فجعلت زينب تفكر، وبعد هنيهة عادت نعيمة تقول: فما رأيك؟
بقيت زينب تفكر وبعد سكوت قصير قالت: وقلبك ماذا يقول يا نعيمة؟ - بربك لا تسلي عن قول قلبي؛ فإني أفضل الموت على هذا الزواج، فلا أسألك رأيك فيما إذا كان هذا الزواج صالحا أو لا، وإنما أسترشدك إلى الوسيلة الممكنة للتخلص منه، فدبريني. - أسألك عن قول قلبك يا نعيمة حتى إذا كان ذا ميل ثنيته؛ فإني أقدر لك شقاء أعظم من شقائي بالزواج من خليل؛ لأنه على ما أرى أن مذامه تزيد على مذام أخيه مذمة الرعونة والطيش.
وإذا كنت تعلمين حقيقة الشقاء الذي أقاسيه يا نعيمة فلا تعدلين عن قولك إن الموت أفضل لك من الحياة مع خليل. - لا أجهل أنك تشقين مع عزيز؛ فإني ألاحظ شقاءك بالرغم من كتمك إياه. - بل هو أعظم مما تلاحظينه يا نعيمة، أعظم جدا ولا يعلم أحد غير الله كم أقاسي؛ لأنه ليس لي من أشكو إليه أمري غير أبيك، ولما حاولت مرة أن أشكو له زجرني قائلا: يجب أن تخضعي لزوجك ولم يدع لي مجالا للكلام. - لا يخفى عليك أن أبي من الجيل القديم الذي لا يحسب للمرأة عقلا أو إرادة مهما كانت عاقلة بل يعدها آلة في يد الرجل، ثم إن عزيز باشا مستميله إليه بدهائه. - آه، ما أشقى المرأة في الشرق! فما هي إلا حيوان. أشقى نساء الشرق المرأة المتعلمة؛ فإنها تفهم حقوقها، ولكنها لا تقدر أن تصل إليها لكي تتمتع بها، فلو بقيت جاهلة لكان أفضل لها؛ لأنها لا تشعر حينئذ بقيودها؛ إذ لا تعلم الحق الذي لها وقد حرمته، وأشقى من المرأة الشرقية المتعلمة المرأة المهذبة المرباة على التقوى والفضيلة، فإن هذه التربية تزيدها ضعفا وعجزا عن المطالبة بحقها أو اكتسابه. وأظن أنه لو لم أكن مرباة تربية حسنة؛ لكانت لي جراءة أن أتملص من يد هذا الزوج الظالم بأي الطرق، ولكن تربيتي تمنعني أن أجاهد بجسارة في سبيل الخلاص خيفة من العار؛ ولهذا ترينني أتحمل شقائي وأكتمه؛ لئلا يقال عني «غير مرباة». - أخاف أن أشقى شقاءك يا زينب. - أكدي أنك تشقينه إذا تزوجت خليل، فلا أريد هذا الزوج لك يا نعيمة؛ لأني أحبك. - إذن ما العمل؟ - هل فوتحت بهذا الموضوع؟ - ذكرته أمي لي قبلا، وأمس استدعاني أبي إلى غرفته وباحثني به صريحا. - فماذا أجبت؟ - بقيت ساكتة. - وعلى أي شيء افترق عنك؟ - على لا شيء. - كيف ذلك؟ - لأنه لم يسألني إرادتي في الأمر بل أخبرني أن عزيز باشا يطلب يدي لأخيه، وجعل يصف لي محامد خليل وشرف أصله وجاهه. - هذا هو أصل كل شقاء. الاهتمام بمسألة الأصل واعتبار أن الشرف الموروث أهم من المبادئ والأخلاق، ثم ماذا قال لك؟ - لم يقل شيئا، سوى أنه وصف خليل؛ بغية ترغيبي. - إذن اقتصر على الترغيب. - فقط. - وماذا كنت تقولين؟ - لم أفه ببنت شفة، بل كنت مطرقة أشعر أن لهيبا يتوهج من وجهي، وكنت أسمع ضربات قلبي. - وهل لاحظ أبوك عدم رضاك؟ - لا أدري، ولكني أرجح أنه لم يلاحظ، بل حسب إطراقي من قبيل الحياء والخجل والحشمة لا من قبيل الامتعاض؛ وإلا لحاول أن يسألني في ذلك. - فإذن لم تبت المسألة بعد؟ - أظن أن أبي وعزيز بتاها. - ولكن لم تبت معك بعد؟ - كلا، فماذا أقول لو سئلت جوابا؟ - ارفضي. - أخاف أن يلح علي أبي. - ومع إلحاحه ارفضي. - أخاف يا زينب، وأخجل أن أخالف إرادة أبي. - هنا الضعف، لأجل الخوف من أبيك تعرضين نفسك لخطر عظيم. - وماذا أفعل إذا تهددني؟ - قوي قلبك مهما تهددك، لا يجسر أن يأتي أمرا فريا بك. - ماذا أقول له؟ يجب أن أجيبه بكلام معقول. - قولي له: إنك لا تقدرين أن تتزوجي بمن لا تهوين. - أأجسر أن أقول له ذلك وهو يحسب أن الانتساب إلى ذلك البيت شرف. - عجب، كيف لا تقدرين يا نعيمة؟ أإلى هذا الحد أنت ضعيفة وجبانة؟ اذكري الشر المقبل عليك من هذا الزواج، فتتشجعين على الرفض. - آه يا زينب! لقد مرت عليك هذه الكأس قبلي فلماذا تجرعتها؟ لماذا لم تتشجعي؟ - لم تكن حالي كحالك الآن؛ فأولا لم أكن أعلم بوجود هذا الشقاء الذي وصلت إليه، ولم يكن من ينبهني إليه ويحذرني منه كما أحذرك الآن. ثم لم أكن لأرفض «عزيز» خوفا من سوء معاملته؛ بل لأني كنت أحب فتى جميل الأخلاق والصفات والملامح يدعي شاكر بك نظمي، فكنت أرفض عزيز على أمل أن يتسنى لي أن أتزوج شاكرا، فلما قضت الأحوال بأن يفر شاكر لم يبق لي مطمع فتغلبوا علي في تزويجي من عزيز، ثم إذا كنت أنا قد وقعت لضعفي، فلماذا لا تجتنبين وقعتي؟ ولماذا لا تتعلمين من أمثولتي؟ فتشجعي يا نعيمة ولا تسلمي نفسك رخيصة إن خليل هذا لا يقل عن أخيه رداءة. - سمعت مرة أنك كنت تحبين شابا آخر وأنه هرب ومات في أوروبا ولكني لم أعلم سبب هربه. - اتهم بجناية قتل ففر. - هل قتل أحدا؟ - وجدت إحدى النساء الأوروبيات قتيلة، فاتهموه بقتلها، وأقاموا الأدلة على أنه هو القاتل. - إذا كان سفاك دماء فكيف أحببته؟ - لم يكن كما ظننت يا نعيمة، بل كان كالملاك في طيبة قلبه، ولما سمعت بخبر التهمة والفرار دهشت وكدت لصغر عقلي أصدق في أول الأمر أنه هو الفاعل، مع أني أعلم سلامة طويته، ولكني أخيرا رجحت في ضميري أن التهمة كانت مدبرة بدسيسة. أما كيف كانت هذه الدسيسة؟ فلا أدري، وكانت النتيجة أني لم أعد أستطيع أن أتفوه باسمه أمام أبي؛ خيفة أن يقتلني؛ لأنه كان مقتنعا أنه الجاني وصار يحسب حبي له عارا على أسرتنا، ولما يئست من عودته استسلمت للتقادير فزوجوني من عزيز، فكانت ساعة نحس ساعة عقد له علي، وبعد ذلك ورد نعي شاكر فحزنت عليه جدا وعزيز تهلل. - إني لأعجب من شر هذا الرجل. - لا تعجبي؛ فإن سبب خبث قلبه الطمع والجشع العظيمان فإنه يقصد بتعذبي وإشقائي أن يضطرني إلى استرضائه بأن أهبه ميراثي من أبوي كله. - وما بغيته من استيهاب ميراثك إذا كان الآن يتمتع بريعه كما لو كان له تماما، وما الفرق عنده فيما لو كانت الأملاك باسمه أو باسمك؟ - هذا ما دعاني أن أوجس منه شرا؛ فإني أخاف أن يطلقني بعد أن أملكه ثروتي وثم أصبح فقيرة سيئة الحظ من كل قبيل، ولو كنت أثق - تمام الثقة - أنه يحبني ويعاملني بالحسنى لكنت أهبه كل شيء لي، ولكني واثقة أنه يستولي على أملاكي ويبيعها قطعة بعد قطعة، ويضيعها في القمار والبورصة، ومتى نفد المال ينبذني فقيرة، أفلا يحق لي أن أتشبث بمالي؛ ليكون عضدا لي عند الشدة والحاجة؟ - بالطبع، إياك أن تهبيه شيئا من أموالك مهما تملقك وأغراك؛ فإن الطموع لا زمام له، عند الحاجة يعدك ويمنيك بالأماني السعيدة، ومتى نال بغيته واستغنى عنك؛ ينسى وعوده. - لا توصي حريصة؛ فقد نفدت كل حيله في تمليقه لي وإغرائي ولما لم تجد نفعا جنح إلى التهديد فأخفق أيضا، فعكف على المشاكسة والمكايدة والمضاجرة؛ بغية أن يستنفد صبري ويضطرني أخيرا إلى استرضائه بأن أعطيه من أملاكي شيئا. أما أنا فصبورة جدا لست أنيله مأربا. - بماذا يعذبك؟ - آه يا نعيمة! لا تسأليني هذا السؤال؛ فإن الجواب عليه مؤلم ومخجل لي، ولكنك لست غريبة فأنت الصديقة الوحيدة التي أشكو إليها آلام قلبي، وإن كانت الشكوى غير نافعة، لو أتيت أسرد لك قصص شره وخبث قلبه في سلوكه معي لقضيت عاما أروي لك، ولكني أذكر بعض الأشياء، فأولا أنه يحظر علي حظرا باتا أن أزور إحدى صديقاتي، وأنت تعلمين أنهن كثيرات وليست واحدة منهن تقصر في زيارتي. فإذا غافلته مرة وزرت واحدة منهن فعرف؛ أوسعني في ذلك اليوم إهانة وسبا ولعنا وشتما حتى يسمع الخدم فيظنون أنه يعاقبني على لقاء حبيب! فكنت أقول له: بماذا أعتذر لزائراتي عن مقاطعتهن؟ فيقول لي: لا تقبليهن في منزلك، فبالله عليك كيف أردهن وبأي عذر أجفوهن إذا زرنني؟ وأنا أكتم عنهن النفور الواقع بيني وبينه.
وأغيظ من ذلك أنه يضع علي رقباء كأني امرأة فاسدة، مع أنه يعلم - حق العلم - أمانتي، وإنما يفعل ذلك لإغاظتي ومضايقتي، والآن قد مر علي نحو عامين لم أخرج فيهما من البيت سوى مرة واحدة لزيارتكم يوم العيد، وإذا خرجت مرة أقام الدنيا وأقعدها حتى يوشك أن يلبسني عارا لست لابسته. فأنا أخجل وأحاول نفي العار والفضيحة، وهو لا يخجل ولا يخاف الله ولا يهمه أن يشيع أني امرأة فاسدة، بل يريد ذلك لكي يضطرني أن أسترضيه، بل هو يعلم أن نسبة الفساد والفحش لي تروعني فيحاول أن يثبتها علي؛ لكي ينال مني غرضه. - يالله، ما أخبث قلبه!
