إهداء الكتاب
كلمة للمؤلف
سعد في حداثته
سعد في بيته
سعد من جميع نواحيه
سعد في آخر أيامه
إهداء الكتاب
كلمة للمؤلف
سعد في حداثته
سعد في بيته
سعد من جميع نواحيه
سعد في آخر أيامه
سعد في حياته الخاصة
سعد في حياته الخاصة
تأليف
كريم خليل ثابت
إهداء الكتاب
إلى أم المصريين، شريكة سعد في جهاده.
كلمة للمؤلف
لا أطمع في أن يقال عن الصفحات التي سيطلع عليها القارئ فيما يلي إنها كتاب يتضمن سيرة الفقيد العظيم، ولكنها صفحات مبعثرة تتناول بإيجاز ناحية من نواحي حياته الحافلة بجلائل الأعمال؛ وأعني بها ناحية حياته الخاصة. هي معلومات مختلفة وقفت عليها، إما من سعد نفسه أو من أقرب الأشخاص إليه، وقد نشرتها في مقالات شتى، إما في مجلتي «العالم» أو في «كل شيء والعالم» بعد اندماجها أو في «المصور». وقد أعدت طبعها في هذه الكراسة لتبقى ذكرا لسعد في هذا اليوم الذي تحتفل فيه البلاد بذكره، تغمده الله برحمته وجزاه في جنته تعداد حسناته في خدمة وطنه.
كريم ثابت
القاهرة في 25 أكتوبر سنة 1929م
سعد في رئاسة الوزارة.
سعد في حداثته
انتهز المؤلف فرصة وجود حضرة صاحب المعالي محمد فتح الله بركات باشا في «منية المرشد» في هذا الصيف، فزاره في شهر أغسطس الماضي 1929، وقام بهذا البحث عن حداثة الفقيد المغفور له سعد زغلول باشا، وقد زار لأجل ذلك أيضا بلدة «أبيانة» التي ولد فيها الزعيم الأكبر وحادث بعضا من الذين عاصروه فيها، ثم ضم أقوالهما إلى ما وقف عليه من معالي فتح الله باشا في هذا الصدد. *** (1) موقع بلدة أبيانة
تقوم بلدة أبيانة الآن على شاطئ فرع رشيد من جهته الشرقية وفي شمال مدينة فوه، وهي في موضعها الحاضر تشبه موضع بيت الأمة بالنسبة لنهر النيل، وترجع في إدارتها إلى مركز فوه من أعمال مديرية الغربية.
وقد كانت أبيانة في عصر الفراعنة الأقدمين شطرا من بحر الروم المعروف الآن بالبحر الأبيض المتوسط، فلما انحسر الماء عنها برسوب طمي النيل، ظهرت قطعة من الأرض بشكل جزيرة في البحر، فأنشئت عليها تلك البلدة وكانت تعتبر يومئذ من ضواحي مدينة متليس العظيمة؛ حيث تقوم اليوم مدينة فوه، وكان فرع النيل الغربي الذي هو فرع رشيد الآن، والمعروف قديما بالفرع البليوتيني، ينتهي إلى هذه المدينة قبل ظهور مدينة رشيد، وبلغ من عمرانها في القرن الخامس عشر للميلاد أنها صارت أعظم مدينة في مصر بعد القاهرة، حتى إن القناصل الأجانب اتخذوها مقاما لهم بعد الفتح العثماني. (2) الوصول إلى أبيانة
وقد سلكت للوصول إلى أبيانة طريق دسوق بالسيارة من دمنهور، فبلغتها بعد مسيرة ساعة ونصف ساعة، ولما كان معالي فتح الله بركات باشا يمضي جانبا من فصل الصيف في أراضيه الواسعة في منية المرشد، وهي تبعد عن أبيانة نحو عشر دقائق بالمركبة، استصوبت أن أستهل بحثي بزيارة معاليه أولا لأقف منه على ما تحويه حافظته النيرة من المعلومات والذكريات، واثقا من أنها ستكون أكبر معين لي على تحقيق غايتي؛ لما كان بين معاليه والمغفور له خاله العظيم من روابط الصداقة والألفة المتينة، ويرجع تاريخ هذه الصلة الوثيقة التي كانت تربط أحدهما بالآخر إلى الأيام التي كانا يلعبان فيها مع المغفور له أحمد فتحي زغلول باشا، إما في دار آل بركات في منية المرشد أو في دار آل زغلول في أبيانة نفسها، فرحب معاليه بالفكرة التي حدت بي إلى زيارته، وأفاض في الإفضاء إلي بذكرياته. وكان كلما استرسل في كلامه، ازداد إعجابي بمقدرته على امتلاك ناصية حديثه، وهو ما يعترف له به خصمه قبل صديقه. (3) أسرة زغلول في أبيانة
وكان أول ما اهتممت بمعرفته من فتح الله باشا، هل عنده أو عند أحد غيره من أفراد أسرته أو أسرة خاله ما يستدل منه على أصل أسرة زغلول أو على تاريخ السنة التي نزحت فيها إلى أبيانة، فأجابني سلبا، ولكن يؤخذ من قرائن شتى أن أسرة زغلول ليست قديمة العهد في أبيانة، وأن تاريخها فيها لا يرجع إلى أبعد من قرن ونصف قرن على الأكثر، أما موطنها قبل ذلك العهد فمجهول.
فسألت فتح الله باشا هل يعلم لماذا أسمي سعد بهذا الاسم، فأجاب بأنه علم بعد البحث أن أول رجل من أسرة زغلول ظهر في أبيانة كان اسمه سعد. فقلت وهل كان سعد يحب هذا الاسم؟ فقال: لا أذكر أنه أبدى مرة واحدة ارتياحه إليه، بل إنه كان يتضايق منه في شبابه؛ إذ يظهر أن سعدا الأصلي لم يكن خليقا بهذا الاسم.
وذكرت لمعالي محدثي أن بعضهم يدعي أن سعد باشا لم يزر أبيانة إلا مرة واحدة بعد رحيله عنها وهو شاب، وذلك لما خف إليها في سنة 1910م ليكون في استقبال سمو الخديوي السابق عند زيارته لها. فقال فتح الله باشا على الفور: «هذه رواية لا تطابق الحقيقة بتاتا؛ فإن سعد باشا كان يكثر من تردده على مسقط رأسه كلما سمح له وقته بزيارة أهله، فإنه لما كان يتلقى العلم في الأزهر الشريف كان يجيء إلى أبيانة في كل عطلة صيفية مستصحبا معه جماعة من أصدقائه أمثال الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني والشيخ عبد الكريم سلمان، الذي صار فيما بعد مفتشا عاما للمحاكم الشرعية وغيرهم. ولما اشتغل بالمحاماة كان لا ينقطع عن زيارة أبيانة من وقت لآخر حتى إذا تربع في كرسي الوزارة زارها غير مرة، ورافقه إليها في إحدى تلك المرات المغفور له مصطفى فهمي باشا، وأقام معه فيها سبعة أيام.» (4) سعد في الجبة والقفطان
فسألت فتح الله باشا عن أقدم ذكرى يتمثلها في مخيلته المغفور له سعد باشا، فأجابني بقوله إن أقدم صورة مرتسمة في ذهنه للفقيد العظيم هي منظره وهو يتأهب للرحيل إلى القاهرة لكي ينتظم في سلك الأزهر الشريف، بعدما انتهى من حفظ القرآن الكريم في الكتاب الوحيد الذي كان موجودا في أبيانة في ذلك الحين، وكان رحمه الله يلبس يومئذ الجبة والقفطان والعمامة، فانتهزت هذه الفرصة لأسأل معالي محدثي عن التاريخ الذي خلع فيه سعد باشا الملابس العربية واستبدل بها الملابس الإفرنجية، فأجاب قائلا: «إن المرجح جدا أن سعد باشا استعاض عن زيه العربي بالزي الإفرنجي قبل وقوع الثورة العرابية بسنة.»
فقلت لفتح الله باشا: «وهل تحفظون معاليكم أو هل يحفظ أحد من أقاربكم ثوبا من الأثواب الوطنية التي كان الفقيد العظيم يلبسها قبل ارتدائه الملابس الإفرنجية؟» فقال إنه لم يبق من ملابس سعد العربية سوى جبة حمراء، وهي محفوظة اليوم في بيت الأمة مع سائر مخلفات دولته. (5) الرئيس الجليل في الكتاب
فقلت لمعالي محدثي إنه من الثابت أن سعد باشا حفظ القرآن في الكتاب الذي كان موجودا في أبيانة، فهل يزال هذا الكتاب قائما أو هل يزال صاحبه عائشا؟ وإذا كان قد انتقل إلى جوار ربه، فهل هناك بين سكان أبيانة الحاليين من كان يتردد على ذلك الكتاب مع سعد باشا في شبابه؟
فقال فتح الله باشا: «إن المنزل الذي كان يقول فيه ذلك الكتاب قد انهارت أركانه، وليس بين سكان أبيانة الأحياء من عاصر سعدا في ذلك العهد، ولكنني أعرف نجل الفقي أحمد زيدان الذي أنشأ الكتاب المذكور، واسمه أحمد زيدان كأبيه، وقد دخل الكتاب قبيل خروج سعد باشا منه، وهو الشخص الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة ويذكر شيئا عن أيام الفقيد العظيم في الكتاب، فإذا كنتم ترغبون في الاجتماع به ففي استطاعتي أن أدعوه إلى موافاتكم هنا غدا صباحا.» فشكرت معاليه على عنايته وأعربت له عن رغبتي في مشاهدة أحمد زيدان المذكور في أقرب وقت ممكن.
