها أخذت عني صوتي؟ لم يكن مزاجه يسمح بالمزاح. أخافته. هذا التافه العجوز الحذر. أظن أنه لم يخطئ إلا في تلك المرة.
أستخدم دوما لغة السباب. أحبها. كنت أحبها قبل أن تصبح شيئا شائعا جدا بوقت طويل. عندما بدأت آفريل في الذهاب إلى المدرسة، هاتفتني المعلمة وطلبت مني المجيء لأتحدث معها. قالت إنها قلقة حيال بعض الألفاظ التي كانت تستخدمها آفريل. عندما كانت آفريل تقصف قلمها أو تكسر أي شيء، كانت تقول: «أوه! اللعنة!» أو ربما كانت تقول: «أوه! تبا!» كانت تقول أي شيء كانت معتادة على سماعه مني في المنزل. لم أحذرها من ذلك قط. كنت أظن أنها ستدرك ذلك. لكن كيف لها أن تدرك ذلك؟ آفريل المسكينة. كنت أما بالغة السوء. لم يكن ذلك هو أسوأ ما في الأمر. هل تظنين أنني اعترفت بالأمر لتلك المعلمة وقلت لها إنها سمعت هذه الألفاظ مني؟ بالطبع لا! كنت أتصرف كسيدة مجتمع. أوه، يا عزيزتي. أوه، أقدر تماما إخبارك إياي بالأمر. أوه، يا عزيزتي. أنا شخص فظيع. كانت آفريل تعرف ذلك دوما. أليس كذلك، يا آفريل؟»
قالت آفريل: بلى. •••
في اليوم الرابع، توقفت باجز عن الذهاب إلى غرفة الطعام لتناول العشاء.
قالت: «ألاحظ أن بشرتي تتحول إلى اللون الرمادي بعض الشيء حول أنفي في ذلك الوقت. لا أريد أن أخذل الأستاذ الجامعي. ربما لا يكون متيما هكذا بالنساء الأكبر سنا مثلما يقول.»
قالت إنها أكلت ما يكفي في الإفطار والغداء. وأضافت: «كان الإفطار دوما أفضل الوجبات لدي. وهنا أتناول إفطارا عظيما.»
عادت آفريل من العشاء معها كعكات وفواكه.
قالت باجز: «رائع، سأتناولها لاحقا.»
كان عليها أن تنام مستندة إلى شيء ما.
قالت آفريل: «ربما لدى الممرضة أسطوانة أكسجين.» لم يكن هناك طبيب على متن السفينة، لكن كان هناك ممرضة. لم ترد باجز أن تأتي الممرضة. لم تكن في حاجة إلى أكسجين.
قالت عن نوبات السعال التي تنتابها: «ليست سيئة، ليست سيئة مثلما تبدو. مجرد نوبات بسيطة. كنت أتساءل: هي عقاب عن ماذا؟ بالنظر إلى أنني لم أدخن قط. حدثت نفسي أن ذلك ربما يرجع إلى غنائي في الكنيسة وعدم إيماني؟ لا. أعتقد ربما بسبب أغنية «صوت الموسيقى». ماريا. الله يكرهها.» •••
كانت آفريل وجينين تلعبان البوكر في الأمسيات مع الفنان والمساعد الأول - النرويجي الجنسية - للربان. كانت آفريل تذهب إلى سطح السفينة بضع مرات لتطمئن على باجز. كانت باجز نائمة أو تتظاهر بأنها نائمة، الفواكه والكعكات إلى جانب فراشها لم تمس. كانت آفريل تخرج من اللعبة مبكرا. لم تكن تذهب إلى الفراش مباشرة، على الرغم من أنها فعلت كل ما في وسعها كي تتعب ويلح عليها النعاس بشدة بحيث لا تستطيع حتى فتح عينيها. كانت تنسل إلى الكابينة لأخذ الكعكات التي لم تؤكل، ثم تخرج إلى سطح السفينة. كانت تجلس إلى المقعد الذي يوجد تحت نافذة الكابينة. كانت النافذة مفتوحة دوما على مصراعيها في نسيم الليل الدافئ الساكن. كانت آفريل تجلس هناك وتأكل الكعكات في هدوء بقدر ما تستطيع، وهي تقضم في حذر الحافة المقرمشة اللذيذة. كان هواء البحر يجعلها جوعانة مثلما كان من المفترض أن يكون الأمر. إما هذا أو أن ما يجعلها جوعانة هو التوتر الناجم عن وجود شخص واقع في حبها بالقرب منها. في ظل هذه الظروف كان وزنها يزداد عادة.
كانت تستطيع سماع صوت نفس باجز؛ اضطرابات وتوقفات قصيرة، ونوبة تسارع غير منتظمة، وتعثر، وشخير، ولهاث سريع. تستطيع سماع باجز وهي نصف نائمة، وهي تتقلب وتصارع وتتحامل على نفسها صعودا في الفراش. تستطيع رؤية الربان، عندما خرج من قمرته للسير قليلا. لم تعرف إذا ما كان قد رآها. لم يبد ذلك على الإطلاق. لم ينظر جهتها قط. كان ينظر إلى الأمام. كان يمارس بعض التمارين، ليلا، عندما لا يكون مضطرا أن يتبادل الأحاديث مع أحد. ذهابا وإيابا، ذهابا وإيابا، قريبا من سياج السفينة. ظلت آفريل ساكنة، شعرت وكأنها مثل ثعلب يختبئ في أحد الأدغال. حيوان ليلي، تراقبه. لكن لم تظن أنه سيجفل إذا ما حركت ساكنا أو نادته. كان متنبها لكل شيء على متن السفينة، بالتأكيد. كان يعلم أنها هناك، لكنه كان يتجاهلها تأدبا، أو لشعوره الذاتي بالثقة.
كانت تفكر في خطط جينين للإيقاع به، واتفقت مع باجز أنها خطط مصيرها الفشل. ستشعر آفريل بالإحباط إذا لم تؤل تلك الخطط إلى الفشل. لم يبد ربان السفينة بالنسبة إليها رجلا يريد أن يزعجك، أو يتملقك، أو يستثيرك، أو يهاجمك. لا يبدو أي من تصرفاته كأنها تقول لك: «انظري إلي.» «استمعي إلي.» «اعجبي بي.» «امنحيني نفسك.» لا شيء على الإطلاق من ذلك. تدور أشياء أخرى في خلده. السفينة، البحر، الطقس، الحمولة، الطاقم، الالتزامات التي عليه الوفاء بها. يجب أن يكون الركاب مسألة عادية بالنسبة إليه. حمولة من نوع آخر، تتطلب نوعا آخر من الاهتمام. كسول أو مريض، شهواني أو حزين، فضولي، غير صبور، مراوغ، منعزل؛ كل هذا رآه من قبل. سيعرف أشياء عن هؤلاء على الفور، لكن ليس أكثر مما يحتاج أن يعرف. ربما يعرف عن جينين قصة قديمة.
كيف حدد الوقت الملائم للدخول؟ هل ضبط التوقيت؟ هل حسب خطواته؟ كان شعره مائلا إلى البياض وظهره مستقيما، وبه بدانة في جسده حول منطقة الوسط، لا تشي بالإفراط بل بسلطة هادئة. لم تفكر باجز في أي اسم له. بينما كانت قد أشارت إليه بالاسكتلندي الحذر، لم تهتم بأكثر من ذلك فيه. لم يكن ثمة علامات واضحة حياله، كانت تستطيع باجز الإمساك بها، لا وجود لأي محاولات للاستعراض، لا وجود لأي طبقات براقة تترقق عند أول اختبار. كان رجلا قد تشكل قبل وقت طويل، لا رجلا يصنع نفسه لحظة بلحظة وباستخدام أي شخص يجده خلال عملية تشكله.
قبل ليلة واحدة من ظهور الربان، سمعت آفريل غناء. سمعت باجز تغني. سمعت باجز تنهض وتعدل من وضع جسدها في الفراش وتبدأ في الغناء.
في بعض الأحيان في الشهور الأخيرة، كانت باجز تغني جملة أثناء أحد الدروس، كانت تغني في صوت خفيض للغاية، بحذر شديد، ولحاجتها إلى الغناء، لتبين شيئا. لم تكن تغني هكذا الآن. غنت في خفة، مثلما كانت معتادة أثناء تدريباتها، محافظة على كامل قوة صوتها للعرض النهائي. لكنها كانت تغني في صدق وبطريقة جيدة، في عذوبة كاملة، أو شبه كاملة.
كانت تغني: «سترى يا عزيزي.» مثلما كانت معتادة على الغناء عندما كانت ترتب المائدة أو تنظر خارج نافذة الشقة إلى الأمطار، مؤدية فاصلا غنائيا خفيفا كان يمكن تأديته بثراء أكثر إن أرادت. ربما كانت تنتظر شخصا ما في تلك الأوقات، أو تبغي سعادة غير محتملة أو فقط تتمرن من أجل حفل غنائي. «سترى يا عزيزي،
إذا أصبحت مطيعا،
أي علاج رائع
أحتفظ به لك!»
كانت رأس آفريل قد ارتفعت إلى أعلى عندما بدأ الغناء. كان جسدها قد تضام، مثلما يحدث لها في الأزمات. لكن لم ينادها أحد، ظلت في مكانها. بعد لحظة الانزعاج الأولى، شعرت الشعور نفسه، الشعور نفسه الذي كانت تشعر به دوما، عندما كانت أمها تغني. تنفتح الأبواب على مصراعيها، مباشرة، كان ثمة فضاء مضاء في الخلفية، بصيص من العطف والجدية. فرح مرغوب، مبارك، وجدية، أحد تجليات العطف التي لا تسأل أي مقابل. لا تستطيع سوى قبول هذا الأمر البراق. الذي غير كل شيء، ثم عندما تتوقف باجز عن الغناء يختفي ذلك الشيء. اختفى. بدا كما لو أن باجز نفسها أخذته بعيدا. كانت باجز تستطيع أن تشير إلى أن الأمر لم يكن سوى خدعة، لا أكثر من ذلك. ويمكنها أن تشير إلى أنك لست إلا أحمق إذا لاحظت هذا الشيء. إنها هبة كانت باجز ملزمة بتقديمها إلى الجميع.
هناك. هذا هو كل ما في الأمر. أنت مرحب بك.
لا شيء مميز.
كانت باجز تمتلك هذا السر الذي كشفت عنه، ثم تولت حجبه تماما عن آفريل، مثلما حجبته عن الآخرين. «لا تتمتع آفريل بأذن موسيقية، شكرا للرب.»
ظهر الربان على سطح السفينة بمجرد انتهاء باجز من الغناء. ربما كان قد استمع إلى المقطع الأخير من الغناء أو كان ينتظر في أدب - في الخفاء - حتى تفرغ باجز من الغناء. مضى، وكانت آفريل تراقبه، كالمعتاد.
كان بمقدور آفريل أن تغني في رأسها. لكن حتى في رأسها لم تكن تغني قط الأغاني التي تغنيها باجز. لم تغن أيا من أغاني زرلينا، أو مقاطع غناء السوبرانو في الأنشودات الدينية، ولا حتى «وداعا نوفا سكوتيا» أو أيا من الأغاني الشعبية التي كانت باجز تسخر من العواطف المفرطة فيها على الرغم من أنها كانت تغنيها على نحو ملائكي. كان ثمة ترنيمة تغنيها آفريل. لم تكد تعرف من أين جاءت. لم يكن من الممكن أن تتعلمها من باجز. كانت باجز تكره الترنيمات عموما. لا بد أن آفريل تعلمتها من الكنيسة عندما كانت طفلة، وكان عليها أن تذهب في صحبة باجز عندما كانت تغني غناء منفردا.
كانت الترنيمة تبدأ هكذا: «الرب راع.» لم تكن آفريل تعلم أنها جزء من أحد المزامير، لم تذهب آفريل إلى الكنيسة كثيرا حتى تعرف المزامير. لم تكن تعرف معنى جميع الكلمات في الترنيمة، التي كانت - مثلما كان عليها أن تقر - مليئة بالأنانية المفرطة، والانتصار الصريح - وخاصة في إحدى الآيات - نوعا من الشماتة الطفولية:
ترتب قدامي مائدة،
تجاه مضايقي.
كم كان صوت عقل آفريل ينشد في حبور، وأمان، ولاعقلانية هذه الكلمات، بينما كانت ترقب الربان يتمشى أمامها، ولاحقا، عندما كانت هي نفسها تسير في أمان إلى سياج السفينة:
إنما خير ورحمة يتبعانني
كل أيام حياتي،
وأسكن في بيت الرب
إلى مدى الأيام.
كان غناؤها الصامت يلف القصة التي كانت تتلوها لنفسها، قصة كانت تزيد من أحداثها كل ليلة على سطح السفينة. (كانت آفريل تحكي لنفسها قصصا. بدت عملية الحكي بالنسبة إليها حتمية مثل الحلم.) كان غناؤها حاجزا بين العالم في ذهنها والعالم الخارجي، بين جسدها وتدافع النجوم، المرآة السوداء لمنطقة شمال الأطلنطي. •••
توقفت باجز عن الذهاب إلى تناول الغداء. كانت لا تزال تذهب إلى الإفطار، وكانت في حالة نشاط آنذاك، ولمدة ساعة أو ما يقارب ذلك بعدها. قالت إنها لا تشعر أن حالتها تسوء، كانت متعبة من الاستماع والكلام. لم تغن ثانية، على الأقل عندما كانت آفريل تستطيع سماعها. •••
في الليلة التاسعة، التي كانت آخر ليلة تخرج فيها، قبل أن ترسو السفينة في مدينة تيلبري، أقامت جينين حفلة في كابينتها. كانت كابينة جينين أكبر وأفضل كابينة على ظهر السفينة. قدمت شامبانيا، كانت قد جلبتها لهذا الغرض، وويسكي وخمرا، بالإضافة إلى الكافيار والعنب، وكميات ضخمة من السلمون المدخن وشرائح اللحم، والجبن، والخبز، من المطبخ. قالت: «أنا أبذر كثيرا، أحلق عاليا من السعادة. سأتجول في أوروبا، حاملة حقيبة على ظهري، وأسرق البيض من مزارع الدجاج. لا آبه. سأحتفظ بعناوينكم. وعندما أنفق كل ما لدي، سآتي لأقيم معكم. لا تضحكوا!»
كانت باجز تنوي الذهاب إلى الحفلة. كانت قد ظلت في الفراش طوال اليوم، ولم تذهب حتى لتناول الإفطار، كي تحافظ على قوتها. نهضت واغتسلت، ثم استندت على الوسائد لوضع زينتها. تزينت على نحو طيب، عيناها وباقي الأشياء. مشطت شعرها ورشت عطرا عليه . لبست فستانها الرائع الذي ترتديه عند الغناء منفردة، الذي كانت آفريل قد صنعته؛ فستان مستقيم القص، طويل، حريري بلون أرجواني داكن، تزين أكمامه الواسعة خيوط من الحرير باللونين الوردي والفضي متغيري الدرجة حسب الضوء.
قالت باجز: «لونه باذنجاني.» استدارت حتى ترى اتساع الثوب التدريجي عن حاشية الفستان. جعلتها الاستدارة تفقد توازنها، فجلست.
قالت: «لا بد أن أطلي أظافري ... سأنتظر قليلا. أشعر بتوتر شديد.»
قالت آفريل: «أستطيع أن أقوم بذلك عنك.» كانت قد رفعت شعرها بالدبابيس إلى أعلى. «هل تستطيعين ذلك؟ لا أظن ذلك. لا أظن أنني سأذهب. على الرغم من استعدادي. أظن أن الأحرى بي أن أمكث هنا وأستريح. غدا، يجب أن أكون في أفضل هيئة. النزول من السفينة.»
ساعدتها آفريل على خلع فستانها وغسل وجهها وارتداء ثوب النوم مرة أخرى. ساعدتها على الرقاد في الفراش.
قالت باجز: «هذه جريمة ضد الفستان؛ ألا أذهب؟ يستحق هذا الفستان أن يرى. لا بد أن ترتديه. ارتديه. من فضلك.»
بينما لم تكن آفريل تظن أن اللون الأرجواني يناسبها، انتهى بها المطاف بالتخلي عن فستانها الأخضر وارتداء فستان باجز. ذهبت عبر البهو إلى الحفلة، تنتابها مشاعر الغرابة، والتحدي، والعبثية. كان كل شيء على ما يرام، كان الجميع في كامل أبهته، بعضهم كان يرتدي ملابس مهندمة جدا. حتى الرجال كانوا في كامل أبهتهم بشكل أو بآخر. كان الفنان يرتدي سترة بذلة سهرة قديمة، وبنطال جينز، وكان الأستاذ الجامعي يرتدي سترة بيضاء من النوع الفضفاض إلى حد ما، والتي يبدو معها مثل أصحاب المزارع المتأنقين. كان فستان جينين أسود اللون وقصيرا، وكانت ترتدي جوارب سوداء شفافة، وتتقلد مجموعة كبيرة من المجوهرات الذهبية. كانت ليزلي ترتدي فستانا من الحرير الرقيق الصقيل، تزينه ورود حمراء ووردية اللون إزاء خلفية كريمية اللون. عند مؤخرتها، كان الفستان محزوما في صورة وردة هائلة، ظل الأستاذ الجامعي يربت، ويجذب، ويرتب بتلاتها حتى تكون في أبهى صورة. كان يبدو كما لو كان مبهورا بها للمرة الأولى. كانت تبدو مسترخية وفخورة، يتورد وجهها من حمرة الخجل.
سأل الأستاذ الجامعي آفريل: «ألن تأتي أمك إلى الحفل؟»
أجابت آفريل: «الحفلات تضجرها.»
قال: «لاحظت أن أشياء كثيرة تضجرها ... لاحظت ذلك في الفنانين، وهو أمر مفهوم. عليهم التركيز أكثر على أنفسهم.»
قال الفنان: «من هذه؟ تمثال الحرية؟» ممررا يديه على الحرير في فستان آفريل. «هل ثمة امرأة في الداخل على الإطلاق؟»
كانت آفريل قد سمعت أن الفنان كان يتحدث عنها مع جينين مؤخرا، متسائلا إذا ما كانت سحاقية، وإذا لم تكن باجز أمها، بل مجرد حبيبة غنية، غيورة.
قال: «هل هذه امرأة أم كتلة كبيرة من الخرسانة؟» لامسا الحرير عند ردفها.
لم تأبه آفريل. كانت هذه هي الليلة الأخيرة التي كانت ستراه فيها. كانت تحتسي الخمر. كانت تحب احتساء الخمر. كانت تحب احتساء الشامبانيا على وجه الخصوص. كانت تجعلها تشعر لا بالإثارة بل بالضبابية والتسامح.
تحدثت إلى مساعد الربان الأول الذي كان مخطوبا إلى فتاة من منطقة الجبال ولم يظهر حيالها إلا اهتماما ودودا، وهو ما راقها كثيرا.
تحدثت إلى الطاهية، وهي امرأة جميلة كانت تدرس اللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية النرويجية وكانت تعتزم الآن أن تعيش حياة فيها مخاطرة أكثر. كانت جينين قد أخبرت آفريل أنه كان يعتقد أن الطاهية والفنان يتضاجعان، وكان ثمة طابع تحد ساخر في ود الطاهية جعل آفريل تعتقد أن ذلك ربما يكون أمرا صحيحا.
تحدثت إلى ليزلي، التي قالت إنها كانت عازفة لآلة هارب. كانت عازفة هارب شابة تعزف أثناء وجبات العشاء في أحد الفنادق، ولمحها الأستاذ الجامعي وهي تعزف في خلفية من نبات السرخس. لم تكن طالبة مثلما كان الناس يظنون. لكن بعد أن تزوجا، جعلها الأستاذ الجامعي تحصل على بعض الدورات الدراسية لتطور عقلها. كانت تقهقه وهي تحمل كأس الشامبانيا وتقول: إن الأمر لم ينجح. كانت تقاوم عملية تطوير العقل، لكنها كانت قد تخلت عن عزف الهارب.
تحدثت جينين إلى آفريل في صوت خفيض وخاص قدر استطاعتها. قالت: «كيف ستستطيعين التعامل معها؟ ماذا ستفعلين في إنجلترا؟ كيف ستركب القطار؟ هذا أمر مهم.»
قالت آفريل: «لا تقلقي.»
قالت جينين: «لم أكن صريحة معك. علي أن أذهب إلى الحمام، لكنني أريد أن أخبرك شيئا عندما أرجع.»
أملت آفريل ألا تعتزم جينين البوح بالمزيد من الأسرار عن الفنان أو تقديم المزيد من النصائح عن معاملة باجز. لم تفعل. عندما خرجت من الحمام، بدأت تتحدث عن نفسها. قالت إنها ليست في عطلة قصيرة مثلما زعمت. بل هجرها زوجها، هجرها سعيا وراء امرأة غبية شديدة الجاذبية كانت تعمل موظفة استقبال في المحطة. كموظفة استقبال، تضمن عملها طلاء أظافرها وإجابة الهاتف من آن إلى آخر. رأى الزوج أنه وجينين يجب أن يظلا أصدقاء، وأنه سيأتي إلى زيارتها، يتناول الخمر بنفسه ويتحدث عن الأساليب المغرية التي تمارسها عشيقته. كيف كانت تجلس في الفراش، عارية - تفعل ماذا يا ترى؟ - تطلي أظافرها. كان يرغب في أن تضحك جينين معه وتواسيه على هذه العلاقة التي يفكر فيها جيدا قبل الدخول فيها. وهكذا فعلت، فعلت جينين ذلك. مرة أخرى، فعلت ما كان يريد واستمعت إلى حكاياته وشاهدت الخمر وهو ينفد. قال إنه يحبها - جينين - كما لو كانت الأخت التي لم يوجد له مثلها قط. أما الآن، كانت جينين عازمة على اقتلاعه من الجذور من حياتها. كانت تريد أن تطير. كانت تريد أن تعيش حرة.
كانت لا تزال تضع عينيها على الربان، على الرغم من أن الساعة بلغت الحادية عشرة. رفض تناول الشامبانيا وكان يشرب الويسكي.
كانت الطاهية قد جلبت صينية عليها أقداح من القهوة لأولئك الذين لا يحتسون الخمر أو الذين يرغبون في أن يفيقوا مبكرا. عندما حاول أحدهم أخيرا أن يتناول قدحا منها، كانت الكريمة في القهوة قد بدأت تفسد، ربما بسبب البقاء لفترة طويلة في غرفة دافئة. دون أن يبدو عليها أي ارتباك، أخذت الطاهية الصينية بعيدا، وهي تعد بأن تأتي بقهوة جديدة. قالت: «ستكون طيبة عند وضعها على الكعك في الصباح، مع إضافة سكر بني، على الكعك.»
قالت جينين إن أحدهم أخبرها ذات مرة أنه عندما يفسد اللبن يمكن أن تشك أن هناك شخصا ميتا على متن السفينة.
قالت جينين: «كنت أعتقد أن هذا نوع من الخرافات، لكنه قال إن الأمر ليس كذلك؛ فهناك سبب. الثلج. يتم استخدام كل الثلج الموجود لحفظ الجسد؛ لذا يفسد اللبن. قال إنه يعرف أن ذلك حدث بالفعل، على متن سفينة كانت تبحر في منطقة استوائية.»
سئل الربان، مزحا، عما إذا كان ثمة أي مشكلة من هذا النوع على متن السفينة.
قال لا، على حد علمه. قال: «لدينا مساحات كبيرة للتبريد.»
قالت جينين: «على أي حال، أنتم تدفنون الموتى في البحر، أليس كذلك؟ يستطيع المرء أن يتزوج أو يدفن في البحر، أليس كذلك؟ أم هل حقا تقومون بحفظ الموتى في الثلاجات وترسلونهم إلى ديارهم؟»
قال الربان: «نفعل ما تمليه علينا كل حالة.»
سئل، إذا كان قد حدث هذا له بالفعل، فهل كان يجري حفظ الميت أو يتم دفنه في البحر؟ «شاب صغير ذات مرة، أحد أفراد الطاقم، مات جراء التهاب حاد في الزائدة الدودية. لم نكن نعرف له أهلا؛ لذا دفناه في البحر.»
قالت ليزلي، التي كانت تضحك بصوت عال على أي شيء: «هذا تعبير مضحك، عندما تفكر فيه، دفناه في البحر.»
قال الربان: «في مرة أخرى ... في مرة أخرى، كان الميت سيدة.»
ثم حكى لجينين وآفريل، وعدد من الركاب الآخرين ممن كانوا يقفون على مقربة منه، قصة. (لم تسمع ليزلي القصة؛ حيث قد أخذها زوجها بعيدا.)
قال الربان: في إحدى المرات على متن هذه السفينة، كان ثمة أختان تسافران معا. كان ذلك في خط سير مختلف، قبل سنوات قليلة، إلى جنوب المحيط الأطلنطي. كان يبدو أن هناك فرقا بين الأختين في العمر يبلغ عشرين عاما، لكن كان ذلك يرجع فقط إلى أن إحداهما كانت مريضة جدا. ربما لم تكن أكبر سنا كثيرا، ربما لم تكن الأكبر على الإطلاق. ربما كانت كلتاهما في الثلاثينيات من العمر. لم تكن أي منهما متزوجة. كانت الأخت التي لم تكن مريضة جميلة جدا.
قال الربان: «أجمل امرأة رأيتها على الإطلاق.» متحدثا في نبرة جادة، كما لو كان يصف منظرا أو مبنى.
كانت جميلة جدا، لكن لم تكن تعر أحدا أي انتباه، إلا أختها التي كانت ترقد في الكابينة مصابة فيما يبدو بمرض في القلب. كانت الأخت الأخرى معتادة على الخروج ليلا والجلوس على المقعد خارج نافذة كابينتهما. ربما كانت تسير إلى حاجز السفينة وتعود، لكنها لم تكن تبعد كثيرا عن النافذة. ظن الربان أنها كانت في مرمى السمع، حال كانت أختها في حاجة إليها. (لم يكن هناك طبيب على متن السفينة في ذلك الوقت.) كان يستطيع رؤيتها هناك عندما كان يخرج في مشيته الليلية المتأخرة، لكنه كان يتظاهر بأنه لا يراها؛ نظرا لأنه ظن أنها لم تكن ترغب في أن يراها أحد، أو أن تلقي التحية على أحد.
لكن في إحدى الليالي، عندما كان يسير مارا بها، سمعها تناديه. كانت تنادي في صوت خافت لدرجة أنه كان بالكاد يسمعها. اتجه إلى المقعد، وقالت: «أيها الربان، أنا آسفة، أختي ماتت لتوها.»
أنا آسفة، أختي ماتت لتوها.
قادته إلى الكابينة، وكانت محقة تماما. كانت أختها ترقد على السرير المجاور للباب. كانت عيناها نصف مفتوحتين، كانت قد ماتت لتوها.
قال الربان: «كانت الأشياء شبه مبعثرة، على النحو الذي تكون الأمور عليه في بعض الأحيان في مثل تلك الحالات. ومن خلال الطريقة التي استجابت بها للأمر عرفت أنها لم تكن في الكابينة عندما وقع الأمر؛ كانت في الخارج.»
لم ينبس الربان أو المرأة ببنت شفة. بدآ في العمل معا لترتيب الأشياء، وغسلا الجسد، ومدداه، وأغلقا العينين. عندما انتهيا، سألها الربان عمن يجب أن يبلغه بالأمر. قالت المرأة: لا أحد. لا أحد. قالت: لا يوجد أحد إلا نحن الاثنتين. سألها الربان: إذا هل ستدفنين الجثمان في البحر؟ قالت: نعم. قال: غدا؟ غدا في الصباح؟ قالت: لماذا يجب علينا أن ننتظر؟ هل نستطيع أن نقوم بذلك الآن؟
بالطبع كانت تلك فكرة جيدة، على الرغم من أن الربان لم يكن ليحثها على ذلك ما لم تقل ذلك بنفسها. كلما قل عدد الركاب الآخرين - أو حتى طاقم السفينة - الذين هم على دراية بوجود حالة وفاة على متن السفينة؛ كان ذلك أفضل. كان الطقس حارا، صيفا في جنوب المحيط الأطلنطي. قاما بلف الجسد في إحدى الملاءات، وحملاه عبر النافذة، التي كانت مفتوحة على مصراعيها لدخول الهواء. كان جثمان الأخت الميتة خفيفا، ضعيفا. حملا جثمانها إلى سياج السفينة. ثم قال الربان إنه سيذهب ليأتي بحبل ليربط الجثمان في الملاءة بحيث لا تنفصل عنه عندما يقذفانه. قالت: ألا يمكننا أن نستخدم أوشحة؟ ثم هرولت إلى الكابينة وجاءت حاملة مجموعة من الأوشحة التي كانت جميلة جدا. ربط الجثمان في الملاءة بهذه الأشياء وقال إنه سيذهب ليأتي بالكتاب المقدس؛ ليقرأ على الجثمان صلوات الموتى. ضحكت المرأة وقالت: ما فائدة الكتاب المقدس هنا؟ المكان مظلم تماما. كان يرى أنها كانت تخشى أن تترك وحدها مع الجثمان. كانت محقة - أيضا - في أن المكان كان مظلما جدا بما لا يسمح بالقراءة. كان يستطيع إحضار كشاف. لم يعرف إذا ما كان قد فكر في ذلك من قبل قط. لم يرغب حقيقة في أن يتركها، لم تعجبه الحالة التي كانت عليها.
سألها عما يجب أن يقوله إذا؛ بعض الصلوات؟
قالت: قل ما شئت. فتلا الصلاة الربانية، لم يذكر إذا ما كانت قد شاركته الصلاة أم لا. ثم قال شيئا مثل: أبانا المسيح، باسمك نواري هذه المرأة في الأعماق، رحماك بروحها! شيء من هذا القبيل. أمسكا بالجسد ثم ألقياه من فوق السياج. لم يحدث الجثمان ضجة كبيرة عندما ألقي في الماء.
سألت إذا ما كان هذا هو كل ما في الأمر، وأجابها بالإيجاب. كان عليه أن يملأ بيانات بعض الأوراق ويكتب شهادة الوفاة. سأل: ما كان سبب الوفاة؟ هل كانت نوبة قلبية؟ تساءل في نفسه عن أي ذهول كان فيه بحيث لم يسل عن ذلك قبل ذلك.
قالت: بل قتلتها.
صرخت جينين قائلة: «كنت أعلم! ... كنت أعلم أنها حادثة قتل!»
اصطحب الربان المرأة إلى المقعد تحت نافذة الكابينة - المضاءة مثلما في الكريسماس - وسألها عما كانت تعني. قالت إنها كانت جالسة هنا، حيث هي الآن، وسمعت نداء أختها. كانت تعلم أن أختها كانت تمر بنوبة. كانت تعلم ماذا لديها، كانت أختها في حاجة إلى حقنة. لم تتحرك البتة. حاولت أن تتحرك. بعبارة أخرى: ظلت تفكر في التحرك، رأت نفسها تذهب إلى الكابينة، وتخرج الحقنة، رأت نفسها تفعل ذلك، لكنها لم تكن تتحرك. جاهدت نفسها أيما جهاد لتتحرك، لكنها لم تتحرك. جلست كالحجر. لم تكن تستطيع الحركة مثلما لا يستطيع المرء الحركة بعيدا عن مصدر خطر ما في الأحلام. كانت جالسة تستمع حتى علمت أن أختها ماتت. ثم جاء الربان فنادته.
أخبرها الربان أنها لم تقتل أختها.
قال: ألم تكن أختها ستموت على أي حال؟ ألم تكن ستموت قريبا جدا؟ إذا لم يكن الليلة، فقريبا جدا؟ قالت: أوه! نعم. ربما. قال الربان: لا ليس ربما، بل بالتأكيد. ليس ربما، لكن بالتأكيد. كتب النوبة القلبية سببا للوفاة في شهادة الوفاة، وذلك كل ما في الأمر.
قال: عليك أن تهدئي الآن. سيكون كل شيء على ما يرام.
قالت المرأة: نعم. كانت تعلم أن هذا الجانب من الأمر سيسير على ما يرام. قالت: لست آسفة. أعتقد أن عليك تذكر ما فعلت.
قال الربان: «ثم ذهبت في اتجاه سياج السفينة ... وبالطبع ذهبت معها، لأنني لم أكن متأكدا ماذا كانت تعتزم أن تفعل، وأنشدت ترنيمة. كان هذا هو كل ما في الأمر. أظن أن ذلك كان هو كل مساهمتها في الصلوات. كانت تغني بصوت لا تكاد تسمعه، لكنني كنت أعرف الترنيمة. لا أستطيع تذكرها، لكنني كنت أعرفها جيدا جدا.»
غنت آفريل آنذاك: «إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي.» بصوت خفيض ولكن واثق، وهو ما جعل جينين تعانقها، وتصيح قائلة: «حسنا، شامبانيا يا سالي!»
اندهش الربان للحظة. ثم قال: «أعتقد أنها ربما كانت هذه.» اعتقد أنه ربما كان قد أفصح عن شيء ما - جانب من قصته - لآفريل: «ربما كانت هذه.»
قالت آفريل: «هذه هي الترنيمة الوحيدة التي أعرفها.»
قالت جينين: «هل كان هذا هو كل ما في الأمر؟ ألم يكن هناك ميراث يتصارعان عليه أو رجل يتنافسان عليه؟ أليس كذلك؟ أعتقد أن الأمر لم يكن مثلما يحدث على شاشة التليفزيون.»
قال الربان: لا، لم يكن الأمر مثلما يحدث على شاشة التليفزيون.
كانت آفريل تعتقد أنها تعرف بقية القصة. كيف لها ألا تعرف بقيتها؟ كانت هذه قصتها. كانت تعرف أن بعد فراغ المرأة من إنشاد الترنيمة، أخذ الربان بيديها بعيدا عن سياج السفينة. ورفع يديها إلى فمه وقبلهما. قبل ظهر يديها، ثم راحتهما؛ يديها اللتين كانت قد أدتا الصلاة توا على المتوفاة.
في بعض نسخ القصة، كان هذا هو كل ما فعله، كان هذا كافيا. في نسخ أخرى، لم يكتف بذلك. وهكذا الأمر بالنسبة لها. ذهبت معه إلى الداخل، عبر الممر إلى الكابينة المضاءة، وهناك ضاجعها على الفراش نفسه الذي وفق روايته كانا قد أزالا ملاءاته ونظفاه، ملقين من كانت ترقد فيه وإحدى ملاءاته إلى قاع المحيط. استلقيا على هذا الفراش لأنهما لم يستطيعا الانتظار حتى يذهبا إلى الفراش الآخر تحت النافذة، اندفعا بقوة في عملية المضاجعة التي استمرت حتى الفجر والتي كانت ستكفيهما حتى ما تبقى من حياتيهما.
في بعض الأحيان، كانا يطفئان الأنوار، في بعض الأحيان لم يكونا يعبئان بذلك.
تلا الربان القصة كما لو كانت الأم والابنة أختين، وكما لو كان قد انتقل بالسفينة إلى جنوب الأطلنطي، وكما لو كان قد ترك النهاية مفتوحة - فضلا عن إضافة تفاصيل من عنده - لكن آفريل كانت تعتقد أن القصة التي رواها هي قصتها. كانت القصة التي كانت تحكيها لنفسها ليلة وراء ليلة على سطح السفينة، قصتها شديدة السرية، ها هي تروى لها مجددا. كانت هي من ألفتها، وأخذها هو عنها، ورواها، بطريقة آمنة.
إن اعتقادها بأن هذا يمكن أن يحدث جعلها تشعر بالخفة والتميز والتوهج، مثل سمكة مضيئة في الماء. •••
لم تمت باجز في تلك الليلة. ماتت بعد أسبوعين، في المستشفى الملكي في أدنبرة . كانت قد نجحت في بلوغ هذه المسافة، على متن القطار.
لم تكن آفريل بصحبتها عندما ماتت. كانت على مسافة مربعين سكنيين منها، تأكل بطاطس مشوية في أحد مطاعم الوجبات السريعة.
كانت إحدى الملاحظات المفهومة الأخيرة التي قالتها باجز عن المستشفى الملكي هي تلك التي قالت فيها: «ألا تبدو مثل «العالم القديم»؟»
كانت آفريل - التي خرجت لتتناول طعامها بعد أن مكثت في غرفة المستشفى طوال اليوم - قد اندهشت لتجد أن الشمس لم تغب بعد، وأن كثيرا من الأشخاص الممتلئين بالحيوية الأنيقين كانوا في الشوارع، يتحدثون الفرنسية والألمانية، وربما لغات أخرى كثيرة لم تستطع التعرف عليها. في كل عام في هذا الوقت، كانت مدينة الربان تقيم مهرجانا. •••
أحضرت آفريل جثمان باجز إلى ديارهما في تورونتو في طائرة، وأقامت لها جنازة عزفت بها موسيقى فخمة. وجدت نفسها تجلس إلى كندي آخر كان عائدا من اسكتلندا، شاب كان قد شارك في مسابقة جولف شهيرة للهواة ولم يبل بلاء حسنا مثلما كان يتوقع. جعل الفشل وفقدان العزيز كلاهما يعطفان أحدهما على الآخر، واندهش كلاهما ببساطة شديدة من جهل الآخر بعالم الرياضة وعالم الموسيقى. وحيث إن الرجل كان يعيش في تورونتو، كان من السهل عليه أن يشارك في الجنازة.
خلال وقت قصير تزوجا هو وآفريل. بعد فترة، صارا أقل تعاطفا وأقل اندهاشا، وبدأت آفريل تعتقد أن السبب الأساسي وراء اختيار زوجها هو ظنها أن باجز كانت ستعتقد أن اختيارها كان اختيارا أخرق. انفصلا.