وعند ذلك اغرورقت عينا زينب بالدموع واستمرت في حديثها قائلة: ولا يكتفي بذلك فإنه لا يريني وجهه إلا كل مدة طويلة، مرة إذ تكون الخمرة تقدح شررا من عينيه فيوقظني من نومي في آخر الليل مذعورة ويروعني بعربدته.
وقد حدث مرة أنه أتى إلي في آخر ليلة من ليالي الشتاء السابق وهو يترنح كالسفينة في الأمواج، وحتم بأن أخرج معه في قميص النوم إلى الحديقة وكان البرد قارصا فجعلت أستعطفه أن يعفيني فأبى إلا أن أخرج فألقيت علي رداء صوفيا توقيا للبرد فنزعه عني ومزقه وجرني بالرغم مني إلى الحديقة، وكان الفجر يشق سجوف الظلام فكدت أموت من البرد، ولكن الحمد لله لم يمكث في الحديقة إلا بضع دقائق، على أني مرضت على إثر هذا البرد نحو شهر، وخفت أن يكون صدري قد تلف. - رباه ما هذا الوحش! - ولعلك لا تصدقيني إذا قلت لك إنه كان في بعض الأحيان يضربني ضربا مبرحا إذا نفرت منه أو سخطت. - بربك لا تزيدي من قصصه، وعجيب أمرك يا زينب كيف تحتملين هذا العذاب؟ - ماذا أفعل؟ - لماذا لا تشتكيه؟ - لمن؟ أبوك لا يسمع شكواي، ومن لي ملجأ سواه؟ - اشكيه للمحكمة الشرعية. - لا بينة لي تثبت شكواي، ثم كيف أفضح نفسي؟ - إنك لجبانة وضعيفة، ولا تظهر شجاعتك إلا في تشجيعي وتنشيطي ما بالك مستميتة هكذا؟ ألا تجدين وسيلة إلى الخلاص من هذا الوحش الضاري؟ - سألته ألف مرة أن يطلقني فأبى، فماذا أفعل؟ - أرشيه. - عرضت عليه مرة عزبة برمتها أهبها له لكي يطلقني فأبى، ولا يطلقني إلا إذا أفرغت له كل ثروتي، وفي هذه الحالة يزداد شقائي، على أنه هو يبالغ في مكايدتي لكي يصل إلى هذه النتيجة. - إياك أن تبلغيه إياها، ابحثي عن وسيلة أخرى للنجاة. - ماذا؟ قولي لي أي وسيلة غير الطلاق، وهو لا يريد أن يطلق. - ويلاه، ما هذه القيود التي تقيد بها المرأة؟ ليتني لم أخلق يا زينب، إن العدم خير من الحياة تقضى في هذه القيود، كقيد الزوجية وغيرها. - صدقت ولكن ليس كل الزوجات يعانين ما أعاني، بل إن بعضهن يغبطن ويحسدن على قيود زوجيتهن؛ لأنها سلاسل ذهب، بل سلاسل هناء وسعادة، فطوبى للمرأة التي توفق إلى زوج فاضل. - ولماذا لا تترك الفتاة تختار من طلابها الزوج الذي تهواه وتؤمل أن تعيش سعيدة معه؟ - لأن العادات والتقاليد قضت بهذا العسف؛ فإن أبي أصر على تزويجي من عزيز؛ لأنه رفيع الأصل عريض الجاه. - ولكنه نذل القلب سافل النفس دنس الضمير، فما الفائدة من رفعة أصله وعرض جاهه؟ - ما هي إلا جهالة آبائنا، ولو خيرت أنا لاخترت فتى نبيل النفس ولو كان وضيع الأصل وأفقر من الفقر؛ لأني أعتقد أن هذا الجاه الذي يعزونه للأصل باطل، وكثيرا ما يكون شرا لذويه، فهذا عزيز يعتد بجاه أسرته ويفتخر بأنه من أصل شريف ولكنه يكاد يقع في هوة الإفلاس من جراء المقامرة والمضاربة. ولولا ريع مالي لما كنا نستطيع أن ننفق في بيتنا نصف ما ينفقه أمثالنا، فماذا أفادنا أصله وجاهه؟ ولو كان عزيز طيب القلب مهذبا حسن السيرة والسريرة لكنت أعبده عبادة ولو كان أبوه حمارا. - إنك تجرئيني يا عزيزتي زينب على أن أسر إليك أهم أسراري وأعمقها.