وسألت فتح الله باشا: «هل انتقل سعد باشا يومئذ من أبيانة إلى القاهرة رأسا، أم قصد قبل ذلك إلى جهة أخرى؟» لأنني فهمت من سياق حديثه أنه رحمه الله لم يتوجه إلى العاصمة مباشرة، فقال معاليه: «إن هذه نقطة لم يلتفت إليها أحد من الذين كتبوا عن سعد باشا قبل الآن، فإن الفقيد العظيم لم يذهب إلى القاهرة رأسا كما هو المفهوم، بل ذهب أولا إلى دسوق ليتلقن أصول تجويد القرآن الكريم على المقرئ الشهير الشيخ عبد الله عبد العظيم، مقرئ معهد سيدي إبراهيم الذائع الصيت، فأقام فيها فترة قصيرة من الزمان ثم استأنف سفره إلى العاصمة.» (6) حديث العم أحمد زيدان
وفي صباح اليوم التالي بعدما استيقظت من النوم وتناولت طعام الفطور، جاءني أحد الخدم وأبلغني أن فتح الله باشا ينتظرني في حديقة الدار، فأسرعت إليه فألفيته جالسا مع شيخ في العقد السابع من عمره لابسا الملابس العربية، ولما دنوت منه لأحييه قال لي معاليه وهو يشير إليه: «هذا هو العم أحمد زيدان الذي تبحث عنه، فسله ما تشاء.» فصافحت زميل سعد القديم وجلست على مقربة منه أطرح عليه السؤال تلو السؤال عن حداثة فقيد مصر العظيم.
فأخبرني أنه في نحو الثانية والستين من عمره، وأن سعدا كان يتقدمه في السن ببضع سنوات، وأن والده هو الذي أنشأ الكتاب الذي تعلم فيه سعد القرآن الكريم، وأن عدد التلاميذ الذين كانوا يترددون على الكتاب كان يناهز التسعين، وأنه عندما يغلق عينيه ويعرض ذكريات تلك الأيام في مخيلته يشاهد الفتى سعد زغلول حاملا لوح الخشب بيده، أو ماضيا في تسميع القرآن الكريم لأستاذه. ومما يذكره عنه أيضا، كأنه يراه اليوم ماثلا أمامه، أنه كان يميز عن إخوانه بطول قامته ونحولة جسمه. (7) مقدرة سعد على حفظ القرآن
ويقول العم أحمد زيدان، بعدما يشهد الله على صدق ذمته وصحة أقواله، إن سعدا امتاز منذ عهده الأول في الكتاب بذكائه ونجابته وقوة ذاكرته، وإن «لوحته» لم تكن تمر على «الأستاذ» إلا مرة واحدة ليصححها، في حين أن لوحات الآخرين كانت تمر عليه مرات، وإنه أجاد حفظ القرآن الكريم حتى بز جميع أقرانه بمراحل، وبلغ من جبروته على نفسه أنه كان ينشد ثلاثة أرباع المصحف كل يوم؛ فكان ينشد ربعا قبل الظهر، وربعا بعد الظهر، وينشد الربع الثالث في المساء. وكان الأستاذ يلح عليه بالاكتفاء بربعين في اليوم فيأبى ويصر ويظل مقيما على عناده، إلى أن يجيبه الأستاذ إلى طلبه ويجلس إزاءه ليصغي إلى إنشاده، واستمر سعد على هذا المنوال سنة كاملة، وهي آخر سنة كانت له في ذلك الكتاب.
فسألت العم أحمد زيدان عن السن التي كان فيها سعد باشا لما انتقل إلى القاهرة، فقال أنه يجهل هذه التفاصيل ولكن سعدا كان قد بلغ أشده في ذلك الحين.
فقلت لزميل سعد القديم: «وهل كان زملاء سعد يحبونه؟» فقال: «إنهم كانوا يحترمونه أكثر مما كانوا يحبونه؛ لأن الحسد كان يملأ قلوبهم منه، فكان إذا غاب يوما عن الكتاب هللوا وصفقوا ودخلوا على والدي وهم يصيحون: «الخيبة غاب النهارده يا أستاذ».» (8) سعد باشا «خيبة» في اللعب
فقلت للعم أحمد زيدان: ومن كانوا يعنون بلفظة «خيبة»؟ فقال ببساطة: «سعد باشا.» فقلت: «كيف كان سعد باشا ذكيا ومجتهدا كما قلت قبلا، وكيف كانوا يسمونه خيبة كما تقول الآن؟» فضحك العم أحمد زيدان وقال: قد كان ذكيا في داخل الكتاب، ولكنه كان خيبة في اللعب، وخصوصا في لعب الكرة، وكان من المحقق أن الفريق الذي يلعب معه يخسر دائما؛ ولذلك سموه خيبة على سبيل المداعبة والمزاح، حتى إن والدي كان يلتبس عليه الأمر أحيانا فيناديه في بعض الأيام بقوله له: «تعال يا خيبة»، ثم يفطن إلى خطئه فيقول حالا: «طيب تعال معلهش.»
وزاد العم أحمد زيدان على ما تقدم قوله إن سعد باشا كان يرهب جانب والده (العم أحمد زيدان الكبير)؛ لأن والدته الست مريم زغلول كانت تعهد إليه أحيانا في تأديبه عندما تغضب عليه لمسلكه في البيت، وهو يذكر أنه رآه مرة مطروحا على الأرض موثوق اليدين ووالده (أي العم أحمد زيدان الكبير) ينهال بالجريد على قدميه؛ عظة له وعبرة ولغيره من زملائه.
وهنا ابتسم فتح الله باشا وقال: «صحيح! ياما خدنا ضرب، وكان يكفي أن يذكروا أمامنا اسم الفقي لنرتعش خوفا وجزعا.» (9) سعد وفتحي وفتح الله
وبعدما انتهيت من حديثي مع العم أحمد زيدان، التفت إلي فتح الله باشا وقال: هذه أول مرة أسمع فيها حكاية اسم «خيبة» عن سعد باشا، وقد كان سعد باشا ينفر حقيقة من اللعب واللهو في ذلك الزمان، وكثيرا ما كان يغضب على أخيه فتحي باشا لأنه كان يجاريني في لعبي، وكانوا إذا سألوه لماذا يعرض عنا في معظم الأحيان يجيب السائلين بقوله: «دول عيال مدلعين»، غير أنه كان يشترك معنا أحيانا في اللعب، وخصوصا عندما كنت أذهب لزيارتهم في أبيانة؛ فكنا نلعب في الفناء الذي يقوم عليه الآن سلاملك بيت سعد باشا هناك.
فسألت فتح الله باشا من باب التفكهة عن أنواع اللعب التي كان يلعبها مع سعد باشا وفتحي باشا، فقال: إننا كنا نلعب إما «الاستغماية» أو «الكرة». (10) سعد باشا يرث أخلاقه
وأدى بنا هذا الحديث إلى الكلام عن أخلاق سعد باشا، فقلت لفتح الله باشا إن الفقيد اشتهر في حياته بعناده وصلابة رأيه وقوة شكيمته، فهل يعتقد أنه ورث هذه الصفات عن أحد من أهله؟ فقال معاليه: إن هذا مؤكد، ومما لا ريب فيه أنه ورثها عن جده الشيخ عبده بركاته (والد أم سعد باشا وجد فتح الله باشا من أبيه) وعن والده إبراهيم زغلول وعن خاله عبد الله بركات (والد فتح الله باشا) وسأسرد لكم حكاية واحدة عن كل منهم ثم أدع لكم أن تقارنوا بين أخلاقهم وأخلاق سعد باشا.
