ما وضع عينه على أحد شقوق الباب حتى رأى نعيمة مقبلة على مهلها، وهي تتلفت، وتتظاهر أنها تتمشى متنزهة، وكانت الشمس تأفل حينئذ ولا يزال الجو مكفهرا؛ لأنه كان يوما غائما، وقبل أن تصل إلى الباب سمعت نقرا لطيفا عليه فوقفت تنظر إليه.
فأعاد حسن النقر، فعبرت في بدنها خلجة خفيفة، ووقفت وقفة الظبي بعد النفور، وهي تنظر إلى الباب ثم سمعت صوتا يقول: «تقدمي» فالتفتت يمينا وشمالا، ثم قالت بصوت خافت: «من» ثم سمعت قوله: «تقدمي أنا حسن» فتقدمت حتى صارت على بعد خطوة فسمعت قوله: ما بالك واجفة؟ أنا حسن تقدمي. - أأنت حسن؟ - أنا هو، ماذا جرى؟ لماذا أنت خائفة؟ افتحي. - لا أفتح. - لماذا؟ - أصبحت في ضيق. - ماذا جرى؟ افتحي هنيهة. - كلا كلا، لا أفتح، دعنا نتكلم والباب بيننا؛ لئلا يباغتنا أحد. - لا بأس قولي ماذا جرى؟ - من قال لك أن تأتي؟ - رأيت المنديل على الأرض فتناولته فعرفت أنك ألقيته على خشب نافذة الشرفة فسقط، ولكن سقوطه رابني فأتيت إلى هنا الآن؛ لأني لم أطق الصبر إلى الغد. - عجيب، الله ساقك إلي فإني في حاجة شديدة إليك، والمنديل كان في يدي وسقط من الخوف. - فماذا حدث، تكلمي؟ - باغتتني أمي في الشرفة. - هل لاحظت أمرا؟ - لا أدري، ولكني أرجح أنها لم تلاحظ شيئا. - هل حدث شيء آخر؟ - نعم، ولأجل الشيء الآخر استدعيتك. - ماذا؟ - كلمني أبي اليوم كثيرا بشأن خليل بك مجدي كما نتوقع. - وماذا قلت له؟ - رفضت تمام الرفض. - وكيف فارقك؟ - فارقني غاضبا وأنا لم أزل رافضة، ولكنه سوف يعيد علي الكرة وستكلمني أمي بالموضوع أيضا، ومنذ الآن يبتدئ اضطهادي الحقيقي يا حسن. - حياتي نعيمة، ماذا تريدين فأفعل ؟ هل تتصورين أمرا فآتيه؟ لا تستكبري أمرا كل ما يمكن عمله جائز، ولو كان مفضيا إلى بذل حياتي، أنا أعلم أنك ستقاسين لأجلي كثيرا يا نعيمة فأكدي أن كل دمعة من دموعك بقطرة من دمي. - لا حاجة بنا إلى هذا التفاني يا حسن، فدعنا نتكلم بتعقل. - قولي، ماذا تريدين؟ - على أي حال لست أطيق أن أكون زوجة خليل بعد الذي عرفته عن سلوكه وسلوك أخيه مع زوجته زينب ابنة عمي - كما ذكرت لك - سواء كنت أنت نصيبي أو لم تكن. - هل تزعزع عهدك يا نعيمة؟ - هذا سؤالي لك. - عهدي لا يزعزعه شيء حتى الموت. - وأين صار مشروعك الخطير؟ - لماذا تسألين هذا السؤال؟ هل يتوقف عهدك على مشروعي؟ - كلا البتة، وإنما أسألك لأرى هل أبوح بحبي لك أو أنتظر ريثما تتأكد فوزك. - مشروعي في منتصف الطريق يا نعيمة ونجاحي فيه أرجح من إخفاقي، ولكني ممن يحسبون حساب الإخفاق قبل حساب النجاح؛ ولذلك أفضل أن تتمهلي في بث ما في ضميرك. - ولكنهم سيضايقونني في الإقناع والاستجواب، وسيحتمون علي أن أبين سبب رفضي، فماذا أجاوب؟ - متى ضويقت فجاوبي ما تشائين، وإذا اضطررت أن تبوحي بحبنا فأقتل نفسي إذا لم أستطع إرضاء أبيك. - أبي يعبأ جدا بالجاه وشرف الأصل. - أما الجاه ففي الإمكان يا نعيمة، أجتهد أن أجمع ثروة بالطرق العاجلة، وبالثروة أكسب الجاه والنفوذ، أما شرف الأصل فلا أستطيع الحصول عليه إلا إذا كان ممكنا أن أولد ثانية. - أعرف استحالة ذلك يا حسن فما أنا غبية، ولكن يمكنك أن تستعيض منه بما يمكن أن يقوم مقامه. - ماذا؟ - أن تحصل على رتبة رفيعة أو نشان مجيد. - هذا سهل جدا يا نعيمة. - إذن متى ضايقوني في الاستجواب أعترف بحبي لك. - لا تفعلي يا نعيمة قبل أن تخبريني؛ لأني أود أن يعرف هذا الأمر مني أولا. - تريد أن تطلبني من أبي رسميا؟ - نعم وإن كنت لا أفلح في بدء الأمر. - صدقت هذا هو الأفضل؛ لئلا يحسب اعترافي قبل طلبك تبذلا، ولكني يجب أن يصلني خبر عن يد أحد أهل البيت أنك طلبت يدي؛ لكيلا يكتم أبواي عني طلبك وإلا فيتعذر علي أن أعترف بميلي إليك. - أنا أتخذ وسيلة ظاهرة لإبلاغ الخبر إلى أحد الخدم. - يجب أن تطلب مقابلتي كلما خطا مشروعك خطوة إلى الأمام، ماذا تم من أمره؟ - وعدنا بعض رجال الحكومة بتمهيد السبيل لأخذ الامتياز. - إلى الملتقى إذن. - إلى الملتقى، اسمعي، نعيمة نعيمة اسمعي. - ماذا؟ - كيف كانت لهجة أبيك في مفاوضتك؟ - غير عنيفة، ولكنه ناقشني طويلا وأصر على رأيه، وأنا أصررت على الرفض، وأخيرا خرج متغيظا ولكنه حتى الآن لم يتهددني، ولا قال لي كلمة جارحة، على أني أتوقع عذابا مرا فيما بعد. - فديتك يا حياتي، ماذا أفعل لأنجيك من هذا العذاب؟ - اجتهد في مشروعك ورفع شانك، وكفى.
الفصل الواحد والعشرون
عاد حسن أفندي من مقابلة نعيمة إلى مكتبه نحو الساعة السادسة فوجد بعض أصحاب القضايا ينتظرونه، فأسرع في قضاء أشغاله معهم، ثم انطلق إلى البيت وأبدل ملابسه بملابس نفيسة ومضى إلى منزل طاهر أفندي نحو الساعة الثامنة، فوجد هناك يوسف بك وطاهر أفندي في القاعة، وعائدة جالسة إلى البيانو، وهم ينتظرون وفود حمد بك الوسيط في المشروع بينهم وبين رجال الحكومة - كما علم القارئ - أما يوسف بك فكان إلى جانب عائدة يمازحها ويلاطفها وهي تبسم له، فجلس حسن إلى جنب طاهر أفندي، وقال له: «دعني أفاوضك بأمر جوهري يخصني.» - قل فإني أراك قلق البال، هل حدث لك أمر مقلق؟ - كلا، وإنما أذكر لك أمرا لم أذكره إلا للدكتور يوسف بك. - ما هو؟ - لا أخفي عليك أن عند حسين باشا عدلي الذي عرفتك به يوم كان زائري في مكتبي فتاة عرفتها منذ الصبوة إذ كان المرحوم أبي وكيل دائرة حسين باشا، وكانت أمي تتردد كثيرا إلى دار الحريم وأنا معها، وبقيت التقى بتلك البنية حتى صرنا شابين وقضت العادة الاجتماعية أن تتحجب عني وعن سواي.
ولكن ما صرنا شابين حتى شب الحب في قلبينا، وسعينا إلى أن تقابلنا مقابلة سرية عقدنا فيها عهدا ثابتا على أن نكون في المستقبل زوجين، وعدتها أني لا أبقي على حياتي إذا لم أصعد في سلم النجاح حتى أبلغ المنزلة التي أرضي بها أباها بحيث لا يستنكف أن يزوجنيها؛ ولأجلها مضيت إلى باريس وتعلمت الحقوق؛ ولأجلها أسعى الآن جهدي في مشروعنا لكي يكون لي بسببه مكانة بين قومي. - نعم المسعى. - ولكن ظهر لي منازع في هذا الأمر، وهو خليل بك مجدي.