فالتفتت زينب بنعيمة وقالت: ماذا؟ - عندي سر عميق ومهم يا زينب، لم أقله لأحد بعد، ولكني لا أرى بدا من اغتنام هذه الفرصة لإباحته لك. - قولي وكوني مطمئنة. - أتعرفين حسن أفندي بهجت، ابن المرحوم علي صالح الذي كان مستخدما في دائرتنا؟ - أليس هو الذي كان يدرس الحقوق في باريس؟ - نعم. - أعرفه وأسمع أنه ذكي جدا وفطن، أظن أن بينك وبينه صلة حب يا نعيمة، أليس كذلك؟
فابتسمتا معا، ونعيمة أطرقت خجلا، ثم قالت: شيء من ذلك، وما أحد غيرك عرف بالأمر. - لا بأس، لا تخافي إني أتوسم في هذا الفتى النباهة والفطنة، وأظن أن له مستقبلا حسنا. هل انتهى من دراسته؟ - انتهى وحصل على «الليسانس» (شهادة الحقوق). - برافو.
وعند ذلك ابتسمت زينب، وقالت: أخبريني ما بينك وبين هذا الفتى؟ - لا يخفى عليك أن حسن كان منذ الحداثة يتردد إلى بيتنا كثيرا، وكان يدخل مع أمه إلى دار الحريم، فكنت أجتمع به مرارا ونلعب كما يلعب الأطفال. وكنا كلما نمونا في القامة وتقدمنا في السن تنمو الألفة بيننا، فما بلغنا سن الرشد حتى أصبحت تلك الألفة الشديدة حبا. نعم إنه امتنع علينا بعد ذلك أن نلتقي، ولكني أبوح لك بإثم كنت آثمه على أن ضميري كان يبرره؛ لأنه ليس إلا مخالفة للعادات الشرقية، وليس كل العادات شرائع مقدسة. وأعني بهذا الإثم: اختلاسي أحيانا قصيرة اللقاء بحسن؛ لأجل مخاطبته فيما يتعلق بحبنا. - أين كنتما تلتقيان؟ - في بوابة الحديقة الخلفية عند الغروب، بضع دقائق فقط. وفي حين آخر أخبرك كيف كنا نعين الموعد والملتقى؟ - إذن أنتما على حب متبادل صريح. - نعم، وقد تعاهدنا عهدا مقدسا على أن نثبت على حبنا إلى أن يتسنى لنا الاقتران. - إني أفضل هذا الفتى على خليل يا نعيمة. - وأنا أفضله على كل شاب؛ لأني أحبه، ولو كنت تعرفينه جيدا يا زينب لكنت تجدين أنه نابغة أقرانه. - ولكن يا نعيمة يكاد يستحيل أن يرضي أبوك به صهرا، وليس عدلي باشا ممن يهون على طبعهم أن يصاهروا واحدا من حاشيتهم. - أعرف ذلك جيدا يا زينب؛ ولهذا باع حسن ثروته الزهيدة التي ورثها من أبيه وأنفقها في باريس لكي يعد لنفسه مستقبلا حسنا يمحو أثر ضعته وضعة أسرته، ويظهر بين الناس وجيها معتبرا، وحينئذ لا يبعد أن يرضى به أبي بعلا لي. - يمكن. - وقد نجح في دراسته والحمد لله، وعاد وهو على أهبة الشغل في صناعته الجديدة، وبالأمس رافع أول مرافعة في المحكمة المختلطة فأعجب القضاة جدا - على ما ذكر لي - وهو لم يقتصر على الشغل في صناعته هذه فقط، بل يشتغل الآن بمشروع مالي مهم جدا، بالاشتراك مع رجل متمول تعرف به في أوروبا. - أي مشروع هذا؟ - الكلام بسرك أرجو أن يبقى مكتوما. - ومن أرى أنا لأخبره؟ - في نيتهما أن ينشئا شركة لتسيير عربات كهربائية في شوارع البلد على خطوط حديدية تدعى «ترامواي» تسير بقوة الكهرباء، وهما يؤملان أرباحا باهظة من هذا المشروع، والآن يتأهبان لطلب الامتياز من الحكومة.