التقت آفريل رجلا آخر، رجلا أكبر بكثير منها، مدرس مسرح في مدرسة ثانوية ومخرج مسرحي. كانت موهبته يمكن أن يعول عليها أكثر من حسن نيته، كان أسلوبه فظا، ووقحا بطريقة مزعجة، وساخرا. كان يأسر الآخرين أو يثير نفورهم الكبير منه. كان يحاول النأي بنفسه عن الأمور المعقدة المتشابكة.
رغم ذلك، أجبرهما حمل آفريل على الزواج. كان كلاهما يأمل في إنجاب فتاة.
لم تر آفريل مرة أخرى أيا من الأشخاص الذين كانوا على متن السفينة، أو تسمع عنهم. •••
قبلت آفريل عرض الربان. كانت بريئة ومحظوظة. كانت تلمع مثل سمكة متلألئة، في فستانها الحريري داكن اللون.
تبادلت هي والربان التحية قبل الذهاب إلى كابينتها للنوم. تلامست يداهما في تحية رسمية عابرة. وارتعش جلد يديهما عند تلامسهما.
آه، ماذا يجدي؟
(1) الغبي الأعور
هم في غرفة الطعام. الأرضية اللامعة خالية إلا من بساط أمام خزانة الآنية الخزفية. لا يوجد أثاث كثير: مائدة طويلة، بعض المقاعد، البيانو، خزانة الآنية الخزفية. بالنسبة للنوافذ، جميع المصاريع الخشبية مغلقة. هذه المصاريع مطلية بلون أزرق كئيب، أزرق مائل إلى الرمادي. تقشر بعض الطلاء عليها، وعلى أطر النوافذ. ساهمت جوان في تقشر بعضها، باستخدام أظافرها.
هذا يوم حار جدا في لوجان. يسبح العالم وراء المصاريع في ضوء أبيض؛ الأشجار والتلال القصية أصبحت مرئية، تسعى الكلاب للاقتراب من المناطق التي توجد بها مضخات المياه والبرك الصغيرة حول نافورات الشرب.
توجد هناك صديقة لأمهما. هل هذه هي المدرسة جاسي تول، أم زوجة ناظر المحطة؟ صديقات أمهما سيدات مفعمات بالحياة، في الغالب هن صديقات عابرات، متحررات ومستقلات في آرائهن، إن لم يكن كذلك في أفعالهن. •••
على المائدة، تحت المروحة، تفرق المرأتان أوراق اللعب وتحزران حظوظهما في الحياة. تتحدثان وتضحكان بطريقة تجدها جوان مثيرة، تآمرية. يجلس موريس على الأرض، يكتب في كراسة، يدون عدد النسخ التي باعها ذلك الأسبوع من مجلة «نيو ليبرتي»، ومن دفع، ومن لم يدفع بعد. يبدو صبيا جلدا وواثقا، في الخامسة عشرة من عمره، مرح لكن متحفظ، يرتدي نظارة إحدى عدستيها داكنة اللون. •••
عندما كان موريس في الرابعة من عمره، كان يتجول عبر الحشائش الطويلة في نهاية الفناء، قرب الجدول، وتعثر في جرافة حشائش كانت موضوعة هناك، أسنانها بارزة إلى أعلى، تعثر، فسقط على أسنانها، وجرح حاجباه وجفناه بصورة سيئة، وأصيبت مقلتا عينيه بشدة. بقدر ما تستطيع جوان أن تتذكر - كانت رضيعة عندما حدث ذلك - صار لديه ندبة عميقة، وفقد إحدى عينيه، وأصبح يرتدي نظارة إحدى عدستيها داكنة اللون.
كان أحد المتشردين قد ترك الجرافة هناك. هكذا قالت أمهما، قالت للمتشرد إنها ستعطيه سندويتشا إذا قام بإزالة الأوراق بالجرافة من تحت أشجار الجوز. أعطته الجرافة، وفي المرة التالية التي ألقت فيها نظرة عليه كان قد مضى، كان قد تعب من إزالة الأوراق، مثلما حزرت، أو غضب منها لسؤالها إياه العمل في المقام الأول. نسيت أن تذهب وتبحث عن الجرافة، لم يكن هناك رجل معها يساعدها في أي شيء. خلال أقل قليلا من نصف عام، كان عليها تجاوز الأشياء الثلاثة التالية: ميلاد جوان، وموت زوجها في حادث سيارة (كان يشرب، مثلما ظنت، لكنه لم يكن ثملا)، وتعثر موريس ووقوعه على الجرافة.
لم تصطحب موريس إلى أي طبيب أو إخصائي في تورونتو لإزالة أثر الندبة الكبيرة أو الحصول على استشارة منه حول عينه، لم يكن لديها مال، لكن ألم يكن بمقدورها اقتراض بعض المال (كانت جوان، أول ما بدأت تكبر، تتساءل حول ذلك)؟ ألم يكن بمقدورها الذهاب إلى أحد أندية الليونز وطلب المساعدة، مثلما يساعدون الفقراء في حالات الطوارئ؟ لا، لا لم يكن في مقدورها ذلك، لم تكن تعتقد أنها وأطفالها كانوا على نفس الدرجة من الفقر للأشخاص الذين كانت أندية الليونز تساعدهم. كانوا يعيشون في منزل كبير، كانوا ملاكا، يجمعون الإيجار من ثلاثة منازل صغيرة تقع في الجهة المقابلة من الشارع. لا يزالون يملكون مخزنا لبيع الأخشاب، على الرغم من أنهم لم يكن لديهم فيه في بعض الأحيان إلا موظف واحد. (كانت أمهما تحب أن يطلق عليها الأم فوردايس، على غرار أرملة في أحد المسلسلات الاجتماعية الإذاعية، الأم بركينز التي كانت تمتلك أيضا مخزن أخشاب.) لم يكونوا على نفس الدرجة من الحاجة التي كان عليها الفقراء الحقيقيون.
ما كان أكثر صعوبة أن تستوعبه جوان هو سبب عدم قيام موريس بعمل أي شيء. موريس يمتلك الكثير من المال الآن، ولم يعد الأمر متعلقا حتى بالمال. يدفع موريس أقساط التأمين في برنامج التأمين الصحي الحكومي مثلما يفعل الجميع، يمتلك ما ترى جوان أنه أفكار يمينية جدا فيما يتعلق بالسياسات الحمائية، والمسئولية الفردية، وعدم ملاءمة معظم أنواع الضرائب، لكنه يدفع أقساط التأمين، ألا يبدو منطقيا له أن يحاول أن يحصل على شيء في المقابل؟ علاج أفضل لجفن عينه؟ واحدة من تلك الأعين الجديدة الاصطناعية التي تمكنها حساسيتها الشديدة من الحركة في تناغم مع العين الأخرى، وكأنها عين حقيقية؟ حتى يتم ذلك، عليه الذهاب إلى إحدى المستشفيات العامة، وبعض الجلبة والجدال والمناورة.
لا يتطلب الأمر سوى إقرار موريس برغبته في تغيير الواقع، ليس عارا على الإطلاق أن يحاول المرء التخلي عن الوصمة التي طبعها القدر عليه. •••
تشرب أمهما وصديقتها مزيجا من الرم والصودا. هناك قدر من التساهل في المنزل ربما يدهش معظم الأطفال الذين تذهب جوان وموريس إلى المدرسة معهم: أمهما تدخن، وتشرب مزيج الرم والصودا في أيام الصيف الحارة، وتسمح لموريس بالتدخين وقيادة السيارة بمجرد بلوغه الثانية عشرة. (لا يحب موريس الرم.) لا تشير أمهما إلى الحادثة الأليمة، تتحدث عن المتشرد والجرافة، لكن ربما صارت عين موريس الآن أيضا شيئا خاصا، تغذيهما بفكرة أنهما جزء من تركيبة مميزة، لا لأن جدهما أنشأ مخزن الأخشاب - تضحك على ذلك، تقول إنه لم يكن سوى مجرد حطاب ابتسم الحظ له، ولم تكن هي شخصا ذا بال؛ جاءت إلى المدينة كموظفة في بنك - وليس بسبب منزلهما الكبير، البارد، المهمل، بل بسبب شيء خاص، سري، في عائلتهما الصغيرة. كان الأمر يتعلق بطريقة المزاح، والحديث عن الناس، يطلقون أسماء خاصة - كانت أمهما قد ابتدعت معظمها - على كل من في المدينة تقريبا، وهي تعرف الكثير من الشعر، منذ أيام المدرسة أو من مصادر أخرى، وهي تلصق بكل شخص بيتين من الشعر، يلخصانه بشكل عابث لا ينسى. تنظر عبر النافذة وتلقي بعض الشعر فيعرفان من كان يمر حينها. في بعض الأحيان، كانت ترفع صوتها في إلقاء الشعر وهي تقلب العصيدة التي يأكلونها من حين إلى آخر على العشاء والإفطار لأنها رخيصة.
نكات موريس غير مباشرة. لا يكف عن ذلك وترتسم على وجهه أمارات الخبث، وتتظاهر أمهما بأن صوابها يطير. في إحدى المرات، أخبرته أنه إذا لم يكف، فستفرغ سلطانية السكر فوق البطاطس المهروسة التي يتناولها. لم يفعل، ونفذت هي تهديدها.
هناك رائحة في منزل فوردايس، تأتي من الجص وورق الحائط في الغرف التي جرى إغلاقها، والطيور النافقة في المداخن غير المستخدمة، أو الفئران التي يجدون فضلاتها التي تشبه البذور في خزانة البياضات. الأبواب الخشبية في المداخل المقنطرة بين غرفة الطعام وغرفة المعيشة مغلقة، ولا تستخدم إلا غرفة الطعام. يفصل فاصل قديم بين القاعة الجانبية والقاعة الأمامية، لا يشترون الفحم أو يصلحون المدفأة المتهالكة. يدفئون الحجرات التي يعيشون فيها عن طريق موقدين، مستخدمين في ذلك بقايا الأخشاب التي يأتون بها من مخزن الأخشاب. لا يعد أي من ذلك مهما، لا يعد أي من حالات عوزهم وحرمانهم والصعوبات التي يمرون بها في حياتهم مهما. ماذا يهم إذن؟ النكات والحظ، هم محظوظون أن كانوا نتاج زواج دامت السعادة فيه خمس سنوات وعبر عن نفسه من خلال الحفلات، وحفلات الرقص، ومن خلال المغامرات الرائعة، كل الأشياء التي تذكرهم بالماضي في كل مكان حولهم: تسجيلات الجرامافون، الفساتين المهترئة التي بلا طراز محدد، المصنوعة من مواد مثل كريب جورجيت مشمشي وحرير زمردي مموج، وسلة رحلات بها دورق فضي. لم تكن هذه السعادة من النوع الهادئ؛ كانت تتضمن الكثير من الشرب، ارتداء الملابس الأنيقة، مع الأصدقاء - معظمهم من أماكن أخرى، حتى من تورونتو - الذين ذهبوا الآن، ألمت بكثير منهم أيضا المآسي، الفقر المفاجئ الذي كان سائدا في تلك السنوات، تعقيدات الحياة. •••
يسمعون الطارق يقرع الباب الأمامي بشكل يتعارض مع قواعد الذوق.
تقول أمهما: «أعرف، أعرف من يكون هذا ... السيدة لوني باتلر، ماذا تظنون؟» تخلع حذاءها القماشي وتفتح في هدوء أبواب المداخل المقنطرة، دون إحداث أي صرير. تسير على أطراف أصابعها إلى النافذة الأمامية في غرفة المعيشة التي لم تعد مستخدمة، والتي تستطيع من خلال مصاريعها إلقاء نظرة سريعة ورؤية الشرفة الأمامية. تقول: «اللعنة! إنها هي.»
تعيش السيدة باتلر في أحد المنازل الثلاثة الأسمنتية على الجانب الآخر من الشارع، إنها مستأجرة، شعرها أبيض ، لكنها تسرحه لأعلى وتغطيه بقبعة مصنوعة من قطع متعددة الألوان من القطيفة، ترتدي معطفا أسود طويلا، لديها عادة إيقاف الأطفال في الشوارع وتوجيه الأسئلة إليهم: هل رجعت لتوك من المدرسة؟ لماذا تأخرت هكذا؟ هل تعرف أمك أنك تمضغين اللبان؟ هل تلقين أغطية الزجاجات في فناء منزلي؟
تقول أمهما: «اللعنة! لا يوجد شخص لا أرغب في رؤيته سوى هذه.»
ليست السيدة باتلر زائرة دائمة، تزورهم على نحو غير منتظم، مزعجة إياهم بقائمة طويلة من الشكاوى، وبعض الأخبار العاجلة المريعة. الكثير من الأكاذيب، وفي الأسابيع العديدة التالية، تمر على المنزل دون أن تنظر إليه، في خطوات واسعة سريعة ورأس بارز إلى الأمام مما ينزع كل المهابة عن معطفها الأسود. هي مشغولة البال ومنزعجة دائما وتمشي وهي تتمتم غاضبة.
يقرع الطارق الباب مجددا، وتسير أمهما في خفة إلى عتبة الباب في القاعة الأمامية، تقف هناك، على أحد جانبي الباب الأمامي الكبير يوجد لوح من الزجاج الملون عليه تصميمات غاية في التعقيد حتى إنها لا تسمح برؤية ما وراءها، وعلى الجانب الآخر، حيث كسر لوح من الزجاج الملون (قالت أمهما: حدث ذلك في إحدى الليالي التي كنا نقيم فيها حفلة صاخبة)، يوجد لوح من الخشب. تقف أمهما على عتبة الباب تجأر، تجأر قائلة: «ياب، ياب، ياب»، مثل جرو غاضب صغير محبوس وحده في المنزل. تضغط السيدة باتلر برأسها المغطى بقبعة إزاء الزجاج وهي تحاول أن ترى ما بالداخل، لا تستطيع أن ترى أي شيء. ينبح الجرو بصوت أعلى، نوبة محمومة من النباح - هياج غاضب - وكأن أمهما تتلفظ من خلالها بكلمات «اذهبي بعيدا»، «اذهبي بعيدا»، «اذهبي بعيدا»، «أيتها السيدة المخبولة»، «أيتها السيدة المخبولة»، «أيتها السيدة المخبولة»، «اذهبي بعيدا، أيتها السيدة المخبولة، اذهبي بعيدا».
تقف السيدة باتلر في الخارج لبعض الوقت في الحرارة الشديدة، تحجب الضوء عن الزجاج.
في زيارتها التالية تقول: «لم أكن أعرف قط أن لديك كلبا.»
تقول أمهما: «لا نملك كلبا ... لم يكن لدينا كلب على الإطلاق، كنت أفكر في كثير من الأحيان أن أقتني كلبا، لكن لم أفعل ذلك على الإطلاق.» «حسنا، أتيت إلى هنا في أحد الأيام، ولم يكن هناك أحد في المنزل، لم يأت أحد إلى الباب، وأكاد أقسم أنني سمعت صوت نباح كلب.»
ترد أمهما: «ربما تعانين من مشكلة في أذنك الداخلية ... يجب أن تستشيري الطبيب.»
تقول أمهما لاحقا: «أظن أنني أستطيع أن أتحول إلى كلب بسهولة بالغة ... أظن أن اسمي سيكون سكيبي.» •••
ابتدعوا اسما للسيدة باتلر: السيدة بانكلر، ثم السيدة بانكل، ثم أخيرا السيدة كاربانكل. كان الاسم يلائمها، دون معرفة ماذا كانت كلمة «كاربانكل» تعني على وجه الدقة (والتي تعني «دملا»)، رأت جوان أن الاسم كان يناسبها، اسم ارتبط بصورة لا تنسى بشيء مكتل، جامد، مزعج، تصعب السيطرة عليه في وجه وشخصية جارتهم.
كان لدى السيدة كاربانكل ابنة تدعى ماتيلدا، لم يكن لديها زوج، فقط هذه الابنة. عندما جلس آل فوردايس عند الشرفة الجانبية بعد العشاء - كانت أمهما تدخن وكان موريس يدخن، أيضا، كرب للأسرة - كانوا ربما يرون ماتيلدا تأتي من الناصية الأخرى، في طريقها إلى متجر الحلوى الذي كان يظل مفتوحا إلى وقت متأخر، أو للحصول على كتاب من المكتبة قبل أن تغلق أبوابها. لم يكن لديها أي أصدقاء، من ذا الذي يجلب صديقا لبيت السيدة كاربانكل ربته؟ في المقابل، لم تبد ماتيلدا وحيدة أو خجولة أو غير سعيدة، كانت ترتدي ملابس جميلة. كانت السيدة كاربانكل تقوم بالحياكة، في حقيقة الأمر، كانت تحقق دخلا من هذا، تفصل وتوضب الملابس لمتجر جيلسبيز لملابس السيدات والرجال. كانت تلبس ماتيلدا ملابس باهتة الألوان، عادة مع جوارب بيضاء طويلة.
قالت أمهما في رقة، وهي ترى ماتيلدا تمر: «رابونزل، رابونزل، أسدلي شعرك الذهبي ... كيف يمكن أن تكون هذه الفتاة ابنة السيدة كاربانكل؟ أخبروني!»
تقول أمهما إن هناك شيئا مريبا في الأمر، لن تدهش أبدا - لن تدهش «أبدا» - إذا اكتشفت أن ماتيلدا ابنة أحد الأثرياء، أو ابنة سفاح، وتتلقى السيدة كاربانكل مقابلا لتربيتها. ربما، على الجانب الآخر، خطفت ماتيلدا وهي طفلة، ولا تعرف شيئا البتة عن الأمر. تقول أمهما: «تحدث مثل هذه الأشياء.»
كان جمال ماتيلدا، الذي أثار هذا الحديث، من النوع الآسر حقا مثل جمال الأميرات، كان جمالا يشبه جمال الشخصيات في القصص المصورة: شعر طويل، متموج، سائب، بني فاتح تتخلله خصلات ذهبية، وقد كان يطلق عليه شعر أشقر في الأيام الخوالي قبل أن تنتشر الصبغات التي تعطي الشعر ألوانا اصطناعية شديدة الصفرة. بشرة بيضاء مائلة إلى اللون الوردي، عينان كبيرتان زرقاوان زرقة خفيفة. ورد تعبير «رقة العاطفة الإنسانية» بصورة غامضة إلى ذهن جوان عندما كانت تفكر في ماتيلدا، كانت هناك رقة في زرقة عيني ماتيلدا، وبشرتها، ومظهرها العام. رقة وجاذبية وعطف، وربما غباء، ألا تملك كل تلك الأميرات في القصص المصورة غشاوة من الرقة، ستارا من الغباء يلف جمالهن الأشقر، روحا جبلت على التضحية غير المبررة، والخيرية الدائمة؟ ظهر كل هذا في ماتيلدا عندما كانت تبلغ الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. كانت في نفس عمر موريس، وفي نفس فصله في المدرسة، مع كل هذا، أبلت ماتيلدا بلاء حسنا في المدرسة؛ لذا لم يبد على الإطلاق أنها كانت غبية، كانت معروفة أنها بارعة في هجاء الكلمات.
جمعت جوان كل ما استطاعت من معلومات حول ماتيلدا وصارت تعرف كل رداء ترتديه، كانت تحاول أن تلتقيها، ونظرا لأنهما كانتا تعيشان في المربع السكني نفسه، كان يحدث هذا كثيرا. كانت جوان شديدة الإعجاب بماتيلدا لدرجة أنها كانت تلاحظ كل تغير طفيف تقوم به في مظهرها: هل انسدل شعرها فوق كتفيها اليوم أم أزاحته عن خديها؟ هل وضعت طلاء واضحا على أظافرها؟ هل كانت ترتدي البلوزة ذات اللون الأزرق الفاتح المصنوعة من الرايون التي توجد بها زخارف صغيرة حول الياقة، وهو ما كان يمنحها مظهرا ناعما وعفويا، أم القميص القطني الأبيض المنشي، وهو ما كان يجعلها تبدو كطالبة ملتزمة؟ كانت ماتيلدا تمتلك عقدا من خرز زجاجي، بلون وردي صاف، وكان يجعل جوان عندما تراه على عنق ماتيلدا الأبيض، تفرز عرقا خفيفا تحت إبطيها.
في إحدى المرات ، ابتدعت جوان أسماء أخرى لها، كان اسم «ماتيلدا» يستحضر في الذهن صورة الستائر الداكنة، أبواب الخيم رمادية اللون، امرأة عجوز ذات جلد مترهل. ماذا عن شارون؟ ليليان؟ إليزابيث؟ ثم، لم تعرف جوان كيف تحول اسم ماتيلدا. بدأ يلمع مثل الفضة، كانت هناك حروف في الاسم من الفضة، الفضة غير المعدنية. كان الاسم يلمع الآن في عقل جوان مثل قطعة من الساتان.
كانت مسألة التحية غاية في الأهمية، وكان هناك عرق ينبض في عنق جوان بينما كانت تنتظرها. لا بد أن تتحدث ماتيلدا أولا بالطبع، ربما تقول: «أهلا»، وهي تحية خفيفة، تشي بالصداقة، أو «مرحبا» التي كانت أكثر رقة وشخصية. كانت تقول من حين إلى آخر: «مرحبا، جوان»، وهو ما كان يشير إلى اهتمام خاص واعتبار جاذب للانتباه من جانبها لجوان، الأمر الذي كان يؤدي إلى امتلاء عيني جوان في الحال بالدموع وكان يحملها بعبء مخجل، حساس من السعادة. •••
تضاءل هذا الحب، بالطبع، مثل التجارب وحالات الإثارة الأخرى. اختفى، وعاد اهتمام جوان بماتيلدا باتلر إلى الحالة الطبيعية. تغيرت ماتيلدا أيضا، بحلول الوقت الذي كانت جوان فيه في المدرسة الثانوية، كانت ماتيلدا تعمل، حصلت على وظيفة في مكتب محام، كانت موظفة صغيرة. أما وأنها الآن تحقق دخلا، وأصبحت بعيدة جزئيا عن سيطرة أمها - فقط جزئيا؛ إذ كانت لا تزال تعيش معها في المنزل - فقد غيرت من مظهرها، بدت كما لو كانت تريد ألا تكون مثل الأميرات وأن تصبح مثل الفتيات الأخريات: قصت شعرها قصيرا، وصففته وفق الموضة السائدة آنذاك، بدأت في وضع المكياج، أحمر شفاه بلون أحمر براق جعل شكل فمها يبدو أكثر صلابة، كانت ترتدي ملابس مثل تلك التي كانت ترتديها الفتيات الأخريات: جونلات طويلة، وضيقة، وبلوزات ذات أربطة فضفاضة عند العنق، وأحذية مثل أحذية راقصات البالية. فقدت شحوبها وعزلتها، حيت جوان - التي كانت تخطط للحصول على منحة دراسية لدراسة الفن وعلم الآثار في جامعة تورونتو - ماتيلدا هذه في تحفظ. واختفى آخر أثر من تقديسها لها عندما بدأت ماتيلدا تظهر بصحبة رفيق.
كان رفيقها رجلا وسيما يكبرها بنحو عشرة أعوام، كان شعره خفيفا وداكن اللون، وكان له شارب مخطوط وتعبير وجه غير ودود، مريب، متحد بعض الشيء. كان طويلا جدا، وكان يميل نحو ماتيلدا، لافا ذراعه حول وسطها، أثناء سيرهما في الشوارع. كانا يسيران في الشوارع كثيرا لأن السيدة كاربانكل كانت تكرهه بشدة ولم تكن تدعه يأتي إلى المنزل. في البداية، لم يكن لديه سيارة، لاحقا، امتلك واحدة. كان يقال إنه كان طيارا أو نادلا في مطعم فاخر، ولم يكن معروفا أين التقته ماتيلدا. عندما كانا يسيران، كانت ذراعه في حقيقة الأمر أسفل وسط ماتيلدا، كانت أصابعه الطويلة مستقرة على عظم وركها. بدا لجوان أن هذه اليد الجريئة المستقرة لها علاقة بالتعبير الكئيب والمتحدي المرتسم على وجهه.
لكن قبل ذلك، قبل أن تحصل ماتيلدا على وظيفة أو تقص شعرها، حدث شيء أظهر لجوان - التي كانت آنذاك ما زالت معجبة بشدة بماتيلدا - جانبا أو أثرا من جمال ماتيلدا لم تره من قبل. كانت ترى أن هذا الجمال كان يميزها - في لوجان، على أي حال - مثلما تميز الإعاقة الجسدية أو الإعاقة في الحديث صاحبها. كان الجمال يعزلها - ربما بدرجة أكبر - من عاهة خفيفة؛ حيث إنه قد يجري النظر إليه باعتباره تبكيتا. بعد إدراكها ذلك، لم يكن مدهشا جدا بالنسبة إلى جوان، على الرغم من أنه كان محبطا، أن ترى ماتيلدا تفعل كل ما في وسعها للتخلص من هذا الجمال أو إخفائه بأسرع مما تستطيع. •••
لا تخلع أبدا السيدة باتلر - السيدة كاربانكل - التي تغزو مطبخهم مثلما تفعل كثيرا، معطفها الأسود، وقبعتها القطيفة متعددة الألوان. تقول أمهما: حتى تتمسكان بالأمل، أمل أنها على وشك الرحيل، أنكما على وشك التحرر منها في أقل من ثلاث ساعات. أيضا، حتى تغطي أي رداء مريع كانت ترتديه تحت المعطف. ولأنها ترتدي هذا المعطف، ولا تمانع في ارتدائه طوال أيام السنة، لم يكن عليها تغيير ردائها، تفوح رائحة منها، رائحة مشبعة بالكافور، رائحة مكتومة.
تصل وهي في منتصف حديث، يتدافع الكلام على لسانها بقوة، حول شيء حدث لها، شخص ما أغضبها غضبا هائلا، كما لو كان المرء يعرف عن يقين عما أو عمن تتحدث. كان الأمر يبدو كما لو كانت حياتها بأسرها في نشرة الأخبار ولم يسعك أن تلحق بالخبرين الأخيرين. جوان شغوفة دوما بالاستماع إلى نصف الساعة الأولى أو ما يقرب من ذلك من هذه الأخبار، أو هذا الخطاب المسهب، خاصة من خارج الغرفة، بحيث تستطيع الانسحاب عندما يكون الكلام الذي تقوله السيدة كاربانكل مكررا. وإذا حاولت أن تنسحب من مكان تستطيع السيدة كاربانكل رؤيتك فيه، فستسأل بالأحرى في سخرية: إلى أين أنت ذاهب في عجلة هكذا؟ أو ربما تتهمك أنك لا تصدقها.
تفعل جوان ذلك بالاستماع من غرفة الطعام، بينما تتظاهر بأنها تتدرب على عزف مقطوعة موسيقية على البيانو لحفلة الكريسماس في المدرسة. جوان في عامها الأخير من المدرسة الابتدائية الحكومية، وماتيلدا في عامها الأخير في المدرسة الثانوية. (سيترك موريس المدرسة، بعد الكريسماس، لتولي شئون مخزن الأخشاب.) إنه صباح يوم السبت في منتصف ديسمبر: سماء رمادية وطقس شديد البرودة. يقام الليلة حفل الكريسماس الراقص للمدرسة الثانوية، الحفل الرسمي الوحيد في السنة، الذي سيعقد في المستودع العسكري للمدينة.
كان مدير المدرسة الثانوية في القائمة السوداء للسيدة كاربانكل، هو رجل عادي يدعى آرتشيبولد مور، ويطلق طلابه عليه آرتشي بولز، أو آرتشي بولز مور، أو آرتشي مور بولز. تقول السيدة كاربانكل إنه لا يصلح مديرا للمدرسة. تقول إنه يتلقى رشاوى ويعرف الجميع ذلك؛ لا يتخرج أحد من المدرسة الثانوية إلا إذا أعطاه مالا.
تقول أم جوان: «لكن أوراق الاختبار تصحح في تورونتو»، كما لو كانت مندهشة فعلا. لفترة من الوقت، تستمتع بمحاولة جعل السيدة كاربانكل تسترسل في الحديث، من خلال بعض الاعتراضات والاستفسارات البسيطة.
تقول السيدة كاربانكل: «متآمرون معه ... هم أيضا.» تمضي تقول لو لم يكن الأمر يسير على هذا النحو من الرشوة، لم يكن هو نفسه ليتخرج من المدرسة الثانوية من الأساس. إنه غبي جدا، جاهل، لا يستطيع حل المسائل الرياضية على السبورة أو ترجمة النصوص اللاتينية. يجب أن يكون لديه كتاب به الكلمات اللاتينية والكلمات الإنجليزية المقابلة لها. أيضا، منذ سنوات قليلة مضت، جعل فتاة حبلى.
قالت والدة جوان، على نحو متكلف: «عجبا، لم أسمع بذلك قط!» «عتم على الأمر. كان عليه أن يدفع مقابل ذلك.» «هل كلفه ذلك كل الأموال التي جمعها من خلال الاختبارات؟» «كان يجب جلده بالسوط.»
تعزف جوان على البيانو في رقة - تعزف مقطوعتها المفضلة والصعبة جدا «المسيح، حبور شوق الإنسان» - حيث إنها تأمل في أن تسمع اسم الفتاة، أو ربما كيف جرى التخلص من الطفل. (في إحدى المرات، تحدثت السيدة كاربانكل عن الطريقة التي يتخلص بها أحد الأطباء في المدينة من الأطفال التي تولد نتاج نزواته الجنسية.) لكن يبدو أن السيدة كاربانكل تقترب من الإفصاح عن سبب تذمرها من مدير المدرسة، وهو ما يبدو شيئا يتعلق بحفل الرقص. لم ينظم آرتشيبولد مور الحفل الراقص كما ينبغي، كان يجب عليه أن يجعل جميع المشاركين يسحبون في قرعة أسماء شركائهم في الرقص، أو ربما كان يجب عليه أن يجعل الجميع بلا شركاء في الرقص، هذه أو تلك. على هذا النحو، تستطيع ماتيلدا الذهاب، ليس لماتيلدا شريك في الرقص - لم يطلب أحد الأولاد مراقصتها - وتقول إنها لن تذهب للحفل وحدها دون شريك. تقول السيدة كاربانكل إنها ستذهب للحفل، تقول إنها ستجعلها تفعل ذلك، سبب ذلك أن فستانها باهظ الثمن جدا، تعدد السيدة كاربانكل الأشياء التي اشترتها في هذا الشأن: الأربطة، التافتاة، الترتر، الشريط في منطقة صدر الفستان (الفستان بدون حمالات)، السوستة التي يبلغ طولها اثنتين وعشرين بوصة. صنعت هذا الفستان بنفسها، في ساعات عمل طويلة، وارتدته ماتيلدا مرة واحدة، ارتدته الليلة الماضية في مسرحية المدرسة الثانوية على المسرح في مقر مجلس المدينة، وهذا كل ما في الأمر. تقول إنها لن ترتديه هذه الليلة؛ لن تذهب لحفل الرقص لأن أحدا لم يدعها للرقص. هذا خطأ آرتشيبولد مور المحتال، الزاني، الجاهل.
رأت جوان وأمها ماتيلدا الليلة الماضية. لم يذهب موريس - لا يرغب في الخروج معهما بعد ذلك في الأمسيات - سيستمع بعد ذهابهما إلى الراديو أو يدون أرقاما، ربما لها علاقة بمخزن الأخشاب، في كراسة خاصة. لعبت ماتيلدا دور عارضة أزياء يقع شاب في حبها. أخبرت أمهما موريس عندما عادت إلى المنزل أنه كان على حق عندما لم يأت؛ فقد كانت حفلة في منتهى السخافة. لم تتحدث ماتيلدا، بالطبع، بل ظلت ساكنة فترة طويلة، وبدت بمظهر رائع. كان الفستان رائعا؛ فستانا أبيض رائعا يتلألأ عليه الترتر الفضي.
تقول السيدة كاربانكل لماتيلدا إن عليها الذهاب للحفل، سواء في وجود شريك رقص أم لا، عليها أن تذهب، عليها أن ترتدي فستانها وترتدي فوقه معطفا وتخرج من المنزل عند التاسعة، سيغلق باب البيت حتى الحادية عشرة، عندما تذهب السيدة كاربانكل إلى النوم.
لكن لا تزال ماتيلدا تقول إنها لن تذهب إلى الحفل، تقول إنها ستكتفي بالجلوس في سقيفة الفحم في آخر فناء المنزل. لم تعد سقيفة فحم على أي حال، بل مجرد سقيفة. لم تعد السيدة كاربانكل قادرة على شراء الفحم مثلما لا يستطيع آل فوردايس.
تقول والدة جوان: «ستتجمد من البرد»، وهي تشعر بقلق حقيقي في الحديث للمرة الأولى.
تقول السيدة كاربانكل: «تستحق ذلك.»
تنظر والدة جوان إلى الساعة وتستأذنها وتقول إنها تذكرت توا موعدا لها في الجزء العلوي من المدينة، يجب أن تحشو سنا، وعليها أن تسرع، عليها أن تعتذر للسيدة كاربانكل.
هكذا، يجري طرد السيدة كاربانكل - التي تقول: إن هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها عن حشو أسنان في يوم السبت - وتهاتف والدة جوان على الفور مخزن الأخشاب لتطلب من موريس القدوم إلى المنزل.
الآن، ها هو الشجار الأول - الشجار الحقيقي الأول - الذي تشهده جوان على الإطلاق بين موريس ووالدته، يظل موريس يقول لا، فهو لا يرغب في أن يفعل ما تريده أمه، يبدو كما لو لم تكن ثمة طريقة لإقناعه، لا توجد طريقة لإصدار الأوامر له. لا يبدو مثل صبي يتحدث إلى أمه، بل كرجل يتحدث إلى امرأة ، رجل يعرف أكثر مما تعرف، رجل مستعد لجميع الحيل التي ستستخدمها حتى يستسلم.
تقول أمهما: «حسنا، أعتقد أنك أناني جدا ... أعتقد أنك لا تفكر في أحد إلا في نفسك، أشعر بخيبة أمل كبيرة فيك، كيف تريد أن تتصرف تلك الفتاة المسكينة مع أمها الخرقاء؟ تجلس في «سقيفة الفحم»؟ هناك أشياء سيفعلها الرجل المحترم في هذا الموقف، مثلما تعرف، كان والدك سيعرف ماذا سيفعل.»
لا يجيب موريس.
تقول أمهما في ازدراء: «لا يشبه الأمر التقدم إلى إحدى الفتيات بعرض زواج أو شيئا من هذا القبيل، ماذا سيكلفك الأمر؟ ... دولارين لكل منكما؟»
يقول موريس في صوت خفيض: إن الأمر ليس كذلك. «هل أطلب منك كثيرا أن تفعل ما لا تريد أن تفعل؟ هل أفعل ذلك؟ أعاملك كرجل ناضج، تتمتع بكامل الحرية. حسنا، أطلب منك الآن أن تفعل شيئا حتى تثبت أنك تتصرف حقيقة مثل شخص ناضج وأنك تستحق الحرية التي تتمتع بها، وهكذا يكون ردك؟»
يسير الأمر على هذا المنوال لفترة، ويقاوم موريس. لا تعرف جوان كيف ستتغلب أمهما على موريس وتتعجب من أنها لا تستسلم. لا تستسلم. «لست في حاجة إلى التذرع بأنك لا تستطيع الرقص، أيضا، لأنك تستطيع، علمتك كيف ترقص بنفسي، أنت راقص ماهر!»
في النهاية، لا بد أن موريس قد أذعن لكلام أمه؛ حيث إن الشيء التالي الذي تسمعه جوان هو قول أمهما: «اذهب وارتد سترة نظيفة.» وقع حذاء موريس عالي الرقبة ثقيل على السلالم الخلفية، وتناديه أمه قائلة: «ستشعر بالسرور أنك فعلت ذلك، لن تندم!»
تفتح باب غرفة الطعام وتقول لجوان: «لا أسمع عزف بيانو هنا، هل أنت جيدة بما يكفي حتى تدعي التدرب على العزف؟ المرة الأخيرة التي سمعتك تعزفين فيها المقطوعة إلى آخرها كانت مريعة.»
تبدأ جوان في العزف مجددا من البداية، لكنها لا تستمر في العزف بعد نزول موريس وصفقه الباب، وتدير أمها، في المطبخ، الراديو، وتفتح الخزانات، وتبدأ في إعداد طعام الغداء. تترك جوان البيانو وتتجه في هدوء عبر غرفة الطعام، مرورا بالباب إلى القاعة، حتى الباب الأمامي. تضع وجهها قبالة الزجاج الملون. لا يستطيع المرء النظر خلال هذا الزجاج؛ لأن القاعة مظلمة، لكن إذا وجه المرء عينيه في الاتجاه الصحيح، فسيرى. هناك لون أحمر أكثر من أي لون آخر؛ لذا تختار أن تنظر من خلال اللون الأحمر، على الرغم من أنها جربت النظر من خلال كل الألوان في حينها: الأزرق والذهبي والأخضر، وإذا كان ثمة إمكانية ضئيلة للنظر عبر أي لون، فلديها طريقة تستطيع من خلالها النظر عبره.
تحول المنزل الأسمنتي رمادي اللون الذي يوجد في الجانب الآخر من الشارع إلى اللون الأرجواني. يقف موريس عند الباب. يفتح الباب، ولا تستطيع جوان أن ترى من فتحه، هل هي ماتيلدا أم السيدة كاربانكل؟ الأشجار العارية الجامدة وأجمة الليلك إلى جانب باب ذلك المنزل لونها أحمر داكن، مثل الدم. سترة موريس الصفراء الجميلة تبدو مثل بقعة لونها أحمر ذهبي، ضوء التوقف الخلفي للسيارة، عند الباب.