قال فتح الله باشا: «كان الشيخ عبده بركات جد سعد باشا مشهورا في هذه المنطقة بسلطته ونفوذه، فغضب عليه المدير التركي في يوم من الأيام وأراد التشهير به، فجمع أعيان الدائرة بجوار ساقية من السواقي، ولما اكتمل عقدهم قال لهم: «لقد أرسلت أطلب من الشيخ عبده بركات أن يحضر إلى هنا، وإذا كنتم تعتقدون أن هذا الرجل عظيم وقوي البطش فأنتم مخطئون، وسترون الآن كيف سأعامله وكيف أنني لن أفرج عنه قبل أن يلمس وجهه الأرض.» ثم أتى برجل مغضوب عليه وأمر بربطه بقدمي أحد الثورين الكبيرين اللذين يديران الساقية تعذيبا له على مرأى من الحاضرين، وما هي إلا فترة قصيرة حتى أقبل الشيخ عبده بركات على جواده ينهب الأرض نهبا، وما كاد يترجل عن صهوة حصانه حتى لمح ذلك المنكود الحظ المربوط بقدمي الثور، فأسرع إليه وفك رباطه وأطلق سراحه، فدهش الحاضرون وتوقعوا أن يأمر المدير بقطع رأسه، ولكن لم يكن من هذا إلا أن نهض واقفا ورحب بالشيخ عبده مكرما وفادته، ثم التفت إلى الحاضرين وقال لهم: «أيها الجبناء، إن الشيخ عبده بركات الذي كنتم تنتظرون تنكيلي به لأشرف منكم جميعا؛ فقد كنتم ترون هذا الرجل يتعذب وهو مربوط بقدمي الثور فلم يحرك أحدكم ساكنا لإنقاذه أو لالتماس العفو عنه، فاهنأ يا شيخ عبده بشهامتك.» وانطلق عائدا إلى ديوانه.» (11) الشيخ إبراهيم زغلول
ثم انتقل فتح الله باشا إلى الكلام عن الشيخ إبراهيم زغلول والد سعد باشا فقال: «حدث مرة أن عمدة في مديرية الغربية تعدى على موظف برتبة مأمور مركز، وكان المأمور يسمى يومئذ ناظر قسم، فصدر الحكم على العمدة بالإعدام شنقا وبتعليقه ثلاثة أيام في ساحة المديرية عبرة لمن يعتبر، وكانت عاصمة المديرية إذ ذاك في المحلة الكبرى، واتفق بعد أيام أن ناظر القسم مر على زراعة الشيخ إبراهيم زغلول، فأغلظ له في القول فاجتذبه الشيخ إبراهيم من فوق صهوة جواده وأثخنه ضربا موجعا ثم تركه يذهب في حاله، غير أن الحادث نمي سريعا إلى صهره عبد الله بركات، فامتطى صهوة جواده وقصد إلى أبيانة، وقابل الشيخ إبراهيم زغلول ولامه على تصرفه وذكره بحادثة العمدة المشنوق، فلم يحفل بهذا اللوم وقال إنه كان يدافع عن كرامته، فأسرع عبد الله بركات بجواده حتى أدرك الناظر المضروب قبل أن يصل إلى الديوان فاسترضاه وانتهى الحادث.» (12) عبد الله بركات وولكوكس
أما الحكاية الثالثة فكانت عن عبد الله بركات والد فتح الله باشا وخال سعد باشا؛ وخلاصتها أنه في سنة 1890 كان المستر ولكوكس المشهور مفتشا للري، وكان ذلك في أوائل عهده في خدمة الحكومة المصرية وقد تغير ماء النيل في جهة منية المرشد بسبب السد الذي كان يبنى في فرع رشيد، فصدر الأمر إلى أصحاب الوابورات الزراعية بألا يديروها بماء ترعة «البدالة» كما كانوا يفعلون قبلا، بل من ماء النهر رأسا، فأبى عبد الله بركات أن يذعن لهذا الأمر، وأوصى رجاله بأن يديروا وابوره من ترعة البدالة، فمر بزراعته المستر ولكوكس فأمر بتوقيف الوابور، وبعد قليل مر بها عبد الله بركات فأمر بإعادة تسيير الوابور بماء الترعة، ثم لم يلبث المستر ولكوكس أن مر بها مرة ثانية فأمر بتوقيف الوابور، فعاد عبد الله بركات وأمر بتسييره، فعاد المستر ولكوكس وأمر بتوقيف الوابور للمرة الثالثة، فعيل صبر عبد الله بركات، فجمع رجاله وقال لهم: «إنني ذاهب لأقتل المستر ولكوكس، فإنه خير لي أن أقتل بسببه على أن أرى أرضي تموت أمامي.» ومضى إلى مكتب المستر ولكوكس مسرعا، فلما دخل عليه قال هذا: «ماذا فعلت يا عبد الله أفندي؟ فإنني كلما أمرت بتوقيف وابورك تأمر أنت رجالك بتسييره ومخالفة أمري؟!» فقال له عبد الله بركات: «وقد عدت الآن فأمرتهم بإعادة تسييره، وإنه لخير لي أن أموت هنا من أن أرى أرضي تموت أمامي.» فابتسم المستر ولكوكس وقال: «إن رأسك يا عبد الله أفندي كهذه (وأمسك مكتبه الخشبي بيده) فأنت رجل عنيد جدا، فارجع إلى وابورك وخذ له ماء من الترعة كما تريد.» (13) حزم سعد باشا وشجاعته
وما أتم فتح الله باشا كلامه حتى سألته عن أحزم موقف يعتقد أن سعد باشا وقفه في حياته، فقال: «مما لا ريب فيه أن حزم سعد باشا تجلى بأجلى مظهره في الخطبة السياسية الوطنية الجامعة الرنانة التي ارتجلها قبل إلغاء الحماية في جمعية الاقتصاد والتشريع السياسي على مسمع من المستشار القضائي الإنجليزي، وأعلن فيها بطلان الحماية وحق مصر في التمتع باستقلالها.»
سعد يبتسم.
فسألته: «وما هو أشجع موقف وقفه سعد باشا في نظركم؟» فأجاب معاليه: «إنه بلا شك الموقف الذي وقفه عند مغادرته لميناء عدن إلى جزائر سيشل، فإنكم تعلمون أن سعد باشا نقل يومئذ وحده إلى البارجة التي أقلته إلى سيشل؛ إذ لم يسمح لأحد منا في بادئ الأمر بمرافقته إليها، وكان كل من الزملاء يتسابق إلى أن يكون في ركاب سعد، مع أن السائد على أفكارنا كان أنه ذاهب إلى الأبد، وأن من يبقى في عدن قد يعود إلى الوطن، فلما أزف موعد الرحيل رافقناه إلى الميناء ونحن نبكي ونولول كالأطفال، أما هو فكان رابط الجأش ساكن الجنان ثابت الخطى جهوري الصوت، لم يذرف دمعة واحدة حتى آخر لحظة، مع أنه كان يشعر في تلك الساعة أنه يودعنا الوداع الأخير، وأنه لن يعود إلى مصر بعد ذلك أبدا.» (14) دار سعد في أبيانة
وهنا كانت الساعة الثانية عشرة مساء قد أزفت، فختم فتح الله باشا حديثه بأن أبلغني أنه أمر بإعداد مركبته لتكون تحت تصرفي في صباح الغد لتقلني إلى أبيانة لزيارة دار سعد باشا فيها، فكررت له الشكر على عنايته. وفي صبيحة اليوم التالي قبل أن أتوجه إلى أبيانة حدثني معاليه عن الدار التي ولد فيها سعد باشا، فقال إن الدار الأصلية التي رأى فيها الفقيد العظيم نور الحياة لم يعد يبقى لها أثر، وكانت دارا فسيحة وسعت في بعض الأحيان رب البيت وحرمه وأولاده الثمانية وسبعة عشر تابعا، علاوة على الضيوف، وكانت تضم بين جدرانها جناحا خاصا لنزولهم وإقامتهم.
وفي نحو سنة 1900 هدم المغفور له سعد باشا البيت القديم وأعاد بناءه على الطراز الحديث، وهو البيت الذي يشغله «الحرملك» اليوم، وبنى رحمه الله السلاملك بجواره في الفناء الذي كان يلعب فيه فتحي باشا وفتح الله باشا، وقد وقف دولته هذا البيت على أولاد إخوته، ويقطن فيه الآن أنجال المرحوم عبد الله بك زغلول نجل المرحوم الشناوي أفندي زغلول، أخي سعد باشا. (15) جولة في دار الفقيد العظيم
وبعد عشر دقائق كنت واقفا أمام دار سعد باشا في أبيانة أسرح الطرف في البقعة التي ولد فيها زعيم مصر الأكبر، فالتفت إلى محمد بك زغلول نجل المرحوم عبد الله بك زغلول وقلت له: «هل كان يظن سكان أبيانة أن الفتى سعدا الذي رأى النور في هذه البقعة الوضيعة سيرفع يوما علم الاستقلال في بلاده، وأن بيته سيصبح على مر الأعوام كعبة يؤمها المصريون وحرما يقدسه الوطنيون؟» وهنا حانت مني التفاتة إلى الفناء المحيط بالدار، فألفيته مملوءا بأكوام التراب وقد تصاعدت الروائح الكريهة من بعض منها ، فتوغلت في السير وكنت كلما تقدمت خطوة إلى الأمام أشاهد مظهرا آخر من مظاهر الخراب الذي بدأ يسود ذلك المكان، أما البقعة التي كان يقوم عليها الجناح الذي ولد فيه سعد باشا في الدار القديمة، وتقع هذه البقعة الآن خلف «الحرملك» في مكان السور الذي يفصل الدار عن الطريق العام، أما هذه البقعة فلم تعد في الواقع سوى أكوام مكدسة من الحجر والتراب، وقد تفشت منها بعض الروائح أيضا، فاستولى علي حزن شديد سيتسرب مثله إلى قلب كل من يقرأ هذه السطور التي تعجز عن وصف الحالة الراهنة، وليس من رأى كمن سمع! ولئن كانت الظروف لم تسمح لي بدخول الحرملك والسلاملك إلا أن في مظهرها الخارجي وحده ما يكفي لمضاعفة ذلك الحزن، فمتى يحل اليوم الذي يهتم فيه المصريون بمسقط رأس زعيمهم يا ترى؟ ومتى نراهم يشمرون عن ساعد العمل والجد ليصونوا ذلك البيت التاريخي من كل عبث وخراب؟ (16) من هو العم علي طلحة؟
وكان فتح الله باشا قد أوصاني قبل ذهابي إلى أبيانة بأن أبحث فيها عقب وصولي إليها عن شخص يدعى علي طلحة، عرف سعد باشا في حداثته، ثم رافقه إلى القاهرة كخادم بسيط لما كان الفقيد العظيم يشتغل فيها بالمحاماة، فلما اجتمعت بمحمد بك زغلول في أبيانة سألته عن علي طلحة المذكور، فأشار إلى رجل مسن صغير القامة نحيل الجسم كان يسير على مقربة منا وقال لي: «هذا هو علي طلحة.» فناديته وسألته هل يذكر سعد باشا فقال: «إذا كنت أنا لا أذكره فمن ذا الذي يذكره إذن؟!» ومما هو جدير بالذكر هنا أن والدة علي طلحة هي التي أرضعت سعد باشا وهو طفل، وكانت ترضع معه طفلتها التي ولدت في الوقت عينه، وكان اسم الطفلة «فرحانة»، فكانت أم علي طلحة تحمل «سعدا» على ذراع و«فرحانة» على ذراع آخر، ويا لهما من اسمين بهيجين! وكأن ريبا خامر علي طلحة في الباعث لي على سؤاله عن ذكرياته عن سعد باشا، فسألني لماذا أريد سماعها فأخبرته بالغاية منها، فسري عنه وأخذ يجاوبني على أسئلتي بصراحة. (17) سعد وأخوه الشناوي أفندي
وقبل أن أنقل إلى القراء المعلومات التي أدلى بها إلي العم علي طلحة، تحسن الإشارة إلى أن الشيخ إبراهيم زغلول والد سعد باشا تزوج مرتين، فرزق من الزوجة الأولى خمسة بنين وهم: شلبي والشناوي وأحمد ومحمد وعبد الرحمن، ورزق من الزوجة الثانية: سعدا وفتحيا وفرج الله، وقد توفي هذا الأخير وهو حدث.