فضحك طاهر أفندي وقال: شتان ما بين أعطاف وأغصان. - ولكن حسين باشا ممن يعبئون جدا بالمجد وشرف الأصل والجاه والثروة؛ ولهذا يفضل خليل علي ألف مرة، أولا؛ لأنه من أسرة تعد في مقدمة الأسرات الشريفة في مصر ... - يا نعمها أسرة تأكل أموال الناس. - ولكن حسين باشا لا يعرف بهذه المناقص، وإن عرف بها لا يجعلها سببا لاحتقار الأسرة إلى حد أن يرفض طالبا منها لابنته، ثم إنه يحب هذه الأسرة جدا؛ لأن حامد باشا حسني أبا عزيز وخليل كان مقربا جدا من المغفور له إسماعيل باشا، وقد قرب معه حسين باشا فنال بذلك مقامه المعتبر الذي هو فيه الآن، ولا يزال يذكر ذلك الفضل حتى الساعة. - وهل عرف حسين باشا بميلك إلى ابنته؟ - كلا. - ولا طلبت منه يدها؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني أؤكد أنه يردني خائبا. - إذن هو جاهل. - ليس هو جاهلا، ولكنه يستنكف أن يمنع يد ابنته من شاب من أسرة شهيرة عريضة الجاه ويمنحها لشاب كان أبوه من جملة حشمه. - هذا هو الجهل بعينه، وإني لأستغرب كيف أن رجلا كحسين باشا لا ينظر إلى الأشخاص من حيث جواهرهم بل من حيث أعراضهم؟ ألا يعلم - حق العلم - أن ابنته تستلذ الحياة معك أكثر منها مع ذلك الأحمق خليل بك. - لا تزال التقاليد القديمة مستولية على عقله.
ففكر طاهر أفندي هنيهة ثم قال: أظنك واهما يا حسن، ما حسين باشا كما تظنه، اقترح عليه الأمر لترى ماذا يقول. وأية خسارة بالاقتراح؟ - لأجل هذا الموضوع أفاوضك الآن، وبغيتي أن تتمكن المعرفة بينكما بحيث يتسنى لك أن تباحثه بهذا الموضوع، وتعرض عليه الطلب. - أفعل ذلك بكل سرور، فماذا تريد أن أفعل توطئة للأمر؟ - أن تزوره زيارة رسمية في بيته، وأنا أمهد السبيل إليها، وبعد ذلك يرد إليك الزيارة، ومن ثم يتسنى لك أن تخاطبه. - حسن جدا، متى تريد أن أزوره؟ - غدا إذا شئت وسأجتهد أن يرد لك الزيارة عاجلا؛ لأن المسألة عاجلة. - لماذا ... - عزيز باشا طلب يد الفتاة من أبيها لأخيه، والأب وعد، وهو يحاول الآن أن يقنع الفتاة بالقبول، وهي مصرة على الرفض، ولا تجسر أن تبوح بما في ضميرها قبل أن أطلب أنا يدها؛ ولذلك أود أن أعرض طلبي وإن كنت عديم الأمل بالنجاح، وإنما أؤمل أن يعذروها بعض العذر إذا عرفوا أن قلبها مولع بآخر. - كن مطمئنا يا حسن أفندي؛ فإني أبذل جهدي في تحقيق أمنيتك هذه. - إذن غدا أبلغ حسين باشا بالأسلوب الموافق أنك ستزوره في المساء. - نعم ونذهب سوية.
عند ذلك دخل الحاجب يخبر بقدوم حمد بك فضل، فترحب به طاهر أفندي، واحتفى به أي احتفاء ولاطفه الدكتور يوسف بك وحسن أفندي وجاملوه جميعا المجاملة اللازمة، وبعد ذلك جعلت عائدة تضرب على البيانو الألحان المطربة والشجية فطرب الكل وكان حمد بك أشدهم طربا، ولا نطيل الكلام في وصف تلك الحفلة وما اشتملت عليه من مجالي الهناء والسرور وما دار فيها من الأحاديث العمومية الفكهة، ومن النكات الأدبية المستعذبة؛ فإن ذلك يتصوره القارئ من نفسه في حفلة جمعت بضعة من الأذكياء الأدباء.
وكانت عائدة في ذلك المساء بدره وفي المنزل بهجته وللمدعوين ينبوع أنس وسرور؛ أولا بما أطربتهم به على البيانو، وثانيا بما سمعوه من عذب حديثها وما تجلى لهم من بدائع جمالها، وكان حمد بك أكثرهم افتتانا بها، ولكنه كان كتوما لولهه؛ لأنه رزين الطبع عزيز الذات، فصان نفسه من عوامل الهوى ما استطاع.
ولما انتهوا من العشاء خرج حمد بك إلى شرفة المنزل ليستنشق هواء نقيا ويدخن سيكارة، ولم يكن البرد قارصا فخرج معه طاهر أفندي ليحادثه. - لقد أطربتنا الست عايدة جدا يا طاهر أفندي، والظاهر أن لها هبة موسيقية نادرة. - منذ صغرها أولعت بالموسيقى فأطلقت لها العنان في تعلمها، فما بلغت الثامنة حتى قبضت على عنق الفن. - يظهر من فراستها أنها ذكية جدا ومن محضرها أنها أديبة ذات ذوق لطيف ومزاج رقيق، ولا ريب عندي أن الفضل في ذلك كله لك يا طاهر أفندي بتربيتها. - ليس كل الفضل للتربية؛ فإن للأصل أيضا تأثيرا في الخلق.
ناپیژندل شوی مخ