بعيدا في داخل المنزل، تغني والدة جوان مع الراديو، لا تشعر بوجود أي خطر. بين الباب الأمامي، والمشهد في الخارج، وأمها التي تغني في المطبخ، تشعر جوان بعتمة، برودة، هشاشة وزوال هذه الحجرات المرتفعة شبه الخالية بمنزلهم. ليس إلا مكانا عاديا شأنه شأن الأماكن الأخرى، لا يوجد ما يميزه، لا يمثل أي نوع من الحماية. تشعر بهذا لأنها تظن أن أمها ربما تكون مخطئة. في هذه الحالة - وفي غيرها من الحالات، فيما يتعلق بإيمانها وافتراضاتها - ربما تكون أمها مخطئة.
إنها السيدة كاربانكل. يستدير موريس وها هو يسير على الممشى وها هي تتبعه. ينزل موريس من على درجتي السلم إلى الرصيف، يسير عبر الشارع بسرعة جدا دون أن ينظر حوله. لا يجري، يضع يديه في جيبه، ويبتسم وجهه الوردي ذو العينين اللتين بهما احمرار شديد لادعاء أن أيا مما يحدث لا يفاجئه. ترتدي السيدة كاربانكل رداءها المنزلي البالي الفضفاض الذي لا يراها أحد فيه إلا نادرا، شعرها الوردي مهوش مثل شعر امرأة ساحرة، تقف أعلى درجتي السلم وتصرخ في موريس ، ما يجعل جوان تسمعها عبر الباب: «لسنا على هذا القدر من السوء بحيث نحتاج إلى ذلك الغبي الأعور ليصطحب ابنتي إلى حفل راقص!» (2) الجليد الكريستالي العالق
ترى جوان موريس وكأنه مقاول عندما تراه في الخارج أمام العمارة، يقطع الحشائش. يرتدي بنطال عمل لونه أخضر فاتح وقميصا مربع النقش، وبالطبع نظارته ذات العدسة الداكنة. يبدو كرجل كفؤ، وحتى متسلط، لكن كشخص مسئول بالنسبة لشخص آخر. عند رؤيته وسط مجموعة من عماله (توسع من مجال تخزين الأخشاب إلى مجال الإنشاءات) ربما سيظن المرء أنه رئيس عمال، رئيس عمال يقظ، عادل، ذو طموح جدي لكنه محدود، ليس صاحب العمل، ليس مالك العمارة، وجهه مستدير وأصلع جزئيا، به سمرة حديثة، ونمش حديث ظاهر في مقدمة فروة رأسه، قوي البنيان، كتفاه آخذتان في الاستدارة، أو هل هكذا يبدو عندما يدفع آلة جز الحشائش؟ هل هناك هيئة تكون للعزاب، العزاب الأبناء، العزاب الأبناء الذين يعتنون بآبائهم العجائز، خاصة الأمهات؟ هيئة مقيدة، صبورة تقترب من الهوان؟ تعتقد كما لو كانت على وشك زيارة أحد أعمامها.
هذا عام 1972، وتبدو جوان نفسها أصغر سنا مما كانت عليه قبل عشر سنوات خلت: شعرها أسود، طويل، معقوص خلف أذنيها؛ تضع مكياجا على عينيها وليس على فمها؛ ترتدي أثوابا قطنية ناعمة وفضفاضة وزاهية الألوان أو سترات قصيرة خفيفة لا تغطي إلا بوصتين من فخذيها. لا تلفت النظر في تلك الملابس - تأمل ألا تلفت النظر - نظرا لأنها امرأة طويلة، نحيلة الخصر، ورجلاها طويلتان، جميلتان.
ماتت أمهما. باع موريس المنزل وشيد، أو أعاد بناء، العمارة هذه ومباني أخرى. حول الأشخاص الذين اشتروا المنزل إلى دار لرعاية المسنين. كانت جوان قد أخبرت زوجها أنها تريد العودة إلى ديارها - أي إلى لوجان - لمساعدة موريس على الاستقرار، لكنها تعرف، في حقيقة الأمر، أن موريس سيستقر؛ في ضوء فهمه للأمور، كان موريس يبدو دوما مستقرا. كل ما يحتاج جوان إليه هو أن تساعده في ترتيب بعض الصناديق وخزانة مليئة بالملابس، الكتب، الأطباق، الصور، الستائر التي لا يريدها أو لا يوجد لديه مكان لها وكان قد وضعها مؤقتا في بدروم العمارة.
كانت جوان متزوجة منذ أربعة أعوام، كان زوجها صحفيا، يعيشان في أوتاوا. يعرف الناس اسمه، يعرفون حتى شكله، أو كيف كان يبدو قبل خمس سنوات، من صورته أعلى عمود في صفحة خلفية في إحدى المجلات. جوان معتادة على أن يجري التعرف عليها باعتبارها زوجته، هنا وفي أماكن أخرى. لكن في لوجان، تظل عملية التعرف عليها مصدر فخر خاص لها. لا يأبه معظم الناس هنا بالأسلوب الصحفي لزوجها، الذي يعتبرونه ساخرا، أو بخياراته، لكنهم يشعرون بالفرح أن فتاة من هذه المدينة ترتبط بشخص مشهور، أو نصف مشهور.
تخبر زوجها أنها ستبقى هنا لمدة أسبوع. تصل مساء الأحد، في أواخر شهر مايو، وموريس يجز أول حشائش تظهر خلال العام. تنوي أن ترحل يوم الجمعة، وتقضي السبت والأحد في تورونتو. إذا اكتشف زوجها أنها لم تقض الأسبوع بالكامل مع موريس، فلديها قصة جاهزة للرد عليه؛ قصة عن قرارها، عندما تنتهي من مساعدة موريس، بزيارة صديقة لها تعرفها منذ أيام الجامعة. ربما يجب أن تذكر هذا الأمر لزوجها على أي حال، سيكون هذا أكثر أمانا. تشعر بالقلق عما إذا كان بإمكانها أن تثق في صديقتها في هذا الشأن.
هذه هي المرة الأولى التي تفعل فيها شيئا كذلك.
تقف العمارة راسخة في قطعة الأرض المبنية عليها، تطل نوافذها على مساحة لانتظار السيارات أو على الكنيسة المعمدانية. كان ثمة سقيفة انتظار هناك، حتى يترك المزارعون جيادهم فيها أثناء القداس في الكنيسة، مبنى من الطوب الأحمر، لا توجد شرفات، مبنى خال من أي زخارف.
تحتضن جوان موريس، تشم رائحة سجائر، وبنزين، وقميصه الرقيق، المهترئ، المتعرق، فضلا عن رائحة الحشائش المشذبة حديثا. تصيح بصوت أعلى من صوت آلة جز الحشائش: «آه، موريس، أتعلم ماذا يجب أن تفعل؟ ... يجب أن تضع عصابة على عينك، ستبدو مثل موشيه ديان تماما!» •••
تسير جوان كل صباح إلى مكتب البريد، تنتظر خطابا من رجل من تورونتو، اسمه جون برولير. كتبت إليه وأعطته اسم موريس، واسم المدينة، ورقم صندوق بريد موريس. بدأت لوجان تتسع، لكنها لا تزال مدينة أصغر من أن تكون فيها خدمة توصيل الخطابات للمنازل.
يوم الإثنين صباحا، لا تكاد تأمل في وصول أي خطاب. يوم الثلاثاء، تأمل في وصول خطاب. يوم الأربعاء تشعر أنها يجب أن تنتظر الخطاب. تشعر بخيبة الأمل كل يوم، كل يوم يطفو شعور بأنها جعلت نفسها تبدو كالحمقاء - شعور بالعزلة وبأنها غير مرغوب فيها - أكثر فأكثر إلى السطح. لقد صدقت وعد رجل عاهدها عندما لم يكن جادا فيما يقول. لقد فكر في الأمر مرة أخرى.
مكتب البريد الذي تذهب إليه مبنى جديد، منخفض، وردي الطلاء، ومشيد من الطوب. تم هدم المبنى القديم الذي كان يشبه القلعة. تتغير صورة المدينة كثيرا، لا يجري هدم كثير من المنازل، لكن يجرى تطوير معظمها. طبقة خارجية من الألومنيوم، طوب معالج بالرمل المدفوع بالهواء، أسقف براقة، نوافذ واسعة من طبقتين، شرفات يجري هدمها أو ضمها إلى المنازل كأروقة. تختفي الأفنية الواسعة، المغطاة بالحشائش البرية - كانت في حقيقة الأمر قطع أرض مزدوجة - ويتم بيع الأراضي الزائدة ويجري البناء عليها. المنازل الجديدة محشورة بين المنازل القديمة، كلها منازل شبه حضرية في طرازها، عريضة ومنخفضة، أو متعددة المستويات. الأفنية منظمة ومخططة جيدا، بها بقع لشجيرات الزينة، وأحواض الزهور المستديرة وهلالية الشكل. يبدو أن العادة القديمة لزراعة الزهور مثل الخضراوات، في صفوف إلى جانب البقول أو البطاطس، تختفي. يجري قطع كثير من أشجار الظل الكبيرة، ربما صارت عجوزة وخطرة. المنازل المتهالكة، الحشائش الطويلة، الأرصفة المشققة، الظلال الوارفة العميقة، الشوارع غير المرصوفة المليئة بالغبار أو برك المياه؛ كل هذا، وهو ما تتذكره جوان، غير موجود. تبدو المدينة مزدحمة، متضائلة، ممتلئة بالمباني الأنيقة، ومخططة إلى حد كبير. كانت مدينة طفولتها - لوجان تلك المدينة العشوائية الحالمة - تمر بمرحلة مختلفة، لم تكن سياجاتها الخشبية المائلة وجدرانها التي لفحتها الشمس وأعشابها المزهرة تعبيرا دائما عما يمكن أن تكونه المدينة. وبدا الأشخاص مثل السيدة باتلر - المعتادة على ارتداء ملابس معينة ، والموسوسة - مرتبطين بشدة بتلك المدينة القديمة ولم يعد من الممكن احتمالهم أكثر من ذلك. •••
توجد غرفة نوم واحدة في شقة موريس، تركها لجوان، وينام هو على أريكة غرفة المعيشة. إن شقة مكونة من غرفتي نوم ستكون بالتأكيد أكثر ملاءمة في المناسبات التي يستقبل فيها زوارا، لكنه ربما لا يعتزم استقبال زوار، زوار كثيرين، أو كثيرا. كما لا يرغب أن يخسر الإيجار الذي يتحصل عليه من الشقة الكبيرة. ربما يفكر في أخذ إحدى شقق العزاب في البدروم، حتى يؤجر شقته الحالية أيضا، لكن ربما يظن أن ذلك سيكون صعبا. سيبدو كنوع من الشح، وسيجذب الانتباه إليه. سيكون نوعا من إرضاء الذات الذي من الأفضل تجنبه.
الأثاث الموجود في الشقة مأخوذ من المنزل الذي كان موريس يعيش فيه مع أمه، لكن لا يرجع معظمه إلى الفترة التي كانت جوان تعيش فيها في هذا المنزل. كل ما كان يبدو كتحفة قديمة بيع، واستبدل به أثاث حديث ومريح جدا تمكن موريس من شرائه بسعر الجملة. ترى جوان بعض الأشياء التي أرسلتها كهدايا عيد ميلاد، هدايا كريسماس، لم تتلاءم تلك الهدايا كثيرا مع المكان، أو تثر جوا من البهجة مثلما كانت تأمل.
بطاقة تحمل صورة كنيسة القديس جايلز تذكرها بالعام الذي قضته هي وزوجها في بريطانيا، حنينها المربك إلى بلادها في فترة دراستها العليا وحبها العابر عبر المحيطات. وهنا على الصينية الزجاجية أعلى مائدة القهوة، معروض بطريقة أنيقة وبارزة كتاب كانت قد أرسلته إلى موريس، كتاب حول تاريخ الآلات، توجد فيه رسومات للآلات، وتصميمات ماكينات، منذ أيام ما قبل ظهور التصوير، منذ أيام الإغريق، والمصريين القدماء؛ وصور فوتوغرافية من القرن التاسع عشر إلى الوقت الحالي: آلات طرق، آلات زراعية، آلات صناعية، مصورة أحيانا من مسافات بعيدة، وأحيانا إزاء الأفق، وأحيانا عن مقربة ومن أعلى. تركز بعض الصور الفوتوغرافية على طريقة عمل الآلات؛ صور صغيرة وكبيرة على حد سواء، بينما تركز صور أخرى على إبراز الآلات لتبدو فخمة مثل القلاع أو مزعجة كالوحوش. تتذكر جوان قولها إلى الصديقة التي كانت بصحبتها في متجر الكتب: «يا له من كتاب رائع لأخي! ... أخي مهووس بالآلات.» «مهووس بالآلات» كان ذلك هو ما قالته.
تتساءل الآن عن رأي موريس في هذا الكتاب: هل أعجبه على الإطلاق؟ لم يكن لينفر منه في واقع الأمر، ربما أصابه بالحيرة، ربما قلل من قيمته. في حقيقة الأمر، لم يكن مهووسا بالآلات، كان يستخدم الآلات - كان هذا هو ما جعلت الآلات من أجله.
يصحبها موريس في جولات بالسيارة في أمسيات الربيع الطويلة، يصحبها في جولات حول المدينة وفي الريف؛ حيث ترى حقولا شاسعة، وأفاقا من الذرة أو البقول أو القمح أو البرسيم، وكيف أن تلك الآلات قد مكنت الفلاحين من زراعتها، وترى كذلك مروجا شاسعة تشبه المتنزهات وكيف أن آلات جز الحشائش المدارة بمحرك سمحت بوجودها. تزهر مجموعات من زهور الليلك فوق الأقباء في المزارع المهجورة. يجرى دمج المزارع، يخبرها موريس، يعرف قيمة ذلك. لا يقتصر الأمر على المنازل والمباني بل الحقول والأشجار، والأحراج والتلال التي تستحضر في الذهن بقيم نقدية محددة وتاريخ القيمة النقدية الخاص بها، مثلما يعرف كل شخص يذكره باعتباره شخصا يحقق دخلا مرتفعا أو لا. ليست هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء مفضلة على الإطلاق في هذا الوقت خصوصا، يعتقد أنها جامدة وقديمة وقاسية ومدمرة. لا يعي موريس ذلك، ويستمر في حديثه المركز على المال على نحو يشي باستمتاع هادئ من جانبه، يلقي بإشارة خفية من آن لآخر، يسر الضحك في نفسه عندما يشير إلى صفقات محفوفة بالمخاطر أو إلى مصائب كبرى.
بينما تستمع جوان إلى موريس، وتتحدث قليلا، تنجرف أفكارها في تيار مألوف ولا يقاوم، تفكر في جون برولير، عالم جيولوجيا، كان يعمل في شركة نفط، والآن يدرس (علوما ومسرحا) فيما يعرف باسم مدرسة بديلة، وهي مدرسة تقدم تعليما غير تقليدي. كان شخصا يحقق دخلا مرتفعا، أما الآن، فلا. التقته جوان في إحدى حفلات العشاء في أوتاوا قبل شهرين، كان يزور بعض الأصدقاء الذين كانوا أصدقاء لها أيضا. لم تكن زوجته في صحبته، لكنه كان قد أحضر طفلين من أطفاله. قال لجوان إنها إذا استيقظت مبكرا بما يكفي الصباح التالي فسيصحبها لرؤية شيء يسمى «الجليد الكريستالي العالق» على نهر أوتاوا.
تتذكر وجهه وصوته وتتساءل عما يغريها في هذا الوقت في رجل كهذا، لا يبدو أن الأمر يتعلق كثيرا بزواجها، يبدو زواجها رائعا بما يكفي؛ تضافرت جهودها هي وزوجها معا، من أجل تطوير لغة، وتاريخ، وطريقة مشتركة في النظر إلى الأشياء. يتحدثان طوال الوقت، لكنهما يتركان أحدهما الآخر وحده، أيضا. كانت المصاعب والمشكلات التي طفت إلى السطح خلال السنوات الأولى من زواجهما قد تضاءلت أو اختفت.
يبدو أن ما تريده من جون برولير هو الشيء الذي ربما يريده شخص لم يكن له صوت مسموع في زواجه، وربما في حياته من قبل. ماذا عنه؟ لا تظن أنه ذكي على نحو خاص وليست متأكدة من أنه محل ثقة (زوجها ذكي ومحل ثقة). ليس حسن المظهر كزوجها، ليس «جذابا» كرجل، لكنه يجذب جوان، وتظن أنه جذب نساء أخريات؛ بسبب قوته، نوع من الحدة، جدية بالغة، كلها مركزة على الجنس. لا تشبع رغبته بسرعة، ولا يمكنه تجاهلها بسهولة. تشعر بهذا، تشعر بالوعد الكامن في هذا، على الرغم من أنها ليست متأكدة من أي شيء.
بينما شمل زوجها في الدعوة لإلقاء نظرة على الجليد الكريستالي العالق، كانت جوان هي التي ذهبت وحدها بالسيارة قاصدة ضفة النهر. هناك قابلت جون برولير وطفليه وطفلي مضيفيه في فجر شتوي، متجمد، سماؤه وردية، مقيد للحركة بسبب الثلوج. حدثها عن هذا النوع من الجليد، عن طريقة تشكله أعلى المنحدرات النهرية دون أن يتجمد حتى الصلابة، وكيف عندما يزاح فوق منطقة عميقة يتكور في الحال في صورة كومة، في صورة رائعة. قال إن هذا هو السبب وراء اكتشاف مكان الحفر العميقة في قاع النهر. وقال: «انظري، إذا كنت تستطيعين الخروج وحدك - إذا كان هذا ممكنا - فهل يمكن أن تخبريني؟ أريد حقا أن أراك. تعرفين أني أريد ذلك، أرغب في ذلك، جدا.»
ناولها قطعة ورق لا بد أنه كان أعدها سلفا، مكتوب فيها رقم صندوق بريد لمكتب بريد في تورونتو. لم يلمس أصابعها حتى. كان أطفاله يثبون حوله، يحاولون جذب انتباهه. متى يمكن أن نذهب للتزلج؟ هل يمكن أن نذهب إلى متحف الطائرات الحربية؟ هل يمكن أن نذهب ونرى القاذفة لانكستر؟ (أضمرت جوان كل هذا لتخبر زوجها به، الذي كان سيستمتع بالاستماع إليه، بالنظر إلى مسالمة جون برولير.)
أخبرت زوجها بالفعل، وغاظها. قال: «أظن أن هذا الأخرق الذي يحلق رأسه مثل الراهب أعجب بك من أول نظرة.» كيف يعتقد زوجها أنها قد تقع في غرام رجل شعره آخذ في النحول ممشط فوق جبهته، كتفاه غير عريضتين ويوجد فراغ في أسنانه الأمامية، وله خمسة أبناء من زوجتين، ودخله غير كبير، يتحدث بطريقة متحذلقة وانفعالية، ولديه اهتمام معلن بكتابات آلان واتس؟ (حتى عندما حان الوقت الذي عليه فيه أن يصدق الأمر، لم يستطع.)
عندما كتبت إليه، أشارت إلى غداء، وشراب، أو قهوة، لم تخبره كم من الوقت كان فارغا. ربما كان ذلك هو كل ما كان سيحدث، تحدث نفسها. ستذهب إلى زيارة صديقتها على أي حال. وضعت نفسها، وإن كان بحذر، تحت تصرف هذا الرجل. وهي متجهة إلى مكتب البريد، ومحققة في مظهرها في واجهات المتاجر، تشعر أنها متحررة، لكن في خطر. تفعل هذا، دون أن تعرف لماذا، لا تعرف سوى أنها لا تستطيع العودة إلى الحياة التي كانت تحياها أو إلى الشخص الذي كانت إياه قبل أن تذهب صبيحة ذلك الأحد إلى النهر. حياتها المؤلفة من التسوق والقيام بالأعمال المنزلية والمضاجعة الزوجية وعملها بنصف دوام في متجر الكتب بالمتحف الفني، وحفلات العشاء والإجازات ورحلات التزلج في كامب فورتشن؛ لا تستطيع أن تكون هذه حياتها فقط، ولا تستطيع الاستمرار في تلك الحياة دون هذا الأمر. تعتقد أنها تنتوي الاستمرار في حياتها، ومن أجل أن تستمر يجب أن تحافظ على هذا الأمر. ما هذا الأمر؟ البحث، بالنسبة إليها لا تزال تنظر للأمر وكأنه بحث.
إذا نظرنا للأمر على هذا النحو، فسيبدو ما هي عازمة عليه كنوع من عدم الاكتراث، لكن كيف يمكن أن يشار إليها على أنها غير مكترثة بأي شيء، وهي تسير إلى مكتب البريد كل صباح في مثل هذه الحالة من الجبن، وترتجف وتحبس أنفاسها عند إدارة المفتاح في القفل، وتعود إلى شقة موريس شاعرة بالإجهاد، والحيرة، والعزلة الشديدة، إلا إذا كان هذا، أيضا، جزءا مما تبحث عنه؟
بالطبع، عليها أن تتوقف وتتحدث إلى الناس عن ابنها وابنتها وزوجها وحياتها في أوتاوا، عليها أن تتذكر أصدقاء المدرسة الثانوية وتتذكر طفولتها، وهو ما يبدو مملا ومزعجا لها في مجمله. تبدو المنازل، وهي تمر عليها - أفنيتها المنظمة ونباتات الخشخاش اللامعة وزهور الفاوانيا اليانعة - مملة إلى درجة الاشمئزاز. ترى أن أصوات الأشخاص الذين يتحدثون إليها أجشة وغبية ومغرورة؟ تشعر كما لو أنها قد أقصيت إلى ركن ما من العالم لم تصل إليه على الإطلاق الحياة والأفكار الحقيقية، صخب وحيوية السنوات القليلة الأخيرة. بينما لم تصل هذه الأشياء بشكل كامل إلى أوتاوا، أيضا، هناك، على الأقل، يسمع الناس الإشاعات، يحاولون تقليد الآخرين، يعرفون أشياء عما يمكن أن يطلق عليه تغييرات الموضة العميقة، والتافهة في نفس الوقت. (تسخر جوان وزوجها، حقيقة، من بعض هؤلاء؛ أولئك الذين يتفاخرون باتباع الموضة، ويذهبون إلى مجموعات العلاج النفسي وإلى المعالجين الشموليين، ويتركون تناول المشروبات الكحولية ليتناولوا المواد المخدرة.) هنا، بالكاد يسمع عن هذه التغييرات التافهة. عند عودتها إلى أوتاوا الأسبوع التالي، وإزاء شعورها بالحنان تجاه زوجها، وشغفها بأن يقضيا وقتهما في الحديث معا، ستقول جوان: «كنت سأشعر بالامتنان إذا تطوع أحدهم وناولني ولو سندويتشا من براعم البرسيم الحجازي. حقا، كان الأمر بهذا السوء.» «لا، لا أملك مكانا» هو ما ظلت جوان تردده بينما كانت هي وموريس يبحثان في محتويات الصناديق. هناك أشياء هنا كانت تعتقد أنها ستحتاج إليها، لكنها لا تحتاج إليها. «لا، لا أعرف أين سأضعها.» تقول لا لفساتين أمها للرقص التي من الحرير الرقيق والجورجيت الناعم، ستتمزق عندما يرتديها أي أحد ، وكلير ابنتها لن تشغف بأي من هذا، تريد أن تصبح مدربة خيول. لا لكئوس الخمر الخمسة التي لم تنكسر، ولا للنسخ المغلفة بالورق الجلدي من كتب ليفر ولافر، وجورج بورو، وإيه إس إم هتشينسون. تقول في حزن بينما يضيف موريس كل هذا إلى كومة الأشياء التي ستذهب إلى قاعات المزاد: «لدي أشياء كثيرة الآن.» كان آخر الأشياء التي فحصها هو البساط الصغير الذي كان موضوعا على الأرض أمام خزانة الآنية الخزفية، بعيدا عن الشمس، والذي لم يكن من المفترض السير عليه لأنه قيم.
تقول: «رأيت واحدا مثل هذا تماما قبل شهرين ... كان في متجر لبيع البضائع المستعملة، لم يكن حتى متجرا لبيع التحف القديمة. كنت هناك أبحث عن كتب مصورة قديمة وملصقات لعيد ميلاد روب، رأيت واحدا مثله تماما، في البداية لم أعرف حتى أين رأيته من قبل، ثم شعرت بصدمة بالغة، كما لو كان من المفترض أن تكون هناك قطعة واحدة منه فقط في العالم.»
يقول موريس: «كم كان الثمن الذي طلبوه مقابله؟» «لا أعلم، كان في حالة أفضل.»
لا تفهم بعد أنها لا ترغب في أن تأخذ معها شيئا إلى أوتاوا لأنها نفسها لن تمكث في المنزل هناك أكثر من ذلك. انتهى وقت ركم، واكتساب وترتيب، وتسوية أركان حياتها. (ستعاود حياتها مجددا في سنوات لاحقة، وستتمنى أنها كانت قد أخذت كئوس الخمر على الأقل.) في أوتاوا، في سبتمبر، سيسألها زوجها إذا كانت لا تزال ترغب في شراء أثاث مصنوع من البامبو لوضعه في الغرفة الشمسية، وإذا كانت ترغب في الذهاب إلى متجر بيع الأثاث المصنوع من البامبو؛ حيث توجد تخفيضات على بضائع الصيف. ستشعر برجفة نفور آنذاك - لمجرد التفكير في البحث عن مقاعد وموائد، ودفع ثمنها، وترتيبها في الغرفة - وستكتشف في النهاية الأمر.
في صباح يوم الجمعة، كان هناك خطاب في صندوق البريد مكتوب عليه اسم جوان، لا تنظر إلى ختم البريد؛ تفتح الظرف في امتنان، وتمرر عينيها على الخطاب في نهم، تقرأ دون فهم، يبدو مثل الخطاب المسلسل. محاكاة ساخرة لهذا النوع من الخطابات، مزحة. يقول الخطاب إنها إذا لم ترسل نسخا منه، ستحل بها «كارثة عظيمة»: ستتعفن أظافرها وستتسوس أسنانها، دمامل كبيرة في حجم القرنبيط ستظهر في كل مكان في ذقنها، وسيتجنبها أصدقاؤها. تحدث جوان نفسها قائلة: ماذا عساه يكون ذلك؟ شفرة رآها جون برولير ملائمة ليبعث بها إليها؟ ثم يخطر لها أن تنظر إلى ختم البريد، وهكذا تفعل، فترى أن الخطاب وارد من أوتاوا، خطاب من ابنها، بداهة. يحب روب مثل هذا النوع من المزاح، كان والده سيكتب بدلا منه الاسم على المظروف.
تفكر في سرور ابنها عندما كان يغلق المظروف وفي حالتها عندما فتحته بسرعة.
خيانة وحيرة.
في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة، تفتح هي وموريس الخزانة الكبيرة التي كانا قد تركاها حتى النهاية، تخرج مجموعة من ملابس السهرة، ملابس سهرة رجالية، لا تزال في غطائها البلاستيكي، كما لو لم يكن قد جرى ارتداؤها منذ تنظيفها. تقول: «لا بد أن هذه ملابس أبي ... انظر، ملابس السهرة القديمة الخاصة بأبي.»
يقول موريس: «لا، هذه ملابسي.» يتناول السترة منها، يخرجها من الغطاء البلاستيكي، ويقف حاملا إياها أمامه فوق ذراعيه. «هذه سترة السهرة الخاصة بي، من المفترض أن تكون معلقة في خزانة الملابس.»
تقول جوان: «لماذا اشتريتها؟ ... من أجل حفل زفاف؟» بعض من الرجال الذين يعملون مع موريس يحيون حياة تتسم بالأبهة والمظاهر أكثر من حياته، ويدعونه إلى حفلات زفاف فخمة.
يقول موريس: «ذاك، وبعض المناسبات الأخرى التي يجب علي الذهاب إليها مع ماتيلدا ... حفلات رقص على العشاء، وغيرها من المناسبات التي تحتاج لارتداء ملابس في منتهى الأناقة.»
تقول جوان: «مع ماتيلدا؟ «ماتيلدا باتلر»؟» «نعم، لا تستخدم اسم زوجها.» يبدو أن موريس يجيب على سؤال مختلف قليلا، لا السؤال الذي كانت جوان تقصده. «بوضوح أكثر، لا أظن أنها تحمل اسم زوجها.»
الآن تسمع جوان مجددا القصة التي تتذكر أنها سمعتها من قبل، أو قرأتها من قبل في خطابات أمها الطويلة المفعمة بالحياة. هربت ماتيلدا باتلر كي تتزوج رفيقها. تعبير «هربت» هو تعبير أمهما، ويبدو أن موريس يستخدمه في نبرة تأكيدية غير واعية، نوع من احترام الابن لأمه، كان الأمر كما لو كانت الطريقة الوحيدة التي كان يستطيع بها الحديث عن الموضوع، أو يمتلك حقا في الحديث عنه، من خلال لغة أمه. هربت ماتيلدا وتزوجت ذلك الرجل صاحب الشارب، واتضح أن شكوك أمها - اتهاماتها المبالغ فيها - تستند للمرة الأولى إلى بعض الحقائق. اتضح أن رفيقها متزوج من امرأة أخرى، كانت لديه زوجة في بلده إنجلترا. بعد أن ظل مع ماتيلدا ثلاث أو أربع سنوات - لحسن الحظ لم ينجبا أطفالا - استطاعت الزوجة الأخرى، الزوجة الحقيقية، اكتشاف أمره. أبطل زواجه بماتيلدا، وعادت ماتيلدا إلى لوجان، عادت لتعيش مع أمها، وحصلت على وظيفة في المحكمة.
تقول جوان: «كيف استطاعت أن تفعل ذلك؟ ... من بين جميع الأشياء الغبية.»
رد موريس بينما تشوب صوته نبرة عناد أو عدم راحة: «حسنا، كانت صغيرة.» «لا أعني «ذلك»، أعني العودة مجددا إلى منزلها.»
يقول موريس، فيما يبدو في غير سخرية: «حسنا، كانت أمها موجودة ... أظن أنها لا تعرف أحدا غيرها.»
يقف أمام جوان، بعينه ذات العدسة الداكنة، والسترة مسجاة على ذراعيه مثل جثمان، ويبدو كئيبا ومنزعجا، تتدفق الدماء في وجهه وعنقه في غير تساو، كما لو كانت بقعا، يرتجف ذقنه قليلا ويعض على شفته السفلى. هل يعرف أن نظراته تكشف عن خبيئة نفسه؟ عندما يبدأ في الحديث مجددا، يتحدث في نبرة متعقلة، شارحة. يقول إنه يظن أن ماتيلدا لم يكن يهمها كثيرا أين كانت تعيش. بشكل ما، وفق روايتها، كانت حياتها قد انتهت. وهنا ظهر هو - موريس - في الصورة. كان ذلك يرجع إلى أن ماتيلدا كان عليها الذهاب من حين إلى آخر إلى حفلات رسمية: مآدب سياسية، مآدب تقاعد. كان ذلك جزءا من وظيفتها، وكان الأمر سيصبح مزعجا لو لم تذهب، لكن كان الأمر مزعجا أيضا بالنسبة إليها أن تذهب وحدها، كانت في حاجة إلى رفيق. لم تكن تستطيع الذهاب في صحبة رجل يطمع فيها، ولا يفهم الأمور على حقيقتها، لا يفهم أن حياة ماتيلدا، أو جزءا محددا من حياة ماتيلدا، كان قد انتهى. كانت في حاجة إلى شخص يفهم الأمر برمته دون الحاجة إلى تقديم أي تفسيرات. يقول موريس: «وهو أنا.»
تقول جوان: «لماذا تفكر على هذا النحو؟ إنها ليست كبيرة جدا في السن، أراهن على أنها لا تزال جميلة، لم يكن خطؤها، هل لا تزال تحبه؟» «لا أظن أنني في موضع يمكنني من توجيه أي أسئلة إليها.»
تقول جوان في صوت مستنكر محبب يدهشها، يبدو تماما مثل صوت أمها: «أوه، موريس ... أراهن أنها لا تزال تحبه، لا تزال واقعة في غرامه.»
يذهب موريس لتعليق ملابس السهرة الخاصة به في إحدى الخزانات في الشقة، بانتظار أن تلبس عندما يتم استدعاؤه ليكون رفيق ماتيلدا في حفلات قادمة.
في الفراش تلك الليلة، وهي راقدة مستيقظة، ناظرة إلى ضوء الشارع الذي يلمع عبر الأوراق الغضة في الميدان، البرج القصير للكنيسة المعمدانية، كان هناك شيء تفكر فيه إلى جانب مشكلتها. (تفكر بالطبع في مشكلتها أيضا.) تتخيل موريس وماتيلدا وهما يرقصان، تراهما في قاعات رقص فندق هوليداي إن، في ساحات الرقص في نادي الجولف، حيثما تقام الحفلات الرسمية، مرتديين ملابسهما الرسمية التي لا تتوافق مع الموضة، ويبدو شعر ماتيلدا مرشوشا، مهوشا على نحو رائع، ويبدو وجه موريس لامعا بسبب العرق من الجهد الذي يبذله في الرقص، ربما لا يكون ذلك جهدا، ربما يرقصان معا جيدا. متكافئان على نحو مذهل، كل منهما لديه عيوب يتمسك بها في عناد وأخرى يرغب في تغييرها، عيوب يستطيعان بسهولة التغاضي عنها أو إصلاحها، لكنهما لن يفعلا ذلك أبدا. موريس واقع في غرام ماتيلدا - على هذا النحو العابس، غير المشبع، المستمر طوال الحياة - وهي لا تزال في غرام شخص متزوج بأخرى، وهي غارقة بشدة في إحساسها بخطئها والعار الذي جلبته لنفسها. يرقصان في عقل جوان، في رزانة، وعبثية، ورومانسية. من سوى موريس - رغم كل شيء - الذي يمتلئ رأسه بتفاصيل الرهونات العقارية والعقود، يمكن أن يتضح أنه هذا الشخص الرومانسي جدا؟
إنها تحسده وتحسدهما.
كانت تحافظ على عادة الخلود إلى النوم على ذكرى صوت جون برولير: صوته المنفعل، الخفيض عندما كان يقول: «أرغب في ذلك، جدا.» أو كانت تتخيل وجهه؛ كان وجها ينتمي إلى العصور الوسطى، مثلما كانت تعتقد: طويلا، وشاحبا، ونحيلا، والابتسامة التي كانت نفرت منها واعتبرتها ابتسامة تكتيكية، والعينين السوداوين اليقظتين، اللامعتين، اللتين لا يمكن تجاهلهما. لن يعمل خيالها الليلة؛ لن يفتح الأبواب أمامها إلى أراض ضبابية بكر. لا تستطيع أن تتخيل نفسها في أي مكان إلا هذا المكان، على الفراش الوحيد الخشن في شقة موريس، في حياتها الحقيقية والظاهرة. لن يفلح شيء مما يفلح مع موريس وماتيلدا معها؛ لن يفلح إنكار الذات، الترفع عن الرغبات المكبوتة، قلة الحيلة المدعاة. لا يمكن إرضاؤها.
تعرف ذلك، وتعرف ما يجب أن تفعله. توجه تفكيرها إلى ما هو آت، على نحو غير مقبول، مخز، توجه تفكيرها إلى ما هو آت، تتلمس شكل حبيبها التالي. •••
لن يكون هذا ضروريا.
لعل ما نسيته جوان كلية هو أن البريد يصل إلى مكاتب بريد المدن الصغيرة يوم السبت. ويوم السبت هنا ليس يوما لا يصل البريد فيه. ذهب موريس ليرى ما في صندوق بريده؛ وناولها الخطاب. يحدد الخطاب موعدا ومكانا. خطاب مختصر جدا، وموقع بالأحرف الأولى لجون برولير فقط. كان هذا تصرفا حكيما، بالطبع. هذا الاختصار، هذا الحذر، لا يسعد جوان على الإطلاق، لكن نظرا لرغبتها في الراحة، في التغيير، لا تعير الأمر اهتماما كبيرا.
تحكي لموريس القصة التي كانت ستقولها له حال وصول الخطاب في وقت مبكر عن ذلك. اتصلت بها صديقتها منذ أيام الجامعة لتتقابلا، والتي سمعت أنها هنا. بينما تغسل شعرها وتحزم أشياءها، يأخذ موريس سيارتها إلى محطة الوقود مخفض السعر شمال المدينة ويملأ الخزان بالوقود.
