الفصل الحادي عشر
في صباح اليوم التالي كان خليل بك وأخوه عزيز باشا في فندق الكونتيننتال؛ يلتمسان مقابلة طاهر أفندي، فاستهلهما أحد رجال البطانة في قاعة الاستقبال ريثما يقدم طاهر إليهما.
وبعد هنيهة أقبل طاهر عليهما فخفا لاستقباله في وسط القاعة، ودنا خليل بك منه مومئا إلى أخيه وقائلا لطاهر أفندي : عزيز باشا مجدي، أخي.
فقال طاهر أفندي - موجها الخطاب إلى مجدي باشا: لي الشرف بمعرفة سعادتكم الآن، بل أعتبر أنه قد سبق لي هذا؛ لأن أخاكم خليل بك أعز أصدقائي، ولطالما حدثني عن محامدكم وشمائلكم، حتى إنه طبع في ذهني صورة تطابق هذه الملامح التي أراها فيكم الآن، فأعد نفسي صديقا قديما لحضرتكم. - إنك لطيف جدا يا طاهر أفندي، ونحن نعد صداقتكم فخرا لنا، وبها لنا أسمى شرف.
وكانت أسرة خليل بك تبرق؛ من جراء هذه المجاملة التي حققت ظنه واعتقاد أخيه. - متى شرفتم سعادتكم؟ - أمس. - ليتني عرفت فكنت قدمت واجباتي! - إنني لفي عظيم الامتنان للطفكم يا طاهر أفندي. - عساكم تطيلون الإقامة في باريس! - مدة الصيف فقط، ولكن لا بد من تجوالنا في بعض حواضر أوروبا على أننا نتردد إلى باريس كثيرا. - الحق أنه لا غنى للمصطاف عن هذه المدينة الزاهرة، ولا سيما في بعض الأحيان. - وحضرتكم، باقون هنا في باريس؟ - لا، على أني لا أدري متى أبرحها؛ لأن شغلي فيها نهايته غير معلومة، ولكن أظن أن إقامتي فيها تتجاوز نهاية الصيف. - وبعدئذ؟ لا تؤاخذني يا طاهر أفندي على هذا التساؤل، فإنما أسأل حضرتكم هذا السؤال؛ لأن أخي ذكر لي أمس أن في نيتكم الذهاب إلى مصر. - أفتكر بهذا الآن، ولكني لم أصمم عليه بعد تمام التصميم. - ألم تزوروا مصر قبل الآن يا طاهر أفندي؟ - كلا البتة، أمي من مصر؛ ولأجلها أحب مصر. - مصر جميلة جدا في الشتاء، فأود أن تصمموا على الذهاب إليها. - الأرجح أني أبرح إليها في نهاية هذا الصيف؛ لأن في نيتي أن أشرع بمشروع مهم فيها إذا استصوبته بعدما أدرسه جيدا، فإذا لم أستصوبه سأنشئ فرعا تجاريا فيها - على الأرجح - وهب أنه لم يبد لي من داع كهذا للذهاب إليها فزيارتكم في مصر أهم داع. - أهلا ومرحبا، ما آنس الأيام وأسعدها بلقياكم يا طاهر أفندي، إذن المشروع الذي يجول في خاطركم غير تجاري؟ - نعم. غير تجاري ولا بد من مفاوضة حضرتكم عنه في حين آخر بغية استشارتكم فيه. - إن رجلا محنكا مثل طاهر أفندي لغني عن مشورة مثلي. - ما هذا إلا مجاملة يا مجدي باشا؛ لأن سعادتك ابن مصر وأنا غريب عنها، فبالطبع أنت أعرف مني بها.
وبعد حديث قصير بمثل هذا الموضوع انصرف عزيز باشا وأخوه على نية الالتقاء بطاهر أفندي.