ويقول العم علي طلحة إن الشيخ إبراهيم زغلول انتقل إلى جوار ربه ونجله سعد لم يناهز بعد الثالثة من عمره، فاهتم به شقيقه الشناوي أفندي، الذي كان ثاني أنجال الشيخ إبراهيم زغلول وأدخله الكتاب، ثم أرسله إلى القاهرة ليدخل الأزهر الشريف.
فقلت للعم علي طلحة: «أتريد أن تقول بذلك إنه لولا الشناوي أفندي لما كان سعد باشا قد دخل الكتاب وانتظم في سلك الأزهر؟»
فقال: «إنني لا أشك في ذلك.» فقلت: «هل لك أن تخبرني لماذا كان الشناوي أفندي هو الذي يهتم بشئون أفراد أسرته أكثر من غيره؟» فقال: «لأن سائر إخوته كانوا يشتغلون بالزراعة، أما هو فظل في البلد وصار عمدة.» فقلت: «وهل تستطيع أن تعلل سبب اهتمام الشناوي أفندي بسعد باشا وفتحي باشا أكثر من اهتمامه بسائر إخوته فسهر على تعليمهما بعناية؟» فقال: «إن لذلك ثلاثة أسباب: أولها أن الشناوي أفندي تزوج من شقيقة زوجة أبيه الثانية؛ أي من شقيقة والدة سعد وفتحي، فكان من الطبيعي أن يعطف عليهما عطفا خاصا بحكم هذه الصلة. أما السبب الثاني فكان ينحصر فيما شاهده الشناوي أفندي في سعد وفتحي من الذكاء المفرط منذ نعومة أظفارهما، ويلي ذلك السبب الثالث وهو أن سعدا وفتحيا كانا أصغر إخوتهما سنا، فكان هناك مجال لتعليمهما وتثقيف عقليهما.» فقلت: «إن هذه الأسباب الثلاثة وحدها لا تكفي، ولا بد أن الشناوي أفندي كان طيب القلب.» فقال العم علي طلحة على الفور: «أما عن طيب قلبه فحدث ولا حرج؛ ومن ذلك أنه لما ذهبت إلى العاصمة في خدمة سعد باشا بلغه يوما أنني مريض ومتعب، فسافر إلى القاهرة وعادني ولما رآني في حاجة إلى تبديل الهواء عاد بي إلى هنا وكان يسهر على معالجتي كأني شقيقه.» (18) سعد باشا وكيف أحب العلم
فسألت العم علي طلحة: «وهل كان سعد باشا ميالا إلى الدرس والحفظ؟» فأجاب: «إنه أبى أن يذهب إلى الكتاب في بادئ الأمر، فلم يكن من الشناوي أفندي إلا أن «اتك» عليه، فاضطر إلى الإذعان لرغبته، وكان كلما تكاسل في فروضه «يتك» عليه ويضربه، فلم ينقض على دخوله الكتاب وقت قصير حتى بدأ يتلذذ بتوسيع مداركه ومعارفه، فأكب على الدرس والحفظ بعناية واجتهاد، ولم يلبث أن أصبح «ألفة» الكتاب، فازداد شغفه بالعلم والتحصيل، فلما كاشفه الشناوي برغبته في إرساله إلى العاصمة ليدخل الأزهر، رقص للفكرة من شدة فرحه رغم الحزن الذي استولى على الست مريم بسبب فراقه.» فقلت للعم علي طلحة: «وما هي أوقع ذكرى تركها سعد باشا في نفسك؟» فتردد قليلا ثم قال: «كان شديدا ... لا يعذر من يتوانى في تأدية الواجبات الملقاة على عاتقه.» فقلت: «وهل كان الباشا شديد التدقيق في مأكله؟» فقال: «إنه لم يعرف هذا التدقيق إلا بعد مرضه، أما قبلا فإن أحب أنواع المآكل إليه كان السمك، فلما مرض صار يكثر من أكل الفراخ مع الخضار.» فقلت: «وهل كان دولته يفرط في التدخين؟» فقال: «كثيرا، حتى إنك كنت تشم رائحة الدخان في ملابسه بعد عودته إلى بيته، ولكن الغريب أنه أبطل التدخين دفعة واحدة لما أثبت له الأطباء أنه مضر بقلبه حتى صار يعتقد أنه لا يستطيع شم رائحته، وفعلا كان يحظر على زواره أن يدخنوا في مكتبه.»
وختمت حديثي مع العم علي طلحة بأن قلت له مبتسما: «وهل أنت سعيد يا عم علي لأنك عرفت سعد باشا هذه المعرفة الوثيقة؟» فقال: «وهل كانت لنا بركة غيره؟!» فقلت: «ومن تقصد بلفظة لنا هذه؟» فقال: «البلد كلها ... يعني مش عارف؟!» وهنا انهمرت الدموع من عينيه فغدا لا يقوى على الكلام، فوضع يديه على وجهه وابتعد عنا وهو ينتحب. •••
ولما انتهت مهمتي في أبيانة قفلت راجعا إلى منية المرشد؛ لأستأذن من فتح الله باشا في العودة إلى العاصمة شاكرا لمعاليه ما لقيته من حفاوته وإكرامه وحسن رعايته.
سعد في بيته
يشتمل هذا الفصل على وصف دقيق لبيت الأمة ومحتوياته، وعلى فذلكة عن حياة الفقيد العظيم المغفور له سعد زغلول باشا في هذا البيت وفي بيته في مسجد وصيف، وعلى حديث أفضى به سعادة حمد الباسل باشا وكيل الوفد المصري إلى المؤلف عن حياة سعد في مالطة، وعلى مقتطفات من المذكرات التاريخية التي دونها محمود أفندي عبد الله تابع سعد باشا في عدن وسيشل وجبل طارق عن معيشة الرئيس الجليل في تلك البلاد، وعلى حديث أدلى به معالي الأستاذ مكرم عبيد إلى المؤلف عن سعد بين عدن وسيشل. *** (1) جولة في بيت الأمة
كان المغفور له الفقيد العظيم سعد زغلول باشا يسكن قبل أن يتزوج في المنزل القائم على ناصيتي شارع عابدين وشارع الشيخ ريحان أمام سراي عابدين، وهو المنزل الذي تشغله الآن عيادة الدكتور واصف، ثم انتقل رحمه الله إلى منزل كبير في حي الظاهر في شارع زغلول الذي أسمي باسمه، ولكن هواء ذلك الحي لم يلائم صحة أم المصريين، ففكروا في بناء منزل جديد، واختاروا حي «الإنشاء» مكانا يشيدونه فيه؛ لما كان هذا الحي متصفا به يومئذ من الهدوء والسكينة، وريثما يتم بناء المنزل الجديد سكن الفقيد العظيم وصاحبة العصمة حرمه في منزل المغفور له مصطفى فهمي باشا والد أم المصريين، وهو المنزل الذي اشتراه «الفرير» فيما بعد وحولوه إلى المدرسة الكبيرة التي لهم الآن في حي باب اللوق.
وكانت تحيط ببيت الأمة قبل ابتداء الحركة الوطنية حديقة صغيرة تبتدئ عند الباب الخارجي ثم تتفرع إلى ممرين: أحدهما يؤدي إلى «السلاملك»، والآخر نحو الجزء الأدنى من الحديقة، وبينهما ممر عريض يؤدي إلى السلالم الرخام الموصلة إلى الباب الداخلي الكبير.
وعندما تصل إلى الباب الداخلي الكبير المشار إليه آنفا، تدق الجرس فيفتح لك خادم سوداني فتجد نفسك أمام «بارفان» عريض، وإلى يمينك ويسارك دولابان (فستيير) لتعليق الملابس، فإذا خطوت قليلا ألفيت نفسك في قاعة كبيرة طولها عشرون ياردة وعرضها خمس ياردات، وفي هذه القاعة كان أعضاء الوفد المصري وأنصاره يجتمعون للبحث في الشئون السياسية في بدء الحركة الوطنية.
وقد زينت جدران هذه القاعة بصور وتحف كثيرة، فإلى الجهة اليمنى ترى مرآة كبيرة تعلوها «يافطة» مكتوب عليها «أم المصريين صفية هانم زغلول»، وإلى يمين المرآة وثيقة إخلاص من طلبة مدرسة عباس باشا الأول ممضاة من جميع الطلبة، وإلى يسار المرآة أبيات من الشعر موضوعة في داخل إطار جميل مهدى من سيدات طنطا إلى أم المصريين، فباب يؤدي إلى دورة المياه، فصورة ملونة تمثل جماعة من الفقراء اشترتها صفية هانم من أحد معارض الفنون الجميلة، فتمثال نصفي لسعد باشا من صنع المثال الروسي «يورفتش»، فالسلم المؤدي إلى الدور العلوي.
هذا من الجهة اليمنى للقاعة، أما من الجهة اليسرى فترى مقعدين من القطيفة تعلوهما «يافطة» مكتوب عليها «صفية زغلول زعيمة الوطنية ونصيرة الحرية» تحيط بها صورتان طبيعيتان ملونتان وتحتها تمثال مهدى من كلية الأقباط إلى بيت الأمة، فصورة مصرية ملونة، فتهنئة شعرية، فصورة لسعد باشا وهو خارج من محل «هنزلمان»، فصورة أخرى تمثله وهو جالس إلى مكتبه يطالع جريدة «المنبر»، فصورة لأبطال «سيشل»، وفي هذه القاعة ساعة تدق «على كيفها»، كما كان الرئيس الجليل يقول عنها.