وهي تلوح لموريس مودعة إياه، لا تلمح أي علامات ريبة على وجهه، ربما خيبة أمل قليلة. ها هي ترحل قبل يومين من الموعد المحدد وسيبقى هو وحيدا ثانية، لن يقر بهذا الشعور، ربما تتصوره هي، تتصوره لأن لديها شعورا بأنها تلوح مودعة زوجها وأطفالها أيضا، بل كل من يعرفها، إلا الرجل الذي ستلاقيه. يخدع الجميع بمنتهى السهولة، ودون أخطاء. تشعر بشيء من الذنب، بالتأكيد. تتأثر روحها بشدة ببراءتهم، تدرك وجود انكسار لا يمكن إصلاحه في حياتها. هذا حقيقي؛ حزنها وشعورها بالذنب في هذه اللحظة حقيقيان، ولن يختفيا أبدا، لكن لن يثنيها هذا عن الطريق الذي تسير فيه، أيضا، هي مسرورة إلى حد كبير؛ تشعر أن لا خيار أمامها سوى المضي قدما في هذا الطريق. (3) روز ماتيلدا
ستذهب روث آن ليذرباي مع جوان وموريس إلى المقابر. تشعر جوان بالدهشة قليلا إزاء هذا، لكن يبدو موريس وروث آن كما لو أنهما يأخذان الأمر على محمل التسليم. روث آن هي من تمسك حسابات موريس، كانت جوان تعرفها منذ سنوات، وربما كانت قد قابلتها من قبل. تنتمي روث آن إلى ذلك النوع من النساء حسن المظهر، متوسط الحجم، في منتصف العمر، الذي لا تتذكره. تعيش الآن في واحدة من شقق العزاب تلك في بدروم عمارة موريس. متزوجة، لكن زوجها هجرها منذ فترة طويلة. كاثوليكية؛ لذا لم تفكر في الحصول على الطلاق. هناك مأساة ما في حياتها - حريق منزل، طفل؟ - غير أنها احتملت الصدمة ولا تذكر الأمر.
كانت روث آن هي من جاءت ببذور زهور الياقوتية لتزرعها عند قبري والدي جوان وموريس. كانت قد سمعت موريس يقول إنه من الأفضل أن تجري زراعة شيء ما هناك، وعندما رأت البذور مطروحة للبيع في السوبر ماركت اشترت بعضها. تراقبها جوان بعينيها، تقول في نفسها إن الزوجات - مثل روث - لطيفات لكنهن رابطات الجأش، وفيات لكنهن باردات. إلام هن وفيات؟
تعيش جوان في تورونتو الآن، كانت قد انفصلت عن زوجها منذ اثني عشر عاما. تعمل مديرة لمتجر كتب متخصص في كتب الفن. وظيفة جيدة، وإن كان المقابل الذي تحصل عليه قليلا؛ كانت محظوظة. هي محظوظة أيضا (تعرف أن الناس يقولون إنها محظوظة، بالنسبة لامرأة في عمرها)؛ لأن لها حبيبا، صديقا في مقام الحبيب، وهو جيوفري. لا يعيشان معا؛ يلتقيان في عطلات نهاية الأسبوع ومرتين أو ثلاث مرات خلال الأسبوع. جيوفري ممثل موهوب، مرح، متكيف مع حياته، فقير، يقضي إحدى عطلات نهاية الأسبوع كل شهر في مونتريال مع امرأة كان يعيش معها وطفلهما. في عطلات نهاية الأسبوع هذه، تذهب جوان لرؤية ابنها وابنتها اللذين كبرا وسامحاها. ابنها أيضا ممثل، في حقيقة الأمر، كان هذا هو سبب التقائها بجيوفري. ابنتها صحفية مثل أبيها. ماذا هناك ليسامحاها عليه؟ كثير من الآباء ينفصلون، معظمهم تحطموا بسبب علاقات غرامية، في الوقت نفسه تقريبا. يبدو أن جميع الزيجات التي بدأت في الخمسينيات دون أي هواجس، أو دون هواجس يمكن لأي أحد أن يعرفها، تصدعت في أوائل السبعينيات، مفضية إلى العديد من التعقيدات الضخمة، وغير الضرورية - مثلما يبدو الأمر الآن - والمبالغ فيها. تتذكر جوان تاريخ حبها دون أي شعور بالأسف، بل ببعض الدهشة. كان الأمر كما لو كانت قد ذهبت ذات مرة لممارسة رياضة القفز بالمظلات.
وفي بعض الأحيان، تأتي لزيارة موريس. في بعض الأحيان، تحث موريس على الحديث عن الأشياء نفسها التي كانت تبدو غير مفهومة ومملة وحزينة بالنسبة لها: الهيكل الغريب للدخل والمعاشات والرهونات العقارية والقروض والاستثمارات والإرث الذي يراه موريس أنه تقوم عليه حياة أي شخص؛ هذا يثير اهتمامها. لا يزال الأمر بالنسبة إليها بصورة أو بأخرى غير مفهوم، لكن وجوده لم يعد يبدو مثل الوهم. يطمئنها الأمر بطريقة ما. هي شغوفة بأن تعرف كيف يفكر الآخرون في الأمر.
هذه المرأة المحظوظة، جوان، بوظيفتها وحبيبها وجمالها الأخاذ - يلاحظها الناس الآن أكثر من ذي قبل في حياتها (لا تزال نحيفة مثلما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وتوجد بشعرها القصير جدا مسحة من الشعر الأبيض الفضي، الذي على شكل ذيل ثعلب) - تعي بوجود خطر جديد، تهديد كانت لا تستطيع تصوره عندما كانت أصغر سنا. لم تكن تتصور وجود مثل هذا الخطر حتى إذا وصفه أحد لها، ومن الصعب أيضا وصفه. التهديد هو تهديد بحدوث تغيير ، لكنه ليس من النوع الذي يمكن أن يحذر منه المرء. إنه يحدث هكذا؛ فجأة، دون سابق إنذار، تميل جوان إلى التفكير فيه بوصفه «حطام». حطام. يمكن أن ينظر المرء عبر الشارع، فيرى الظلال، الضوء، الجدران الطوبية، الشاحنة القابعة تحت شجرة، الكلب النائم على الرصيف، المظلات الداكنة في الصيف، أو كومة الثلوج الحائلة إلى اللون الرمادي؛ يمكن أن يرى المرء كل هذه الأشياء في انفصالها المؤقت، كلها متصلة بطريقة مزعجة، مرضية، ضرورية، لا يمكن وصفها. أو يمكن أن يرى المرء حطاما. أمور عابرة، تنوع عبثي من الأمور العابرة. حطام.
تريد جوان أن تبعد فكرة الحطام عن تفكيرها، تنتبه الآن إلى جميع الطرق التي يبدو أن الناس تفعل ذلك من خلالها. التمثيل طريقة ممتازة - كانت قد تعلمت ذلك من خلال مرافقتها لجيوفري - رغم أن ثمة فجوات في التمثيل. في حالة حياة موريس أو نظرته إلى الأشياء، يبدو أن ثمة فرصا أقل للفجوات. •••
أثناء قيادتهما عبر الشوارع، تلاحظ أن كثيرا من المنازل القديمة تعاود الظهور؛ الأبواب والأروقة التي كانت تمثل تعديلات حديثة ومنطقية قبل خمسة عشر أو عشرين عاما تستبدل بها الشرفات والنوافذ المروحية التقليدية، شيء جيد حقا. تشير روث آن إلى هذا الملمح وغيره، وتوافقها جوان الرأي لكنها تعتقد أن ثمة شيئا هنا متكلفا، ومبالغا فيه.
يوقف موريس السيارة عند أحد التقاطعات. تعبر امرأة عجوز الشارع في منتصف المربع السكني أمامهما. تعبر في خطوات واسعة الشارع قطريا، غير ناظرة إذا ما كانت هناك سيارة قادمة أم لا. مشية بخطى واسعة عازمة، غير عابئة، وحتى مزدرية، في شكل مألوف إلى حد ما. لا يهدد المرأة العجوز أي خطر؛ لا توجد سيارة أخرى في الشارع، ولا يسير أي شخص آخر، فقط فتاتان صغيرتان تركبان دراجتهما. المرأة العجوز ليست عجوزا جدا، في حقيقة الأمر. تراجع جوان انطباعاتها باستمرار هذه الأيام حيال ما إذا كان الأشخاص عجائز أم غير عجائز جدا. تمتلك هذه المرأة شعرا أبيض يصل إلى كتفيها وترتدي بلوزة فضفاضة وبنطالا فضفاضا رماديا. ثيابا لا تناسب طقس هذا اليوم، يوم مشمس لكنه بارد.
تقول روث آن: «إنها ماتيلدا.» تنبئ الطريقة التي تتلفظ بها بكلمة «ماتيلدا» - دون لقب، في نبرة رفيقة، مستمتعة، باردة - بأن ماتيلدا شخص غريب الأطوار.
تصيح جوان قائلة، وهي تستدير تجاه موريس: «ماتيلدا! ... هل هذه ماتيلدا؟ ماذا جرى لها؟»
تجيب روث آن، من المقعد الخلفي: «بدأت تتصرف بغرابة. متى كان ذلك؟ قبل عامين؟ بدأت في ارتداء ملابس غريبة وغير ملائمة، وكانت تظن أن الناس يأخذون أشياء من على مكتبها في العمل، وربما تقولين لها شيئا رقيقا جدا فترد في فظاظة، ربما يكون ذلك بسبب شيء في تركيبتها.»
تقول جوان: «تركيبتها؟»
يقول موريس: «الجانب الوراثي»، ثم يضحكان.
تقول روث آن: «هذا ما كنت أقصده ... كانت أمها تقيم في دار رعاية المسنين لسنوات قبل أن تموت، كانت قد فقدت صوابها تماما، وحتى قبل أن تذهب إلى هذه الدار، كان الناس يرونها تنسل خلسة إلى الفناء، كان شكلها مفزعا مثل الناس في عيد الهالوين. على أي حال، كانت ماتيلدا تحصل على معاش صغير عندما تركت الخدمة في المحكمة، لا تفعل شيئا سوى التجول. في بعض الأحيان، تتحدث إلى الناس في ود مثلما يتحدث الناس بطريقة طبيعية، وفي أحيان أخرى لا تنبس بكلمة. لا تحسن مظهرها أبدا، كانت أنيقة جدا من قبل.»
لم يكن يجدر بجوان أن تندهش على هذا النحو، أن تفاجأ بهذا الشكل. يتغير الناس، يختفون، ولا يموتون جميعا حتى يختفوا. بعضهم يموت، جون برولير مات، عندما سمعت جوان بذلك، بعد عدة شهور من موته، شعرت بغصة، لكنها لم تكن غصة في مثل حدة الغصة التي شعرت بها عندما سمعت امرأة ذات مرة تقول لها في إحدى الحفلات: «جون برولير، نعم، أليس هو ذلك الرجل الذي كان يحاول دوما إغواء النساء عن طريق أخذهن بعيدا لتأمل إحدى الظواهر الطبيعية العجيبة؟ يا إلهي، كم هذا غير مريح!»
يقول موريس: «تمتلك منزلها ... بعته إياها قبل خمس سنوات تقريبا، ولديها هذا المعاش الضئيل، إذا استطاعت الصمود حتى تبلغ الخامسة والستين، فستكون على ما يرام.» •••
يحفر موريس الأرض أمام شاهد القبر، وتغرس جوان وروث آن بذور زهور الياقوتية. تبدو الأرض باردة، لكن لم يكن هناك ثلج، تسقط أعمدة طويلة من أشعة الشمس بين أشجار الأرز المشذبة وأشجار الحور التي تصدر أصوات حفيف، والتي لا تزال تحمل الكثير من الأوراق الذهبية، على الحشيش الأخضر الكثيف.
تقول جوان، ناظرة إلى الأوراق: «استمعا إلى هذا ... إنه صوت مثل صوت الماء.»
يمزح موريس مع جوان، تزمجر جوان وروث آن معا، وتقول جوان: «لم أكن أعرف أنك لا تزال تفعل ذلك يا موريس.»
تقول روث آن: «إنه لا يتوقف أبدا.»
يغسلون أيديهم عند صنبور خارجي ويقرءون بعض الأسماء على شواهد القبور.
يقول موريس: «روز ماتيلدا.»
لبرهة، تعتقد جوان أن هذا اسم آخر قرأه، ثم تدرك أنه لا يزال يفكر في ماتيلدا باتلر.
يقول: «تلك القصيدة التي كانت أمي معتادة على وصفها بها ... روز ماتيلدا.»
تقول جوان: «رابونزل ... هذا ما كانت أمي تدعوها به. «رابونزل، رابونزل، أسدلي شعرك الذهبي».» «أعلم أنها كانت تقول ذلك، كانت تقول «روز ماتيلدا» أيضا، كان هذا مطلع قصيدة.»
تقول روث آن: «يبدو الاسم مثل غسول للجلد ... أليس هذا غسولا للجلد؟ روز إيمالشن؟»
يقول موريس في حزم: «آه، ماذا يجدي؟» كان ذلك هو مطلع القصيدة. «آه، ماذا يجدي؟»
تقول روث آن في مكر ودون خجل: «بالطبع، أنا تقريبا لا أعرف أي قصائد.» ثم تخاطب جوان قائلة: «هل يبدو هذا البيت مألوفا لك؟»
تمتلك عينين جميلتين حقا، هكذا تعتقد جوان، عينين بنيتين يمكن أن تبدوا رقيقتين وماكرتين في آن واحد.
تقول جوان: «بالتأكيد ... لكنني لا أستطيع أن أحزر الأبيات التالية.» •••
كان موريس قد خدعهن جميعا بعض الشيء، هؤلاء النساء الثلاث: جوان، وروث آن، وماتيلدا. ليس موريس مخادعا بطبعه - ليس أحمق على هذا النحو - لكنه يحتال على الأمور من حين إلى آخر. خدع جوان منذ وقت طويل، عندما بيع المنزل، حصلت على مبلغ يقل بألف دولار عما كان يجب أن تحصل عليه . اعتقد أنها ستعوض ذلك من خلال الأشياء التي اختارتها لتأخذها إلى منزلها في أوتاوا، ثم لم تختر أي شيء. لاحقا، عندما انفصلا هي وزوجها، وكانت تعيش وحدها، فكر موريس في إرسال شيك لها، مشيرا إلى حدوث خطأ في الحساب، لكنها حصلت على وظيفة، ولم يبد أنها في حاجة إلى المال. لم يكن لديها أدنى فكرة عما يمكن أن تفعل بالمال الذي تحصل عليه؛ كيف تستثمره. فصرف النظر عن الفكرة.
كانت الطريقة التي خدع روث آن بها أكثر تعقيدا، وكانت تتعلق بإقناعها بأن تكون موظفة بدوام جزئي لديه رغم أنها ليست كذلك. أعفاه ذلك من تقديم مزايا مالية محددة لها، لن يدهش إذا اكتشفت الأمر برمته، وتعاملت مع الأمر بطريقتها. كان ذلك ما كانت ستفعله؛ لن تقول أي شيء، لن تجادل، بل ستأخذ حقها منه. وطالما كانت ستأخذ حقها منه فقط - سيلاحظ سريعا إذا كان الأمر كذلك فقط - لن يقول هو الآخر أي شيء. كانت هي وهو يعتقدان أنه إذا لم يكن المرء واعيا لمصلحته، فلا يلومن إلا نفسه. كان يسعى للاعتناء بروث آن في نهاية المطاف على أي حال.
إذا اكتشفت جوان ما فعله، فربما لن تقول أي شيء أيضا، إن المهم في هذا الأمر - بالنسبة إليها - لن يكون المال، لا تكترث كثيرا بأمر المال، المهم بالنسبة لها هو: لماذا فعل هذا؟ ستظل حائرة حيال هذا السؤال وستشعر بسرور بالغ وهي تحاول اكتشاف حقيقة هذا الأمر. سيبقى هذا الأمر عن أخيها في عقلها مثل قطعة كريستال صلبة: شيء غريب، صغير، كاسر للضوء، كنز من مكان بعيد.
لم يخدع ماتيلدا عندما باعها المنزل، فقد حصلت على المنزل بسعر جيد جدا، لكنه أخبرها أن سخان المياه الذي كان قد ركبه قبل عام أو ما يقرب من ذلك كان جديدا، وبالطبع لم يكن جديدا، لم يشتر قط أجهزة جديدة أو مواد جديدة عندما كان يقوم بتجديد الأماكن التي كان يمتلكها. ومنذ ثلاث سنوات في يونيو، في حفل رقص على العشاء في فندق فالهالا إن، قالت ماتيلدا له: «تعطل سخان المياه، علي أن أستبدله.»
لم يكونا يرقصان في ذلك الوقت، كانا يجلسان إلى مائدة مستديرة، مع بعض الأشخاص الآخرين، تحت مظلة من البالونات الطافية، كانا يحتسيان الويسكي.
قال موريس: «ليس من المفترض أن يحدث ذلك.»
قالت ماتيلدا باسمة: «هذا إذا كان جديدا ... أتعرف فيم أفكر؟»
ظل ينظر إليها، منتظرا ما ستقول. «أعتقد أننا يجب أن نرقص مرة أخرى قبل أن نحتسي أي شراب آخر!»
رقصا، كانا دوما يرقصان في سهولة معا، وعادة بشكل لافت، لكن هذه المرة، كان موريس يعتقد أن جسد ماتيلدا كان أكثر ثقلا وجمودا مما كان عليه دائما؛ كانت استجاباتها متأخرة، ثم مبالغ فيها. كان غريبا أن يبدو جسدها غير مستجيب عندما كانت تبتسم وتتحدث إليه بمثل هذه الحيوية، وتحرك رأسها وكتفيها مع كل إشارة للإعجاب. كان هذا، أيضا، جديدا، غير معتاد منها على الإطلاق من قبل، كانت ترقص معه عاما بعد عام في مرونة حالمة وبوجه جاد، لا تكاد تتحدث إليه، ثم بعد أن تتناول بعض الكئوس، كانت تتحدث إليه عن همومها الدفينة، همومها التي كانت دوما واحدة: رون، الرجل الإنجليزي، كانت تأمل في أن تتلقى أي أخبار منه. مكثت هنا، عادت إلى هنا، حتى يعرف كيف يعثر عليها. كانت تأمل، كانت تشك، في أن يطلق زوجته. كان قد وعدها، لكنها لم تكن تثق به. تلقت منه بعض الأخبار مؤخرا. قال إنه يتنقل من مكان لآخر، وإنه سيكتب إليها مجددا. كتب إليها. قال إنه سيبحث عنها. ترسل الخطابات إلى كندا، من مدن مختلفة، بعيدة، لكنها لم تتلق عنه أي أخبار. كانت تتساءل عما إذا كان لا يزال حيا، كانت تفكر في الاستعانة بوكالات تحقيق خاصة، قالت إنها لم تكشف عن ذلك لأحد إلا موريس، كان حبها مصدر عذابها، وهو ما لم يكن مسموحا لأحد بأن يطلع عليه سواه.
لم يقدم موريس إليها نصحا قط، لم يضع يده عليها ليواسيها إلا عندما كان ذلك ملائما، وعندما كانا يرقصان، كان يعرف على وجه الدقة كيف يجب أن يتعامل مع ما تقول. لم يكن يشفق عليها، كان يكن احتراما لجميع الخيارات التي كانت تتخذها.
كان صحيحا أن نبرة الحديث كانت قد تغيرت قبل تلك الليلة في فندق فالهالا إن، صارت نبرتها لاذعة وساخرة أكثر، وهو ما كان يؤلمه ولم يكن يلائمها. لكن كانت تلك هي الليلة التي شعر فيها بانكسار بينهما، توافقهما الطويل، وتناغمهما الواضح في الرقص، كانا مثل الأزواج الآخرين الذين هم في منتصف العمر، يتظاهران بالحركة في خفة وفي سرور، خائفين من أن تضيع عليهما اللحظة التي يعيشانها. لم تذكر رون، وموريس بالطبع لم يسألها. كانت فكرة قد بدأت تتشكل في رأسه أنها قد رأته أخيرا. كانت قد رأت رون أو سمعت أنه مات. رأته، هذا هو الأرجح.
قالت غائظة إياه: «أعلم كيف ستدفع لي مقابل هذا السخان ... يمكنك أن تجلب بذورا للمرجة الخاصة ببيتي! متى كانت آخر مرة جرى نثر بذور لتلك المرجة؟ تبدو مريعة؛ تنتشر فيها نباتات اللبلاب الأرضي. أود أن يكون لدي مرجة مشذبة. أفكر في عمل بعض التجديدات في المنزل. أرغب في تركيب مصاريع بلون عنابي حتى أكسر حدة اللون الرمادي الذي يغلب على المنزل. أرغب في تركيب نافذة كبيرة في جانب المنزل. سئمت النظر إلى دار رعاية المسنين. أوه، موريس، هل تعرف أنهم قطعوا أشجار الجوز التي كنت تزرعها؟ قاموا بتسوية الفناء، ووضعوا سياجا حول الجدول!»
كانت ترتدي فستانا طويلا، يشخشخ، لونه أزرق براق. كانت ثمة أحجار زرقاء وسط حلقات فضية تتدلى من أذنيها. كان شعرها شاحب اللون وجامدا، مثل حلوى غزل البنات. كانت هناك ندوب في لحم عضديها، كانت رائحة الويسكي تفوح منها. كان عطرها، ومكياجها، وابتسامتها تشي جميعا له بالزيف، والعزم، والبؤس. كانت قد فقدت الاهتمام بمصدر عذابها. كانت قد فقدت القدرة على الاستمرار مثلما كانت. وفي حماقتها البسيطة، الآخذة، كانت قد فقدت حبه.
قالت: «إذا أتيت الأسبوع القادم ومعك بعض بذور الحشائش وأريتني كيف أبذرها، فسأمنحك شرابا ... بل سأعد لك عشاء، أتحرج عندما أدرك أنك خلال كل هذه السنوات لم تتناول أي شيء على مائدتي.» «عليك أن تحرثي الأرض بالكامل وتبدئي في زراعة الأرض من جديد.» «أحرثها! إذن، لماذا لا تأتي يوم الأربعاء؟ أم أنك تقضي أمسيتك في ذلك اليوم مع روث آن ليذرباي؟»
كانت ثملة، سقطت رأسها على كتفه، وشعر بالكتلة الصلبة في قرطها تندفع مخترقة سترته وقميصه إلى لحمه.
في الأسبوع التالي، أرسل أحد العمال لديه لحرث وبذر مرجة ماتيلدا، بلا مقابل. لم يمكث العامل طويلا. وفقا لرواية العامل، خرجت ماتيلدا وصرخت فيه طالبة منه الابتعاد عن أرضها، وسألته عما كان يظن نفسه فاعلا في أرضها، وقالت إنها تستطيع العناية بفنائها، وطلبت منه الانصراف فورا. «الانصراف فورا» كانت هذه كلمة تذكر موريس أن أمه كانت تستخدمها، وكانت أم ماتيلدا تستخدمها، أيضا، في أيام العافية والعداوات الخالية. السيدة باتلر، السيدة كاربانكل. «انصرف حالا من هنا أيها الغبي الأعور.»
لم ير ماتيلدا لبعض الوقت بعد ذلك، لم يقابلها صدفة، إذا كان هناك أمر يجب عمله في المحكمة، كان يرسل روث آن. تلقى أنباء عن التغييرات التي كانت تتم، ولم تكن تغييرات تتعلق بالمصاريع العنابية أو تجديد المنزل. •••
تقول جوان فجأة بينما كانوا عائدين إلى الشقة: «آه، بم يفيد العرق المسيطر؟!» بمجرد وصولهم، تذهب إلى خزانة الكتب، خزانة الكتب نفسها القديمة ذات الواجهة الزجاجية، لم يبعها موريس، على الرغم من أن ارتفاع الخزانة كان لا يتناسب مع غرفة المعيشة، تجد كتاب أمها «مختارات من الشعر الإنجليزي».
تقول: «الأبيات الأولى»، منتقلة إلى نهاية الكتاب.
تقول روث آن: «اجلسي واستريحي، لماذا أنت هكذا؟» حاملة مشروبات فترة ما قبل المساء. يتناول موريس ويسكي وماء، وتتناول جوان وروث آن الرم البيضاء والصودا، صار حب هذا الشراب مبعثا على المزاح والرابطة المأمولة بين المرأتين اللتين تدركان أنهما ستحتاجان شيئا.
تجلس جوان وتشرب وهي مسرورة، تمرر أصبعها على الصفحة، تتمتم قائلة: «آه، ماذا، آه، ماذا ...»
يقول موريس: «آه، والقوام السماوي!» في تنهيدة ارتياح وشعور عظيم بالرضا.
كانا قد تعلما أن تكون هناك خصوصية لشخصيتهما، حدثت جوان نفسها دون أي شعور بالندم. أبيات الشعر، الرشفة الأولى من الكحول، الضوء المتأخر لما بعد ظهيرة يوم بشهر أكتوبر ربما يجعلها تشعر بالسلام الداخلي، بالراحة. كانا قد تعلما أن يعيرا انتباها خاصا، حساسا لأنفسهما، وهو ما جعلهما يحصلان على أي شيء كانا يريدانه، كان ذلك الحب أو المال، لكن ليس الأمر صحيحا برمته، أليس كذلك؟ موريس قد جرى تهذيبه كثيرا في مسألة الحب، وأصبح معتدلا فيه، وهكذا كانت هي فيما يتعلق بالمال؛ ففي الأمور المالية، ظلت خرقاء.
ثمة مشكلة، رغم ذلك، عقبة في متعتها غير المتوقعة، لا تستطيع العثور على البيت. تقول: «ليس هنا ... كيف لا يمكن أن يكون هنا؟ كان كل شيء أمي تعرفه هنا في هذا الكتاب.» تتناول كأسا أخرى، على نحو ما يتناول أصحاب الأعمال، ثم تحدق في الصفحة، ثم تقول: «أعرف! أعرف!» وفي ثوان معدودة، تعثر على ما تريد؛ تقرأ عليهما في صوت مفعم بالمشاعر الحية: «آه، ماذا يجدي العرق الرفيع؟
آه، والقوام السماوي!
وكل الفضائل، والشمائل،
يا روز آيلمر - روز ماتيلدا - التي كنت تحظين بها!»
كان موريس قد خلع نظارته. قام بذلك الآن أمام جوان، ربما بدأ القيام بذلك من قبل أمام روث آن. يحك الندبة كما لو كانت تثير الهرش. عينه مظلمة، تتخللها خطوط رمادية، يصعب النظر إليها. تحت غشاء الندبة، تبدو عينه جامدة مثل خوخة مجففة أو حجر.
يقول موريس: «هكذا إذن ... إذن، لم أكن مخطئا.»
بطريقة مختلفة
تلقت جورجيا ذات مرة دورة في الكتابة الإبداعية، وكان ما قال لها المحاضر هو: أشياء كثيرة جدا. أشياء كثيرة جدا تحدث في الوقت نفسه، وكذلك أشخاص كثر. وقال لها: فكري. ما هو الشيء المهم؟ ما الذي تريدين أن تلفتي نظرنا إليه؟ فكري.
أخيرا، كتبت قصة عن جدها وقتله الفراريج، وبدا المحاضر مسرورا بها. أما جورجيا نفسها فرأت القصة زائفة. فأعدت قائمة طويلة بجميع الأشياء التي لم تذكرها وسلمتها باعتبارها ملحقا للقصة. قال المحاضر إنها تتوقع أكثر مما ينبغي، من نفسها ومن عملية الكتابة، وإنها ترهقه كثيرا.
لم تكن الدورة خسارة كاملة؛ حيث إن جورجيا والمحاضر انتهى بهما المطاف إلى العيش معا. وهما لا يزالان يعيشان معا، في أونتاريو، في مزرعة. يبيعان توت العليق ويديران دار نشر صغيرة. وعندما تتمكن جورجيا من جمع المال اللازم، تذهب إلى فانكوفر لزيارة أبنائها. في ذلك السبت الخريفي استقلت العبارة إلى فيكتوريا، حيث كانت تعيش يوما. فعلت هذا استجابة لرغبة عفوية لم تثق فيها تماما، وبحلول منتصف ما بعد الظهيرة إذ سلكت ممر ذلك المنزل الحجري الرائع الذي اعتادت زيارة مايا فيه، كان شك كبير يداخلها بالفعل.
عندما هاتفت رايموند، لم تكن متأكدة من أنه سيدعوها إلى المنزل. ولم تكن متأكدة أصلا من أنها ترغب في الذهاب إلى هناك. فلم يكن لديها أي فكرة عن مدى الترحاب الذي ستقابل به. ولكن رايموند فتح لها الباب قبل أن يتسنى لها أن تدق الجرس، واحتضنها محيطا بكتفيها وقبلها مرتين (بالتأكيد لم يكن معتادا على فعل ذلك) وقدم إليها زوجته، آن. قال إنه أخبرها عن الصداقة العظيمة التي جمعت بينهم، هو ومايا وجورجيا وبن. صداقة عظيمة.
ماتت مايا، بينما تطلق جورجيا وبن منذ وقت طويل.
ذهبوا للجلوس فيما كانت مايا تدعوه - بشيء من الحبور الفاتر - «غرفة العائلة». (في إحدى الأمسيات، كان رايموند قد أخبر بن وجورجيا أن مايا لن ترزق بأي أطفال على ما يبدو. وقال: «إننا نبذل أقصى ما في وسعنا ... نستخدم الوسائد وكل شيء. ولكن لم يحالفنا الحظ.»
قال بن في صخب: «اسمع يا رجل، لا يفعل المرء ذلك باستخدام الوسائد.» كانوا جميعا ثملين قليلا. وأردف: «كنت إخالك خبيرا بالعملية بأسرها، لكن أرى أننا يجب أن نتحدث قليلا.»
كان رايموند طبيب توليد وأمراض نساء.
كانت جورجيا آنذاك تعرف كل شيء عن عملية الإجهاض التي أجرتها في سياتل، والتي أعد لها حبيب مايا، هارفي. كان هارفي طبيبا أيضا، جراحا. كانت تعلم بأمر الشقة الكئيبة في المبنى المتهالك، والمرأة العجوز سيئة الطباع التي كانت تحيك سترة، والطبيب الذي وصل مرتديا قميصا، وكان يحمل كيسا ورقيا بني اللون تملك مايا ظن هستيري بأنه يحوي أدوات الجراحة بلا شك. وهو في حقيقة الأمر كان يحوي غداءه: شطيرة من البيض والبصل. وقد ظلت رائحة تلك الشطيرة في أنف مايا طيلة العملية التي أجراها لها الطبيب وتلك السيدة الشبيهة بمدام ديفارج (من رواية «قصة مدينتين»).
ابتسمت مايا وجورجيا إحداهما للأخرى ابتسامة مقتضبة بينما واصل زوجاهما حديثهما المرح.)
تحول شعر رايموند البني الأجعد إلى زغب فضي، وظهرت التجاعيد في وجهه. ولكنه لم يصبه خطب جلل، فلم ينتفخ أسفل عينيه ولا ظهر له لغد ولا احتقان من جراء تناول الكحول ولا لاحت عليه انحناءة انهزامية ساخرة. كان ما زال نحيفا، منتصب القامة، مستقيم الكتفين، طيب الرائحة، فائق النظافة، ثيابه غالية وملائمة. من شأنه أن يصير رجلا عجوزا هشا، أنيقا، ذا ابتسامة صبيانية لطيفة. قالت مايا ذات مرة في كآبة إنهما يتميزان ببريق خاص. كانت تتحدث عن رايموند وبن. وقالت: ربما يجدر بنا أن ننقعهما في الخل.
تغيرت الغرفة أكثر مما تغير رايموند. فحلت أريكة جلدية عاجية اللون محل أريكة مايا المكسوة بالقماش المزخرف، وبالطبع كل الأشياء الأخرى المبعثرة مثلما في وكر أفيون - الوسائد وحشائش البمباس التي كانت لمايا، والفيل الرائع متعدد الألوان ذو المرايا الصغيرة المخيطة فيه - كل ذلك اختفى. ساد الغرفة اللونان البيج والعاجي، وكانت ناعمة ومريحة مثلها مثل الزوجة الشقراء الجديدة، التي جلست على مسند مقعد رايموند وأدرات ذراعه حولها بحنكة، مريحة يده على فخذها. كانت ترتدي سروالا أبيض يبدو ناعم الملمس وسترة مطرزة لونها أصفر باهت مبيض، وازدانت بحلي من الذهب. ربت رايموند عليها تربيتتين قويتين متحديتين.
وسألها: «ألست ذاهبة إلى مكان ما؟ ... للتسوق مثلا؟»
فردت عليه زوجته قائلة: «فهمت ... تريدان استعادة الأيام الخالية.» ثم ابتسمت لجورجيا قائلة: «لا بأس ... أنا فعلا بحاجة إلى التسوق.»
عندما ذهبت، صب رايموند شرابا له ولجورجيا. ثم قال: «آن دائمة القلق من تناول الخمر ... وترفض أن تضع ملحا على المائدة. ورمت ستائر المنزل كلها لكي تتخلص من رائحة السجائر التي كانت مايا تدخنها. أعلم ما قد يدور برأسك، وهو أن صديقنا رايموند قد حصل على شقراء لعوب. لكنها في حقيقة الأمر فتاة جادة جدا ومتزنة جدا. كانت في مكتبي - لعلمك - قبل وفاة مايا بفترة. أعني أنها كانت «تعمل» في مكتبي. لا أقصد ما قد يبدو الأمر عليه! وهي ليست صغيرة مثلما تبدو، أيضا. فعمرها ستة وثلاثون عاما.»
كانت جورجيا تخال زوجته في الأربعين من عمرها. كانت قد سئمت الزيارة بالفعل، ولكن كان عليها أن تتحدث عن نفسها. فقالت إنها ليست متزوجة، وإنها تعمل، وتمتلك بالاشتراك مع صديقها الذي تعيش معه مزرعة ودار نشر، وأن عملهما في وضع غير آمن، لا يدر ربحا كثيرا، ولكنه ممتع، وقالت: أجل، إنه صديق لا صديقة.
وقال رايموند: «لم يعد لدي أي معلومات عن بن لسبب أو لآخر ... كان آخر ما سمعته عنه أنه يعيش في قارب.»
فقالت جورجيا: «إنه يبحر برفقة زوجته حول الساحل الغربي كل صيف ... وفي الشتاء يذهبان إلى هاواي. فالقوات البحرية تسمح بالتقاعد المبكر.»
قال رايموند: «عظيم.»
عند رؤية رايموند خطر ببال جورجيا أنها لا فكرة لديها على الإطلاق عن شكل بن الآن. هل غزا الشيب رأسه؟ وهل صار ممتلئا قليلا في منطقة الخصر؟ فقد أصابها كلا الأمرين؛ إذ تحولت إلى امرأة مكتنزة ذات بشرة خمرية صحية، يعلو رأسها تاج من الشعر الأبيض، وترتدي ملابس فضفاضة، ألوانها زاهية إلى حد ما. عندما تفكر في بن، لا تزال تتخيله ضابطا بحريا وسيما، له مظهر ضابط البحرية المثالي؛ متحمس وجاد ومتواضع. كانت تلوح عليه سمات شخص يتوق - في شجاعة - إلى تلقي الأوامر. لا بد أن أبناءها لا يزالون يحتفظون ببعض صوره، فكلاهما يريانه، ويقضيان العطلات على متن قاربه. ربما كانا يخفيان الصور عندما تأتي لزيارتهما. ربما خطر لهما أن يحميا صوره تلك من شخص آذاه.
في الطريق إلى منزل مايا - منزل رايموند - مرت جورجيا بمنزل آخر، كان يمكنها تفاديه بيسر. كان ذاك منزلا في أوك باي، وفي الواقع كان عليها أن تخرج عن مسارها حتى تراه.
كان ذاك هو المنزل الذي قرأت عنه هي وبن في الإعلانات العقارية في صحيفة «فيكتوريا كولونيست». كان عبارة عن كوخ فسيح يقع تحت أشجار بلوط بديعة. كان المنزل به أشجار قطلب وشجيرات قرانيا، ومقاعد بجوار النوافذ، ومدفأة، ونوافذ ذات ألواح زجاجية متقاطعة على شكل المعين، وله شخصية. وقفت جورجيا خارج البوابة وشعرت بألم متوقع تماما. فهنا، كان بن يجز الحشائش، وهنا كان الولدان يصنعان الممرات والمخابئ في الشجيرات، ويشيدان المقابر للطيور والثعابين التي قتلتها القطة السوداء، دومينو. كان بإمكانها أن تتذكر المنزل من الداخل جيدا جدا: الأرضيات المصنوعة من البلوط التي بذلت هي وبن مجهودا كبيرا في صقلها، والجدران التي طلياها، والغرفة التي استلقت فيها في بؤس تحت تأثير المخدر بعد اقتلاع ضرس العقل. هنا كان بن يقرأ لها بصوت عال، من المجموعة القصصية «ناس من دبلن». لم تستطع تذكر عنوان القصة. كانت تدور حول شاب خجول ذي موهبة شعرية، له زوجة جميلة لئيمة. وعندما فرغ بن من قراءة القصة، قال: ياللفتى المسكين!
كان بن يحب الأدب القصصي، وهو ما كان أمرا يثير الدهشة بالنسبة إلى رجل يحب الرياضة أيضا، ورجل كان محبوبا في المدرسة.
كان ينبغي عليها البقاء بعيدا عن هذا الحي. فكل مكان تسير فيه هنا - تحت أشجار البندق بأوراقها الذهبية المنبسطة، وأشجار القطلب ذات الفروع الحمراء، وأشجار السنديان الغرياني العالية، التي تبث في الذهن قصصا خيالية وغابات أوروبية وحطابين وساحرات - في كل مكان كانت خطواتها تؤنبها، سائلة إياها: «لم؟» «لم؟» «لم؟» كان هذا التأنيب هو ما توقعته بالضبط - وما خاطرت بتعريض نفسها له - وكان ثمة شيء مبتذل في ذلك، شي مبتذل وغير مجد. كانت تعلم ذلك. إلا أن قدميها السخيفتين راحتا تنتقدانها بقسوة قائلتين: «لم؟» «لم؟» «لم؟» «خطأ وهدر.» «خطأ وهدر.» «خطأ وهدر.»