فأعجبت زينب من هذا الفكر، وقالت: ما كنت أظن أن فتى كحسن في أصله وفصله تكون له هذه الهمة العالية. ومن هو هذا المتمول الذي يشاركه؟ - يقول إنه تركي الأصل مولود في الأستانة، ولكنه مستوطن في بلاد النمسا، وهو يحب حسن جدا ويثق به ثقة الصديق بالصديق. - إذا أفلح حبيبك حسن في مشروعه هذا فلا بد أن يصبح ذا مكانة سامية في مصر، وحينئذاك لا يبعد أن يرضي أبوك به زوجا، هذا إذا أمكن التملص من خليل. - هذا هو الأمر الذي يهمني الآن؛ أي التملص من خليل ولو نحو سنة، ريثما يظهر حسن في ذروة الوجاهة التي نتوقعها؛ لأني لا أقدر الآن أن أبوح بحبي له ولا يرضى به أبي زوجا لي إذا هو التمس يدي منه، ما الطريقة لي يا زينب، أسعفيني برأيك؟ - في أول الأمر أعلني عدم رضاك بخليل زوجا؛ بدعوى أنك لا تحبينه ولا تشعرين بميل إليه، أعلني ذلك بكل صراحة وجرأة وأقنعي أباك أنك لا تهنئين بالمعيشة مع زوج لا منزلة له في قلبك؛ فلعل أباك أعقل وأقل تعنتا وتعصبا وتشبثا بالتقاليد القديمة مما نتصور. - أخاف أن يغضب إذا كلمته بكل صراحة وغضبه يروعني. - يجب أن تتعرضي لغضبه، لا بأس، تشددي ولا تخافي؛ لأنه مهما غضب لا يؤذيك بأمر، وقلبه لا يطاوعه على أن يعذبك؛ لأنه أبوك، وهو حنون جدا، وليس له مولود سواك. - أخاف أن مخالفتي له تزيده عنادا وإصرارا. - إذا كانت نتيجة تصريحك بالرفض إصراره على تزويجك من خليل بالرغم منك؛ فاستمهليه، فإن لم يمهلك عاندي، وبغير رضاك لا يصح العقد، وإذا أمهلك برهة ريثما يظهر حسن بمظهر حسن؛ أي المظهر الذي تتوقعانه وتحسبان أنه يعجب أباك. دعي حسن يطلب يدك من أبيك رسميا وحينئذ أعلني حبك له لكي يعلم أبوك رغبتك الحقيقية. - وهبي أن كل الوسائل لم تفلح وأبى أبي إلا أن يزوجني من خليل، فماذا أفعل؟ - أرى أن تفري وتذهبي مع حسن إلى القاضي الشرعي، فيعقد قرانكما. - ويلاه، كيف تقولين ذلك يا زينب؟ أنسيت بنت من أنا؟ - لما كنت فتاة مثلك كنت أستنكر عملا كهذا وأحسبه عارا، ولكني الآن - إذ أعاني العذاب في فقد الحرية الشخصية - أحلل عملا كهذا متى نفدت كل الوسائل الفضلى، وعندي أنه يجوز لك دينا أن تهربي من رجل لا مطمع له إلا في مالك. - لا سمح الله أن نضطر إلى هذا العمل المخجل يا عزيزتي زينب، ولا ريب عندي أنك تقولينه قولا فقط ولكنك لا تعنينه.
ناپیژندل شوی مخ