وتقوم إلى الجهة اليمنى من القاعة التي أتينا على وصفها آنفا حجرة صغيرة للجلوس أثثت بطقم مصنوع من خشب الموجني المكسو بالقماش الأبيض ذي الشجر الأحمر، وقد وضع في صدر هذه الحجرة كرسي كبير من الكراسي المعروفة «بالشيزلونج»، وهو الكرسي الذي تتمدد عليه أم المصريين، وله غطاء أسود وقد علقت على الجدران صورة ملونة كبيرة لسعد باشا وصور متعددة لوالد أم المصريين ووالدتها ولبعض الأقارب.
ثم تنتقل إلى الحجرة التي بجوارها وتسمى «الصالون الكبير»، وفيها صورة كبيرة للفقيد العظيم، تقابلها أحسن صورة لأم المصريين، وتليها حجرة صغيرة كانت مكتبا لسعد باشا، وفيها كانت تجري مقابلات الزعماء أيام الائتلاف والانتخابات ، وهي تحتوي على مكتب جميل صفت عليه أدوات أنيقة للكتابة أهدتها صاحبة السمو أم المحسنين إلى المغفور له الفقيد العظيم، وتحلي جدران الغرفة صور زيتية من صنع أم المصريين وأخواتها وصديقاتها، وقد كانت هذه الحجرة في الماضي خاصة بالمرحوم سعيد بك زغلول ابن أخت سعد باشا.
وإلى اليمين أيضا قاعة الطعام، وقد كان الرئيس الجليل يجلس دائما في صدر المائدة وهو مكان لم يتحول عنه سعد منذ اليوم الذي تم فيه بناء بيت الأمة مهما علا مقام المدعوين، ومما تحسن الإشارة إليه هنا أن جميع خدم البيت يلبسون أحذية سوداء مع قفاطينهم البيضاء.
ويلي ذلك حجرة «الأوفيس» ثم صالة مستطيلة تنتهي بسلم يتفرع إلى فرعين: أحدهما يؤدي إلى «البدرون»، والآخر إلى الدور العلوي، ويوجد في نهاية هذه الحجرة «أسانسير» يوصل إلى الدول العلوي وقد كتب عليه «سعد زغلول». (2) الدور العلوي
تصعد إليه من القاعة الكبرى بالسلم الكبير المصنوع من الرخام وقد غطي بالسجاد، وعدد درجاته 33 درجة، فيقابلك ممر إلى يمينه حجرة «تواليت» أم المصريين، وهي تحولها في الشتاء إلى حجرة لجلوسها، وفي هذه الحجرة توجد الملابس الصيفية للفقيد العظيم سعد باشا مع بعض ملابس أم المصريين، وفيها أيضا طاولة «تواليت» كاملة و«شيزلونج»، ثم تليها حجرة نوم فيها سريران، أحدهما لأم المصريين والآخر لسعد باشا، وأجزاخانة صغيرة، وفي هذه الغرفة توفي سعد باشا وما زالت أم المصريين تنام فيها إلى اليوم، وتليها حجرة تواليت سعد باشا وقد تحولت إلى حجرة نوم لمدموازيل فريدا، وفيها دولاب يحتوي على أحذية سعد باشا، وآخر يحتوي على بذله الرسمية وعلى قفطانه الأحمر، وهو تذكاره الوحيد من عهد الجبة والقفطان ...
وجميع الأبواب توصل إلى قاعة كبيرة مفروشة بالأبسطة الحمراء، وفي وسطها مكتب لسعد باشا عليه دواتان حمراوان اقتناهما قبل الحرب العظمى، وكان من عادة الفقيد العظيم أن يضع دائما على مكتبه قلما أحمرا كبيرا، وقد زينت جدران هذه القاعة بصور كثيرين من أفراد الأسرة المالكة المصرية.
وإلى يمين الممر صالة صغيرة مملوءة بالصور، وفيها مدخل «الأسانسير» (المصعد ).
وإلى اليمين أيضا اقتراح لسعد باشا بالأسماء التي يجب أن يسمى بها النيل بعد الاستقلال، ثم طائفة من الصور منها صورة سعد باشا بين أهالي دائرته (السيدة زينب) وكذلك تذكار من مدرسة عابدين الابتدائية وتعزية مصلحة المجاري في سعد باشا، ثم دولابان كبيران هما أجزاخانة أم المصريين.
وتنتهي القاعة المتقدمة بباب يوصل إلى حجرة جلوس سعد باشا وأم المصريين، وكانت هذه الحجرة مخصصة قبلا للضيوف وكانت حرم أمين بك يوسف تقيم فيها عند حضورها إلى العاصمة قبل انتقالها إليها، وهي تحتوي على كثير من الصور. وفي هذه الحجرة راجع سعد باشا قضية الأستاذين ماهر والنقراشي، وفيها بحث سعد باشا أيضا مع عدلي باشا وثروت باشا في أزمة الجيش وأزمة استقالة الوزارة العدلية الثانية سنة 1927، وفيها كرسي صغير كان الفقيد العظيم يحبه حبا جما ويجلس عليه كثيرا.
وتقوم على السطوح ثلاث غرف: الأولى لأم المدموازيل فريدا، والثانية «للكمريرة» والثالثة للغسيل.
أما البدرون فينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم المطبخ والكرار - قسم البدرون الخارجي - قسم بدرون الحريم، وتزور أم المصريين الأول والأخير مرة كل أسبوع، وتشرف عليهما يوميا المدموازيل فريدا ووالدتها. أما البدرون الخارجي فيشتمل على مخزن وحجرة قهوة ومكتب كان أعضاء لجان الطلبة التنفيذية يجتمعون فيه.
وأما السلاملك فمعروف لجميع زائري بيت الأمة، وهو يتألف من الحجرة الخضراء أو حجرة الانتظار وحجرة السكرتارية، ويشغلها الآن مأمون أفندي الريدي، ثم حجرة المكتبة وهي مرتبة ترتيبا جيدا إلا في بعض أجزائها.
وأما مكتب الرئيس الكبير فهي حجرة تاريخية جليلة ملآنة بالصور والتحف وطافحة بالذكريات التاريخية والوطنية، وبين صورها الكثيرة صورتان كبيرتان، إحداهما للمغفور له أحمد فتحي زغلول باشا والأخرى للمغفور له مصطفى فهمي باشا، وهناك صورة للشيخ محمد عبده وصورة لبسمارك وصورة لسمو الخديوي السابق، وهذا المكتب معروف بمحتوياته ومؤثثاته للسواد الأعظم من زائري بيت الأمة، فلا داعي إلى الإفاضة في وصفه هنا، وحسبنا الاكتفاء بالقول أن الفقيد العظيم كان يحب هذه الحجرة حبا شديدا، وكثيرا ما أعرب عن شوقه إليها في خلال مرضه الأخير، رحمه الله.
سعد الزعيم. (3) معيشة سعد في بيته
كان الفقيد العظيم عندما يستيقظ في الصباح يبدأ بشرب القهوة، ثم يفطر وبعدما يفرغ من الأكل يشرع في ارتداء ملابسه، وكان من عادة دولته أن يحلق ذقنه بنفسه، وفيما هو يحلقها يملي على سكرتيره مقالة أو يصغي إلى ما يتلوه عليه من الرسائل أو يحادث من يتفق وجوده معه في الغرفة، وفي نحو الساعة العاشرة قبل الظهر ينزل دولته إلى مكتبه ويمكث فيه عشر دقائق على الأكثر، ثم يطلب سيارته ويخرج للنزهة مستصحبا معه أحد خلصائه، وكان رحمه الله يتنزه عادة في الجزيرة أو الجيزة أو حدائق القبة، وإذا أحس عند وصوله إليها براحة في جسمه نزل من سيارته ومشى قليلا ثم عاد إلى مركبته واستأنف نزهته، ومتى آب إلى بيت الأمة جلس في مكتبه ومكث فيه يستقبل الزائرين حتى منتصف الساعة الثانية بعد الظهر، ثم يدخل قاعة الطعام مع من يدعوه إلى الأكل معه من أخصائه وينام بعد الغداء نحو ساعة ونصف ساعة، أما في المساء فكان لا يدخل فراشه قبل الساعة الحادية عشرة، ولا ينام أكثر من خمس ساعات.
وكان الراحل الكريم لا ينزل إلى مكتبه بعد الظهر في الأحوال العادية، بل يمضي وقته بمطالعة جرائد المساء واستقبال زائريه الخصوصيين في مكتبه الداخلي في الطابق الأول أو في الطابق العلوي، وفي هذا الوقت (أي بعد الظهر) كانت المباحثات السياسية الخصوصية تجري بينه وبين أعضاء الوفد أو بين الهيئات السياسية الأخرى التي كان الوفد يعمل معها، وكان دولته يقضي جميع أوقات الفراغ بالمطالعة، وكان يؤثر أن يقرأ لنفسه على أن يقرأ غيره له ثم يتعشى، وكان رحمه الله لا يأكل على المائدة إلا الأكل الخاص الذي يشير عليه به أطباؤه، وأما ضيوفه فكانت تقدم إليهم الأصناف العادية، وكان يتعهدهم بالكلام طول مدة الأكل غير مميز بين كبيرهم وصغيرهم، وكان لا يتكلم وهو يأكل إلا في الموضوعات السياسية وقد يستطرد أحيانا إلى ذكر حوادث قديمة لها علاقة برجال السياسة الحاليين، وكان من عادته أن يصغي إلى حديث كل واحد من الحاضرين بقطع النظر عن سنه ومقامه، وكانت مدة الأكل لا تستغرق أقل من ساعة، غير أنه كثيرا ما كان دولته يستبقي مدعويه نصف ساعة أخرى يشربون في أثنائها القهوة ويتممون الحديث.