أراد رايموند أن تتطلع جورجيا إلى الحديقة، التي قال إنها زرعت خصيصى من أجل مايا في الشهور الأخيرة من حياتها. وضعت مايا تصميمها، ثم كانت تستلقي على الأريكة المكسوة بالقماش المزخرف (مضرمة النيران فيها مرتين - حسب قول رايموند - عند إغفائها والسيجارة مشتعلة في يدها)، ومن عليها أمكنها مشاهدة الحديقة تتشكل شيئا فشيئا.
رأت جورجيا بركة ماء، بركة تحفها الأحجار ذات جزيرة في المنتصف. وكان ثمة رأس وحش حجري شرير المظهر - عنزة جبلية ربما؟ - منتصبا على تلك الجزيرة والماء يتدفق منه. وكان يحيط بالبركة دغل من أقحوان شاستا، وأعشاب القسموس الوردية والأرجوانية، وأشجار صنوبر وسرو قزمة، وشجرة أخرى صغيرة ذات أوراق حمراء لامعة. وعندما دققت النظر أكثر، وجدت على الجزيرة جدرانا صخرية تكسوها الطحالب: أطلال برج صغير.
قال رايموند: «لقد استعانت بشاب للقيام بهذا العمل ... كانت تستلقي هناك وتراقبه. استغرق الأمر الصيف كله. فما كانت تفعل شيئا طيلة اليوم سوى الاستلقاء ومراقبته وهو يصنع حديقتها. ثم كان يدخل المنزل ويتناولان الشاي بينما يتحدثان عن الحديقة. ولعلمك لم تكتف مايا بتصميم تلك الحديقة وإنما تخيلتها. كانت تخبره بتصوراتها حيالها، ويتولى هو التنفيذ. أعني أنها لم تكن مجرد حديقة بالنسبة إليهما. كان يفترض أن تلك البركة هي بحيرة في بلد أطلقوا عليه اسما ما، وأحاطت بالبحيرة غابات وأراض سكنتها قبائل وفصائل مختلفة. هل تستطيعين تصور الأمر؟»
فردت جورجيا قائلة: «نعم.» «كانت مايا تمتلك خيالا خصبا. كان من الممكن أن تؤلف قصصا خيالية أو خيالا علميا. على أي حال، لقد كانت إنسانة مبدعة بلا مراء. ولكن لم يكن من الممكن إقناعها بتوظيف إبداعها جديا. كان يفترض أن تمثل تلك العنزة إحدى آلهة ذاك البلد، وكانت الجزيرة مثل مكان مقدس كان يضم معبدا من قبل. تستطيعين أن تري الأطلال. فقد ابتكرا ديانة لذاك البلد. آه، وكذلك أدبا وأشعارا وأساطير وتاريخ؛ كل شيء. وألفا أغنية كانت الملكة تغنيها. طبعا كان من المفترض أن تكون الأغنية مترجمة، عن تلك اللغة. وقد نسجوا قصة لذلك أيضا. كان ثمة ملكة محبوسة في تلك الأطلال، ذلك المعبد. لا أتذكر السبب. كانت سيضحى بها على الأرجح، باقتلاع قلبها من صدرها أو شيء مريع من هذا القبيل . كان الأمر برمته معقدا وميلودراميا. ولكن تخيلي مبلغ الجهد الذي بذل فيه، والإبداع. كان ذاك الشاب يمتهن الفن. أعتقد أنه كان يظن نفسه فنانا. لا أعلم كيف توصلت إليه، في حقيقة الأمر. كان لديها معارف. إخاله كان يتعيش من عمل الأشياء من ذلك القبيل. وقد أبلى بلاء حسنا. مد الأنابيب وكل شيء. كان يحضر كل يوم، وكل يوم كان يدخل المنزل عندما ينتهي من عمله ليتناول الشاي ويتحدث معها. حسنا، في رأيي، لم يتناولا الشاي فقط. حسب معلوماتي، لم يكونا يتناولان الشاي فحسب. كان يجلب مادة صغيرة، ثم يدخنان معا قليلا. قلت لمايا إنه حري بها أن تكتب عن ذلك كله.
ولكن أتعلمين، بمجرد ما فرغ من عمله، مضى في سبيله. مضى. لا أعلم، ربما حصل على وظيفة أخرى. لم يبد لي أنه يحق لي أن أسأل. إلا أنني كنت أظن أنه حتى إن كان قد حصل على وظيفة فكان بإمكانه أن يعودها من حين لآخر. أو إن كان قد ذهب في رحلة إلى مكان ما، كان يستطيع أن يراسلها. ظننت أنه كان بإمكانه ذلك. كنت أتوقع منه ذلك على الأقل. لم يكن الأمر ليضيره شيئا، من وجهة نظري. لكان لطفا منه أن يجعلها تظن أن الأمر لم يكن مجرد ... مجرد صداقة مستأجرة طوال ذلك الوقت.»
ثم ابتسم رايموند، ابتسامة لم يستطع كبحها، أو ربما لا يدري بها.
وقال: «لا بد أنها توصلت إلى تلك النتيجة ... بعد أن قضيا كل هذا الوقت اللطيف وتصورا الأشياء معا وحث كل واحد منهما الآخر. لا بد أنها أصيبت بخيبة أمل. هذا أكيد. حتى في تلك المرحلة، كان من شأن أمر كهذا أن يعني لها الكثير. أنا وأنت نعرف ذلك يا جورجيا. كان الأمر سيصنع فارقا. كان بإمكانه أن يعاملها بطريقة أكثر عطفا، ولم يكن هذا ليدوم لفترة طويلة جدا.» •••
ماتت مايا السنة الماضية - في الخريف - لكن جورجيا لم تعرف بالأمر حتى عيد الميلاد. عرفت الأخبار من خطاب هيلدا في عيد الميلاد. هيلدا - التي كانت متزوجة من هارفي - متزوجة الآن من طبيب آخر، وتعيش في مدينة داخلية بكولومبيا البريطانية. قبل سنوات قليلة تقابلت هي وجورجيا - كلاهما في زيارة - مصادفة في أحد شوراع فانكوفر، وظلتا تتبادلان الخطابات من حين لآخر منذئذ.
كتبت هيلدا قائلة: «لا شك أنك كنت تعرفين مايا أكثر مما كنت أعرفها بكثير ... لكني دهشت من كثرة تفكيري فيها. كنت أفكر فينا جميعا - حقيقة - كيف كنا، منذ خمسة عشر عاما أو نحو ذلك، وأعتقد أننا كنا نشبه إلى حد ما الأطفال في ضعفهم عند تعاطيهم لعقارات الهلوسة وما شابه ذلك، وهو ما كان من المفترض أن يخلف فيهم ندوبا مدى الحياة. وألا نعاني جميعا من الندوب، فجميعنا دمرنا زيجاتنا ومضينا بحثا عن المغامرة؟ طبعا لم تدمر مايا زواجها، فقد ظلت هي دونا عن الجميع حيث كانت؛ لذا أعتقد أن كلامي ليس فيه كثير من المنطق. ولكن مايا بدت أكثرنا ضعفا بالنسبة إلي، فكم كانت موهوبة وهشة. أتذكر كم كان يصعب علي النظر إلى ذلك العرق في صدغها حيث كانت تفرق شعرها.»
فكرت جورجيا كم كان ذلك خطابا غريبا كتبته هيلدا. تذكرت ثوب هيلدا الفاتح الغالي ذا الياقة والمنقوش بالمربعات، وشعرها الأشقر القصير الأنيق، وحسن خلقها. هل كانت هيلدا ترى حقا أنها دمرت زواجها وذهبت تبحث عن المغامرة تحت تأثير المخدرات وموسيقى الروك والأزياء المخالفة للمألوف؟ كان انطباع جورجيا هو أن هيلدا كانت قد تركت هارفي، بمجرد اكتشافها صنائعه - أو بعض صنائعه - ثم ذهبت إلى مدينة داخلية حيث تصرفت بحكمة فعادت إلى مهنتها القديمة في التمريض، وبعد برهة تزوجت طبيبا آخر، موضع ثقة أكثر فيما يفترض. لم تفكر مايا وجورجيا قط في هيلدا كامرأة مثلهما. لم تكن هيلدا ومايا مقربتين، وكان ذلك لسبب قوي. إلا أن هيلدا ظلت تتتبع أخبارها، وعرفت بموت مايا، وكتبت هذه الكلمات السخية. لولا هيلدا، ما كانت جورجيا عرفت. كانت ستظل تظن أنها ربما تكتب إلى مايا ذات يوم، وربما أمكن رأب الصدع الذي أصاب صداقتهما يوما ما. •••
عندما ذهب بن وجورجيا إلى منزل مايا للمرة الأولى، كان هارفي وهيلدا هناك. كانت مايا قد أعدت حفلة عشاء لستتهم فقط. كانت جورجيا وبن قد انتقلا مؤخرا إلى فيكتوريا، فهاتف بن رايموند، الذي كان صديقا له في المدرسة. لم يكن بن قد التقى مايا من قبل قط، لكنه أخبر جورجيا أنه سمع أنها حاذقة جدا، وغريبة الطباع. كان الناس يقولون إنها غريبة الأطوار. لكنها كانت ثرية - ورثت ثروة - لذا استطاعت الإفلات بغرابة طبعها.
أبدت جورجيا امتعاضها عند سماعها نبأ ثراء مايا، ومرة أخرى عند رؤية المنزل؛ المنزل الحجري المهيب ذي المروج المدرجة والشجيرات المشذبة والممر الدائري.
كانت جورجيا وبن قد نشآ في المدينة الصغيرة نفسها في أونتاريو، في كنف عائلتين متشابهتين. وكان من حسن حظ بن أن أرسل إلى مدرسة خاصة جيدة؛ وذلك بتمويل عمة كبرى. حتى في فترة مراهقة جورجيا - عندما كانت تفتخر بأنها فتاة بن وتفتخر أكثر مما تحب أن يعرف بدعوتها إلى حفلات الرقص في تلك المدرسة - كانت تزدري الفتيات اللاتي تقابلهن هناك. كانت ترى أن الفتيات الثريات مدللات وحمقاوات. كانت تنعتهم بالبلاهة. وكانت ترى نفسها فتاة - ثم امرأة - لم ترق لها الفتيات والنساء الأخريات كثيرا. كانت تطلق على زوجات ضباط البحرية الأخريات «سيدات البحرية». كان بن يتسلى أحيانا بآرائها في الأشخاص وفي أحيان أخرى كان يسأل إذا ما كان لا بد من انتقادها الآخرين هكذا.
قال إنه يخالجه شعور بأنها ستحب مايا. لم يجعلها ذلك تميل إلى مايا. ولكن اتضح أن بن كان على صواب. كان سعيدا جدا آنذاك، لتقديمه شخصا مثل مايا إلى جورجيا، وإيجاده زوجين يستطيع هو وجورجيا التواصل معهما كأصدقاء عن طيب خاطر. وقال: «من المفيد أن يكون لدينا أصدقاء من خارج البحرية ... زوجة تقضين معها بعض الوقت، لا تكون تقليدية. لا يمكنك أن تقولي إن مايا تقليدية.»
وفعلا لم يكن بإمكان جورجيا أن تقول ذلك. كان المنزل مثلما توقعته إلى حد ما - سرعان ما عرفت أن مايا كانت تطلق عليه «قلعة الحي الأليفة» - لكن مايا أصابتها بالدهشة. فقد فتحت الباب بنفسها، وكانت حافية القدمين، ترتدي رداء طويلا لا شكل له من قماش بني خشن بدا كالخيش. كان شعرها طويلا مفرودا، مفروقا عاليا عند إحد الصدغين. كان شعرها يكاد يكون بنفس اللون البني الباهت مثل الرداء. لم تكن تضع أحمر شفاه، وكانت بشرتها خشنة وشاحبة، عليها آثار مثل آثار طائر خفيفة في تجويفي وجنتيها. كان شحوبها ذاك والخشونة البادية على مظهرها تأكيدا قويا على سموها. كم بدت لامبالية - متغطرسة ولامبالية - بقدميها الحافيتين، وأظافر قدميها غير المطلية، وردائها الغريب. كان الشيء الوحيد الذي فعلته بوجهها هو أنها طلت حاجبيها باللون الأزرق، بل انتزعت شعر حاجبيها كله - في حقيقة الأمر- وطلت بشرتها موضعهما باللون الأزرق. ولم يكن خطا مقوسا، بل مجرد مسحة صغيرة من اللون الأزرق فوق كل عين، مثل عرق متورم.
وجدت جورجيا - التي كان شعرها الداكن ممشطا، وعيناها مرسومتين حسب النمط السائد تلك الأيام، ونهداها بارزين بأناقة - كل ذلك مربكا، ورائعا.
كان هارفي هو الشخص الآخر هناك الذي وجدت جورجيا مظهره مثيرا للإعجاب. فقد كان رجلا قصير القامة عريض المنكبين، بطنه بارز قليلا، وعيناه زرقاوان منتفختان، وارتسم على وجهه تعبير مشاكس. كان من لانكشير. كان شعره الرمادي خفيفا أعلى رأسه، لكنه طويل على الجانبين، وممشطا فوق أذنيه بطريقة جعلته يبدو أقرب إلى فنان من جراح. وفيما بعد قالت جورجيا لبن: «لا يبدو لي نظيفا بما يكفي ليكون جراحا. ألا تظن أنه يبدو أشبه بالمثالين؟ بأظافره المتسخة بالرمال؟ أظنه يسيء معاملة النساء.» كانت تتذكر كيف كان ينظر إلى ثدييها. وقالت: «إنه ليس مثل رايموند ... فرايموند يعشق مايا. وهو فائق النظافة.» (بعد بضعة أسابيع قالت مايا لجورجيا - بدقة متناهية - إن رايموند يمتلك مظهرا تولع به الأمهات جميعا.)
لم يكن الطعام الذي قدمته مايا أفضل مما قد يتوقعه المرء في عشاء عائلي، وكانت الشوكات الفضية الثقيلة قد فقدت لمعانها بعض الشيء. ولكن رايموند صب خمرا طيبا كان يحب الحديث عنه. ولكنه لم يفلح في مقاطعة هارفي، الذي راح يحكي قصصا مخزية تنم عن الطيش تدور أحداثها في المستشفى، وتحدث ببذاءة خالية من المشاعر عن مجامعة الموتى والاستمناء. ولاحقا، أعدت القهوة وقدمت - في غرفة المعيشة - ببعض الرسمية. جذب رايموند انتباه الجميع عند طحنه حبات القهوة في أسطوانة تركية. كان يتحدث عن أهمية الزيوت العطرية. فتطلع إليه هارفي - الذي قوطع أثناء رواية إحدى طرائفه - وقد علت شفتيه ابتسامة قاسية، بينما تطلعت هيلدا إلى رايموند بانتباه مهذب متأن. وكانت مايا هي من منحت زوجها تشجيعا كبيرا؛ إذ ظلت إلى جواره كأنها مساعدته، وقدمت إليه العون في وداعة ورشاقة. قدمت القهوة في أقداح تركية صغيرة جميلة، كانت قد اشترتها هي ورايموند من متجر في سان فرانسيسكو، مع مطحنة القهوة. واستمعت في أناة إلى حديث رايموند عن المتجر، كما لو كانت تتذكر متعا أخرى حدثت أثناء العطلة.
كان هارفي وهيلدا هما أول من غادرا. تعلقت مايا بكتف رايموند، مودعة إياهما. ولكنها ابتعدت عنه بمجرد ذهابهما، منحية كياستها الناعمة وسلوك الزوجة جانبا. تمددت بعفوية في وضع غير مريح على الأريكة وقالت: «لا تذهبا الآن. لا أحد يجد فرصة للحديث في وجود هارفي. ليس أمام المرء سوى أن يتحدث بعد رحيله.»
فهمت جورجيا الأمر. فقد رأت أن مايا كانت تأمل في ألا تترك وحدها مع الزوج الذي أثارته - لسبب أو لآخر - باهتمامها الاستعراضي به. رأت أن مايا كان يغلب عليها طابع الحزن، وكان يملؤها توجس مألوف عند نهاية حفل العشاء. أما رايموند فكان سعيدا. جلس في نهاية الأريكة، رافعا قدمي مايا المتثاقلتين ليجلس. وفرك إحدى قدميها بين كفيه.
ثم قال رايموند: «يا لها من همجية ... هذه امرأة ترفض أن ترتدي الأحذية!»
قالت مايا قافزة من مكانها: «براندي! ... كنت أعلم أن ثمة شيئا آخر يفعله الناس في حفلات العشاء. إنهم يحتسون البراندي!»
قالت جورجيا لبن، بمجرد أن فرغت من تعليقها على عشق رايموند لمايا ونظافته البالغة: «إنه يحبها لكنها لا تحبه.» لكن بن - الذي ربما لم يكن ينصت إليها جيدا - ظن أنها تتحدث عن هارفي وهيلدا .
وأضافت: «لا، لا، لا. أظن الأمر عكس ذلك تماما في هذه الحالة. من الصعوبة بمكان أن يعرف المرء ذلك مع الإنجليز. كانت مايا تمثل أمامهما. وأظن أن لدي فكرة عن السبب.»
وقال بن: «لديك فكرة عن كل شيء.» •••
صارت جورجيا ومايا صديقتين على صعيدين؛ على الصعيد الأول كانتا صديقتين بصفتهما زوجتين، وعلى الصعيد الثاني كانتا صديقتين بشخصيهما. فعلى الصعيد الأول: كانتا تتناولان العشاء كل في منزل الأخرى. وكانتا تستمعان إلى حديث زوجيهما عن أيام المدرسة، وعن النكات والشجارات، والمؤامرات والكوارث، والمستقوين والمستضعفين، وعن زملائهم أو أساتذتهم المرعبين أو المثيرين للشفقة، وعن المكافآت والمواقف المخزية. سألتهما مايا عما إذا كانا متأكدين من أنهما لم يقرآ كل ذلك في كتاب. وقالت: «تبدو حكاياتكم كالقصص تماما ... قصص يرويها صبية عن المدرسة.»
فقالا إن تجاربهما هي كل ما تدور الكتب حوله. وعندما كانا يكتفيان من الحديث عن المدرسة، كانا ينتقلان إلى الحديث عن الأفلام والسياسة والشخصيات العامة والأماكن التي كانا قد سافرا إليها أو كانا يرغبان في السفر إليها. وحينها كان يصير باستطاعة مايا وجورجيا أن تنضما إليها في الحديث. لم يكن بن ورايموند يؤمنان بإقصاء النساء من الحديث. فقد كانا يؤمنان بأن النساء ذكاؤهن كالرجال تماما.
على الصعيد الثاني، كانت جورجيا ومايا تتحادثان في مطبخيهما، وهما تتناولان القهوة، أو كانتا تتناولان الغذاء في وسط المدينة. كان ثمة مكانان - مكانان فقط - تحب مايا تناول الغذاء فيهما. كان أحدهما حانة «موجولز كورت»؛ وهي حانة فخمة سيئة السمعة، في فندق كبير كئيب من فنادق السكك الحديدية. كان بالحانة ستائر مصنوعة من مخمل أكلته العثة بلون القرع العسلي، ونبات السرخس المجفف، وكان الندل يعتمرون العمائم. كانت مايا دائما ما ترتدي ثيابا خاصة عند الذهاب إلى هناك، فترتدي أثوابا حريرية متدلية وقفازات بيضاء غير نظيفة تماما وقبعات عجيبة كانت تجدها في متاجر البضائع المستعملة. كانت تتظاهر بأنها أرملة أدت الخدمة العامة مع زوجها في مواقع خارجية عدة من الإمبراطورية. كانت تتحدث بنبرات رخيمة إلى الندل الشباب متجهمي الوجه ، سائلة أحدهم: «لطفا، هل يمكنك أن ...» ثم تخبرهم أنهم كانوا في غاية اللطف.
اخترعت هي وجورجيا تاريخ أرملة الإمبراطورية هذه، وأضيفت جورجيا إلى القصة باعتبارها مرافقة أجيرة نكدة، ذات نزعة اشتراكية سرية، وتدعى الآنسة إيمي جوكس. أطلقتا على الأرملة اسم السيدة أليجرا فوربس بليا. وأطلقتا على زوجها اسم نايجل فوربس بليا، وأحيانا سير نايجل. وقد قضيتا معظم فترة ما بعد الظهيرة في إحدى الأيام الممطرة في موجولز كورت تخترعان مآسي شهر العسل الذي أمضاه آل فوربس بليا، في فندق رطب في ويلز.
كان المكان الآخر الذي يروق لمايا مطعما على طراز الهيبيز في شارع بلانشارد؛ حيث يجلس المرء على وسائد مخملية قذرة مربوطة إلى أعلى جذوع أشجار مقطوعة، ويأكل أرزا بنيا مع خضراوات لزجة، ويشرب عصير تفاح مخمر الغائم. (في موجولز كورت، لم تشرب مايا وجورجيا سوى الجين.) عندما كانت تتناولان الغذاء في مطعم الهيبيز، كانتا ترتديان فساتين طويلة رخيصة الثمن مصنوعة من قطن هندي جميل وتتظاهران بأنهما لاجئتان من أحد الكميونات؛ حيث كانتا رفيقتين أو خليلتين لدى مغن شعبي يدعى بيل بونز. ألفتا العديد من الأغاني لبيل بونز، كلها أغان خفيفة ورقيقة وبريئة كانت تتعارض أيما تعارض مع أساليبه الجشعة الماجنة. فقد كان لدى بيل بونز عادات شخصية غريبة جدا.
وعندما لم تكونا تلعبان مثل هذه الألعاب، كانتا تتحدثان باندفاع عن حياتيهما، وطفولتيهما، ومشاكلهما، وزوجيهما.
قالت مايا: «كان ذلك مكانا رهيبا ... تلك المدرسة.» ووافقتها جورجيا الرأي.
ثم أردفت مايا: «كانا صبيين فقيرين في مدرسة للأطفال الأثرياء ... لذا كان عليهما أن يبذلا جهدا كبيرا. كان عليهما أن يكونا مصدر فخر لعائلتيهما.»
لم تكن جورجيا تظن أن عائلة بن فقيرة، لكنها كانت تعرف أن ثمة طرقا مختلفة للنظر إلى تلك الأمور.
قالت مايا إنهما متى كان لديهما أشخاص مدعوون على العشاء أو لقضاء الأمسية، كان رايموند يتناول قبلا جميع التسجيلات الموسيقية التي يراها ملائمة ويضعها في ترتيب مناسب. وأضافت: «إخاله سيناول الضيوف موضوعات الحديث على الباب يوما ما.»
كشفت جورجيا أن بن يكتب خطابا أسبوعيا إلى العمة الكبرى التي أنفقت على دراسته.
وسألتها مايا: «هل يكتب خطابات لطيفة؟» «نعم، قطعا. لطيفة جدا.»
نظرتا كل إلى الأخرى في كآبة ثم ضحكتا. وبعدها صرحت كل منهما - بل أقرت - بما يثقل كاهلها. كان ذلك براءة هذين الزوجين، براءتهما الشديدة المهذبة الحازمة القانعة. هذا شيء مضجر وغير مشجع في نهاية المطاف، ويجعل الحميمية مسألة صعبة.
سألت جورجيا: «ولكن هل تشعرين بالذنب لحديثك على هذا النحو؟» «بالطبع.» قالتها مايا مبتسمة وكاشفة عن أسنانها الرائعة الكبيرة؛ نتاج العناية المكلفة بأسنانها قبل أن تتولى هي مسئولية العناية بمظهرها. ثم أضافت: «لدي سبب آخر للشعور بالذنب ... لكنني لا أعرف ما إذا كنت أشعر بالذنب فعلا أم لا. أشعر ولا أشعر.»
فقالت جورجيا، التي لم تكن حتى تلك اللحظة تعرف عن يقين: «أعلم ذلك.»
قالت لها مايا: «أنت ذكية جدا ... أم ترى هل تصرفاتي يسهل قراءتها. ما رأيك فيه؟»
قالت جورجيا في رزانة: «متعب جدا.» كانت مسرورة بهذه الإجابة، التي لم تظهر كم كانت تشعر بالإطراء من جراء الكشف عن هذا السر، أو كم كانت تجد ذلك الحوار شيقا.
ردت مايا قائلة: «يبدو أنك تعين ما تقولين.» وحكت لها قصة الإجهاض. وأردفت: «سأنفصل عنه ... قريبا جدا.»
ولكنها ظلت تلتقي هارفي. كانت تروي - خلال الغذاء - بعض الحقائق المخيبة للآمال عنه، ثم تقول: إن عليها أن تذهب، لتلقاه في نزل على طريق جورج، أو في الكوخ الذي كان يملكه على بحيرة بروسبكت.
قالت: «لا بد أن أغتسل جيدا.»
كانت قد تركت رايموند مرة، ليس من أجل هارفي. كانت قد هربت مع عازف ما، أو إليه. عازف بيانو - اسكندنافي، يبدو ناعسا لكنه سيئ الطباع - عرفته أيام حياتها كسيدة مجتمع تحضر حفلات الأوركسترا السيمفونية الخيرية. راحت تتنقل معه من مكان إلى آخر لمدة خمسة أسابيع، حتى هجرها في أحد الفنادق في سينسيناتي. وبعدها أصيبت بآلام مبرحة في صدرها، تتلاءم مع قلب كسير. لم تكن تعاني في حقيقة الأمر إلا من نوبة ألم في المرارة . وأرسل في طلب رايموند، وجاء وأخرجها من المستشفى. ثم قضيا عطلة قصيرة في المكسيك قبل أن يعودا إلى المنزل.
قالت مايا: «كانت تلك هي النهاية بالنسبة إلي ... كان ذلك هو الحب الحقيقي اليائس. لن يأتيني ثانية أبدا.»
ماذا كان هارفي إذن؟ «مجرد مران.» •••
حصلت جورجيا على وظيفة بدوام جزئي في متجر لبيع الكتب، فكانت تعمل عدة أمسيات في الأسبوع. وذهب بن في رحلته البحرية السنوية. كان ذاك الصيف حارا ومشمسا أكثر من المعتاد بالنسبة إلى الساحل الغربي. فمشطت جورجيا شعرها وتوقفت عن استخدام مستحضرات التجميل واشترت فستانين قصيرين عاريي الظهر والكتفين. كانت إذ تجلس على مقعدها في مقدمة المتجر كاشفة عن كتفيها السمراوين العاريتين وساقيها السمراوين القويتين، تبدو مثل فتاة جامعية، حاذقة ولكنها مفعمة بالحيوية والآراء الجريئة. كان الأشخاص الذين يأتون إلى المتجر يروق لهم مظهر الفتاة - المرأة - من نوعية جورجيا. كانوا يحبون الحديث إليها. ومعظمهم كان يأتي بمفرده. لم يكونوا أشخاصا وحيدين بالضبط، ولكنهم كانوا وحيدين في توقهم إلى شخص يتحدثون إليه عن الكتب. فكانت جورجيا تضع قابس الغلاية خلف المكتب وتصنع أكوابا من شاي التوت البري. بعض العملاء المحظيين كانوا يجلبون أكوابهم. وكانت مايا تأتي لزيارتها، فتقبع في الخلفية، شاعرة بالاستمتاع والحسد.
قالت لجورجيا: «هل تعرفين ماذا لديك؟ ... لديك صالون! آه، لكم أود أن تكون لي وظيفة مثل هذه! أود حتى أن تكون لي وظيفة عادية في متجر عادي؛ حيث يقوم المرء بطي الأشياء وإيجاد أشياء للعملاء وإعطائهم الباقي ويقول لهم: شكرا جزيلا، وإن الطقس أكثر برودة في الخارج اليوم، وهل ستمطر؟»
فقالت لها جورجيا: «يمكنك الحصول على وظيفة كهذه.» «لا، لا يمكنني. لا أتميز بالانضباط اللازم. فقد نشأت نشأة بالغة السوء. لا أستطيع حتى تدبير شئون المنزل دون السيدة هانا والسيدة تشينج وسادي.»
كان هذا صحيحا. فقد كان لدى مايا خدم كثر - بالنسبة إلى امرأة عصرية - وإن كانوا يأتون في أوقات مختلفة ويقومون بأعمال منفصلة ولم يكونوا بأي حال من الأحوال مثل خدم البيوت من الطراز القديم . حتى الطعام الذي كان يقدم في حفلات العشاء - الذي بدا كأنه يظهر لمستها غير المبالية - كان يعده شخص آخر.
عادة، كانت مايا مشغولة في الأمسيات. وكانت جورجيا مسرورة بذلك؛ لأنها لم تكن ترغب في أن تأتي مايا إلى المتجر، وتسأل عن عناوين كتب عجيبة اخترعتها، جاعلة عمل جورجيا هناك نوعا من المزاح. فقد كانت جورجيا تأخذ المتجر على محمل الجد. كانت تكن له إعزازا حقيقيا وسريا لم تستطع تفسيره. كان متجرا طويلا غير فسيح ذا مدخل ضيق قديم الطراز محصورا بين نافذتي عرض مائلتان بزاوية. كانت جورجيا تستطيع أن ترى من على المقعد الذي كانت تجلس عليه خلف المكتب انعكاسات الضوء على إحدى النافذتين في النافذة الأخرى. لم يكن ذلك أحد الشوارع المعدة لاستقبال السائحين. كان شارعا عريضا يمتد من شرق المدينة إلى غربها، يغمره في ساعات المساء الأولى ضوء أصفر باهت، ضوء منعكس من على المباني الشاحبة المكسوة بالجص متوسطة الارتفاع، وواجهات المتاجر البسيطة، والأرصفة شبه الخالية. وجدت جورجيا في هذه البساطة نوعا من التحرر بعد الشوارع الظليلة الملتوية، والفناءات المليئة بالزهور، والنوافذ المحاطة بأفرع الكروم في أوك باي. هنا يمكن أن تنال الكتب احتراما لن تنال مثله أبدا في متجر أكثر تكلفا وجاذبية من متاجر الضواحي. كان المتجر مكونا من صفوف طويلة مستقيمة من الكتب ذات الأغلفة الورقية. (كانت معظم كتب دار بنجوين لا تزال في أغلفتها البرتقالية في أبيض أو الزرقاء في أبيض، دون أي تصميمات أو صور، فقط عناوين غير مزخرفة، وغير مفسرة.) كان المتجر بمنزلة طريق مستقيم يفضي إلى العطاء والوعود الممكنة. كانت بعض الكتب التي لم تقرأها جورجيا قط - وربما لن تقرأها أبدا - مهمة بالنسبة إليها؛ نظرا للجلال أو الغموض المحيط بعناوينها، على غرار: «في مدح الحماقة»، «جذور المصادفة»، «ازدهار نيو إنجلاند»، «الأفكار وسبل الكمال».
في بعض الأحيان، كانت تنهض وتصف الكتب بنظام أدق. كان الأدب القصصي يصف أبجديا - حسب اسم المؤلف - وهو ما كان ترتيبا منطقيا وإن كان غير مشوق. في المقابل، كانت كتب التاريخ والفلسفة وعلم النفس وكتب العلوم الأخرى تصف وفق قواعد معقدة وممتعة - تتعلق بالتسلسل الزمني والمحتوى - استوعبتها جورجيا في الحال بل وأضافت إليها. لم تكن في حاجة إلى قراءة جانب كبير من الكتاب لتتعرف على محتواه. كانت تستوعب فكرته بسهولة - على الفور تقريبا - كأنما من رائحته.
وفي بعض الأحيان، كان المتجر يخلو من الزبائن، فكانت تشعر بهدوء غامر. حتى الكتب لم تكن تعنيها آنذاك. كانت تجلس على المقعد وتراقب الشارع - في تأن وترقب، وحدها، هائمة في حالة من الاتزان الدقيق.
رأت انعكاس مايلز - انعكاسه وهو معتمر خوذة ويوقف دراجته البخارية إلى جانب الرصيف - قبل أن تراه. كانت تعتقد أنها لمحت الصورة الجانبية لوجهه الجسور، وشحوبه، شعره الأحمر المغبر (خلع خوذته ونفض شعره قبل الدخول إلى المتجر)، ومشيته السريعة المتسكعة الوقحة الغازية، حتى عبر الزجاج.
لم يكن غريبا أنه سرعان ما بدأ في التحدث إليها، شأنه شأن الآخرين. أخبرها أنه غواص، وأنه كان يبحث عن حطام السفن، والطائرات المفقودة، والجثث. وأخبرها أن زوجين ثريين في فيكتوريا استعانا بخدماته إذ كانا يخططان للقيام برحلة بحرية للبحث عن كنز، كانا يعدان لها آنذاك. كان اسماهما ووجهة البحث سرية. كانت عملية البحث عن الكنوز عملا مجنونا، وكان قد قام به من قبل. كان منزله في سياتل، حيث كانت زوجته وابنته الصغيرة.
كل ما قاله لها كان كذبا على الأرجح.
أراها صورا في كتب - صورا فوتوغرافية ورسومات، لكائنات رخوية، وقنديل البحر، وحيوان رجل الحرب البرتغالي، وطحالب السرجس، والسمكة الطائرة الكاريبية، وحزام فينوس. وأخبرها أي الصور دقيق، وأيها مزيف. ثم غادر دون أن يعيرها أي اهتمام، بل إنه انسل من المتجر بينما كانت منشغلة مع أحد العملاء، دون بادرة وداع. إلا أنه جاء في أمسية أخرى، وحكى لها عن رجل غارق محشور في قمرة أحد القوارب، ينظر من النافذة المبللة في اهتمام. من خلال انتباهه لها وتجنبه إياها، ومحاداثاته غير الشخصية عن كثب، ومن خلال نظراته الغافلة المتجولة المتجهمة المطولة من عينيه الرماديتين، سرعان ما جعل جورجيا في حالة مضطربة وإن لم تكن مزعجة. لم يظهر ليلتين متتاليتين، ثم جاء وسألها - فجأة - إذا كانت ترغب في أن يوصلها إلى المنزل على دراجته البخارية.
وافقت جورجيا، فهي لم تكن قد ركبت دراجة بخارية في حياتها. كانت سيارتها في ساحة الانتظار، وكانت تعرف ما هو مقدر أن يحدث.
أخبرته أين تعيش. قالت: «على بعد بضعة مربعات سكنية من الشاطئ.» «لنذهب إلى الشاطئ إذن. لنذهب ونجلس على جذوع الأشجار.»
كان ذلك هو ما فعلاه. جلسا لفترة على جذوع الأشجار. ثم تضاجعا، على الرغم من أن الشاطئ لم يكن مظلما تماما أو خاليا تماما، مستترين بأجمات مزهرة لم تكن ملاذا مثاليا. ثم سارت جورجيا إلى المنزل شاعرة بأنها امرأة أكثر قوة وخفة - غير واقعة في الحب على الإطلاق - وأنها أثيرة لدى الكون.
قالت لجليسة الأطفال - وهي جدة كانت تسكن في الشارع الذي تعيش فيه: «تعطلت سيارتي ... وسرت الطريق كله إلى المنزل. كانت التمشية رائعة، رائعة حقا. استمتعت بها كثيرا.»
كان شعرها أشعث، وشفتاها متورمتين، وملابسها مليئة بالرمال. •••
امتلأت حياتها بمثل هذه الأكاذيب. كانت توقف سيارتها إلى جانب شواطئ قصية، في طرق الغابات القريبة جدا من المدينة، أو على الطرق الخلفية الملتوية في شبه جزيرة سانيش. كانت توجد خريطة فوق خريطة المدينة التي كانت تضعها في رأسها حتى الآن - بطرقها المؤدية إلى المتاجر والعمل ومنازل الأصدقاء - خريطة أخرى بطرق ملتفة تسلكها في خوف (لا خزي) وإثارة، خريطة فيها مآوي واهية، وأماكن اختباء مؤقتة؛ حيث كانت هي ومايلز يتضاجعان، وكان ذلك في كثير من الأحيان على مقربة من حركة المرور أو من جماعة من المتنزهين سيرا على الأقدام أو من رحلة عائلية. وصارت جورجيا نفسها - التي كانت تراقب أطفالها في الميدان، أو تتحسس الشكل الرائع لليمونة في يدها في السوبر ماركت - تحوي امرأة أخرى، كانت قبل ساعات قليلة تتأوه وتتقلب على نباتات السرخس أو على الرمال أو على الأرض العارية، أو - أثناء العواصف المطرية - في سيارتها؛ امرأة طار صوابها بعنف وروعة وانجرفت بعيدا، ثم لملمت شتات نفسها وعادت إلى بيتها مجددا. هل كان هذا أمرا مالوفا؟ ألقت جورجيا نظرة على النساء الأخريات في السوبر ماركت. كانت تبحث عن علامات؛ كالنظرات الحالمة أو التباهي أو لمسة إثارة في طريقة ملبس امرأة، أو إيقاع خاص في حركاتها.
سألت مايا: كم مكان تقابلتما فيه؟
قالت مايا، «الله أعلم ... أجري استطلاعا.»
لعل المتاعب بدأت ما إن صرح كل منهما بحبه للآخر. لماذا فعلا ذلك، لماذا حددا أيما كان ما شعرا به أو ضخماه أو طمساه؟ بدا كما لو كان الأمر مطلوبا، هذا كان كل ما في الأمر، مثلما قد تكون التغييرات والتنويعات والتطويرات في عملية الجماع نفسها مطلوبة. كان سبيلا إلى المضي قدما. فصرحا بحبهما، ولم تستطع جورجيا النوم تلك الليلة. لم تأسف على ما قيل أو تظنه كذبا، وإن كانت تعلم أن الأمر عبثي. فكرت في الطريقة التي سعى بها مايلز إلى جعلها تنظر إلى عينيه أثناء المضاجعة - وهو شيء لم يفعله بن بالتأكيد - وفكرت كيف كانت عيناه - اللتان كانتا تبدوان براقتين متحديتين في البداية - تصيران غائمتين هادئتين جادتين. كانت تثق به في تلك الحالة - وفي تلك الحالة فقط. فكرت أنها يقذف بها في بحر رمادي عميق مهلك رائع؛ بحر الحب.
