ولما عاد سالم من عند راحيل بمفتاح صالونها ذهب طاهر أفندي إلى حسين باشا عدلي والتمس الاختلاء به. - بلغني أن في عزمكم أن تكتبوا كتاب نعيمة على خليل بك غدا أو بعد غد. - نعم الأرجح غدا، كذا قررنا؛ لأني رأيت أن هذا النصيب أفضل لها، ولا مرد لما قررت. - لا أقصد أن أتداخل بهذا الأمر يا حسين باشا، ولكني أرجو منك أمرا واحدا قبل إنجاز العقد. - ما هو؟ - هو أن تصحبني في هذا المساء إلى مكان ما؛ لأريك أمرا. - وما هو؟ - أريك أمرا تندم إذا لم تره. - هل يتعذر عليك أن تخبرني بهذا الأمر الذي تود أن أراه؟ - نعم أود أن تراه قبل أن تعرف عنه شيئا. - لماذا أندم إذا لم أره؟ - لأن له علاقة كبرى بزفاف ابنتك. - كذا! - نعم، يهمك الأمر وحدك، فإذا كان يهمك أمر ابنتك يجب أن تطلع على هذا الأمر، وإلا ندمت بعدئذ، وأنا أعد نفسي مقدما لك خدمة جليلة بإطلاعك على هذا الأمر. - ولكن ماذا يمنع أن تطلعني عليه؟ - لا يوافقني أن أطلعك عليه قبل أن أريكه، فإذا كنت ذا ثقة بي فهلم اتبعني. - يتعذر علي أن أتبعك وأنا لا أدري إلى أين؟ - أنت حر بأن تتبعني أو لا، ولكني أخبرتك الغاية من ذلك.
فتردد حسين باشا وقال: إن ثقتي بإخلاصك وحدها هي التي تحملني على أن أطيعك الطاعة العمياء. - وستحمد الله على إلهامك هذه الطاعة.
وعند ذلك نهضا وركبا مركبة كانت تنتظر طاهر أفندي أمام المنزل فدرجت بهما إلى حيث لا يدري حسين باشا، دخلا المنزل الذي تقطنه راحيل وهو منفرد عن منازل البغيات، وفتحا الصالون ودخلا إليه وأقاما فيه ولم يكن فيه نور سوى نور القمر الداخل من الشباك فقال حسين باشا: إلى الآن لم أفهم شيئا. - لا بدع، لم يأت حين الفهم بعد، دعنا نتحدث بمواضيع أخرى؛ لنقتل الوقت إذ ربما يطول انتظارنا. - لا أقدر أحادثك بموضوع الآن وأنا بفارغ الصبر أنتظر الأمر الذي أجهله.
عند ذلك سمع طاهر أفندي صوت حركة في رحبة المنزل فنهض وفتح الباب قليلا فوجد سالما فتهامسا، قال طاهر أفندي: هل نجحت؟ - كل النجاح. - متى يأتيان؟ - ربما يكونان هنا بعد بضع دقائق - إذا صدق ظني.
