سعد زغلول مشر د انقلاب
سعد زغلول زعيم الثورة
ژانرونه
ومما يعزز أن اللورد اللنبي نفسه طلب لزعماء الوفد جميعا الإعدام في هذه المناسبة أو غيرها، ما رواه السفير الأمريكي الدكتور مورتون هول عن مقابلة اللورد اللنبي ومستر اسكويث بعيد مقتل السردار، حيث قال في كتابه «مصر ماضيا وحاضرا ومستقبلا»:
عندما لقيته قدمني إلى مستر اسكويث، وكنا جميعا واجمين، واللورد اللنبي - بصفة خاصة - مهتاج الشعور، وكان يقول: إن الأطباء الآن يفحصون حالة الحاكم العام، وإنه يخشى أن تكون الإصابة قاتلة. ثم قال: إن زغلولا باشا رئيس الوزراء حضر قبيل ذلك ليعرب عن أسفه لهذه الفعلة الشنيعة، ولكنه لم يجد متسعا من الوقت ولا من الكلام لهذه المقابلة.
ثم ختم كلامه عن هذه المسألة بقوله:
إنني قد أردت أن أشنق جميع هؤلاء الناس من وقت قبل هذا فلم توافق الحكومة، وكأنه يعني - كما فهمت ساعتئذ - أنه لو أجيب إلى طلبه وترك لرأيه لما وقعت هذه الفاجعة.
فالانتقام من زغلول - ومن هؤلاء الناس - كان إذن غرضا يراد لذاته، أو كان هو الغرض الأول من قضية التصريح والاستقلال المزعوم. لعله بعد نفي زغلول يعين على نسيانه وإهماله.
وبعد الفراغ من هذا الغرض الأول تفرغ اللورد اللنبي والوزراء المصريون أصدقاؤه لما بقي لهم من الغرض الآخر الذي لا يهم النجاح فيه، كما يهم النيل من زغلول والغض من مكانته وكبريائه، ونعني بالغرض الآخر إرضاء مصر بالتسوية الجديدة من طريق إقناع المعتدلين، وإجبار المتطرفين على الاعتدال؛ فلم تطل الأيام حتى وجدوا أن «التصريح» كان عبثا باطلا وجهدا ضائعا من حيث تحقيق هذا الغرض الآخر؛ لأنهم قد اضطروا إلى اتباع الخطة التي كانوا مضطرين إلى اتباعها لو لم يوجد هذا التصريح، وهي خطة القمع والتجسس والمحاكمات العسكرية، تقابلها من الجانب المصري المظاهرات وسلسلة من حوادث القتل السياسي لم تكن معروفة قبل ذلك في تاريخ الثورة المصرية؛ لأن الإنجليز الذين أصيبوا قبل تصريح 28 فبراير، إنما كانوا يصابون في أثناء المظاهرات أو في أثناء الصدام والمقاومة وكانوا جميعا من الجنود، ولكن حوادث الاعتداء بعد ذلك التصريح كانت تصيب الجنود والموظفين وغير الموظفين، وكان القائمون بها أناسا يتآمرون ويدبرون ويقدمون عليها للحفيظة والانتقام.
وانقلب العداء إلى عناد والعناد إلى مناجزة يبذل فيها كل فريق قصارى ما عنده لتحدي الفريق الآخر وإحباط مسعاه، فإذا منعت الحكومة الاجتماعات والمظاهرات التي تهتف بحياة سعد زغلول، نابت عنها الأغاني الشعبية في الشوارع والأزقة والحواضر والقرى، وكل مكان يتسع فيه الفضاء للغناء والترنم والإنشاد. وإذا حظرت الحكومة على الصحف أن تذكر سعدا أو تشير إلى اسم الجزيرة التي هو منفي فيها، استورد الناس الآنية الخزفية من أوروبا وعليها رسمه، وكتبوا اسمه على الجدران وعلى ورق النقد الذي كانت تتداوله الأيدي بمئات الألوف في تلك الأيام لانتشار الأوراق الصغيرة من جميع الفئات، وإذا اعتقلت الحكومة أعضاء من الوفد، قام في مكانهم على الأثر أعضاء غيرهم يعرضون أنفسهم للاعتقال والجزاء وهم مستبشرون، فأصبحت العلاقة بين الفريقين علاقة غالب أو مغلوب ومنتصر أو منهزم، وهذا كل ما ظفر به التصريح من «التقريب» و«تسوية» العلاقات بين البلدين.