وكان سعد باشا لا يطالع في معظم الأحيان إلا كتبا ألمانية وإنجليزية، وهي دائما كتب تاريخية أو فلسفية أو قانونية، وقد تعلم دولته مبادئ اللغة الإنجليزية في إبان نفيه، أما الألمانية فتعلمها على يد المدموازيل فريدا
1
بعد عودته من المنفى، وقد ظل حتى أواخر أيامه يقرأ عليها ما يطالعه من الكتب في هاتين اللغتين، فتصحح له لفظه وتساعده على ترجمة ما يتعذر عليه فهمه، وقد تروق لدولته أحيانا قطعة مما يقرؤه فيترجمها ويحفظها بين أوراقه، أو يرسلها إلى إحدى الجرائد لنشرها بإمضاء مستعار، وكان إذا تصفح جريدة ما وأعجبته مقالة فيها يقول بالفرنسية: «سي تريه بيان» (أي حسن جدا) أو يقول «برافو». وكان حديث دولته مع زائريه لا يخلو من كلمات فرنسية ثم يعقبها حالا بترجمتها العربية، أما إذا لم يرتح إلى المقالة التي يقرؤها فإنه كان يفند فحواها فورا كلما فرغ من قراءة فقرة من فقراتها، ثم يستمر في الاطلاع على بقيتها مستأنفا نقده وتفنيده كلما رأى محلا للنقد والتفنيد في جزء من أجزائها.
وكان من عادته رحمه الله أن ينتقل في فصل الصيف إلى مسجد وصيف، وحينما كان الزائر يسير في داره هناك كان يجد دلائل الحب العائلي ماثلة أمامه؛ ففي هذه الحجرة مثلا صورة كبيرة للمغفور له مصطفى فهمي باشا، وعلى الخوان الذي بجانبها صورة أخرى له وللمغفور لها حرمه، وفي تلك الحجرة صورة بل مجموعة صور فوتوغرافية لأم المصريين صفية هانم زغلول، تمثلها في كل دور من أدوار سني حياتها، فلا يسع المجال في تلك الدار إلا أن يشعر بأن ربها يحمل بين جنبيه قلبا طبع على الحنو والشفقة والحب العائلي كما طبع على حب وطنه وشعبه. وكانت أم المصريين تبذل جهدها لإرضائه وإراحته منذ اليوم الأول لزواجهما، ومما روته في هذا الصدد بعد وفاة فقيدها العظيم بأربعة أيام لمن كان يحيط بها من المعزيات: «كان سعد يكره تبرج النساء، وكان يمقت كل سيدة متبرجة، وكان إذا رأى عندي سيدتين إحداهما متبرجة والأخرى غير متبرجة التفت إلى الثانية وقال لها: «لماذا أكثرت اليوم من البودرة والأحمر على وجهك؟» فتخجل السيدة الأولى وتقول له: «بل أنا يا دولة الباشا اللي مكثرة من البودرة والأحمر»، ولا تعود إلى التبرج عندما تزورنا مرة أخرى.»
قالت صفية هانم: «وكنت ألوم سعدا على هذه الصراحة وأؤكد له أنه بكلامه هذا يؤلم المتبرجات، فكان يجاوبني: «ولماذا لا تريدين أن أكون صريحا فيما أعتقده حقا؟»»
قالت صفية هانم: «وكان سعد يكره «البودرة» طول حياته، ومما أذكره أنني لم أضع على وجهي ذرة واحدة من «البودرة» منذ يوم زفافنا.»
أما شجاعة أم المصريين فتجلت بأجلى مظاهرها في أثناء الحركة الوطنية، فإنه لما اعتقل ولاة الأمور البريطانيون دولة الرئيس الجليل وأرسلوه إلى السويس لإبعاده إلى عدن، ومنها إلى جزائر سيشل، طلبت حرمه المصون من السلطة البريطانية أن تسمح لها بمرافقة زوجها في نفيه لتسهر على راحته والعناية به؛ رأفة بشيخوخته وشفقة على صحته، فأبت السلطة يومئذ أن تجيبها إلى طلبها، وأصرت على أن يرحل سعد من دونها.
ولسنا في حاجة إلى تذكير القراء بما أبدته صفية هانم بعد ترحيل الرئيس من الشجاعة والوطنية، فكانت على اتصال دائم بأعضاء الوفد المصري تشترك معهم في مداولاتهم، وتحل محل قرينها في اجتماعاتهم، وتستقبل الوفود وتخطب فيها حاثة الأهلين على التمسك بمطالبهم والمضي في جهادهم مستنيرين بمبادئ «وفدهم»، مستمدين روح البذل والتضحية من مسلك زعمائه ورئيسهم، فكان لخطبها ومساعيها وقع عظيم في رجال الوفد وفي رجال الأمة وسيداتها.
والظاهر أن ولاة الأمور البريطانيين عادوا فرأوا أن التأثير الذي تحدثه صفية هانم في نفوس الأمة لا يقل عن التأثير الذي يحدثه سعد باشا نفسه، فاستقر قرارهم على أن يأذنوا لها في اللحاق بقرينها، وبينما كانت عصمتها جالسة ذات يوم في بيت الأمة مع جماعة من أقربائها، دنا منها أحدهم وأخبرها أن دار المندوب السامي البريطاني تريد مخاطبتها بالتلفون، فنهضت وسارت إلى حيث كانت آلة التلفون، وسألت مخاطبها عما يريده منها، فأجابها بأن اللورد اللنبي يبلغها أن لا مانع عنده من أن تلحق بسعد باشا، وأن في وسعها أن تسافر متى شاءت، فقالت له على الفور: «لقد استودعت زوجي يدي الله وسأبقى أنا هنا أؤدي الواجب علي نحو وطني إلى أن يعود.» (4) سعد في مسجد وصيف
2
لما دخلنا على الفقيد العظيم في حجرة الاستقبال ألفيناه جالسا مع الدكتور حامد محمود نائب طوخ، فاستقبلنا رحمه الله هاشا باشا وهو يقول: «أهلا وسهلا بكم»، فلثمنا يده الكريمة وهو يحاول أن يستردها قائلا: «مرسي! مرسي! تفضلوا اقعدوا»، فجلس فريق منا على مقعد وجلس الفريق الآخر على الكراسي بعيدا عن المكان الذي كان جالسا فيه فقال دولته: «لأ ما تبعدوش، قرب يا فلان، وقرب يا فلان.» فنقلنا كراسينا إلى جواره وأخذ حفظه الله يسأل كلا منا عن صحته وأحواله شأن الوالد الحنون مع أولاده، وبينما نحن كذلك دخل علينا بهي الدين بركات بك نجل معالي فتح الله بركات باشا، فلثم يد الرئيس فقبله دولته في وجهه وسأله لماذا لم يخاطبه بالتلفون عن عزمه إلى المجيء إليه، وكان سعد باشا يخاطب نجل ابن شقيقته ودلائل الحب العائلي بادية على محياه وهي دلائل تبدو لك حيثما تسير في دار الرئيس.
ففي هذه الحجرة مثلا صورة كبيرة للمغفور له مصطفى فهمي باشا وعلي الخوان، التي بجانبها صورة أخرى له وللمغفور لها حرمه، وفي تلك الحجرة صورة بل مجموعة صور فوتوغرافية لأم المصريين صفية هانم زغلول وهي تمثلها في كل دور من أدوار سني حياتها، فلا يسع المتجول في تلك الدار المباركة إلا أن يشعر بأن ربها يحمل بين جنبيه قلبا طبع على الحنو والشفقة والحب العائلي كما طبع على حب الوطن، ذلك الحب العظيم الذي دفعه إلى اقتحام المخاطر غير مرة في سبيل بلاده التي وقف صحته وعلمه وجهوده على خدمتها وخدمة أبنائها.
ويشعر زائر دار سعد باشا في مسجد وصيف بأنه في مصيف أعد للراحة وترويح النفس وتنزيه الخاطر، قالوا إن جدرانه وأثاثه وبراويز الصور التي حليت به غرفه كلها من الألوان التي يرتاح إليها النظر، والدار مؤلفة من طبقتين على طراز «الفيلات» الأوروبية التي نشاهدها في المعادي والزمالك ورمل الإسكندرية ويجلس سعد باشا في الغرفة التي يستقبل فيها ضيوفه إلى جانب طاولة صغيرة وضع عليها آلة صغيرة للتلفون حتى لا يضطر إلى الانتقال من مكان إلى آخر عندما يريد أن يتكلم به وقد جهز الجدار في المكان عينه أيضا بزر كهربائي يضغط عليه الرئيس عندما يبغي أن يدعو إليه أحدا من خدمه. •••
وبعدما سأل سعد باشا كلا من زائريه عن شئونه وأحواله، دار الحديث لمناسبة ما على أخلاق كبرائنا وعظمائنا، فقال أحدنا إن كثيرين منهم يعتقدون أنه يجب عليهم أن يعيشوا مترفعين عن الشعب منعزلين عنه، ولكن الحمد لله الذي أتاح لنا الآن وزارة شعبية يشعر أعضاؤها بأنهم من الشعب، ويشعر الشعب بأنهم من أفراده، ومن ذلك أنه بلغنا ونحن في بنها في طريقنا إلى مسجد وصيف أنه لما مر معالي علي الشمسي باشا (وكان يومئذ وزيرا للمعارف) في أوائل الشهر ببنها قاصدا مسجد وصيف أيضا، رأى الخفراء مصطفين على طول الطريق من بنها إلى مسجد وصيف، فلم يرتح معاليه إلى ذلك، وقال إنه من الحرام أن يكلف أولئك الخفراء أن يصطفوا تحت وهج الشمس ثلاث ساعات متواصلة بعدما سهروا الليل كله، وخصوصا أن الزيارة ليست زيارة رسمية، وأبلغ معاليه استياءه هذا إلى الذي أمر ببث الخفراء على طول الطريق.