قالت لمايا اليوم التالي، وهي تحتسي القهوة في مطبخ الأخيرة: «لم أكن أعلم أن ذلك سيحدث.» كان الجو دافئا ذاك اليوم، ولكنها كانت ترتدي سترة حتى تكور نفسها فيها. كانت تشعر بالاضطراب والخنوع.
ردت عليها مايا في شيء من الحدة قائلة: «كلا. وما زلت لا تعلمين ... هل قالها هو أيضا؟ هل قال إنه يحبك أيضا؟»
قالت جورجيا: نعم، نعم، بالطبع. «احذري إذن. احذري المرة القادمة. دائما ما تكون المرة التالية صعبة بعدما يتفوهون بتلك الكلمة.»
وقد كان. في المرة التالية ظهر الصدع. في البداية بدآ باختبار ذلك الصدع، ليعرفا إن كان موجودا فعلا. كان الأمر كأنه تسلية جديدة بالنسبة إليهم. ولكن الصدع راح يتسع أكثر فأكثر. وقبل التفوه بأي كلمة لتأكيد وجوده، شعرت جورجيا به يتسع، شعرت به يتسع وقد انتابها تبلد، على الرغم أنها كانت مستميتة في رغبتها في أن يلتئم. هل كان يشاركها شعورها؟ لم تكن تعلم. هو أيضا بدا باردا؛ شاحبا متأنيا، يلوح في عينيه بريق نية خبيثة جديدة.
كانا يجلسان في تهور، في وقت متأخر من الليل، في سيارة جورجيا بين الأحبة الآخرين في كلوفر بوينت.
كان مايلز قد قال: «الجميع في هذه السيارات يفعلون ما نفعله ... ألا تثيرك تلك الفكرة؟»
قال ذلك في اللحظة نفسها أثناء جماعهما الذي تحركت فيه مشاعرهما - في المرة السابقة - إلى الحديث عن الحب في انكسار وإخلاص.
وأردف: «ألا تفكرين في ذلك أبدا؟ ... أعني، نستطيع البدء ببن ولورا. ألا تتصورين كيف سيكون الأمر إذا اجتمعنا أنا وأنت وبن ولورا؟»
كانت لورا زوجته، الموجودة في بيته في سياتل. لم يكن قد تحدث عنها من قبل، اللهم إلا ليخبر جورجيا باسمها. كان قد تحدث عن بن، بطريقة لم تعجب جورجيا لكنها تغاضت عنها.
فكان يقول: «ماذا يظن بن أنك تفعلين للتسلية ... بينما يبحر هو في المحيط الواسع؟» «هل تقضين أنت وبن وقتا رائعا عندما يعود؟» «هل يروق لبن هذا الرداء مثلما يروق لي؟»
كان يتحدث كما لو كان هو وبن أصدقاء على نحو ما، أو على الأقل شركاء، أو مالكين مشتركين.
قال - في نبرة بدت لجورجيا ماجنة في إصرار مصطنع، شابها مكر وسخرية: «أنا وأنت وبن ولورا ... لننشر المرح.»
حاول ملاطفتها، متظاهرا بعدم ملاحظته كم المهانة والصدمة المريرة التي شعرت بها. وراح يصف لها العطاء الذي يمكن تبادله بين أربعتهم في الفراش. وسألها عما إذا كانت تشعر بالإثارة. فقالت: لا، شاعرة بالاشمئزاز. رد عليها قائلا: بل تشعرين بالإثارة، ولكنك لن تستسلمي لها. صار صوته ولمساته أكثر خشونة. ثم سأل في نعومة وازدراء - معتصرا ثدييها بقوة: ما الذي يميزك؟ جورجيا، لماذا تظنين أنك ملكة؟
قالت جورجيا محاولة إبعاد يديه: «أنت تتصرف بقسوة وتعلم أنك تتصرف بقسوة ... لماذا تتصرف على هذا النحو؟»
قال مايلز، في صوت ناعم يتصنع الرقة: «لست أتصرف بقسوة يا عزيزتي، وإنما أشعر بالإثارة. كل ما في الأمر أنني أشعر بالإثارة مجددا.» ثم بدأ في جذب جورجيا إليه، ويعدل وضعها ليلائمه. فطلبت منه أن يخرج من السيارة. «جبانة.» قالها بنفس الصوت الرقيق المصطنع المقيت، كما لو كان يلعق شيئا كريها في جنون. «يا لك من عاهرة صغيرة جبانة.»
قالت جورجيا إنها ستضغط على نفير السيارة إذا لم يتوقف، وإنها ستضغط على نفير السيارة إذا لم يخرج، وتصرخ طلبا للشرطة. ضغطت على نفير السيارة فعلا أثناء مقاومتها إياه. دفعها بعيدا، مطلقا سبة مرتعشة كانت تسمع مثلها منه في أوقات أخرى، عندما كان السباب يعني شيئا آخر. وخرج من السيارة.
لم تصدق أن مثل ذلك الحقد انبثق فجأة هكذا، وأن الأمور تغيرت على هذا النحو الصادم. عندما فكرت في ذلك لاحقا - بعدها بفترة طويلة جدا - ظنت أنه ربما تصرف إرضاء لضميره، حتى يميزها عن لورا، أو ربما ليمحو آثار ما كان قد قاله لها المرة السابقة، أو ليهينها لأنه كان خائفا. ربما كان ذلك ما حدث، أو ربما بدا الأمر كله بالنسبة إليه مجرد تطور إضافي - شيق حقيقة - في عملية الجماع.
كانت ترغب في الحديث عن الأمر مع مايا. إلا أن إمكانية الحديث عن أي شيء مع مايا كانت قد تلاشت. فقد انتهت صداقتهما فجأة. •••
في الليلة التالية لواقعة كلوفر بوينت، كانت جورجيا تجلس على أرضية غرفة المعيشة تلعب الورق مع أبنائها قبل خلودهم إلى النوم. دق جرس الهاتف، وكانت متأكدة أن ذلك مايلز. كانت تفكر طوال اليوم أنه سيهاتفها، فكرت أنه حري به أن يهاتفها ليبرر لها ما فعل، ليطلب عفوها، أو ليقول إنه كان يختبرها - بطريقة ما - أو أنه كان قد طار صوابه مؤقتا بسبب ظروف لا تعلم عنها شيئا. كانت تنتوي ألا تغفر له في الحال، لكنها لن تنهي المحادثة الهاتفية.
كانت مايا هي المتصلة.
قالت مايا: «احزري أي شيء غريب حدث؟ لقد هاتفني مايلز، مايلز الذي تعرفينه. لا بأس، رايموند ليس هنا. كيف عرف اسمي أصلا؟»
قالت جورجيا: «لا أدري.»
كانت قد أخبرته، بالطبع. كانت قد قدمت مايا الطائشة إليه كنوع من التسلية، أو في إشارة إلى أنها مبتدئة في تلك اللعبة؛ أي إنها جائزة طاهرة نسبيا.
أضافت مايا: «يقول إنه يريد أن يأتي ويتحدث إلي. ماذا تعتقدين؟ ماذا دهاه؟ هل تشاجرتما؟ ... أجل؟ آه، حسنا، ربما يريدني أن أقنعك بأن تتصالحي معه. لا يسعني سوى أن أقول إنه انتقى الليلة المناسبة؛ فرايموند في المستشفى. ثمة امرأة حالتها متعسرة على وشك الولادة، ربما يضطر إلى المكوث في المستشفى وإجراء جراحة قيصرية لها. سأهاتفك وأخبرك كيف سار الأمر. حسنا؟»
بعد مرور ساعتين - بعدما نام الأطفال بفترة طويلة - بدأت جورجيا تترقب مكالمة مايا. راحت تشاهد الأخبار على التليفزيون، حتى تصرف ذهنها عن ذلك الترقب. ورفعت سماعة الهاتف حتى تتأكد من أنه يعمل. أغلقت التليفزيون بعد مشاهدة الأخبار، ثم أعادت تشغيله. وبدأت في مشاهدة أحد الأفلام. شاهدت الفيلم الذي تخللته ثلاثة فواصل إعلانية دون الذهاب إلى المطبخ لمعرفة الساعة.
بعد نصف ساعة من منتصف الليل خرجت من المنزل وركبت سيارتها وقادتها إلى منزل مايا. لم يكن لديها أدنى فكرة عما ستفعله هناك. ولم تفعل شيئا تقريبا. قادت السيارة في الممر الدائري مطفئة مصابيح السيارة. كان المنزل مظلما. كانت تستطيع رؤية المرآب مفتوحا ولم تكن سيارة رايموند فيه. ولم تجد للدراجة البخارية أثرا.
كانت قد تركت أطفالها وحدهم، دون أن تغلق أقفال الأبواب. ولكنهم لم يصبهم شيء. لم يستيقظوا ويكتشفوا هجرها لهم. ولم يفاجئها لص أو متسلل، أو قاتل عند عودتها. كان هذا حظا موفقا لم تفه قدره. كانت قد خرجت تاركة الباب مفتوحا والأنوار مضاءة، وعندما عادت لم تدرك مدى حماقتها، وإن أغلقت الباب وأطفأت بعض الأنوار واستلقت على أريكة غرفة المعيشة. لم تنم. ولم تحرك ساكنا، كما لو كانت أي حركة صغيرة ستزيد من شدة معاناتها، حتى رأت انبلاج ضوء الصباح وسمعت الطيور تستيقظ. كانت أطرافها قد تيبست. فنهضت واتجهت إلى الهاتف وتأكدت مرة أخرى أنه يعمل. ثم سارت متيبسة إلى المطبخ ووضعت قابس الغلاية ورددت لنفسها كلمات «شلل الفجيعة». «شلل الفجيعة». كيف فكرت هكذا؟ ذلك ما كانت ستشعر به - ما قد تصف به شعورها - إذا كان أحد أطفالها قد مات. فالفجيعة يشعر بها المرء عند حدوث خطب جلل، ومصاب فادح. كانت تعرف ذلك. ما كانت لتقايض ساعة واحدة من حياة أطفالها مقابل سماع الهاتف يدق في العاشرة مساء الليلة السابقة، وسماع مايا تقول: «جورجيا، إنه يائس، وآسف. إنه يحبك كثيرا.»
ولكن بدا أن مكالمة كهذه كانت ستمنحها سعادة لم تكن أي نظرة أو كلمة من أبنائها ستمنحها إياها، سعادة أكبر من التي يمكن أن يمنحها إياها أي شيء آخر ما بقي لها من عمر.
ثم هاتفت مايا قبل الساعة التاسعة. وبينما كانت تطلب الرقم، حدثت نفسها بأنه ثمة بعض الاحتمالات الأخرى التي يمكن أن تعقد آمالها عليها. فربما كان هاتف مايا خارج الخدمة مؤقتا، وربما كانت مايا مريضة الليلة الماضية، أو أن رايموند وقع له حادث سيارة في طريق عودته إلى المنزل من المستشفى.
تبخرت هذه الاحتمالات جميعها ما إن سمعت صوت مايا، الذي كان ناعسا (يبدو ناعسا) وناعما من أثر الخداع. «جورجيا؟ هل هذه جورجيا؟ آه، كنت أظن هذا رايموند. لقد اضطر إلى المكوث في المستشفى في حال اقتضى الأمر إجراء جراحة قيصرية لتلك المرأة البائسة المسكينة. كان سيهاتفني ...»
قالت جورجيا: «أخبرتني ذلك الليلة الماضية.» «كان سيهاتفني ... آه! جورجيا، كان من المفترض أن أهاتفك! تذكرت الآن. نعم. كان من المفترض أن أهاتفك، لكنني ظننت أن الوقت ربما كان متأخرا جدا. ظننت أن الهاتف ربما يوقظ الأطفال. فكرت أنه ربما يجدر بي أن أنتظر إلى الصباح!» «إلى أي مدى كان الوقت متأخرا؟» «ليس كثيرا. كان ذلك ما ظننته فحسب.» «ماذا حدث؟»
ضحكت مايا قائلة، مثل سيدة في مسرحية سخيفة: «ماذا تعنين ماذا حدث؟ جورجيا، هل أنت في حالة طبيعية؟» «ماذا حدث؟»
قالت مايا، وهي تئن متذمرة في رحابة صدر وإن بدا عليها بعض العصبية: «آه جورجيا.» وأردفت: «جورجيا، أنا آسفة. لم يكن الأمر ذا بال. لم يكن الأمر ذا بال على الإطلاق. لقد تصرفت بوضاعة، لكنني لم أقصد ذلك. عرضت عليه قدحا من الجعة. أليس هذا ما تفعلينه عندما يقود أحدهم دراجته البخارية إلى منزلك؟ تقدمين إليه قدحا من الجعة. لكنه قال متغطرسا إنه لا يشرب إلا الويسكي، وإنه لن يشرب الويسكي إلا إذا شربت معه. ظننته متعاليا إلى حد كبير، تصرفه كان متعاليا جدا. لكنني لم أفعل ذلك حقيقة إلا من أجلك يا جورجيا - كنت أريد أن أعرف ما يدور في خلده. لذا، أخبرته أن يضع الدراجة البخارية خلف المرآب، واصطحبته للجلوس في الحديقة الخلفية، حتى إذا ما سمعت صوت سيارة رايموند أستطيع تهريبه من الطريق الخلفي ويستطيع هو أن يسير بالدراجة البخارية في ذلك الزقاق. ليس في نيتي أن أبوح بشيء «جديد» لرايموند حاليا، أعني حتى لو كان شيئا بريئا، مثلما كان ذلك الأمر من البداية.»
وضعت جورجيا - التي كانت أسنانها تصطك بعضها ببعض - سماعة الهاتف. ولم تتحدث إلى مايا بعدها قط. طبعا ظهرت مايا على باب منزلها بعد فترة قصيرة، واضطرت جورجيا إلى السماح لها بالدخول؛ نظرا لأن الأطفال كانوا يلعبون في الفناء. جلست مايا في ندم إلى مائدة المطبخ وسألت عما إذا كان يمكنها التدخين. لم تجبها جورجيا. فقالت مايا إنها ستدخن على أي حال وإنها ترجو ألا تمانع جورجيا. تظاهرت جورجيا أن مايا غير موجودة. وبينما راحت مايا تدخن، أخذت جورجيا تنظف الموقد وتفكك قطعه ثم تعيد تركيبها. ومسحت الأسطح ولمعت الصنابير ورتبت درج أدوات المائدة. ثم مسحت الأرض حول أقدام مايا. كانت تعمل في سرعة وكد دون أن تنظر إلى مايا تقريبا. في البداية، لم تكن متأكدة مما إذا كان بإمكانها الاستمرار في ذلك. ولكن الأمر صار أيسر بعدها. فكلما ازدادت مايا جدية - أي كلما انتقلت من الأسف المتعقل، والاعتراف بالخطأ الممزوج بالسخرية، إلى ندم حقيقي يشوبه الخوف - ازدادت جورجيا عزما، وشعرت برضا قاس في قرارة نفسها. ولكنها حرصت على ألا تبدو عليها القسوة؛ إذ راحت تتحرك في المكان بخفة. وكانت تدندن تقريبا.
تناولت سكينا لإزالة الشحوم من بين قرميدات النضد المجاور إلى الموقد. كانت قد تركت الوضع يتدهور.
راحت مايا تدخن سيجارة تلو الأخرى، مطفئة إياها في أحد صحون الفناجين كانت قد تناولته بنفسها من خزانة الأطباق. وقالت: «جورجيا، هذا سخف شديد. أستطيع أن أؤكد لك أنه لا يستأهل كل هذا العناء. لم يكن في الأمر شيء. الأمر كله كان وليد الويسكي والظروف.»
وقالت أيضا: «أنا آسفة جدا. أنا في شدة الأسف. أعلم أنك لا تصدقينني. كيف أستطيع أن أشرح لك الأمر حتى تصدقيني؟»
وأضافت: «استمعي إلي يا جورجيا. أنت تهينينني. حسنا، حسنا. ربما أستحق ذلك. أستحق ذلك فعلا. لكن بعد أن تهينينني بما يكفي سنعود أصدقاء مجددا وسنضحك معا على تلك الواقعة. عندما نصير سيدات عجائز، أقسم أننا سنضحك عليها. لن نتمكن من تذكر اسمه. سنطلق عليه شيخ الدراجة البخارية. هذا ما سنفعله.»
ثم قالت: «ماذا تريدين مني أن أفعل يا جورجيا؟ هل تريدينني أن ألقي بنفسي على الأرض؟ أنا مستعدة لذلك. أحاول أن أمنع نفسي من الانتحاب، ولا أستطيع. أنا أنتحب يا جورجيا، ألا ترين؟»
كانت قد بدأت في البكاء. ارتدت جورجيا قفازيها المطاطيين وبدأت في تنظيف الفرن.
قالت مايا: «لقد ربحت ... سآخذ سجائري وأعود إلى المنزل.»
هاتفتها مايا بضع مرات، فقطعت جورجيا الاتصال. وهاتفها مايلز، فقطعت الاتصال أيضا. بدا لها صوته حذرا لكنه يشوبه الزهو. هاتفها مرة أخرى وكان صوته مرتعشا، كما لو كان يجاهد من أجل إظهار إخلاصه وخنوعه، وحبه الخالص. قطعت جورجيا الاتصال في الحال. وشعرت بالانتهاك والاضطراب.
كتبت مايا خطابا، قالت في جزء منه: «أعتقد أنك كنت تعرفين أن مايلز سيعود إلى سياتل وإلى شئون حياته هناك أيا كانت. يبدو أن مسألة الكنز باءت بالفشل. لكن لا بد أنك كنت تعلمين أنه سيعود حتما في وقت ما وكنت ستشعرين بضيق بالغ آنذاك، لكن ها أنت ذي قد تجاوزت هذا الشعور بالضيق البالغ . أليس هذا حسنا إذن؟ لا أقول هذا لألتمس العذر لنفسي. أعلم أنني كنت ضعيفة ووضيعة. لكن ألا يمكننا أن نرمي هذا وراء ظهرينا الآن؟»
واستطردت قائلة إنها ورايموند سيذهبان في عطلة خططا لها طويلا إلى اليونان وتركيا، وإنها تتمنى من كل قلبها أن تتلقى رسالة من جورجيا قبل أن ترحل. ولكنها إن لم تتلق أي رد منها ستحاول أن تتفهم ما تحاول جورجيا إخبارها إياه، ولن تزعجها بالكتابة إليها مجددا.
وقد وفت بوعدها؛ فلم تكتب مجددا. وأرسلت من تركيا قطعة جميلة من القماش المقلم كبيرة بما يكفي لصنع مفرش مائدة. فطوتها جورجيا ونحتها جانبا. تركتها ليعثر عليها بن عندما تركت المنزل، بعد عدة أشهر. •••
قال رايموند لجورجيا: «أنا سعيد ... أنا سعيد جدا؛ ذلك لأنني راض بأن أكون شخصا عاديا أعيش حياة عادية هادئة. لا أبحث عن اكتشاف كبير أو أحداث كبرى أو منقذ ينتمي إلى الجنس الآخر. لا أضرب في الأرض سعيا وراء جعل الأمور أكثر تشويقا. أستطيع أن أقول لك بمنتهى الصراحة: إنني أعتقد أن مايا ارتكبت خطأ. لا أعني أنها لم تكن موهوبة وذكية ومبدعة جدا وما إلى ذلك، لكنها كانت تبحث عن شيء ما، ربما كانت تبحث عن شيء غير موجود. وعادة ما كانت تزدري كثيرا من الأشياء التي كانت تمتلكها. هذا صحيح. لم تكن ترغب في الامتيازات التي كانت تتمتع بها. عندما كنا نسافر - على سبيل المثال - لم تكن ترغب في المكوث في فندق مريح. كلا، كانت تصر على الذهاب في رحلة طويلة شاقة تتضمن ركوب حمير تعسة بائسة وشرب اللبن الرائب على الإفطار. أظن أنني أبدو رجعيا للغاية. حسنا، أعتقد أنني رجعي. أنا رجعي. لو تعلمين كانت تمتلك مجموعة فضيات رائعة، فضيات بديعة، ورثتها عن عائلتها. لم تكن تعبأ بتلميعها أو جعل عاملة النظافة تلمعها. كانت تلفها جميعا بالبلاستيك وتخفيها. كانت تخفيها، كأنها شيء مخز. كيف تظنين أنها كانت تتصور نفسها؟ مثل شخص من الهيبي، ربما. روح حرة ما؟ لم تدرك حتى أن أموالها هي التي جعلتها في حالة اكتفاء ذاتي. أؤكد لك أن بعض الأرواح الحرة التي رأيتها تدخل وتخرج من هذا المنزل لم تكن ستمكث كثيرا إلى جوارها لولا أموالها.»
ثم أضاف: «بذلت كل ما في وسعي ... لم أهرع بالرحيل عنها، مثل أميرها الخيالي.» •••
شعرت جورجيا بلذة انتقامية من جراء قطع علاقتها بمايا. كانت مسرورة بضبطها نفسها في هذا الأمر؛ إذ أعارت مايا أذنا صماء. دهشت حين وجدت نفسها قادرة على التحكم في نفسها هكذا، وإيقاع عقاب شامل هكذا. لقد عاقبت مايا. وعاقبت مايلز - من خلال مايا - قدر ما استطاعت. كان ما يجب عليها عمله - وكانت تعرف ذلك - هو أن تجلد نفسها، وأن تقتلع من داخلها كل أثر لإدمان الملكات التي حازتها هاتان الأعجوبتان الذابلتان؛ مايلز ومايا. كان كلاهما مراوغا براقا، كذابا غاويا مخادعا. إلا أن المرء ليظن أنها بعد كل جلد الذات ذاك، كانت ستعود سريعا إلى زواجها وتغلق عليها أبوابها، وتقدر ما كانت تمتلكه مثلما لم تفعل من قبل.
ولكن ذلك لم يحدث؛ فقد انفصلت عن بن. خلال عام كانت قد رحلت. وكانت طريقتها في الانفصال عنه شاقة وقاسية. فقد أخبرته عن مايلز، وإن حفظت كبرياءها بعدم رواية ذلك الجزء المتعلق بمايلز ومايا. لم تحاول - ولم تشأ - أن تتجنب القسوة. في ليلة انتظارها اتصال مايا، تسللت إلى نفسها روح مضطربة تملؤها المرارة. رأت نفسها في صورة شخص محاط بزيف، ويعيش فيه. فنظرا لعدم ترددها في الخيانة، كان زواجها مزيفا؛ ونظرا لأنها أمعنت في الخروج عن إطاره - بسرعة كبيرة - كان مزيفا. كانت مرتعبة الآن من أن تعيش حياة مثل حياة مايا. وكانت مرتعبة بالقدر ذاته من أن تعيش حياة كحياتها قبل أن يحدث ما حدث. لم يكن بمقدروها إلا أن تدمر. كان ثمة طاقة باردة تعتمل في نفسها وتتفاقم لتدفعها إلى تدمير منزلها.
كانت قد ولجت مع بن - عندما كان كلاهما فتيا - عالما من الرسميات والأمان واللفتات والإخفاء، والتظاهر بالود. وأكثر من مجرد التظاهر بالود، افتعاله. (حدثت نفسها عندما رحلت أنه لم يعد بها حاجة إلى الافتعال.) كانت سعيدة هناك، من وقت إلى آخر. شعرت بتعكر المزاج والاضطراب والحيرة والسعادة. لكنها قالت لنفسها بعنف: أبدا، أبدا، أبدا، لم أكن سعيدة.
يقول الناس ذلك دوما.
يجري الناس تحولات هائلة، لكنها ليست التغييرات التي يتصورونها. •••
بالمثل، عرفت جورجيا أن ندمها حيال الطريقة التي غيرت بها حياتها ندم كاذب، ندم حقيقي وكاذب. وإذ استمعت إلى رايموند، علمت أنه أيا كان ما فعلته، فإنها لن تتوانى عن إعادة الكرة. لن تتوانى عن إعادة الكرة، بافتراض أنها ستظل الشخص الذي كانته.
لم يرد رايموند أن يدع جورجيا ترحل. لم يرد أن يفارقها. وعرض عليها أن يوصلها إلى وسط المدينة. فعندما ترحل، لن يستطيع الحديث عن مايا. لقد أخبرته آن على الأرجح أنها لا ترغب في سماع المزيد عن مايا.
قال لها عند عتبة الباب: «شكرا لمجيئك.» ثم أردف: «هل أنت متأكدة أنك لا ترغبين في أن أوصلك؟ وهل أنت متأكدة أنك لا تستطيعين المكوث حتى العشاء؟»
فذكرته جورجيا مجددا بالحافلة، والعبارة الأخيرة. وقالت: لا، لا، أرغب حقا في المشي. المسافة لا تزيد عن ميلين. وإن الساعات الأخيرة من فترة ما بعد الظهيرة جميلة جدا، وفيكتوريا جميلة. كنت قد نسيت.
فقال رايموند مرة أخرى: «شكرا لمجيئك.»
قالت جورجيا: «شكرا للمشروبات. وشكرا لك أيضا. أعتقد أننا لا نؤمن أبدا بأننا سنموت.»
فقال رايموند: «ما هذا الكلام؟!» «أعني أننا لا نتصرف أبدا - لا نتصرف أبدا كما لو كنا نؤمن بأننا سنموت.»
فاتسعت ابتسامة رايموند أكثر فأكثر ووضع يده على كتفها قائلا: «كيف ينبغي أن نتصرف إذن؟»
قالت جورجيا: «بطريقة مختلفة.» وشددت على ذاك القول في حماقة، ما يعني أن إجابتها غير مقنعة على الإطلاق بحيث لا يمكنها أن تقدمها إلا على سبيل الدعابة.
احتضنها رايموند، ثم قبلها قبلة طويلة باردة. تعلق بها في شهية شديدة لكنها غير مقنعة، محاكاة هزلية لعاطفة، لن يحاول أي منهما - بالتأكيد - أن يسبر غور نواياها.
لم تفكر في ذلك أثناء سيرها عائدة إلى المدينة عبر الشوارع المفروشة بالأوراق الصفراء، ذات الرائحة والصمت الخريفي، مرورا بكلوفر بوينت، والجرف المتوجة الأجمات المزهرة، والجبال الممتدة على الجهة المقابلة من المياه، جبال شبه الجزيرة الأولمبية، التي تجمعت مثل خلفية صارخة، أو قصاصة من أوراق ذات ألون قوس قزحية. لم تفكر في رايموند ولا مايلز ولا مايا ولا حتى بن.
فكرت في الجلوس في المتجر في الأمسيات، وفي ضوء الشارع والانعكاسات المركبة في النوافذ، وحالة الصفاء غير المتوقعة.
وقت الباروكة
عندما كانت أمها تحتضر في مستشفى والي، عادت أنيتا إلى ديارها للعناية بها، على الرغم من أنها لم تعد تمارس التمريض. أوقفتها ذات يوم في الممر امرأة قصيرة، عريضة المنكبين، عريضة العجز، شعرها مقصوص بني اللون مائل إلى الرمادي.
قالت هذه المرأة، في ضحكة بدت عدائية ومرتبكة في آن واحد: «سمعت أنك كنت هنا، يا أنيتا ... لا تبدين مندهشة هكذا!»
كانت هذه مارجوت، التي لم تكن أنيتا قد رأتها منذ أكثر من ثلاثين عاما.
قالت مارجوت: «أريدك أن تأتي إلى المنزل ... امنحي نفسك بعض الراحة. تعالي إلي في أقرب وقت.»
أخذت أنيتا يوما إجازة وذهبت لتراها. كانت مارجوت وزوجها قد بنيا منزلا جديدا يطل على الميناء، في بقعة لم تكن تضم قبل ذلك سوى مجموعة من الأجمات غير المشذبة وممرات سرية كان الأطفال يستخدمونها. كان المنزل مشيدا من الطوب الرمادي، وكان عريضا وخفيضا. لكنه كان مرتفعا بما يكفي، مثلما رأت أنيتا، مرتفعا بما يكفي لإثارة حفيظة البعض عبر الشارع، في المنازل الجميلة التي تبلغ من العمر مائة عام ذات المنظر الآسر.
قالت مارجوت: «اللعنة عليهم ... تقدموا بشكوى ضدنا. ذهبوا إلى لجنة التخطيط العمراني.»
لكن استطاع زوج مارجوت جعل لجنة التخطيط تحفظ الشكوى.
أبلى زوج مارجوت بلاء حسنا. كانت أنيتا قد سمعت بذلك. كان يمتلك أسطولا من الحافلات التي كانت تقل الأطفال إلى المدرسة وكبار السن ليروا عملية التزهير في نياجرا وأوراق الخريف في هاليبرتون. في بعض الأحيان، كانت الحافلات تقل أعضاء نوادي العزاب والذاهبين في عطلات في رحلات تنطوي على مغامرات أكثر، إلى ناشفيل أو لاس فيجاس.
أخذتها مارجوت في جولة في المنزل. كان المطبخ بلون اللوز - ارتكبت أنيتا خطأ، عندما أشارت إلى أنه لون كريمي - مزين بزخارف زرقاء مائلة للخضرة وصفراء بلون الزبد. قالت مارجوت: إن مظهر الخشب الطبيعي هذا لم يعد موضة. لم يدخلا إلى غرفة المعيشة، التي تحتوي على بساط وردي، ومقاعد حريرية مخططة، وكم كبير من الستائر المزخرفة لونها أخضر فاتح. أعجبتا بالمنزل منذ ولجتا من الباب؛ كل شيء رائع، ظليل، خال من أي عيب. كانت غرفة النوم الرئيسية وحمامها بألوان الأبيض والذهبي والأحمر الفاتح. كان هناك جاكوزي وساونا.
قالت مارجوت: «أنا نفسي لم أكن أفضل استخدام ألوان براقة كهذه، لكن لا يمكنك أن تطلبي من رجل أن ينام في مكان ألوانه باهتة.»
سألتها أنيتا إذا كانت قد فكرت من قبل في الحصول على وظيفة.
طوحت مارجوت رأسها إلى الوراء وعلا صوتها بالضحك: «هل تمزحين؟ على أي حال، لدي عمل. انتظري حتى تري الأفواه الكثيرة التي علي أن أطعمها. هذا فضلا عن أن هذا المنزل لا يدار وحده بقوة محرك سحرية.»
تناولت دورقا من شراب السانجريا من الثلاجة ووضعته على الصينية، مع كأسين من نفس الطاقم. «هل تحبين هذا؟ جيد. سنجلس ونحتسي الشراب معا في الشرفة.»
كانت مارجوت ترتدي سروالا قصيرا أخضر مزخرفا بالزهور وبلوزة تتماشى معه. كانت أرجلها سميكة وعليها آثار عروق منتفخة، كان ثمة تجويفات في لحم عضديها، وكان جلدها لونه بني، تتناثر عليه الشامات، خشنا من كثرة التعرض للشمس. سألت في مرح: «كيف لا تزالين نحيفة؟» مررت أصابعها في شعر أنيتا. «كيف لم يبيض شعرك؟ هل تستخدمين أي عقاقير؟ تبدين جميلة.» قالت هذا في غير حسد، كما لو كانت تتحدث إلى شخص أصغر منها، غير مجرب، غير متمرس.
كان يبدو أن كل عنايتها، كل خيلائها، انصب على المنزل. •••
نشأت مارجوت وأنيتا في مزارع في آشفيلد تاونشيب. كانت أنيتا تعيش في منزل من الطوب معرض باستمرار لتيارات الهواء، منزل لم يتجدد ورق الحائط أو مشمع الأرض فيه لمدة عشرين عاما، لكن كان هناك موقد في الردهة يمكن أن يضاء، وكانت تجلس هناك في سلام وراحة لأداء واجباتها المدرسية. كانت مارجوت تؤدي واجباتها المدرسية عادة جالسة في السرير الذي كانت تتشاركه مع أختين صغيرتين. كانت أنيتا نادرا ما تذهب إلى منزل مارجوت، بسبب الزحام والفوضى، والطبع المريع لوالد مارجوت. في إحدى المرات، ذهبت هناك عندما كانوا يستعدون لبيع البط في السوق. كان الريش متناثرا في كل مكان. كان ثمة ريش في دورق اللبن، وكانت ثمة رائحة مريعة لريش يحترق في الموقد. كانت الدماء موجودة في صورة برك صغيرة على مشمع المائدة، وكانت تتساقط على الأرض.
كانت مارجوت نادرا ما تذهب إلى بيت أنيتا؛ لأنها - دون أن تقول ذلك صراحة - لم تكن أم أنيتا توافق على صداقتهما. عندما كانت أم أنيتا تنظر إلى مارجوت، كانت تأتي إلى ذهنها أشياء سيئة؛ الدماء والريش، أنابيب الموقد التي تمر خلال سقف المطبخ، ووالد مارجوت وهو يصرخ قائلا إنه سيبرح مؤخرة أحدهم ضربا.
لكنهما كانتا تلتقيان كل صباح، تسيران في صعوبة في الثلوج التي كانت تهب من بحيرة هورون، أو تسيران بأكبر سرعة ممكنة في عالم ما قبل الفجر من الحقول البيضاء، المستنقعات الثلجية، السماء الوردية، والنجوم الآفلة والبرد القارس. بعيدا فيما وراء الثلوج على البحيرة، كانتا تريان شريطا من المياه، أزرق بلون الحبر أو بلون بيض طائر أبي الحناء الأمريكي، وذلك وفق شدة الضوء. كانتا تحملان إزاء صدريهما الكراسات، والكتب المدرسية، وكراسات الواجبات المنزلية. كانتا ترتديان الجونلات، والبلوزات، والسترات، التي كانتا قد اشترتاها بصعوبة بالغة (في حالة مارجوت، كان ذلك من خلال الحيلة والشجار)، وكانتا تحافظان على هندمة تلك الملابس ببذل جهد كبير. كانت تلك الملابس تحمل شعار مدرسة والي الثانوية، حيث كانتا تذهبان، وكانتا تحييان كل منهما الأخرى في ارتياح. كانتا تستيقظان في الظلام في غرفات باردة ذات نوافذ بيضتها الثلوج، وترتديان ملابس داخلية تحت ملابس النوم، بينما كان غطاء الموقد يصدر أصوات فرقعة في المطبخ، وكان منظم الموقد مغلقا، ويركض الأشقاء والشقيقات الأصغر سنا لارتداء ملابسهم في عجلة بالأسفل. كانت مارجوت وأمها تتبادلان الأدوار في الخروج إلى الإسطبل لحلب الأبقار وتقليب التبن. كان الأب يعاملهم معاملة قاسية، وكانت مارجوت تقول إنها كانت تعتقد أن أباها مريض إذا لم يضرب أحدهم قبل الإفطار. تعتبر أنيتا نفسها محظوظة؛ حيث إن لديها إخوة يتولون أعمال الإسطبل ووالدا لا يضرب عادة أحدا. لكنها كانت لا تزال تشعر - في صباح تلك الأيام - كما لو كانت تخوض في مياه داكنة عميقة.
كانتا تقولان إحداهما للأخرى، وهما تتصارعان في اتجاه المتجر على الطريق السريع، والذي هو عبارة عن ملاذ متهالك: «أتفكرين في تناول بعض القهوة؟» كان الشاي القوي، الأسود المنقوع على الطريقة الريفية، هو المشروب المفضل في كلا المنزلين.
كانت تيريسا جولت تفتح المتجر قبل الساعة الثامنة، حتى تدخلهما. عند التصاقهما بالباب، كانتا تريان أضواء الفلوريسنت نحوهما، الأنوار الزرقاء تندفع من أطراف الصمامات المفرغة، ترتعش، ثم تتوقف، ثم تشع بضوء أبيض. كانت تيريسا تأتي باسمة كمضيفة، تحوم حول ماكينة الدفع النقدي، مرتدية حلة حمراء مبطنة من الستان، ضيقة عند الرقبة، كما لو كان ذلك سيحميها من الهواء المتجمد عندما فتحت الباب. كان حاجباها سوداوين على هيئة جناحين مخطوطين بالقلم، وكانت تستخدم قلما آخر - أحمر - لرسم فمها. كانت الانحناءة في الشفة العليا تبدو وكأنها مقصوصة بمقص.
يا لها من راحة، ويا له من حبور، حينئذ، أن يدخلا هناك، إلى الضوء، يشما رائحة السخان الزيتي ويضعا الكتب على الطاولة ويخرجا أيديهما من القفازات ويحكانهما من الألم. ثم، كانتا تنحنيان وتحكان أرجلهما؛ الجزء العاري الصغير منه الذي كان نملا ويكاد يتجمد. لم تكونا ترتديان جوارب طويلة؛ لأن ذلك لم يكن موضة في تلك الأيام. كانتا ترتديان جوارب قصيرة تغطي الكاحل فقط داخل أحذيتهما طويلة العنق (كانتا تتركان أحذيتهما الخفيضة في المدرسة). كانت جونلاتهما طويلة - كان ذلك شتاء 1948-1949 - لكن كان هناك جزء من الأرجل غير مغطى. كانت بعض الفتيات الريفيات يرتدين الجوارب الطويلة تحت جواربهن القصيرة. كانت بعضهن يرتدين بنطال تزلج مرفوعا في غير أناقة تحت جونلاتهن. لم تكن مارجوت أو أنيتا لتفعلا ذلك قط. كانتا ستخاطران بالتجمد بدلا من السخرية منهما لارتداء مثل هذه البدع الريفية.