وقد ظهر من سفر اللورد اللنبي إلى لندن أيام المفاوضة في التصريح - كما ظهر بعد ذلك من الوثائق الرسمية - أن الوزرة البريطانية لم تخل من أناس يعارضونه معارضة شديدة، ويستكثرونه على مصر كأنه غنيمة لا ينبغي لها أن تطمح إليها. وراق الوزراء المصريين أن يحسبوه كذلك من الغنائم التي لا تنال إلا بالدهاء و«المرونة» ولطف المدخل على عقول الإنجليز، بل راقهم أتباعهم أن يحسبوا أنفسهم خادعين، ويحسبوا الفيكونت اللنبي ومستشاريه الإنجليز مخدوعين في هذه المساومة التي ما كانت لتفلح في زعمهم لولا ما وهبوه من قدرة على طرق الأبواب وتذليل الصعاب. ومن الطبيعي أن يكون هذا رأيهم أو زعمهم في تعظيم ما عملوه وتسويغ ما فعلوه، ومن الطبيعي كذلك أن تمانع الحكومة البريطانية في المبادرة بإعلان التصريح ما دامت تستطيع أن تمانع وتساوم وتعطي بالثمن الكبير ما هي خليقة أن تعطيه بالمجان، ولكن الحقيقة أن الدولة البريطانية كانت وشيكة أن تفرض ذلك التصريح أو ما شابهه على مصر بغير جهد الفيكونت اللنبي ولا مخادعة من الوزراء المصريين؛ لأنها اتبعت هذه السنة في كل أمة شرقية غير مصر بعد الحرب العظمى، وبعد رواج المبادئ الولسنية التي استغلتها بريطانيا العظمى في سياستها الاستعمارية، كدأبها في جميع المبادئ والدعوات الصالحة للاستغلال، فاعترفت بمملكة الحجاز ومملكة العراق وخولتهما مظاهر الملك وألقابه وحقوق الدول والعروش دون أن يزعم زاعم أن وزيرا بارعا أو غير بارع ضحك من عقول الإنجليز هناك فساقهم بدهائه ولباقته إلى التسليم بالاستقلال من حيث لا يدرون ولا يشعرون. وعمم الإنجليز هذه السياسة حتى اعترفوا بالحكومات الوطنية في مستعمرات أفريقيا التي لا نصيب لها من الحضارة، فهناك اليوم أمراء وطنيون ومحاكم وطنية ورؤساء وطنيون ومراسم من هذا الطراز تخدع من يعبرون بالبلاد عبور السائح، ولا ينفذون فيها إلى بواطن الأمور. ولم تخسر بريطانيا العظمى كثيرا، ولا قليلا بهذه البدعة الطريفة من بدع الحرب العظمى، بل استفادت كل ما تبغيه وفوق ما تبغيه من السطوة والمصلحة والدعاية؛ لأنها كسبت سمعة الحرية والإنصاف بين أمم العالم على أثر الدعوة الولسنية، وكسبت إيقاع الفتنة بين الوطنيين وتدويخهم بالمنازعات الداخلية بدلا من الاتفاق بينهم على السيطرة الأجنبية، وكسبت إلقاء التبعة عن كاهلها وإلقاءها على كواهل الوطنيين، لتعود في يوم من الأيام فتتخذ من سوء الإدارة الذي لا بد منه في جو المنازعات والدسائس وتغليب المفسدين وطلاب الفرص والمغانم حجة لها على أولئك الوطنيين، وكسبت إرضاء الأغرار وذوي الأغراض الذين ترضيهم المظاهر والصور الخلابة؛ فيحسبون أنهم مستقلون لأنهم يوصفون بأوصاف المستقلين. ونجحت هذه السياسة نجاحا أغرى الدول الاستعمارية باقتباسها والحدو على مثلها، فاقتدت بها فرنسا في سوريا والبلاد المغربية واليابان في الأقطار التي اقتطعتها من الصين.
ومعلوم أن بريطانيا العظمى احتفظت لنفسها في تصريح 28 فبراير بشروط أربعة، هي: (1)
تأمين مواصلات الإمبراطورية في مصر. (2)
ناپیژندل شوی مخ