ولما كادت تتجاوز الثانية عشرة وكنت أبلغ الخامسة عشرة صارت تتحجب عني، وبالطبع كان ذلك بإيعاز أمها؛ لأنها لم تعد تستصوب اجتماعنا. لم أدرك ذلك حينئذ، وأما الآن فصرت أفهمه ، لم أعد أرى نعيمة إلا أحيانا نادرة، وكان اجتماعي بها هنيهات، ولا يخفى عليك أن هذا التحجب زادني ولوعا بها حتى إني لم أكن أستطيع أن أحول فكري عنها متى لم أكن لاهيا بكتابي أو بدراستي؛ ذلك لأني صرت أفهم معنى الحب وأدرك سر هذا الوداد، وكنت أسائل نفسي هل تفتكر بي نعيمة كما أفتكر بها أم أنها سلتني؛ لأن ودها السابق لي كان ساذجا صبويا، وصرت أفكر بالطرق الممكنة للاطلاع على ضميرها وقراءة صفحة قلبها وجعلت أحاول التحرش بها بأي الطرق المستطاعة.
كانت - لذلك العهد - تدرس في إحدى المدارس الأجنبية الداخلية، فلا تأتي إلى البيت إلا في الفرص المدرسية، وكنت أدرس في بعض تلك المدارس أيضا، وقد برعت خصوصا باللغة الإفرنسية دون سائر رفاقي على ما هي عليه المدرسة من حطة الدرجة؛ لأني كنت مولعا جدا بقراءة الروايات، ولا ريب أنها كانت تحسن فهم الإفرنسية؛ لأن مدرستها تتقن تعليم هذه اللغة، وكانت تفهم العربية بقدر ما يسمح به سنها؛ لأن أباها أقام لها شيخا أزهريا مسنا يدرسها القرآن الشريف وقواعد اللغة ونحو ذلك من علوم العربية، ففي الفرصة المدرسية بعد تحجب نعيمة عني كنت أتردد كعادتي إلى دار حسين باشا وأحاول أن أراها، لكي أكلمها ولو كلمة، فكان يعز علي ذلك؛ لأني لم أعد أقبل في دار الحريم، ولكن كان يحدث أحيانا أن أراها وأمها خارجتين إلى النزهة فأحييهما وأكلمهما كلمات قليلة، ولكني لا أجسر أن أرمي بكلامي إلى غرض لئلا أنبه ظنها إلى ما ينطوي عليه ضميري.
واتفق مرة أن لقيتهما واقفتين في باب القصر الكبير لدى العربة وأمها تتفطن لشيء فقدته ثم رجعت إلى القصر تبحث عنه، وأظن أن المفقود كان حلية؛ بدليل اهتمامها، فبقيت واقفا لدى نعيمة، فقالت لي: أراك كأنك حزين يا حسن أفندي، ولم أكن بالحقيقة حزينا، وإنما كنت كالوجل لوقوفي معها وحدنا، وكان الحوذي في مقدم المركبة ينتظر، فألهمت إلى جواب سريع كان فاتحة اختباري فؤادها فقلت: كنت أقرأ رواية رافائيل فتأثرت منها جدا، ولم تزل آثار هذا التأثير بادية على وجهي. - إذن هذه الرواية مؤثرة جدا، فلا بد أن تكون بديعة. - نعم وهي أبلغ ما كتبه لامرتين. - أود أن أقرأها إذا لم تكن لغتها عويصة؛ لأني لست ضليعة بالإفرنسية كالواجب. - بل هي سهلة جدا على ما هي فيه من البلاغة وسمو التصورات. - هل تتكرم بإعارتها لي؟ - تتشرف بين يديك يا سيدتي. - أشكرك. - كيف أرسلها إليك؟
ففكرت هنيهة ثم قالت: مع أمك - إذا شئت. - أليس من محظور؟
فنظرت في نظرة المستغرب وقالت: أي محظور تعني؟ - ألا ينكر عليك سعادة الباشا مطالعة الروايات؟ - كلا، وهل في الروايات ما تنكر مطالعته؟
فسكت عن هذا السؤال، وقلت لها: إذن تصلك غدا.
وعند ذلك حييت وانصرفت؛ خيفة أن تأتي أمها وتوجس مني، وكنت أسمع ضربات قلبي وأنا واقف لدى نعيمة أكلمها، وأشعر باضطراب أعضائي كلها إذ أرفع نظري إلى عينيها النجلاوين، وأرى ما ظهر من خديها الأسيلين فوق نقابها التركي، وأتوسم منها السماحة والرقة على ما هي فيه من الرزانة والحشمة، ولم أقدر أن أستطلع سرا من أسرار ضميرها ولكني كنت أحس أن كل تلك الدالة التي مارسناها لعهد صبانا قد انقلبت إلى كلفة واحتشام ومحاذرة، وصار يخيل لي أن كل حركة من حركاتي وكل حالة من حالاتي؛ تفضح لواعج قلبي وربما تسوء نعيمة، ولهذا كنت أبالغ في التحذر والاحتياط.
وفي اليوم التالي زودت أمي بالرواية، وقلت لها أن تدفعها للسيدة نعيمة محاذرا أن تطلع على شيء من أسرار قلبي، وصرت بعد ذلك أتوقع أن ترد نعيمة الرواية وتطلب مني سواها؛ ولهذا جعلت أبحث عن الروايات الجميلة المشهورة وأقتنيها وكانت نفسي المغرورة تحدثني أحيانا بأن نعيمة قد تكتب على بعض حواشي الكتاب كلمات توري بها معاني أفهمها.
صبرت بضعة أيام ونعيمة لم ترد الرواية، فحرت في ذلك، ولم أعد أجسر أن أحاول رؤيتها لئلا تحس بقصدي فتنفر مني، فانظر يا عزيزي يوسف ما كان أسخف عقلي حينئذ ولكن لا، لم يكن ذلك سخافة مني؛ فإن نوع التربية التي اختارها لي أبي والتي تربت بها نعيمة أيضا عودتني الجبن في مثل هذه الحال.
حاولت أن أستفهم بواسطة أمي عما إذا كانت نعيمة قد قرأت الرواية فلم أهتد إلى أسلوب لذلك آمن فيه تفطن أمي إلى ما أنا عليه من الشغف، ومع ذلك لم أر بدا من أن أقول لها: سلي الست نعيمة هل أعجبتها الرواية؟ ولما عادت أمي سألتها، فقالت: إنها نسيت أن تسألها فقلت لها: «سليها حتى إذا كانت قد انتهت من قراءتها تردها فأرسل لها غيرها إذا شاءت، ولكن لا تطلبيها منها طلبا بل اكتفي أن تسأليها عما إذا كانت قد أعجبتها، فإذا ردتها لك سليها كما قلت لك.»
ناپیژندل شوی مخ