كانت تيريسا تحضر لهما أقداحا من القهوة، قهوة سوداء ساخنة، مسكرة جدا، وقوية. كانت تتعجب من شجاعتهما. كانت تلمس بأصبعها خدودهما أو أيديهما وتطلق صرخة وترتعد. «مثل الثلج! مثل الثلج!» بالنسبة إليها، كان من المثير للدهشة أن يخرج أحد في الشتاء الكندي، فضلا عن السير ميلا كاملا في شتاء كهذا. كان ما تفعلانه يوميا للذهاب إلى المدرسة يجعلهما تبدوان في عينها كبطلتين وغريبتين، وشاذتين بعض الشيء.
كان الأمر يبدو على هذا النحو لأنهما كانتا فتاتين. كانت تريد أن تعرف ما إذا كان خروجهما في هذا البرد القارس يؤثر على دورتهما الشهرية. كانت تقول لهما نصا: «ألا يؤدي ذلك إلى تجميد البويضات؟» فهمت مارجوت وأنيتا المقصود، وقررتا - بعد ذلك - ألا تقوما بما تفعلانه حتى لا تتعرضا لمشكلات صحية من هذا النوع. لم تكن تيريسا سوقية، كانت فقط أجنبية. كان رويل قد التقاها وتزوجها في الخارج - في إقليم الألزاس واللورين - وبعد أن عاد إلى بلاده تبعته على السفينة مع جميع عرائس الحرب الأخريات. كان رويل يقود الحافلة المدرسية، هذا العام عندما كانت مارجوت وأنيتا في السابعة عشرة من عمرهما وفي الصف الثاني عشر. كان بداية الخط هنا عند المتجر ومحطة الوقود التي كان آل جولت اشتروها على طريق كنكاردين السريع، على مقربة من البحيرة.
أخبرتهما تيريسا عن مرتي إجهاضها. حدثت الأولى في والي، قبل أن ينتقلا إلى هنا وقبل أن يمتلكا سيارة. حملها رويل بين ذراعيه وذهب بها إلى المستشفى. (تسببت فكرة حملها بين ذراعي رويل في حدوث نوع من الإثارة في جسد أنيتا، كانت على استعداد لتحمل الألم الذي قالت تيريسا إنها كانت تشعر به حتى تجربها.) حدثت المرة الثانية هنا في المتجر. لم يستطع رويل - الذي كان يعمل في الجراج - أن يسمع صرخاتها الخافتة أثناء تمددها على الأرض غارقة في دمائها . جاء زبون ووجدها. قالت تيريسا: أشكر الرب على أنه منحني رويل. لم يكن رويل سيسامح نفسه. كان جفناها يطرفان، ونظرت إلى أسفل في خشوع، عندما كانت تشير إلى رويل وإلى علاقتهما الحميمة معا.
بينما كانت تيريسا تتحدث، كان رويل يدخل ويخرج من المتجر. خرج وأدار محرك الحافلة، ثم تركه حتى يسخن، وعاد إلى سكنهما، دون تحية أي منهما، أو حتى الرد على تيريسا، التي قاطعت حديثها لتسأل عما إذا كان قد نسي سجائره، أو عما إذا كان يريد المزيد من قهوة، أو ربما ما إذا كان يجب أن يرتدي قفازا يعطيه تدفئة أكثر. ضرب الأرض بحذائه ليزيل الثلج العالق به بطريقة كانت بمثابة إعلان عن وجوده أكثر من كونها محاولة لحفاظه على نظافة الأرضية. جلب جسده الطويل، واسع الخطوة تيارا من الهواء البارد خلفه، وكان ذيل سترته الفرو الطويلة المفتوحة يسقط عادة شيئا؛ عبوات الجيلي أو عبوات الذرة، التي كانت تيريسا قد رتبتها بطريقة جذابة. لم يستدر لينظر ماذا سقط.
قالت تيريسا إن عمرها ثمانية وعشرون، نفس عمر رويل. كان الجميع يعتقد أنها أكبر سنا منه؛ أكبر سنا بعشر سنوات. تفحصت مارجوت وأنيتا تيريسا عن قرب وقررتا أن جلدها يبدو ملفوحا. هناك شيء ما حيال جلدها، خاصة عند حدود شعرها وحول فمها وعينيها، يجعل المرء يتصور وكأنها فطيرة تركت وقتا أكثر مما ينبغي في الفرن، ما جعلها لا تحترق بل تبدو في لون بني داكن حول حوافها. كان شعرها خفيفا، كما لو كان قد تأثر بنوبة الجفاف أو الحمى نفسها، وكان شديد السواد؛ كانتا متأكدتين من صبغها إياه. كانت قصيرة، عظامها صغيرة، معصماها وقدماها صغيرة، لكن بدا جسدها منفوخا تحت منطقة الخصر، كما لو كان لم يتعاف بعد من مرتي الحمل القصيرتين، المريعتين. كانت رائحتها مثل رائحة شيء مسكر مطبوخ؛ مربى متبلة.
كانت تسألهما عن أي شيء، مثلما كانت تخبرهما عن أي شيء. سألت مارجوت وأنيتا إذا كانتا بدأتا في مواعدة الأولاد أم لا. «أوه، لم لا؟ أيمانع والداكما في ذلك؟ بدأت في الانجذاب إلى الأولاد بمجرد بلوغي الرابعة عشرة، لكن والدي كان يمنعني من الخروج معهم. كانوا يأتون ويطلقون صفيرا تحت نافذتي، كان يطردهم بعيدا. يجب أن تهذبا حواجبكما، أنتما الاثنتان. سيجعلكما ذلك تبدوان أجمل. يحب الأولاد الفتيات اللاتي تعتنين بمظهرهن. هذا شيء لا أنساه أبدا. عندما كنت في السفينة التي كانت تعبر المحيط الأطلنطي مع الزوجات الأخريات، كنت أقضي كل وقتي أعد نفسي لزوجي. بعض تلك الزوجات كن يكتفين بالجلوس ولعب الورق. لكن ليس أنا! كنت أغسل شعري وأضع زيتا جميلا لترطيب بشرتي، وكنت أحك قدمي بشدة بالحجر حتى أزيل الأجزاء الخشنة منهما. نسيت ما يطلقون عليها، الأجزاء الخشنة في جلد القدمين، وكنت أطلي أظافري وأهذب حواجبي وأعتني بنفسي حتى أبدو مثل جائزة لزوجي الذي كان سيقابلني في هاليفاكس. بينما كانت تلك الأخريات تكتفين بالجلوس ولعب الورق والنميمة بعضهن مع بعض.»
كانا قد سمعا قصة مختلفة عن إجهاض تيريسا الثاني. كانا قد سمعا أن الإجهاض حدث لأن رويل أخبرها أنه سئم منها، وكان يريد منها أن تعود إلى أوروبا، وفي قمة إحباطها ألقت بنفسها على مائدة مما أدى إلى إجهاض الطفل. •••
في الطرق الجانبية وعند بوابات المزرعة، كان رويل يقف ليقل الطلاب المنتظرين، الذين كانوا يدقون بأقدامهم الأرض ليتدفئوا، أو كانوا يتشاجرون في أكوام الثلوج. كانت مارجوت وأنيتا الفتاتين الوحيدتين في عمرهما اللتين كانتا تستقلان الحافلة تلك السنة. كان معظم الطلاب الآخرين من الصبية في الصفين التاسع والعاشر. ورغم أنه كان من الصعب التعامل معهم، كان رويل يسيطر على الطلاب حتى عندما كانوا لا يزالون يصعدون سلالم الحافلة. «توقفوا عن ذلك. أسرعوا. هيا اصعدوا للداخل إذا كنتم تريدون الصعود.»
وإذا كان ثمة بداية أي شجار على متن الحافلة؛ أي صراخ أو اشتباكات أو لكمات، أو حتى أي حركة من مقعد إلى آخر أو ضحك كثير وحديث بصوت عال، كان رويل يصيح في الصبية قائلا: «تهذب وإلا سأجعلك تذهب سيرا على الأقدام للمدرسة! نعم، أنت هناك، أعنيك أنت!» في إحدى المرات، طرد أحد الصبية من الحافلة؛ لأنه كان يدخن، على مسافة أميال من والي. كان رويل نفسه يدخن طوال الوقت. كان يضع غطاء دورق مايونيز على لوحة القيادة لاستخدامه كطفاية. لم يعارضه أحد - قط - في أي شيء كان يفعله. كان طبعه معروفا. كان الجميع يعتقد أن طبعه يتماشى بصورة طبيعية مع شعره الأحمر.
كان الناس يقولون إنه يمتلك شعرا أحمر، لكن لاحظت مارجوت وأنيتا أن شاربه والشعر فوق أذنيه فقط كان أحمر. أما لون باقي شعره، الشعر الآخذ في الانحسار من صدغيه فقط، والثقيل والمتموج في باقي المواضع، خاصة في الخلف - الذي كان الجزء الذي يرونه أكثر - فكان أسود مائلا إلى الاصفرار مثل فروة ثعلب كانا قد رأياه في صباح أحد الأيام يعبر الطريق الأبيض. وكان شعر حاجبيه الكثين، والشعر بطول ذراعيه وعلى ظهر يديه، باهتا أكثر، وإن كان يلمع عند سقوط أي ضوء عليه. كيف استطاع شاربه الاحتفاظ بحمرته؟ تحدثتا عن ذلك. تحدثتا باستفاضة، في هدوء، عن كل شيء عنه. هل كان وسيما أم لا؟ كان جلده متوردا وبه بقع، وله جبهة مرتفعة، لامعة، وعينان فاتحتا اللون كانتا تبدوان شرستين، غير مكترثتين. قررتا في نهاية المطاف أنه لا يبدو وسيما. غريب الشكل، في حقيقة الأمر.
لكن عندما كانت أنيتا قريبة منه كان ينتابها شعور بالاستثارة المحدودة عبر سطح جلدها. كان شيئا يشبه بداية عطسة بعيدة. كان هذا الشعور يبلغ ذروته عندما كانت تغادر الحافلة وكان هو يقف إلى جانب السلالم. كان الشعور بالتوتر ينتقل بسرعة من مقدمتها إلى ظهرها عندما كانت تمر بجانبه. لم تتحدث عن ذلك قط إلى مارجوت، التي بدا ازدراؤها للرجال أكثر مما كان. كانت أم مارجوت ترتعد من مضاجعة زوجها مثلما كان الأطفال يرتعدون من صفعاته وركلاته، ونامت ذات ليلة طوال الليل في صومعة الغلال، محكمة غلق الأبواب، لتجنب المضاجعة. كانت مارجوت تطلق على المضاجعة «الاتصال». كانت تتحدث في نبرة استخفاف عن «اتصال» تيريسا برويل. في المقابل، كان قد جال بخاطر أنيتا أن ازدراء مارجوت هذا في حد ذاته، مشاكستها واحتقارها، ربما يكون هو الشيء نفسه الذي يجده الرجال جذابا. ربما تكون مارجوت جذابة بطريقة ما لا تبدو هي جذابة بها. لا يتعلق الأمر بالجمال. كانت أنيتا تظن أنها أجمل منها، على الرغم أن تيريسا لم تكن ستمنح أيا منهما درجات مرتفعة في مسألة الجمال هذه. كان الأمر يتعلق بتغنج جريء كانت مارجوت تبديه في بعض الأحيان من خلال حركتها، من خلال عرض أردافها الكبيرة والانحناء النسائي لبطنها، ونظرة ما كانت تمر في عينيها البنيتين الكبيرتين، نظرة متحدية وعاجزة في آن، لا تتوافق على الإطلاق مع أي شيء كانت أنيتا قد سمعتها تقوله.
بحلول الوقت الذي وصلتا فيه إلى والي، كان اليوم قد بدأ. لا يمكن رؤية أي نجمة في السماء، أو أي إشارة إلى سماء وردية. كانت المدينة - بأبنيتها، وشوارعها، وأنشطتها الروتينية المتداخلة - مشيدة مثل ثكنة عسكرية في مواجهة العالم العاصف أو المتجمد اللتين استيقظتا فيه. بالطبع، كان منزلاهما، أيضا، بمثابة ثكنتين، وهكذا كان المتجر، غير أن كل ذلك كان لا يقارن بالمدينة. كانت بمثابة مربع سكني داخل المدينة، كان الأمر كما لو كان الريف غير موجود. الأكوام الهائلة من الثلوج في الطرقات والرياح الشديدة التي تهب عبر الأشجار وتسقط أوراقها، لم يكن ذلك موجودا. في المدينة، كان على المرء التصرف كما لو كان يعيش في المدينة دوما. كان طلاب المدينة، يملئون الشوارع الآن حول المدرسة الثانوية، يعيشون حياة تتسم بالامتيازات واليسر. كانوا يستيقظون في الساعة الثامنة في منازل ذات غرف النوم المدفأة والحمامات. (لم يكن الأمر هكذا دوما، لكن كانت مارجوت وأنيتا تعتقدان أن الأمر كان كذلك.) لم يكن من المفترض أن يعرفوا اسمك. لكن كان من المفترض أن تعرف أسماءهم، وهكذا كان الأمر.
كانت المدرسة الثانوية مثل حصن، بنوافذها الضيقة وأسوارها المزخرفة من الطوب داكن الحمرة، سلالمها الطويلة وأبوابها المخيفة، والكلمات اللاتينية المنقوشة على الحجر التي كانت تعني «العلم والفضيلة». عندما كانتا تدخلان عبر هذه الأبواب، في حوالي الساعة التاسعة إلا الربع، كانتا قد قطعتا مسافة طويلة من منزليهما، وكان المنزل وجميع مراحل الرحلة التي تقطعانها تبدو غير معقولة. كان تأثير القهوة الذي تناولتاه قد ذهب. غلبهما تثاؤب عصبي، تحت الأضواء الباهرة في قاعة الاجتماع. كان في الانتظار متطلبات اليوم من حصص اللغة اللاتينية، واللغة الإنجليزية، والهندسة، والكيمياء، والتاريخ، واللغة الفرنسية، والجغرافيا، والتربية البدنية. كانت الأجراس تدق في الساعة العاشرة تماما، معلنة عن راحة قصيرة. في الأدوار العليا، وفي الأدوار السفلى، كانتا تشقان طريقهما في توتر، ممسكتين بكتبهما وزجاجات الحبر تحت المصابيح المعلقة وصور العائلة الملكية والمعلمين المتوفين. كان للكسوة الخشبية للجدران، التي يجري تلميعها كل صيف، لمعان ساطع مثلما في نظارة مدير المدرسة. كان الإحساس بالعار وشيكا. كانت معدتاهما تضطربان وتنذران بإصدار أصوات زمجرة مع مرور الصباح. كانتا تخشيان من العرق تحت أذرعهما والدماء في جونلاتهما. كانتا ترتعدان عند حضور صفوف اللغة الإنجليزية أو الهندسة، لا لأنهما كانتا لا تبلوان بلاء حسنا فيها (كانتا في حقيقة الأمر تبلوان بلاء عظيما في كل شيء تقريبا)، بل لخشيتهما من أن يطلب منهما النهوض وقراءة شيء ما؛ تسميع قصيدة أو حل إحدى المسائل على السبورة أمام الصف. «أمام الصف»، كانت هاتان كلمتين مرعبتين بالنسبة إليهما.
ثم، ثلاث مرات أسبوعيا، كانت هناك حصص تربية بدنية؛ مشكلة حقيقية بالنسبة إلى مارجوت، التي لم تستطع الحصول على مال من أبيها لشراء بدلة رياضية. كانت تضطر إلى القول إنها نسيت بدلتها في المنزل، أو تقترض بدلة من إحدى الفتيات التي تم إعفاؤها من الحصة. لكن بمجرد أن ترتدي البدلة، كانت تمارس بعض التمارين الإحمائية وتجري حول قاعة التمرين، مستمتعة بوقتها، تصرخ لتمرير كرة السلة إليها، بينما كانت أنيتا غير منتبهة بسبب حرصها على ما يبدو عليه شكلها حتى إنها تلقت الكرة ذات مرة في رأسها.
كانت هناك أوقات أفضل تستمتعان بها خلال هذه الفترة. خلال وقت الظهيرة، كانتا تسيران إلى وسط المدينة وتنظران عبر واجهات متجر مفروش بطريقة جميلة، كان يبيع ملابس الزفاف والسهرة فقط. كانت أنيتا تخطط لإقامة زفافها في الربيع، حفل زفاف ترتدي وصيفات العروس فيه فساتين حريرية بلون وردي وأخضر وجونلات فوقية من الأورجانزا البيضاء. كانت مارجوت تأمل أن يكون زفافها في الخريف، كانت وصيفات العروس سيرتدين فيه فساتين من القطيفة ذات اللون المشمشي. في متجر وولورثز، كانتا تنظران إلى المعروض من أحمر الشفاه والأقراط. هرعتا إلى داخل الصيدلية ورشتا أنفسهما بعينة عطر. إذا كان لديهما أي مال لشراء بعض الحاجيات الضرورية لوالدتيهما، كانتا تنفقان بعض الفكة على شراء الصودا بطعم الكريز أو حلوى الطوفي الإسفنجية. لم تشعرا قط بتعاسة بالغة؛ لأنهما كانتا تعتقدان أن شيئا مميزا سيحدث لهما. ربما تصيران بطلتين؛ حب وسلطة من نوع ما كانا في انتظارهما بكل تأكيد. •••
كانت تريسا تستقبلهما، عندما كانتا تعودان إليها، بالقهوة، أو الشوكولاتة الساخنة المحلاة بالكريمة. كانت تبحث في إحدى عبوات الحلوى في المتجر وتعطيهما الحلوى المحشوة بالتين أو قطع المارشميلو المحلاة بجوز الهند الملون. كانت تلقي نظرة على كتبهما وتسألهما عن واجباتهما المنزلية. مهما تقولان، كانت هي، أيضا، درسته. في كل صف كانت فيه، كانت دوما نجمة. «الإنجليزية؛ درجات ممتازة في الإنجليزية! لكنني لم أعرف وقتها أنني سأغرم بأحد وسآتي إلى كندا. كندا! أعتقد أن الدببة القطبية فقط هي التي تعيش في كندا!»
لم يكن رويل يدخل. كان يعبث بشيء في الحافلة أو الجراج. كان مزاجه عادة طيبا عندما كانتا تستقلان الحافلة. كان ينادي قائلا: «ليصعد كل من يريد الصعود! أحكموا ربط أحزمة المقاعد! تأكدوا من وضع أقنعة الأكسجين! اتلوا صلواتكم! سنسلك الطريق السريع!» ثم كان يغني لنفسه، وسط ضجيج صوت الحافلة، عند الخروج من المدينة. قرب المنزل، كان مزاج الصباح يغلب عليه، المزاج الذي يتميز بالتحفظ وازدراء غير واضح. ربما يقول: «ها أنتما، أيتها السيدتان - نهاية يوم عظيم.» عند نزولهما من الحافلة. أو ربما لا يقول أي شيء. لكن كانت تريسا لا تتوقف عن الثرثرة بالداخل. كانت قصص أيام المدرسة التي كانت تحكيها تفضي إلى حكي مغامرات فترة الحرب: جندي ألماني يختبئ في الحديقة، قدمت له بعضا من حساء الكرنب؛ ثم وصل أول أمريكيين رأتهم - كانوا من السود - على متن دبابات، خلفوا انطباعا مضحكا ومدهشا بأن الدبابات والرجال على متنها كانوا جميعا كأنهم شيء واحد. ثم تحدثت عن فستان زفافها أيام الحرب الذي كان قد صنع من مفرش مائدة أمها المطرز. ورود وردية موضوعة في شعرها. لسوء الحظ، جرى تمزيق الفستان إلى خرق لاستخدامه في الجراج. كيف كان لرويل أن يعرف أهمية هذا المفرش؟
في بعض الأحيان، تكون تيريسا منخرطة في محادثة مع أحد الزبائن. لا تقدم حلوى أو مشروبات ساخنة آنذاك؛ كان كل ما تحصلان عليه منها هو تلويحا بيدها، كما لو كانت محمولة في عربة احتفالية تجوب الأنحاء. وكانتا تسمعان أجزاء من القصص ذاتها؛ الجندي الألماني، الأمريكيين السود، جندي ألماني آخر تمزق إربا، رجله في حذائه عالي الرقبة عند باب الكنيسة، حيث ظلت هناك، كل من يمر من هناك ينظر إليها. العرائس على متن السفينة. دهشة تيريسا لطول الوقت الذي استغرق للوصول من هاليفاكس إلى هنا على متن القطار. مرتي الإجهاض.
سمعها تقول: إن رويل كان يخشى عليها أن تحمل طفلا آخر. «لذا يستخدم الآن دوما واقيات ذكورية.»
كان هناك أشخاص يقولون إنهم لن يذهبوا إلى ذلك المتجر مجددا؛ حيث إن المرء لا يعرف أبدا ماذا سيسمع هناك، أو متى سيخرج منه.
في جميع الأوقات - اللهم إلا في أوقات الطقس السيئ - كانت مارجوت وأنيتا تمضيان الوقت بطريقة متمهلة قبل الوصول للمكان الذي يجب أن تفترقا عنده. كانتا تطيلان اليوم أكثر فأكثر، تتحدثان. في أي موضوع. هل كان مدرس الجغرافيا سيبدو أجمل بالشارب أم بدونه؟ هل لا تزال تريسا ورويل يتضاجعان، مثلما أشارت تريسا ضمنا؟ كانتا تتحدثان في يسر بالغ وبلا نهاية حتى بدا أنهما تحدثتا في كل شيء. لكن كانت هناك أشياء أخفتاها.
أخفت أنيتا طموحين لها، لن تفصح عنهما لأي أحد. كان أحد طموحاتها - وهو أن تصبح عالمة آثار - في غاية الغرابة، والطموح الآخر - أن تصبح عارضة أزياء - في غاية الغرور. أفصحت مارجوت عن طموحها، وهو أن تصبح ممرضة. لا يحتاج المرء إلى أي مال للدخول في مجال التمريض - ليس مثل الجامعة - وبمجرد التخرج، يستطيع المرء الذهاب إلى أي مكان والحصول على وظيفة؛ مدينة نيويورك، هاواي. يستطيع المرء الذهاب إلى أبعد الأماكن التي يريد الذهاب إليها.
كان الشيء الذي احتفظت به مارجوت سرا، هكذا حدثت أنيتا نفسها، هو كيف يكون الحال في المنزل، مع والدها. وفق أنيتا، كان الأمر بمثابة فيلم كوميدي. كان والدها عصبيا دوما، ممثلا كوميديا سيئ الحظ، يسعى في كل مكان بلا طائل (وراء الأسطول، ساخرة من مارجوت)، ويقرع الأبواب المؤصدة (صومعة الغلال)، ويطلق صرخات تهديد مريعة، ويمسك بأي سلاح كان في متناوله ليضرب به؛ مقعد أو فأس أو قطعة من حطب الوقود. زلت قدمه ذات مرة واختلطت لعناته واتهاماته. ومهما فعل، كانت مارجوت تضحك. كانت تضحك عليه، تحتقره، كانت تحتاط لما سيفعل. لم تذرف دمعة قط، أو تصرخ رعبا. ليست كأمها. هكذا قالت. •••
بعد أن تخرجت أنيتا كممرضة، ذهبت إلى العمل في يوكن. وهناك التقت وتزوجت طبيبا. كان من المفترض أن يكون هذا نهاية قصتها، نهاية طيبة، مثلما يجري النظر إلى الأمور في والي. لكنها انفصلت عن زوجها، وواصلت حياتها. عادت إلى العمل مرة أخرى، وادخرت بعض المال، والتحقت بجامعة كولومبيا البريطانية، حيث درست الأنثروبولوجيا. عندما عادت إلى ديارها للعناية بأمها، كانت قد حصلت لتوها على درجة الدكتوراه. ولم تنجب أي أطفال.
سألت مارجوت: «إذن، ماذا ستفعلين، بعد أن فرغت من كل هذا؟»
كان الأشخاص الذين أيدوا المسار الذي اتخذته أنيتا في حياتها يقولون لها ذلك عادة. كانت أية امرأة عجوز تقول لها عادة: «أحسنت صنعا!» أو «كنت أتمنى أن تتوفر لدي القدرة لعمل ذلك، عندما كنت صغيرة بما يكفي في السن، حتى أصنع فرقا في حياتي.» كان التأييد يأتي في بعض الأحيان من جهات غير متوقعة. بالطبع، لم يكن الجميع يؤيد أنيتا. لم تكن والدة أنيتا تؤيدها، ولهذا السبب، لسنوات عديدة، لم تكن أنيتا تعود إلى المنزل. حتى في حالة المرض الشديد والهذيان هذه التي تمر بها أمها، فقد تمكنت من التعرف عليها، واستجمعت قوتها لتقول لها: «ضاعت هباء.»
انحنت أنيتا أكثر.
قالت أمها: «الحياة ضاعت هباء.»
لكن في مرة أخرى، بعد أن عالجت أنيتا تقرحاتها، قالت: «أنا مسرورة جدا. مسرورة جدا أن يكون لدي ابنة.»
لم يبد أن مارجوت كانت تؤيد أو تعارض ذلك. بدت متحيرة، في تبلد. بدأت أنيتا في الحديث إليها عن بعض الأشياء التي ربما تفعلها، لكن كان يجري دوما قطع حديثهما. كان أبناء مارجوت قد جاءوا، مصطحبين أصدقاء معهم. كان أبناؤها طوال القامة، شعرهم متدرج في حمرته. كان اثنان منهما في المدرسة الثانوية، وكان أحدهم عائدا من الجامعة. كان هناك ابن أكبر، متزوج ويعيش في الغرب. كانت مارجوت جدة. تحدث أبناؤها معها بأصوات مرتفعة عن أماكن وضع ملابسهم، وعن الطعام، والجعة، والمشروبات الغازية الموجودة في المنزل، وعن أي السيارات ستخرج، وفي أي وقت. ثم ذهب جميعهم للسباحة في المسبح إلى جوار المنزل، ونادت مارجوت فيهم: «لا يذهبن أحدكم إلى ذلك المسبح واضعا مستحضر الوقاية من الشمس!»
أجابها أحد الأبناء قائلا في ضجر وصبر كبيرين: «لم يضعه أحد.»
أجابت مارجوت: «حسنا، وضعه أحدكم بالأمس، وذهب إلى المسبح، أنا متأكدة تماما ... لذا، أعتقد أن أحدكم قد جاء متسللا من الشاطئ، أليس كذلك؟»
وصلت ابنتها ديبي إلى المنزل قادمة من درس الرقص وعرضت عليهم الزي الذي كانت سترتديه عندما ستقدم مدرسة الرقص عرضا في المركز التجاري. كانت ستجسد شخصية يعسوب. كانت تبلغ عشرة أعوام، شعرها بني، ممتلئة الجسد مثل مارجوت.
قالت مارجوت: «أيها اليعسوب القوي الجميل.» وهي تتأرجح في مقعد الشرفة. لم تثر ابنتها الطاقة الجدالية التي أثارها أبناؤها الآخرون فيها. حاولت ديبي أن تتناول رشفة من السانجريا، غير أن مارجوت ربتت على كتفها لتنصرف.
قالت: «هيا اذهبي واجلبي لنفسك شرابا من الثلاجة ... اسمعي. هذا حديث ودي. حسنا؟ لماذا لا تهاتفين روزالي؟»
ذهبت ديبي، وهي تشتكي بصورة تلقائية. «أتمنى ألا أجد ليمونا ورديا . لماذا تصنعين دوما ليمونا ورديا؟»
نهضت مارجوت وأغلقت الأبواب الجرارة في المطبخ. قالت: «هدوء ... اشربي. سأجلب بعض السندويتشات بعد فترة.» •••
يأتي الربيع في هذا الجزء من أونتاريو في عجلة. يتكسر الثلج إلى قطع مطحونة، متلاطمة على أسطح الأنهار وبحذاء شاطئ البحيرة؛ ينزلق تحت الماء في البركة ويحول لون المياه إلى اللون الأخضر. يذوب الجليد وتفيض الجداول، وفي وقت قصير جدا يأتي يوم يدفئ الطقس؛ فيفتح المرء معطفه ويضع وشاحه وقفازه في جيوبه. لا تزال هناك ثلوج في الغابات عندما يخرج الذباب الأسود ويظهر قمح الربيع.
لم تكن تيريسا تحب الربيع أكثر من الشتاء. كانت البحيرة أكبر مما ينبغي، والحقول أكثر اتساعا مما ينبغي، وحركة المرور سريعة أكثر مما ينبغي على الطريق السريع. أما وقد صار الصباح أكثر دفئا، لم تعد مارجوت وأنيتا في حاجة إلى المتجر. سأمتا من تيريسا. قرأت أنيتا في إحدى المجلات أن القهوة تغير من لون الجلد. تحدثتا عما إذا كانت عمليات الإجهاض قد تتسبب في تغييرات كيمائية في الدماغ. كانتا واقفتين خارج المتجر، تتساءلان عما إذا كان يجب عليهما الدخول، تأدبا. أتت تيريسا إلى الباب ولوحت لهما. لوحتا في المقابل بتحريك أيديهما قليلا على نحو ما يلوح رويل كل صباح؛ رافعا يدا واحدة فقط من عجلة القيادة في اللحظة الأخيرة قبل أن ينحرف بالحافلة إلى الطريق السريع.
كان رويل يغني في الحافلة في عصر أحد الأيام بعد أن أوصل جميع من كان في الحافلة. كان يغني: «كان يعلم أن العالم مستدير ... امممم، ويمكنه أن يعثر عليها.»
كان يغني كلمة في السطر الثاني بطريقة خافتة جدا بحيث لم يتمكنا من سماعها. كان يفعل ذلك عمدا، مغيظا الجميع. ثم، ردد ما كان يغني ثانية، بصوت مرتفع وواضح بحيث لم يكن يصعب تمييز ما يقول. «كان يعلم أن العالم مستدير،
ويمكنه أن يعثر على تلك المؤخرة.»
لم تنظر أي منهما إلى الأخرى أو تقل شيئا حتى سارتا في الطريق السريع. ثم قالت مارجوت: «يا له من جريء، حتى يغني أغنية كهذه أمامنا. يا له من جرئ!» قالت هذا بازدراء وكأنها فتحت تفاحة ووجدت بها دودة.
لكن في اليوم التالي مباشرة، قبل وقت قليل من وصول الحافلة إلى نهاية رحلتها، بدأت مارجوت في الدندنة. دعت أنيتا للانضمام إليها، لاكزة إياها في جانبها فيما كانت عيناها تدوران في محجريهما. دندنتا معا نغمة أغنية رويل؛ ثم بدأتا في التلفظ بكلمات الأغنية، مخفيتين كلمة، ثم متلفظتين بالتالية في وضوح، حتى استجمعا أخيرا شجاعتهما وبدأتا في غناء الجملتين كاملتين، في بساطة وعذوبة مثلما في «يسوع يحبني». «كان يعلم أن العالم مستدير،
ويمكنه أن يعثر على تلك المؤخرة.»
لم ينبس رويل ببنت شفة. لم ينظر إليهما. نزل من الحافلة قبلهما ولم ينتظر لدى الباب. لكن قبل أقل من ساعة، في مدخل المدرسة، كان ودودا جدا. نظر أحد السائقين الآخرين إلى مارجوت وأنيتا، وقال: «حمولة جميلة هذه.» وقال رويل: «انظر أمامك، يا باستر.» متحركا أمامه بحيث لا يستطيع السائق الآخر مشاهدتهما وهما تصعدان إلى الحافلة.
في الصباح التالي قبل أن يبتعد عن المتجر، ألقى محاضرة. «آمل أن يكون لدي سيدتان محترمتان في الحافلة اليوم، وليس مثل الأمس. عندما تقول الفتاة أشياء لا تكون مثل قول الرجل لها. ينطبق الأمر نفسه على المرأة عندما تسكر. عندما تسكر المرأة أو تتفوه بأشياء قبيحة، تعرف أول ما تعرف أنها في مشكلة. فكرا في هذا الأمر قليلا.»
تساءلت أنيتا عما إذا كانتا غبيتين. هل بالغتا كثيرا؟ كانتا قد أزعجتا رويل وربما أثارتا اشمئزازه، جعلتاه يشعر بالقرف عند رؤيتهما، مثلما كان يشعر بالقرف من تيريسا. كانت تشعر بالعار والأسف وفي الوقت نفسه كانت تعتقد أن رويل لم يكن عادلا. وضعت تعبيرا على وجهها لتعبر عن ذلك لمارجوت، ماطة أطراف فمها إلى أسفل. لكن لم تأبه مارجوت. كانت تضرب أطراف أصابعها معا، ناظرة في رزانة وسخرية إلى رأس رويل من الخلف. •••
استيقظت أنيتا ليلا وهي تتألم ألما مبرحا. ظنت في البداية أنها قد استيقظت على وقع كارثة، مثل سقوط شجرة على المنزل أو تصاعد النيران من الألواح الخشبية في الأرضية. كان ذلك قبل وقت قصير من نهاية العام الدراسي. كانت قد شعرت بالغثيان في مساء اليوم السابق، لكن كان جميع من في العائلة يشتكي من الشعور بالغثيان، ويلقي باللائمة على رائحة الطلاء وزيت التربنتين. كانت والدة أنيتا تطلي مشمع الأرضية، مثلما كانت تفعل كل عام في هذا الوقت.
كانت أنيتا قد صرخت من الألم قبل أن تستيقظ بالكامل، وهو ما أيقظ الجميع. بينما ظن والدها أن من غير المناسب مهاتفة الطبيب قبل طلوع الفجر، هاتفته أمها على أي حال. طلب الطبيب الذهاب بأنيتا إلى والي، إلى المستشفى. هناك أجرى لها عملية وأزال لها الزائدة الدودية التي كانت على وشك الانفجار، التي كانت ربما ستقتلها في غضون ساعات قليلة. ظلت مريضة جدا لعدة أيام بعد إجراء الجراحة، وكان عليها المكوث قرابة ثلاثة أسابيع في المستشفى. حتى الأيام القليلة الأخيرة، لم يكن مسموحا بزيارة أحد سوى أمها.
كانت هذه بمثابة مأساة بالنسبة إلى العائلة. لم يكن والد أنيتا يمتلك المال الكافي لإجراء الجراحة ودفع مقابل الإقامة في المستشفى؛ كان سيبيع مجموعة من أشجار الإسفندان الصلب. رجع الفضل إلى أمها، عن حق، في إنقاذ حياة أنيتا، وطالما عاشت ظلت تذكر ذلك، مضيفة عادة أنها قامت بذلك في مخالفة لأوامر زوجها. (كان ذلك حقيقة مخالفا لرأيه.) في موجة طاغية من الاستقلال وتقدير الذات بدأت في قيادة السيارة، شيء لم تكن قد فعلته منذ سنوات. كانت تزور أنيتا كل عصر وتجلب لها أخبار البيت. كانت قد فرغت من طلاء المشمع، في تصميم بلون أبيض وأصفر عن طريق إسفنجة على خلفية داكنة الخضرة. كان مظهر المشمع يعطي انطباعا بمنظر مرعى بعيد تتناثر الزهور الصغيرة فيه. كان مفتش منتجات الألبان قد أثنى على هذا المشمع، عند تناوله العشاء معهم. كان عجل قد ولد في الجهة المقابلة من الجدول ولم يستطع أحد أن يعرف كيف وصلت البقرة إلى هناك. كانت نباتات العسلة تزهر وسط سياج الأشجار، وأحضرت باقة من أزهار تلك النباتات واستولت على زهرية من الممرضات. لم تكن أنيتا قد رأت جانب شخصيتها الاجتماعي فاعلا هكذا من قبل مع أي فرد من العائلة.
كانت أنيتا سعيدة، على الرغم من ضعفها وألمها المستمر. جرت هذه المجادلات من أجل إنقاذ حياتها. حتى بيع أشجار الإسفندان أدخل السرور على قلبها، جعلها تشعر أنها فريدة ومحل تقدير. كان الناس طيبين ولم يسألها أحد شيئا، وهو ما جعلها تلتقط هذه الطيبة وتنشرها في كل شيء حولها. سامحت كل من أمكنها تذكره: مدير المدرسة بنظارته اللامعة، الصبية ذوي الروائح الكريهة في الحافلة، رويل غير العادل، وتيريسا الثرثارة، والفتيات الثريات اللاتي كن يرتدين السترات المصنوعة من أصواف الأغنام، وأسرتها، ووالد مارجوت، الذي كان يعاني في ثورات غضبه. لم تسأم من النظر طوال اليوم إلى الستائر الصفراء الرفيعة في النافذة وفروع وجذع الشجرة التي كانت تراها. كانت شجرة دردار، بخطوطها الصارمة السميكة في الجذع وأوراق بتلاتها الرفيعة التي كانت تفقد هشاشتها وخضرتها الربيعية الحادة، وتزداد صلابة ودكانة مع زيادة نضوجها الصيفي. بدا كل شيء يوجد أو ينمو في العالم يستحق الاحتفاء به.
حدثت نفسها لاحقا أن هذا المزاج ربما كان بسبب الأقراص التي أعطوها إياها لتسكين الألم. لكن ربما لم يكن الأمر هكذا تماما.
كانت قد وضعت في غرفة منفردة لأنها كانت في غاية الإعياء. (كان والدها قد طلب من أمها أن تسأل كم كان ذلك سيكلفهم، فيما لم تعتقد أمها أنهم لن يدفعوا المزيد؛ إذ إنهم لم يطلبوا ذلك.) جلبت لها الممرضات المجلات، التي كانت تنظر إليها لكنها لم تستطع قراءتها؛ حيث إنها كانت تشعر بدوار بالغ وبعدم تركيز إلى حد ما. لم تستطع أن تحدد ما إذا كان الوقت يمر سريعا أم بطيئا، ولم تكن تأبه. في بعض الأحيان، كانت تحلم أو تتخيل أن رويل زارها. كان يظهر رقة غامضة، وعاطفة خفية. أحبها لكن لم يبد الأمر، ممرا يده على شعرها.