فأعرب دولة الرئيس الجليل عن ارتياحه إلى مسلك علي باشا الشمسي، وقال إنه لا يفهم حقيقة الغاية من بث الخفراء والجنود على طول الطريق على هذا المنوال، وأنه لا يقدر الاحترام ومظاهر الإكرام التي لا تتجلى إلا بالبوليس والخفراء، وأنه يعتقد أن الاحترام الوحيد الذي يجدر أن يسمى احتراما، والإكرام الوحيد الذي ينبغي أن يسمى إكراما ؛ هما الاحترام والإكرام اللذان يبدران من القلوب عفوا نحو الذين اكتسبوا احترام الناس وإكرامهم بأعمالهم وأفعالهم لا بمظاهر القوة والضغط على النفوس والحرية الشخصية. وبعدما أفاض دولته في وصف الديمقراطية ووجوب اختلاط الحكام بالرعية، قص علينا أنه لما تقلد وزارة المعارف وذهب إلى ديوانه بالوزارة لأول مرة، سمع وهو ينزل من مركبته شاويشا ينادي «قرة قول سلاح»، ثم رأى جماعة من الجنود يصطفون ببندقياتهم ويؤدون له التحية العسكرية، فظن أنها عادة جري عليها في استقبال الوزراء الجدد، فسكت ولم يتكلم، غير أنه لم يكد يصل إلى باب الوزارة في اليوم التالي حتى سمع الشاويش ينادي «قرة قول سلاح» أيضا، وأبصر الجند يصطفون كالأمس ويؤدون له التحية العسكرية، فسأل عن الأمر فأجابوه بأن في وزارة المعارف خزنة يتولى أولئك الجنود حراستها، وأن العادة جرت حتى ذلك الحين بأن يستقبلوا الوزير كل يوم بهيئة «قرة قول شرف»، ويؤدوا له التحية العسكرية، فقال لهم دولته: «لا! فإما أن تنقلوا الخزنة من هنا أو تأمروا الجنود بألا يصطفوا كل يوم على هذا المنوال.» ومن ذلك اليوم لم يعد الجنود يصطفون بهيئة «قرة قول سلاح» لتحية الوزير.
ولما تقلد سعد باشا رئاسة الوزراء في سنة 1924، زاره ذات يوم وفد من الأقاليم وعلى رأسه مدير المديرية التي ينتمي إليها أعضاء ذلك الوفد، ولما دخلوا عليه شرع المدير في تقديمهم إلى دولته، فقاطعه رحمه الله قائلا: «لا تتعب نفسك يا فلان، فأنا أعرفهم وأعرف أسماءهم، ولست في حاجة إلى من يعرفني بهم أو يقدمهم إلي.» ثم كلف دولته من أبلغ جميع المديرين أنه يرجو منهم ألا يؤلفوا الوفود برئاستهم لتهنئته؛ لأن الذين يرغبون في مقابلته يعرفون كيف يصلون إليه.
وما دمت أتكلم عن ديمقراطية سعد باشا، فأرى أن المقام مناسب لأن أقص على القراء حكاية اتفقت لدولته في مسجد وصيف، وسمعتها من أحد المقربين منه؛ فإن دولته أمر يوما بإعداد سيارته، ولما أعدت له ركبها مع سكرتيره الخاص الأستاذ الجزيري وطلب من السائق أن يقلهما إلى زفتى ، وكان ينوي أن يزور يوسف بك الجندي في مكتبه، غير أنه لم تكد السيارة تبلغ باب البلد حتى لمح جماعة من أولادها دولة الرئيس، فعرفوه وأحاطوا بسيارته وأخذوا يهتفون بحياته، فخشي دولته إن هو واصل السير إلى داخل المدينة أن تقام له مظاهرة كبيرة، فأشار على السائق بأن يرجع القهقرى ويسير في الطريق الذي يؤدي إلى طنطا، فلما ابتعدت السيارة عن زفتى أمر بتوقيفها ثم التفت إلى الهاتفين، وكانوا قد تعقبوه، وقال لهم: «اللي شاطر فيكم يناديلي يوسف بك الجندي.» فأطلقوا لسيقانهم الريح؛ إذ أراد كل منهم أن يحوز قبل رفيقه فخر تلبية نداء سعد باشا. وبعد ربع ساعة أقبل عوض بك الجندي شقيق يوسف بك الجندي ووراءه «مظاهرة» كبيرة مؤلفة من جميع طبقات زفتى، فسأله سعد باشا عن أخيه، فأجابه بأنه غائب في المنصورة، فكلفه أن يبلغه تحياته ودعاه وإياه إلى تناول الغداء على مائدته في اليوم التالي، ثم شكر الجموع التي احتشدت لتحيته، وأمر السائق بالعودة إلى مسجد وصيف. •••
وفي نحو الساعة الواحدة بعد الظهر دعانا الرئيس الجليل إلى تناول الغداء معه كما يدعو كل يوم الذين يقصدونه لزيارته والسؤال عن صحته، فنهضنا إلى قاعة الطعام وترأس هو المائدة، وكان دولته يأكل تارة من الألوان التي تقدم إلينا، وطورا يؤتى له بألوان أخرى أخف من ألواننا وأسهل هضما منها مراعاة لصحته، وكان حفظه الله يتفقد ضيوفه من حين إلى آخر، فيقول لهذا إنه لا يأكل ما فيه الكفاية، ويسأل لماذا لم يأكل من اللون الفلاني، واتفق أن أحدنا أصيب قبيل الغداء بانحراف بسيط لم يمكنه من الجلوس معنا على المائدة، فسأل الرئيس عنه غير مرة واهتم بشأنه، وطلب من الدكتور حامد أن يعوده، ولما وافانا إلى المائدة عطف عليه دولته بعبارات لطيفه وأمر الخدم بأن يقدموا إليه طعاما خفيفا حتى لا يتعب من الأكل.
ولاحظنا في آخر الغداء أن دولة الرئيس الجليل تعب، فرجا منه أحدنا أن يدعنا ويصعد إلى غرفته ليأخذ قسطه من الراحة، ولكن دولته أبى أن يتركنا وحدنا وظل يحادثنا حتى فرغنا من أكل الفاكهة وشرب القهوة، فقال لنا: «أنتم في بيتكم، وأنا أشكركم جدا على زيارتكم، ولكن اسمحوا لي بأن أستريح قليلا.» ونهض فنهضنا وراءه وأقبلنا عليه فحييناه ودعونا له بالصحة والعافية وطول العمر، فغادرنا وهو يقول: «مرسي! مرسي! متشكر!»
وبعدما استرحنا قليلا ودعنا الأستاذ الجزيري الذي مكث عند الرئيس وركبنا السيارة وعدنا إلى العاصمة، فبلغناها بعد ساعتين وألسنتنا تلهج بما رأيناه من كرم سعد البلاد ومكارم أخلاقه. (5) سعد ومعيشته في مالطة
قصدنا إلى سعادة حمد الباسل باشا ورجونا منه أن يفضي إلينا بتفصيل ما جرى لسعد وصحبه الثلاثة عند نفيهم إلى مالطة في بدء الثورة المصرية، وبوصف معيشة الرئيس الجليل في منفاه، فقابلنا سعادته بما جبل عليه من الرقة والبشاشة وأجلسنا في قاعة تطل على الشرفة التي ألقى منها «سعد زغلول» خطابه الأول عن الوفد المصري والغاية من تأليفه، وهو الخطاب الذي نودي فيه لأول مرة باستقلال مصر وسقوط الحماية البريطانية عنها، وكأن ذكرى هذا الخطاب وذكرى «سعد» وهو يلقيه بصوته الجهوري الرنان حركتا في فؤاد «حمد» ما يكنه من الذكريات الوطنية، فانطلق يحدثنا عن حكاية نفيهم إلى مالطة بإفاضة وبلاغة كأنه يتلو علينا تلك الحوادث من كتاب نقش في أعماق القلوب وحفر بحروف ثابتة خالدة على لوحة الأذهان، فلم تمح على مر الأيام.
حدثني حمد باشا فقال: «قبيل غروب شمس يوم من الأيام اعتقلت السلطة العسكرية سعد باشا وصحبه الثلاثة، ونقلنا جندها إلى ثكنات قصر النيل، وهناك أبلغونا أننا سنسافر في صباح الغد، وأنه يحسن بنا أن نأخذ معنا من الثياب والملابس ما يكفينا لشهر على الأقل. فسألنا إلى أين سنسافر، فأجابونا بأننا سننقل إلى بقعة غير معلومة، فألححنا في معرفة هل تقع هذه البقعة في الأراضي المصرية، أو فيما يجاورها من الديار الفلسطينية، أم أننا سنجتاز البحار وننفى إلى غير بلاد الشرف من الأمصار، فكان الجواب أن الجهة التي سنرحل إليها يجب أن يبقى اسمها مجهولا عنا، فأذعنا للقوة واستسلمنا لمشيئة خالقنا، ورضي رجال السلطة بأن نجلب من منازلنا ما نحتاج إليه من الحاجيات في رحلتنا، كما أنهم سمحوا لكل منا بأن يستصحب معه خادمه.
وفي صباح اليوم التالي وضعت أمتعتنا في سيارة من سيارات الجيش الكبيرة، ودعينا نحن إلى ركوب سيارات صغيرة نقلتنا من ثكنات قصر النيل إلى محطة العاصمة، ووقفت بنا على رصيف القطار الذي أقلنا في الساعة الحادية عشرة إلى بورسعيد، وكان يحرسنا في ديواننا اثنان من الضباط وأربعة من جنود الشاكي السلاح.