وبعد بضع دقائق سمع وقع أقدام ثم صوت عزيز باشا يحادث راحيل، فدخلا إلى الغرفة المجاورة للصالون وأوصدا الباب وجعلا يتحدثان. وكان حسين باشا وطاهر أفندي جالسين على كرسيين قرب الباب الذي بين الغرفة والصالون يسمعان ما يدور بين راحيل وعزيز من الكلام، قالت راحيل: أنتم الرجال لا عهد لكم، كم امرأة عرفت يا عزيز؟ - عرفت كثيرات. - ولكن هل وجدت أوفى لك من راحيل؟ - الحق أقول لك إنك الفتاة الوحيدة التي أخلصت الحب لي. - ولكني لم أصادف منك إلا الإعراض والجفاء. - ليس ذلك جفاء ولا إعراضا يا راحيل، بل إن أحوالي لم تكن تسمح لي أن آتي إليك. - مهما كانت أحوالك صعبة فكان يمكنك أن تزورني ولو دقيقة واحدة كل يوم بعد آخر؛ لكي أراك، أنت تعلم أن لا طمع لي بالفلوس، وإذ كنت قد قبلت منك نقودا في بعض الأحيان؛ فلأني كنت في حاجة، ولكن يجب أن تتأكد أني أحبك لأجل شخصك، لا لأجل نقودك على أنك إلى الآن لم تفهم أن حبي لك خالص ليس كما تحب بعض النساء مثيلاتي. - أصادقة فيما تقولين يا راحيل؟ - إذا لم تكن واثقا بصدق قولي فلا فائدة من هذا السؤال. - أسألك؛ لأني لم أعهد فيك هذه الإحساسات من قبل. - أتأسف كل الأسف من أنك لم تعهدها في مع أني أبديتها لك بالعمل دون القول، ولكن نحن النساء مسكينات مهما عملنا أمام الرجال من الحسنات فلا يرونها لنا، أنسيت كيف كنت أعبدك يوم أنزلتني في غرفة زوجتك عندما كنت تقصد أن تستخدمني آلة لإغاظتها، فاغتنمت تلك الفرصة لكي أبرهن لك أني أحبك حبا حقيقيا أسمى من حبك لي.
فهمس طاهر في أذن حسين باشا قائلا: هل سمعت؟ فاختلج بدن حسين باشا.
وعند ذلك قبلها عزيز وقال: والله إني كنت بلا قلب حينئذ؛ لأني لم أقدر عواطفك قدرها. - ولما قضيت غايتك نبذتني ولم تعد تنظر إلي وكدت تنساني، وهذه الليلة لو لم أصادفك في الحانة لما حظيت بك. - يا الله منكن يا نساء ما أدهاكن!
فأجفلت راحيل منه وقالت: لا أنتظر منك أفضل من هذا الجواب لمثل هذه العواطف؛ لأني سيئة الحظ، عرفت كثيرين وأحببت قليلين ولكني لم أصادف حبيبا أكرم عواطفي.
وجعلت تبكي وتذرف الدموع وجعل عزيز يقبلها ويقول لها: لا تبكي يا حياتي إني أمزح معك. - ولكني لست أمزح، بل أنتهز هذه الفرصة لأشرح لك ما يكنه قلبي، فما أسوأ حظي! - إني أسوأ حظا منك يا راحيل، إني مهموم مغموم جدا. - لماذا يا حبيبي؟ لماذا تغتم، هل أقدر أن أفرج كربك؟ - آه يا راحيل، لا أحد يقدر أن يفرج كربي ما دامت زينب الملعونة في قيد الحياة. - ألا تزال تبخل عليك بعزبة من عزبها؟ - لم أقدر أن أنال منها شيئا؛ لأنها متشبثة بأملاكها كل التشبث. - آه، ما أجهل هذه المرأة لا تعرف قيمة للجوهرة التي معها، آه لو كنت زوجتك وطلبت روحي لكنت فرحة بأن أضعها تحت قدميك، سبحان الله كيف يجمع الكريم باللئيمة وواحدة مثلي لا تتوفق إلى رجل يستحق عبادتها، ألم تصادف وسيلة لانتزاع شيء من أملاكها؟ - لم أدع ولا وسيلة ممكنة، ولكني أخفقت بكل الوسائل، والذي يقسي قلبي على هذه الملعونة أنها تعرف أني في شديد الحاجة إلى المال، حتى إني أصبحت صفر اليدين، ومع ذلك لم تشأ أن تنجدني بشيء من مالها؛ لكي أملأ جيبي ولا أعجز عن الظهور بين أقراني كعادتي. - آه، ليت عندي مالا فأقدمه لك ولو لم تكن زوجي. - لو كان عندك مال لما كنت تقولين هكذا.
فأظهرت راحيل التغيظ من كلامه وذرفت دمعا باردا.
ناپیژندل شوی مخ