وفيما هما راجعان دار بينهما الحديث الآتي: - لا أدري يا خليل لماذا شعرت بخفقان قلبي وأنا في مجلس هذا الرجل؟ كأن له رهبة في فؤادي وهيبة في نفسي! - الحق كما تقول؛ لأنه رجل قوي العقل والإرادة، ولكن متى ألفته راقت لك عشرته. - ما أدركت قصدي تماما؛ فإن أمر هذا الرجل يريبني، فالتفت به خليل قائلا: لماذا؟ - يقول إنه تركي الأصل، وقد ربي في الأستانة، وقضى معظم شبابه في بلاد النمسا، ولكنه يتكلم العربية جيدا. أما لاحظت أنه في وسط حديثه عدل عن الكلام بالإفرنسية إليه بالعربية من غير تكلف؟ نعم. في لغته لهجة التركية، ولكن كلامه صحيح بل فصيح، وفيه بعض ألفاظ مصرية، مع أنه يقول: إنه لم يعرف مصر قط. - أنسيت أن أمه مصرية؟ وأنت لا تجهل أن الولد يكتسب اللغة من أمه. - سلمت بذلك، ولكني لم أزل في ريبة منه. - خامرتني هذه الريبة مثلك؛ إذ سمعته يتكلم العربية واللهجة المصرية بادية في كلامه، فقلت له في ذلك، فقال ما قلته لك، إنه أخذ هذه اللغة منذ حداثته عن أمه؛ لأنها لم تكن تعرف لغة غيرها، وأبوه نفسه كان مضطرا أن يكلمها بها في دار الحريم؛ إذ ليس فيها من يفهم التركية حتى إن الجارية كانت اصطحبتها أمه معها من مصر، فماذا تظن في أمره؟ - لا أدري، نعم إن ما تقوله مقنع، ولكني أرى في ملامح هذا الرجل ما يقلق بالي. ألست ترى أن عينيه سوداوان كعيون الأتراك، ولكن شعره أشقر، ولا سيما شعر لحيته كشعور النمساويين وغيرهم من أهل أوروبا، وفي هذين الأمرين تناقض للمألوف. - مهما يكن من أمره فما لنا نحن وإلى الآن لم نصادف منه إلا كل طيبة؟ فدعنا نغتنم فائدة من طيبته. - وهو كذلك، ومتى اجتمعت به ثانية تحققت أمره جيدا.
الفصل الثاني عشر
في شارع من شوارع باريس الصغرى التي تقل الحركة فيها منزل متوسط الكبر، وقد وسم بابه برقم 27. هذا المنزل استأجره طاهر أفندي مدة الصيف، وأقام فيه بعد نهاية الحديث السابق، وكان عند طاهر أفندي رجل يدعى فيليب فدار الحديث الآتي:
قال فيليب: لقد دبرت الرجلين طبق المرام. - النشال والمصور؟ - نعم، ولا يعرف أحدهما الآخر، ومن حسن الحظ أن المصور مارس تلوين وجوه المشخصين والمشخصات في بعض التياترات. - وهل توفقت إلى نشال يضارعك قامة وجسامة. - نكاد نكون مصوغين في قالب واحد. - ولكن لا يغب عليك أنه لا يجوز أن تكون هيئاتكما متشابهتين، ولكن يحسن أن تكونا متقاربتين «في التياترات مصورون أخصا شغلهم الوحيد أن يلوثوا وجوه المشخصات والمشخصين بالأصبغة المختلفة؛ لكي يجعلوا سحنتهم موافقة لسحن الأشخاص الذين يمثلونهم تماما.» - أعلم ذلك جيدا. - حاذر أن يكون النشال والمصور متعارفين. - لا معرفة بينهما البتة، وإلى الآن لم يلتقيا ولن يلتقيا إلا في أول السهرة حين يرسم المصور شكلي كشكل النشال. - أي اسم سميت النشال؟ - المسيو جوزيف رينان. - هل فهم شيئا من هذا اللغز؟ - كلا، لم يفهم إلا أنه مأجور لي؛ لكي يحضر مجلسك مدة من الزمان باسم المسيو رينان التاجر. - بأي صفة أفهمته أن يظهر؟ - بصفة كونه تاجرا لم تعرفه من قبل، ولكنه عرفك فأتى لكي يتعرف بك على نية أن يشترك معك في الفرع التجاري الذي تبتغي فتحه. - حسن جدا، يجب أن يكون هنا منذ الساعة الثامنة في هذا المساء. ومتى تجمعه بالمصور لكي يرسم سحنته في وجهك؟ - الساعة السابعة. - هل درى أن لي علما بأمر ما؟ - كلا البتة، وهو يظن أني أنصب مكيدة لك. - أين قررت أن تجعل مكمنك؟ - في الحانة القريبة من هنا، وسأجلس بحيث يقع الظل على وجهي، فلا يرى جيدا. - حسن، حسن جدا. - وأين تجتمعان؟ - في منزل امرأة بغي. - هل استعددت الاستعداد اللازم؟ - كل شيء مهيأ. - ولما كانت الساعة الثامنة استأذن بالدخول إلى مجلس طاهر أفندي رجل يدعى الموسيو جوزف رينان، فاستقبله طاهر بكل حفاوة. - أقدم نفسي لحضرتكم باسم جوزف رينان تاجر. - على الرحب والسعة. - أتيت من تلقاء نفسي غير مستوسط أحدا بيننا؛ لأني سمعت عن كرم أخلاق حضرتكم، ما يجعلني أن أفاتحكم بأمر قد يهمكم كما يهمني. - خير - إن شاء الله. - سمعت أن في نيتكم أن تفتحوا محلا تجاريا في باريس يكون فرعا لمحلكم الكبير في فينا، فأردت أن أقترح على حضرتكم مشاركتي في هذا المتجر - إذا حسن عندكم. - لا بأس، ولكن من أخبر حضرتكم أن في نيتي هذا الأمر؟ - المسيو جيرار. - لا أعرف هذا الرجل. - ربما لا تعرفونه ولكنه هو يعرف حضرتكم.
ناپیژندل شوی مخ