قبل يومين من عودتها إلى المنزل، جاءت أمها بوجه لامع جراء حرارة الصيف، الذي حل الآن، وجراء مشكلات أخرى. وقفت على طرف فراش أنيتا وقالت: «كنت أعلم دوما أنني لم أكن عادلة.»
بحلول هذا الوقت، كانت أنيتا قد شعرت بثقوب في ملاءة سعادتها. كان قد زارها إخوتها، الذين كانوا يصطدمون بالفراش أثناء مرورهم به، ووالدها، الذي بدا مندهشا أنها كانت تتوقع أن تقبله، وعمتها، التي قالت إن في إثر عملية كهذه يزداد وزن المرء دوما. ها هو وجه أمها، صوتها يأتي إليها مثل قبضة ملفوفة في شاش.
كانت أمها تتحدث عن مارجوت. كانت أنيتا تعرف ذلك في الحال من خلال ارتعاشة فمها. «كنت تعتقدين دوما أنني لم أكن عادلة مع صديقتك مارجوت. لم أشعر بالراحة تجاه تلك الفتاة، وكنت تعتقدين أنني لم أكن عادلة. أعلم أنك كنت تعتقدين ذلك. هكذا، يتضح الأمر لك الآن. يتضح أنني لم أكن مخطئة تماما على أي حال. كنت أرى ذلك فيها منذ وقت مبكر. أستطيع أن أرى ما لم تستطيعين رؤيته. كان ثمة أثر من الخبث فيها وكانت مهووسة بالجنس.»
كانت أمها تنطق بكل عبارة بشكل منفصل، في صوت مرتفع، غير منتظم. لم تنظر أنيتا إلى عينيها. كانت تنظر إلى الشامة البنية الصغيرة تحت أنفها. كانت تبدو منفرة بصورة متزايدة.
هدأت أمها قليلا، وقالت: إن رويل كان قد اصطحب مارجوت إلى كنكاردين في الحافلة المدرسية في نهاية اليوم في آخر أيام العام الدراسي. بالطبع، كانا وحدهما في الحافلة في بداية ونهاية الرحلة، منذ أن مرضت أنيتا. وقد قالا إن كل ما فعلاه في كنكاردين هو تناول البطاطس المقلية. يا للجرأة! يستخدمان حافلة المدرسة في نزهاتهما وفي القيام بأعمالهما الطائشة. عادا في هذا المساء، لكن مارجوت لم تعد إلى المنزل. لم تكن قد عادت إلى المنزل بعد. كان والدها قد جاء إلى المتجر وهشم مضخات الوقود، ما جعل الزجاج يتناثر حتى الطريق السريع. هاتف الشرطة مبلغا عن غياب مارجوت، وهاتفهم رويل مبلغا عن كسر مضخات الوقود. كان أفراد الشرطة أصدقاء لرويل، وأدين والد مارجوت بتهمة الإخلال بالأمن. مكثت مارجوت في المتجر، حتى تتجنب العقاب الذي كانت ستتلقاه من والدها.
قالت أنيتا: «هذا كل ما في الأمر، إذن ... نميمة غبية ملعونة.»
لكن لا. لكن لا. لا تصرخي في وجهي، أيتها الفتاة.
قالت أمها إنها لم تدع أنيتا تعلم بالأمر. كان كل ذلك قد حدث ولم تكن قد قالت شيئا لها على الإطلاق. كانت قد منحت مارجوت فائدة الشك. لكن لم يعد هناك أي شك. وردت الأنباء أن تيريسا حاولت أن تسمم نفسها. لكنها تعافت بعد ذلك. أغلق المتجر. كانت تيريسا لا تزال تعيش هناك، لكن كان رويل قد اصطحب مارجوت معه وكانا يعيشان معا هنا، في والي. في غرفة خلفية في مكان ما، في منزل أصدقاء له. كانا يعيشان معا. كان رويل يذهب إلى العمل في الجراج كل يوم؛ لذا يستطيع المرء أن يقول إنه كان يعيش معهما معا. هل سيسمح له بقيادة الحافلة المدرسية مستقبلا؟ ليس على الأرجح. كان الجميع يقول إن مارجوت حبلى. لم تحصل تيريسا على أي شيء.
قالت والدة أنيتا: «ألم تطلعك مارجوت على الأمر قط؟ لم ترسل إليك أي رسالة أو أي شيء طوال الوقت الذي كنت تقيمين فيه هنا؟ من المفترض أنها صديقتك!»
كان ينتاب أنيتا شعور بأن أمها كانت غاضبة منها ليس فقط لأنها كانت تصادق مارجوت، وهي فتاة ألحقت العار بنفسها، لكن لسبب آخر أيضا. كان لديها شعور أن أمها كانت ترى الشيء نفسه الذي كانت تستطيع أن تراه: أنيتا غير كفؤ، يتم تخطيها وتجاهلها، ليس فقط من قبل مارجوت بل من الحياة نفسها. ألم تشعر أمها بحالة من خيبة الأمل الغاضبة لأن أنيتا لم تكن الفتاة المختارة، وكانت الفتاة التي كانت المآسي تكتنفها والفتاة التي تحولت إلى امرأة وسحقها هكذا موج مرتفع في الحياة؟ لن تقر بذلك أبدا. ولم تسطع أنيتا أن تقر بأنها كانت تشعر بإحباط كبير. كانت طفلة، لا تعرف شيئا، غدرت مارجوت بها، مارجوت التي اتضح أنها كانت تعرف الكثير. قالت عابسة: «سئمت من الحديث.» كانت تتظاهر بأنها ترغب في النوم، حتى تتركها أمها.
ثم رقدت متيقظة. رقدت متيقظة طوال الليل. قالت الممرضة التي جاءت اليوم التالي: «حسنا، ألا تبدين وكأننا في نهاية العالم؟! أيؤلمك ذلك الجرح؟ هل تحتاجين لتناول تلك الأقراص مجددا؟»
قالت أنيتا: «أكره المكان هنا.» «حقا؟ حسنا، لم يتبق سوى يوم واحد حتى تستطيعي العودة إلى المنزل.»
قالت أنيتا: «لا أعني المستشفى ... أعني «هنا». أريد أن أرحل وأعيش في مكان آخر.»
لم تبد أي أمارات اندهاش على الممرضة. قالت: «هل أتممت صفك الثاني عشر؟ ... حسنا. يمكنك التدرب لتصبحي ممرضة. لن يكلفك الأمر إلا شراء الأشياء الضرورية حتى تصبحي كذلك؛ لأنه يمكنك العمل دون مقابل أثناء تدربك. ثم، يمكنك الرحيل والحصول على وظيفة في أي مكان. يمكنك أن تذهبي إلى أي مكان في العالم.»
كان ذلك هو ما كانت مارجوت قد أخبرتها به. الآن، صارت أنيتا من سيصبح ممرضة، لا مارجوت. اتخذت قرارها ذلك اليوم. لكنها كانت تشعر أن هذا الخيار لم يكن إلا ثاني أفضل الخيارات. كانت تفضل أن يجري اختيارها. كانت تفضل أن يختارها رجل وتتقيد برغباته والمصير الذي يقرره لها. كانت تفضل أن تكون محور فضيحة. •••
قالت مارجوت: «هل تريدين أن تعرفي؟ ... هل تريدين حقا أن تعرفي كيف حصلت على هذا المنزل؟ أعني، لم أسع إلى امتلاكه إلا حين صرنا قادرين على تحمل تكاليف العيش فيه. لكن مثلما تعرفين الرجال، تكون البداية دوما مختلفة. كنت في البداية أعيش في أماكن في منتهى السوء. كنا نعيش في أحد الأماكن، لم تكن هناك إلا هذه الأشياء، أتعرفين تلك الأشياء تحت البسط، على الأرضية؟ تلك الأشياء بنية اللون المشعرة مثل جلد منزوع من وحش؟ لا عليك سوى النظر إليها وستشعرين بأن ثمة شيئا يزحف على جسدك. كنت أشعر بالغثيان والمرض طوال الوقت على أي حال. كنت حبلى في جو. كان ذلك خلف مقر شركة تويوتا الآن، والذي لم يكن كذلك حينها. كان رويل يعرف صاحب البيت. بالطبع. حصلنا على المكان بسعر رخيص.»
لكن جاء يوم، قالت مارجوت، جاء يوم قبل خمس سنوات، لم تكن ديبي قد وصلت لسن المدرسة بعد. كان ذلك في شهر يونيو. كان رويل مسافرا في العطلة الأسبوعية، في رحلة صيد في شمال أونتاريو. في النهر الفرنسي، شمال أونتاريو. تلقت مارجوت مكالمة هاتفية لم تخبر أحدا بها. «هل هذه هي السيدة جولت؟»
قالت مارجوت: نعم. «هل أتحدث إلى زوجة رويل جولت؟»
نعم، قالت مارجوت، وسألها الصوت - كان صوت امرأة أو ربما صوت فتاة صغيرة، صوت مكتوم، ضاحك - إذا ما كانت تريد أن تعرف أين سيكون زوجها في عطلة نهاية الأسبوع التالية.
قالت مارجوت: «أخبريني أنت.» «لماذا لا تذهبين إلى منطقة أشجار الصنوبر الجورجية؟»
قالت مارجوت: «حسنا ... أين ذلك؟»
قال الصوت: «أوه، هذه منطقة معسكرات ... هذا مكان جميل حقا. ألا تعرفينه؟ يوجد في مدينة واساجا بيتش. ما عليك إلا أن تذهبي وتتأكدي بنفسك.»
كان ذلك على مسافة مائة ميل. أعدت مارجوت عدتها لتذهب يوم الأحد. كان عليها أن تبحث عن جليسة أطفال لديبي. لم تستطع أن تحضر جليستها المعتادة، لانا؛ لأنها كانت ستذهب إلى تورونتو في رحلة ترفيهية في عطلة نهاية الأسبوع مع أعضاء فرقة المدرسة الثانوية. استطاعت إحضار إحدى صديقات لانا التي لم تكن في الفرقة. كانت مسرورة أن الأمر جرى على هذا النحو؛ لأنها كانت تخشى أن تجد والدة لانا، دوروثي سلوتي، مع رويل. كانت دوروثي سلوتي القائمة على حسابات رويل. كانت مطلقة، وكانت معروفة جدا في والي بعلاقاتها المتعددة حتى إن الطلاب في المدرسة الثانوية كانوا ينادونها من سيارتهم، في الشارع: «دوروثي العاهرة، يا لك من امرأة ساخنة مثيرة!» في بعض الأحيان كان يجرى الإشارة إليها باسم دوروثي الفاسقة. كانت مارجوت تشعر بالأسف من أجل لانا. لهذا السبب كانت قد بدأت في الاستعانة بها للعناية بديبي. لم تكن لانا امرأة حسنة المظهر مثل أمها، وكانت خجولة ولم تكن جذابة تماما. كانت مارجوت تجلب لها هدية صغيرة في وقت الكريسماس.
في عصر يوم السبت، قادت مارجوت سيارتها إلى كنكاردين. كانت ستغيب عن المنزل لساعتين فقط؛ لذا تركت جو وصديقته يصطحبان ديبي إلى الشاطئ. في كنكاردين، استأجرت سيارة أخرى - شاحنة، مثلما صادف، سيارة قديمة جدا زرقاء كتلك التي يقودها الهيبز. اشترت أيضا بعض الملابس الرخيصة وباروكة باهظة الثمن نسبيا، تبدو مثل الشعر الحقيقي. تركت الأشياء في الشاحنة، وتركت الشاحنة في باحة انتظار خلف سوبر ماركت. في صباح يوم الأحد، قادت سيارتها إلى هذا المكان، وتركتها في الباحة، وولجت إلى الشاحنة، وغيرت ملابسها ووضعت الباروكة، وبعض المكياج الإضافي. ثم واصلت القيادة شمالا.
كان لون الباروكة بنيا فاتحا جميلا، مجعدة في الأعلى، وطويلة ومستقيمة من الخلف. كانت ملابسها تتألف من بنطال جينز ضيق، وردي اللون، وبلوزة مخططة باللونين الوردي والأبيض. كانت مارجوت آنذاك أقل بدانة، وإن لم تكن «نحيفة». أيضا، كانت ترتدي صندلا، وأقراطا متدلية، ونظارة شمس وردية، كبيرة. أدوات التنكر.
قالت مارجوت: «لم أترك أية وسيلة للتخفي إلا وقمت بها. رسمت عيني مثل كليوباترا. لا أظن أن أبنائي كانوا سيستطيعون التعرف علي. كان الخطأ الذي ارتكبته هو ذلك البنطال، كان ضيقا وسميكا أكثر مما ينبغي. أوشك البنطال والباروكة أن يقتلاني. فقد كان هذا اليوم حارا جدا. وجدت صعوبة في ركن الشاحنة في مكان الانتظار؛ نظرا لأنني لم أكن قد قدت سيارة مثل هذه من قبل. بخلاف ذلك، لم يكن ثمة أي مشكلة.»
قادت الشاحنة في الطريق السريع 21، بلووتر، وفتحت النافذة حتى تحصل على بعض النسيم من البحيرة، وكان شعرها الطويل يتطاير، وكان الراديو مفتوحا على محطة إذاعية لموسيقى الروك، حتى تكون في المزاج المناسب. مزاج من أجل ماذا؟ لم يكن لديها أدنى فكرة. دخنت سيجارة تلو الأخرى، محاولة الحفاظ على ثبات أعصابها. كان السائقون من الرجال الذين كانوا يقودون سياراتهم مرورا بها يطلقون نفير سياراتهم لها. بالطبع، كان الطريق السريع مزدحما، بالطبع كانت مدينة واساجا بيتش مليئة بالبشر، يوم أحد مشمس، حار مثل هذا، في يونيو. حول الشاطئ، كانت حركة المرور في غاية البطء، وكانت رائحة البطاطس المقلية وحفلات الشواء ساعة الظهيرة ضاغطة، مثل غطاء ثقيل. استغرق الأمر قليلا منها حتى تجد منطقة المعسكرات، لكنها أخيرا وجدتها، ودفعت رسوم قضاء اليوم، ودخلت بسيارتها إليها. قادت سيارتها حول مكان انتظار السيارة أكثر من مرة، محاولة العثور على سيارة رويل. لم ترها. ثم، خطر ببالها أن مكان انتظار السيارات مخصص فقط للزائرين في النهار. عثرت على مكان انتظار لسيارتها وركنتها.
عليها الآن إجراء عملية استطلاع للمنطقة بأكملها، سيرا على الأقدام. سارت أولا عبر منطقة إقامة المعسكرات. وصلات كهربية في مقطورات، خيم، أشخاص يجلسون في الخارج إلى جانب المقطورات والخيم يحتسون الجعة ويلعبون الورق ويقيمون حفلات شواء؛ يفعلون بصورة أو بأخرى ما يفعلونه في منازلهم. كان ثمة ملعب مركزي، به أراجيح وزلاجات مشغولة دوما، وأطفال يلقون بالأطباق الطائرة، وأطفال رضع في الصناديق الرملية. كشك مرطبات، اشترت مارجوت منها مياها غازية. كانت متوترة للغاية ما لم يجعلها ترغب في أكل أي شيء. كان غريبا بالنسبة إليها أن توجد في مكان ترتاده العائلات ولا تكون عضوا في أي عائلة منها.
لم يصفر أحد لها أو يعاكسها. كان ثمة فتيات كثيرات ذوات شعر طويل في المكان تتبخترن أكثر مما كانت تفعل. ويجب الاعتراف هنا أنهن كن أجمل منها مما يجعلها تبدو عادية بالمقارنة بهن.
سارت على الممرات الرملية تحت أشجار الصنوبر، بعيدا عن المقطورات. وصلت إلى مكان في المعسكر كان يبدو مثل منتجع قديم، ربما كان هناك قبل فترة طويلة قبل أن يفكر أي شخص في الوصلات الكهربية للمقطورات. كانت ظلال أشجار الصنوبر الكبيرة مبعث راحة لها. كانت الأرض تحتها بنية، مغطاة بورق الشجر المدبب: تربة صلبة تحولت إلى تراب ناعم. كانت هناك كبائن مزدوجة، وكبائن فردية، مطلية باللون الأخضر الداكن. كانت موائد الرحلات موضوعة إلى جانبها. مواقد حجرية. أحواض من الزهور المتفتحة. كان المشهد جميلا.
كان هناك سيارات إلى جانب بعض الكبائن، لكن سيارة رويل لم تكن هناك. لم تر أي شخص هناك؛ ربما كان الأشخاص الذين كانوا يقيمون في الكبائن من النوع الذي يذهب إلى الشاطئ. كان هناك عبر الطريق مكان فيه مقعد طويل ونافورة شرب وصندوق قمامة. جلست على المقعد لتستريح.
ثم ظهر رويل. خرج من الكابينة أمامها مباشرة. خرج أمامها مباشرة. كان يرتدي سروال الاستحمام القصير، وكان يضع منشفتين على كتفيه. كان يسير في كسل، وتراخ. كان ثمة كتلة من الدهن الأبيض تنزلق في منطقة الخصر من سرواله القصير. كانت تريد أن تصرخ فيه قائلة: «اعتدل، على الأقل!» هل كان يسير في تراخ هكذا لأنه كان يشعر بخبثه وبالخزي؟ أم تراه منهكا بسبب ما يقوم به من جهد محبب لقلبه؟ أم تراه كان يسير في تراخ منذ فترة طويلة ولم تلحظ هي ذلك؟ كان جسده القوي الضخم يتحول إلى شيء شبيه بالكاستارد.
وصل إلى السيارة المنتظرة إلى جانب الكابينة، وأدركت أنه كان يبحث عن سجائره. أدركت ذلك، لأنها في اللحظة ذاتها كانت تفتش في حقيبتها عن سجائرها. إذا كان هذا فيلما سينمائيا - هكذا حدثت نفسها - إذا كان هذا فيلما سينمائيا، فسيأتي مهرولا عبر الطريق، حاملا ولاعة، متحمسا لمساعدة الفتاة الجميلة الشاردة. لن يستطع التعرف عليها، بينما كان الجمهور يحبس أنفاسه. ثم بدأ يتعرف عليها شيئا فشيئا، والرعب يتملكه، عدم التصديق والرعب. بينما هي، الزوجة، تجلس في هدوء وارتياح، تسحب نفسا عميقا من سيجارتها. لكن لم يحدث أي من ذلك، بالطبع لم يحدث أي من ذلك؛ لم ينظر حتى عبر الطريق. كانت تجلس تتصبب عرقا في بنطالها الضيق، وكانت يداها ترتجفان بشدة ما جعلها تلقي بسيجارتها بعيدا.
لم تكن السيارة سيارته. أي نوع من السيارات تقود دوروثي العاهرة؟
ربما كان مع امرأة أخرى، امرأة لا تعرفها مارجوت على الإطلاق، امرأة غريبة. امرأة غريبة أدركت أنها تعرفه مثلما تعرف زوجته.
لا. لا. غير مجهولة. ليست مجهولة على الإطلاق بالنسبة لها. فتح باب الكابينة مجددا، وها هي تظهر لانا سلوتي. لانا، التي كانت من المفترض أن تكون في تورونتو مع الفرقة الموسيقية. لم تستطع أن تعتني بديبي. لانا، التي كانت مارجوت تشعر دوما بالأسف عليها، وكانت تحنو عليها لأنها كانت تظن أنها فتاة وحيدة، أو غير محظوظة. كانت تعتقد ذلك لأن لانا كانت قد تربت تقريبا من قبل جدها وجدتها العجوزين. بدت لانا تنتمي إلى طراز قديم، جادة قبل الأوان دون أن تكون حاذقة، ولم تكن تتمتع بصحة طيبة، كما لو كان مسموحا لها بالحياة من خلال تناول المشروبات الغازية، والحبوب المسكرة، وأي خليط من الذرة المعلبة، والبطاطس المقلية، وقطع المكرونة بالجبن التي كان هذان الشخصان العجوزان يعدانه على العشاء. كانت تصاب بنوبات برد حادة، مع مضاعفات ربوية، كانت بشرتها لا تتمتع بالحيوية، وشاحبة. في المقابل، كانت تمتلك قواما مكتنزا، جذابا، صغيرا، مستديرا على نحو بهي في الأمام وفي الخلف، وخدين سنجابيين عندما كانت تبتسم، وشعرا حريريا، مستويا، وأشقر طبيعيا. كانت شخصيتها غاية في الخنوع حتى إن ديبي كان يمكن أن تسيطر عليها، وكان الصبية يسخرون منها أيضا.
كانت لانا ترتدي ملابس سباحة ربما كانت جدتها قد اختارتها لها. صديرية مضغوطة فوق ثدييها الصغيرين الناتئين وتنورة قصيرة على هيئة ورود. كانت رجلاها بدينتين وغير مكتسبة للون السمرة بسبب التعرض للشمس. وقفت هناك على الدرج كما لو كانت خائفة من الخروج - خائفة من الخروج وهي مرتدية ملابس السباحة أو خائفة من الخروج من الأساس. كان على رويل أن يذهب إليها ويضربها ضربة خفيفة ولطيفة على مؤخرتها ليجعلها تتقدم. بعد عدة تربيتات خفيفة، وضع واحدة من المناشف حول كتفيها. جعل خده يلامس رأسها الشقراء ثم حك أنفه في شعرها، بلا شك حتى يشم عبيرها. شاهدت مارجوت كل هذا.
مشيا معا، عبر الطريق إلى الشاطئ، برزانة محافظين على وجود مسافة فيما بينهما. كأب وابنته.
لاحظت مارجوت الآن أن السيارة كانت مؤجرة. من مكان ما في واكرتون. كم هو مضحك - كانت ترى - إذا كانت مؤجرة من نفس المكان الذي أجرت منه شاحنتها في كنكاردين. أرادت أن تترك له رسالة تحت ماسحة الزجاج الخاصة بالسيارة، لكن لم يكن لديها ما يمكنها الكتابة عليه. كان معها قلم ولكن لم تكن معها ورقة. لكن على العشب بجانب سلة المهملات استطاعت أن تجد علبة كرتونية لوجبة دجاج كنتاكي. كانت هناك بقعة شحم عليها. قطعت العلبة إلى أجزاء وكتبت عليها الرسائل التالية: «انتبه لما تفعل!
وإلا فستكون نهايتك السجن.» «ستضبطك شرطة الآداب
إذا لم تنتبه لما تفعل.» «المنحرفون لا يفلحون.» «من شابه أمه، فما ظلم.» «من الأفضل أن تلقي بهذه في النهر الفرنسي،
فإنها صغيرة عليك.» «عار عليك!» «عار عليك!»
كتبت رسالة أخرى: «عاهرة سمينة ضخمة مع حبيبك الأبله ذي الوجه الطفولي.» لكن سرعان ما مزقتها، لم تعجبها النبرة. هيستيرية. وضعت الرسائل حيثما كانت متأكدة أنهما سيجدانها - تحت ماسحة الزجاج في السيارة، في فتحة الباب - وثبتتها حتى لا تطير، بأحجار وجدتها على مائدة الرحلات. ثم هرولت مبتعدة بينما كانت ضربات قلبها تتسارع. كانت تقود السيارة في منتهى السوء، في البداية، حتى كادت تدهس كلبا على الطريق السريع؛ لذا انتقلت للقيادة في الطرق الجانبية، الطرق المفروشة بالحصى، وظلت تذكر نفسها بضرورة تخفيض سرعتها. كانت ترغب في القيادة بسرعة هائلة. كانت تريد أن تقلع بالسيارة. كانت تشعر أنها على حافة الانفجار، كانت ستنفجر إلى قطع صغيرة. هل كان طيبا أم سيئا، ما كانت تشعر به؟ لم تستطع أن تحدد. شعرت بأنها تحررت، لم يعد شيء يهمها، كانت في خفة ورقة شجرة تحركها الرياح.
وصلت أخيرا إلى كنكاردين. بدلت ملابسها وخلعت الباروكة وأزالت آثار المكياج من عينيها. وضعت الملابس والباروكة في سلة المهملات بالسوبر ماركت - وهي تشعر بالأسى - ثم أدارت الشاحنة. كانت تريد أن تذهب إلى الحانة في الفندق وتتناول شرابا، لكنها كانت تخشى ما قد يسببه ذلك في قيادتها. وكانت تخشى مما قد تفعله إذا رآها أي رجل تشرب وحدها وأصدر أي تعليق. حتى إذا قال فقط: «يوم حار.» ربما تصرخ فيه، ربما تحاول أن تنشب أظافرها في وجهه. •••
البيت. الأطفال. دفع المال لجليسة الأطفال، صديقة لانا. هل يمكن أن تكون هي من اتصلت بها؟ تناولت وجبة سريعة في العشاء. بيتزا، لا دجاج كنتاكي، الذي لن تفكر فيه مرة أخرى دون أن يطلب منها أحد. ثم ظلت مستيقظة إلى وقت متأخر، تنتظر. تناولت بعض الكئوس. ظلت بعض الأفكار تدق رأسها في عنف. محام. طلاق. عقاب. ظلت هذه الأفكار تضربها مثل ناقوس، ثم خفتت دون أن تعرف كيف تتصرف. ماذا يجب أن تفعل أولا، ماذا يجب أن تفعل تاليا، كيف يجب أن تمضي حياتها؟ الأبناء جميعهم لديهم مقابلات من نوع أو آخر، يعمل الصبية في وظائف صيفية، كانت ديبي على وشك إجراء جراحة صغيرة في أذنها. لم تستطع أن تصطحبهم بعيدا؛ كان عليها أن تقوم بالأمر كله بنفسها، وسط نميمة الجميع، وهو ما كانت قد تلقت كفايتها منه من قبل. أيضا، كانت ورويل قد جرى دعوتهما إلى حفل كبير في عطلة نهاية الأسبوع المقبلة، لا بد أن تشتري هدية. كان هناك من سيأتي لصيانة وإصلاح شبكة الصرف في المنزل.
جاء رويل إلى المنزل في وقت متأخر جدا حتى إنها بدأت تقلق من أن حادثا قد وقع له. كان عليه الذهاب إلى أورانجفيل، ليوصل لانا إلى منزل عمتها. كان قد تظاهر بأنه مدرس في المدرسة الثانوية ينقل أحد أفراد الفرقة. (في الوقت نفسه، قيل للمدرس الحقيقي إن عمة لانا مريضة جدا، وكانت لانا تمكث في أورانجفيل للعناية بها.) كانت معدة رويل مضطربة، وهو أمر طبيعي، خاصة بعد هذه الرسائل. جلس على مائدة المطبخ يمضغ أقراص دواء ويشرب اللبن. صنعت مارجوت قهوة، حتى تستفيق من أجل المعركة.
قال رويل إن الأمر برمته كان بريئا. مجرد نزهة للفتاة. مثل مارجوت، كان يشعر بالأسف من أجل الفتاة. بريئا.
ضحكت مارجوت على ذلك. ضحكت، وأخبرته عما رأت.
قالت له: «بريئا! أعرف أي براءة تقصد! من تظن أنك تتحدث إليه؟ تيريسا؟» وقال: «من؟ لا، حقا.» بدا وجهه خاليا من أي تعبير لمدة دقيقة، قبل أن يتذكر. قال: «من؟»
حدثت مارجوت نفسها آنذاك قائلة: أي عقاب؟ من أجل من؟ ربما سيتزوج هذه الفتاة، وسيكون هناك أطفال بالتأكيد، وسرعان ما سينفد المال بما لا يمكنها هي وأسرتها من الاستمرار في مستوى الحياة الذي اعتادوا عليه.
قبل أن يذهبا إلى الفراش في ساعة مبكرة جدا من الصباح، تلقت منه وعدا بالتنازل عن المنزل. «هناك وقت يأتي على الرجال، لا يرغبون حقا في الخوض في مشاحنات. يفضلون أن ينسلخوا من الأمر برمته. ساومته على كل شيء حتى آخر شيء، وحصلت على كل شيء تقريبا كنت أريده. إذا عاند لاحقا حيال أي شيء، فكل ما كان علي أن أقوله هو «وقت الباروكة!» أخبرته عن كل شيء، الباروكة، الشاحنة، مكان جلوسي، وكل شيء. كنت أقول كل ذلك أمام الأطفال أو أي شخص، ولن يعرف أحد عما كنت أتحدث. لكن كان هو سيعرف! كان رويل سيعرف. «وقت الباروكة!» لا أزال أقولها من حين إلى آخر، متى ظننت أن ذلك مناسبا.»
التقطت شريحة برتقال من الإناء الزجاجي وبدأت في مصها، ثم بدأت في مضغها. وقالت: «أضع قليلا من أشياء أخرى في هذا الدورق إلى جانب الخمر ... أضع القليل من الفودكا، أيضا. أتلاحظين؟»
مدت ذراعيها ورجليها في الشمس. «متى ظننت أن ذلك ... مناسب.»
ظنت أنيتا أن مارجوت ربما تخلت عن الخيلاء، لكنها ربما لم تتخل عن الجنس. ربما تستطيع مارجوت أن تفكر في الجنس دون أن تفكر في الأجساد الجميلة أو المشاعر الطيبة. ضربات غير مؤذية.
وماذا عن رويل؟ عم تخلى؟ كانت كل مساومات مارجوت يقابلها شيء واحد؛ ما إذا كان رويل مستعدا أم لا.
المساومة، المساومة، الحسابات، المنازل، والمال. لم تستطع أنيتا أن تتخيل ذلك. كيف يستطيع المرء تحويل الحب والخيانة إلى أشياء مادية؟ كانت قد اختارت هي في المقابل الدخول في علاقات والخروج منها، عواطف ملتهبة، الإخلاص لنوع واحد من المشاعر، وهو ما كان يتضمن عادة عدم الإخلاص لأي شيء آخر تقريبا.
قالت مارجوت، في رضاء بالغ: «جاء دورك ... أخبرتك شيئا. جاء دورك كي تخبريني. أخبريني كيف قررت أن تتركي زوجك.»
أخبرتها أنيتا ماذا حدث في أحد المطاعم في كولومبيا البريطانية. كانت أنيتا وزوجها، في إحدى العطلات، قد ذهبا إلى مطعم على جانب أحد الطرق، ورأت أنيتا رجلا ذكرها برجل كانت تحبه - لا، ربما كان من الأفضل أن تقول مغرمة به - منذ سنوات طويلة. كان الرجل الذي في المطعم ذا بشرة شاحبة، وجه ثقيل، ويرتسم على وجهه تعبير احتقار ومراوغة، وهو ما كان نسخة باهتة من وجه الرجل الذي كانت تحبه، وكان جسده ذو الأرجل الطويلة نسخة من ذلك الرجل إذا كان متثاقلا في حركته. أحست وكأن روحها تنتزع منها انتزاعا عندما حان وقت الرحيل من المطعم. كانت تدرك معنى هذا التعبير، كانت تشعر أن روحها تنتزع انتزاعا، كانت ممزقة وتائهة. طوال سيرهما على الطريق السريع آيلاند هايواي، بين صفوف من أشجار التنوب الطويلة وأشجار الراتنج التي تحوطهما، وعلى متن المعدية المتجهة إلى برنس روبرت، كانت تشعر بألم فراق غريب. رأت أنها إذا كانت تستطيع الشعور بألم كهذا، إذا كانت تستطيع الإحساس بشعور أقوى تجاه شبح أكثر مما تشعر به في زواجها، فكان من الأفضل إذن فصم عرى زواجها.
هكذا أخبرت مارجوت. كان الأمر أكثر صعوبة من ذلك، بالطبع، ولم يكن الأمر على هذا النحو من الوضوح.
قالت مارجوت: «إذن، هل رحلت وعثرت على ذلك الرجل الآخر؟» «لا. كان الأمر من جانب واحد. لم أستطع.» «هل بحثت عن شخص آخر، إذن؟»
قالت أنيتا، مبتسمة: «وشخص آخر، وثالث.» في تلك الليلة عندما كانت تجلس إلى جوار فراش أمها، في انتظار إعطاء أمها حقنة، كانت تفكر في الرجال، واضعة الأسماء كلها بعضها فوق بعض لتمضية وقتها، مثلما يذكر المرء أسماء الأنهار الكبرى في العالم، أو العواصم، أو أبناء الملكة فيكتوريا. شعرت بالأسف على بعضهم لكنها لم تشعر بالندم. تدفق الدفء، في حقيقة الأمر، عبر جسدها. شعور متراكم من الرضا.
قالت مارجوت في قوة: «حسنا، هذه إحدى السبل ... لكن الأمر غريب بالنسبة إلي. غريب حقا. أعني: لا أرى الفائدة المرجوة منه، إذا لم تتزوجيهم.» وتوقفت برهة عن الكلام ثم أضافت: «هل تعرفين ماذا أفعل، في بعض الأحيان؟» نهضت بسرعة واتجهت إلى الأبواب الجرارة. تسمعت، ثم فتحت الباب وألقت برأسها إلى الداخل. ثم عادت وجلست.
قالت: «كنت أتأكد فقط أن ديبي لا تتنصت علينا ... الصبية، يمكن أن تقولي أي أشياء شخصية مريعة أمامهم وربما تتحدثين باللغة الهندوسية؛ حيث إنهم لا يتنصتون أبدا. لكن الفتيات يتنصتن. ديبي تتنصت ...»
قالت: «سأخبرك عما أفعل ... أذهب وأرى تيريسا.»
قالت أنيتا في دهشة بالغة: «ألا تزال هناك؟ ... ألا تزال تيريسا في المتجر؟»
قالت مارجوت: «أي متجر؟ ... أوه، لا! لا، لا. لم يعد المتجر موجودا. لم تعد محطة الوقود موجودة. أزيلا منذ سنوات خلت. تقيم تيريسا في دار الرعاية التابعة للمقاطعة الآن. لديهم ما يطلقون عليه قسم الحالات النفسية هناك الآن. الأمر العجيب هو أنها عملت هناك لسنوات وسنوات، تتناول الصينيات المستديرة وترتب الأشياء وتفعل هذا وذاك من أجل النزلاء. ثم بدأت هي نفسها تمر بنوبات مضحكة. لذا، في بعض الأحيان تعمل هناك، وفي أحيان أخرى تنزل هناك، إذا كنت تفهمين ما أقصد. عندما تنتابها إحدى تلك النوبات، لا تسبب أي مشكلات. هي مشوشة فقط بعض الشيء. ثرثرة طوال الوقت. على نحو ما كانت تفعل دائما، وإن كانت تفعل ذلك أكثر الآن. كل ما تقوم به هو الثرثرة والعناية بنفسها. إذا ذهبت لزيارتها، فستطلب منك دوما إحضار زيت استحمام أو عطر أو مكياج. في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إليها، جئت لها ببعض منتجات العناية بالشعر. كنت أظن أن في ذلك نوعا من المخاطرة، شيء معقد لن تستطيع استخدامه. لكنها قرأت الإرشادات، وصبغت شعرها بصورة حسنة. لم تفسد الأمور. أعني بمشوشة أنها تظن نفسها أنها على متن سفينة. السفينة التي تحمل عرائس الحرب. تنقلهن جميعا إلى كندا.»
قالت أنيتا: «عرائس الحرب.» رأتهن متوجات بتيجان من الريش الأبيض، ريش مهوش، رائع. كانت تفكر في قبعات زمن الحرب.
لم تكن في حاجة إلى أن تراه، لسنوات لم يكن لديها أدنى رغبة في أن تراه. يقوض الرجل حياتك لفترة غير محدودة، ثم في يوم ما لا شيء، مجرد فراغ حيث كان، فراغ لا يعول عليه.
قالت مارجوت : «هل تعلمين ماذا مر بخاطري في هذه اللحظة؟ شكل المتجر في الصباح. ونحن آتيتان إليه شبه متجمدتين. كانت حياتنا صعبة لكننا لم نعرف ذلك.»
كنا نمتلك القوة، هكذا حدثت أنيتا نفسها. كنا نمتلك قوة التحول، عندما يكون المرء منا ممتلئا بالخوف والحماس - لا يوجد شيء في الحياة غير مهم. قوة لا يفكر المرء في فقدانها؛ لأن المرء لا يعرف بامتلاكه لها على الإطلاق.
قالت مارجوت، في نبرة صوت خفيضة وغير مصدقة: «كانت معتادة على المجيء والطرق على الباب ... هناك. هناك، عندما كان رويل معي في الغرفة. كان الأمر مريعا. لا أعلم. لا أعلم. هل كنت تظنين أنه الحب؟»
من موقعها هنا كانت الذراعان الطويلتان لمصد الأمواج تبدوان مثل أعواد كبريت طافية. تبدو الأبراج، والأكوام الهرمية، وسير النقل في منجم الملح، مثل ألعاب كبيرة طافية. تلمع البحيرة مثل ورق الفويل. يبدو كل شيء براقا، وبارزا، ومسالما. مشدوها.
قالت مارجوت: «جميعنا على متن السفينة ... تعتقد أن جميعنا على متن السفينة. لكنها المرأة التي سيلاقيها رويل في هاليفاكس، هذه المرأة المحظوظة.» •••
كانت مارجوت وأنيتا قد بلغتا هذا المبلغ من الحديث. ولم تكونا مستعدتين بعد للتوقف عن الحديث. كانتا سعيدتين إلى حد كبير.
ناپیژندل شوی مخ