ولما دنا القطار من الإسماعيلية أخذنا نتساءل هل سننزل فيها توطئة لنقلنا إلى السويس ومنها إلى سيلان، أو إلى غيرها من بلاد الله الواسعة، أم سنستأنف سفرنا إلى ما بعدها من المحطات، فلما بلغنا الإسماعيلية ولم يبد من حراسنا حركة أو إشارة، أدركنا أنا قاصدون إما إلى القنطرة فنذهب منها إلى فلسطين، أو إلى بورسعيد لنركب منها متن البحر الأبيض المتوسط، ولكننا لم ننزل في القنطرة فقلنا إلى بورسعيد إذن. ولما وصلنا إليها قادونا إلى باخرة كانت راسية في مينائها واسمها «كالدونيا»، ولم يكن فيها سوى جند وضباط من رجال الجيش البريطاني وكانوا مسافرين إلى أوروبا.
وركبنا الباخرة ونحن نجهل الجهة التي نقصد إليها ولكن لم تكد الباخرة تقلع بنا وتمر أمام تمثال «دي لسبس»، حتى جاءنا الضابط المكلف بحراستنا وأخبرنا أننا ذاهبون إلى مالطة التي اختارها ولاة الأمور منفى لنا، فاعترضنا عندئذ على استصحاب خدمنا معنا، وقلنا إنه إذا كنا نحن قد أتينا عملا تظن السلطة العسكرية أننا نستحق النفي عقابا عليه، فما ذنب هؤلاء الخدم المظلومين الذين لم يكن لهم في الموضوع ضلع، فلما سمع خدمنا هذا الكلام «احتجوا» عليه وأقسموا أن يرافقونا في جميع غدواتنا وروحاتنا، ويشاركونا في سرائنا وضرائنا.
وفي اللحظة التي خرجت فيها الباخرة من المياه المصرية قيل لنا إن البحر لا يزال مملوءا بالألغام التي بثها الألمان في كل مرحلة من مراحله لاقتناص بواخر الحلفاء، كما قيل لنا إنه يجب علينا أن نكون دائما على استعداد لكي ننجو بأنفسنا في حالة حدوث انفجار، ولكيلا نؤخذ على غرة أخذوا يدربوننا مع الجنود الذين كانوا مسافرين معنا على سبل النجاة والخلاص، فكانوا يعطون كل واحد منا طوقا من الفلين ويرشدونه إلى مكانه في قارب النجاة المعين لنزوله فيه في حالة حدوث انفجار في الباخرة، ثم يمثلون رواية الغرق بجميع أدوارها ليتأكدوا من أننا استوعبنا الدروس التي ألقوها علينا في هذا الشأن.
ولما صرنا على مقربة من مالطة توقفت الباخرة عن السير ثم لم نلبث أن أبصرنا زورقا بخاريا يدنو منها قادما من الجزيرة، فأدركنا في الحال أنه الزورق المعد لنقلنا إلى البر، ولما صار محاذيا للباخرة صعد منه إليها ضابط فظ الطباع شرس الأخلاق، فحيانا بعجرفة وخاطبنا بغطرسة قائلا إنه لا يسمح لكل منا إلا بحمل حقيبة صغيرة، أما الحقائب الكبيرة فيجب أن نتركها وراءنا في الباخرة لأنه لا محل لها في الزورق، واتفق أن ربان الباخرة كان واقفا بجانبنا ساعتئذ، فلما سمع اللهجة التي يخاطبنا بها هذا الضابط دنا منه وقال له إنه يحمل توصية بوجوب معاملتنا باحترام، فلم يسعه عندئذ سوى الإذعان، ورضي بأن نأخذ معنا ما نريده من حقائبنا وأمتعتنا.
ولما وطأت أقدامنا البر، ألفينا مركبة صغيرة ذات عجلتين في انتظارنا، فأركبنا فيها سعد باشا وأحد الأصحاب، وسرت أنا والصاحب الرابع بجانبها على الأقدام.
وبعدما سرنا مسافة طويلة وصلنا إلى قشلاق «فردالا»، الذي اختاره ولاة الأمور البريطانيون ليعتقلونا فيه، فخصصوا لكل واحد منا غرفة للنوم وغرفة للجلوس وحماما، وكانت غرفنا كلها واقعة في صف واحد بعيدا عن أماكن الجنود، فاسترحنا واغتسلنا وأبدلنا ملابسنا، ثم سألنا عن التدابير التي اتخذت لإعداد طعامنا، فأجابونا أنهم سيصرفون لنا كل يوم كذا دراهم من الخضار وكذا دراهم من الزبدة، فاعترضنا على هذه المعاملة، فقالوا إنهم سيختارون لنا طاهيا ألمانيا بارعا ليطبخ لنا ما نشاؤه من الأطعمة وأصناف المأكولات بما يصرفونه لنا كل يوم من المواد الغذائية، وزادوا على ذلك أنه إذا كنا نبغي أن نحصل على مأكولات أخرى، ففي طاقتنا أن نحصل عليها من «كانتين» الضباط، على أن ندفع نحن ثمنها من مالنا الخاص، فسررنا بذلك وجمعنا ما كان معنا من مال يسير، وأخذنا ننفق منه على شراء ما كان يطيب لنا من المأكولات والأطعمة، وطلبنا من القائمين على حراستنا أن يسمحوا لنا بمكاتبة أهلنا ليبعثوا إلينا بما نفتقر إليه من مال، فقالوا لنا إنهم سيؤدون عنا هذه المهمة، وفعلا أخبرونا بعد يومين أن كلا منا تلقى خمسمائة جنيه من مصر، وأن هذا المبلغ أودع باسمه في صندوق مكتب القشلاق، فكنا إذا اشترينا شيئا من «الكانتين» أمضينا على الفاتورة فيأخذها مديره ويقبض قيمتها من مكتب القشلاق الذي كان يخصم ما يدفعه عنا من المال المودع عنده باسمنا.
وبعدما استقر بنا المقام في مالطة قال لنا سعد باشا في يوم من الأيام إنه فرغ من إعداد برنامج معيشتنا في منفانا، فخصص بعض ساعات النهار للدرس والمذاكرة، وخصص ساعات أخرى للمطالعة والمحادثة، وخصص ما بقي من الساعات للتريض والتفكه. وإذ كان رجال القشلاق يطفئون أنواره الساعة التاسعة مساء طلبنا أن يدعوا أنوار غرفنا مضاءة حتى الساعة الحادية عشرة، فأجابونا إلى طلبنا.
والتقيت في مالطة برجل ألماني (من المعتقلين الألمان) عرفته في الفيوم وكان يعطيني دروسا في اللغة الإنجليزية، فسررت بلقائه، ولما عرف سعد باشا تاريخ علاقتي به، كلفني أن أطلب منه أن يعطيه دروسا في اللغة الإنجليزية، فرضي الرجل عن طيب خاطر، وأخذ الرئيس يتلقن تلك اللغة على يده.
سعد المفكر.
وكنا حتى ذلك الحين نجهل تماما ما حدث في مصر من الحوادث عقب إبعادنا عنها، إذ إن القائمين على حراستنا كانوا يحولون دون تسرب الجرائد إلينا، ولكن أحد الضباط المكلفين بمراقبتنا قال لنا مرة: «إنكم غادرتم مصر بعدما صيرتموها شعلة من نار»، فأدركنا أن في مصر حالة غير عادية، ولكننا لم نشأ أن نكثر من السؤال والاستقصاء كي لا تحوم الظنون حولنا.
وبعد يومين، دخل علينا طاهينا الألماني وأخرج من حذائه نسخة من جريدة التيمس ودفع بها إلينا، فقرأنا فيها أن الشعب المصري هاج وماج على أثر القبض علينا وإبعادنا، وأن مصادمات شتى وقعت بين الطلبة والجنود البريطانية، وأن الطيارات الإنجليزية ألقت قنابلها على عربان الفيوم وقتلت أربعمائة منهم، وأن الجماهير تبدي مقاومة في كل مكان وأن وأن وأن ... إلى غير ذلك من أخبار الحركة التي كنا نجهل أمرها كل الجهل، فترحمنا عندئذ على الموتى وأدركنا أن الشعب المصري جاد في نهضته ماض في نضاله، فأقسمنا ساعتئذ على أن نفنى في خدمته وفي سبيل الدفاع عن قضيته، وأن ننبذ الحياة المادية ولا نهتم إلا بالشئون المعنوية، وبتنا على أحر من جمر نرقب ما تخبئه لنا الأيام من مفاجآت.
وكان القائمون على حراستنا يسمحون لنا بالتنزه في أنحاء الجزيرة والتجول في أرجائها مرتين في الأسبوع، ولكنهم كانوا يطلبون منا في كل مرة أن نوقع تعهدا نتعهد فيه بشرفنا بألا نفر ولا نحاول أن ندبر سبيلا للفرار، وألا نخاطب أحدا ولا نعطي نقودا لأحد، وألا نمس بأذى أحد جنود صاحب الجلالة البريطانية أو أحد جنود الحلفاء. ومع أننا كنا دائما نمضي على هذا التعهد، فإن أحد الضباط كان يصحبنا دائما في غدواتنا وروحاتنا «بصفة دليل» على ما كان يقال لنا.
وكان هذا الضابط يتفقدنا صباحا ومساء، ففي الصباح يقرع باب غرفة كل منا ويقول «جود مورننج»،
3
فإذا أجبناه «جود مورننج» تأكد من وجودنا وانصرف، وإذا لم يجدنا في الغرفة ظل يبحث عنا إلى أن يقول لنا «جود مورننج» ... وكان في المساء يعيد الرواية عينها، فيقرع باب كل غرفة من غرفنا ويقول «جود نايت»،
4
فنقول له «جود نايت»، وإذا لم يسمع جوابا من داخل الغرفة انطلق يبحث عن صاحبها حتى إذا وجده قال له «جود نايت»؛ أي إنه متمسك جدا «بجود مورننج» و«جود نايت»، وإنه لا يستطيع أن يعمل في الصباح بدون أن يصبح علينا، ولا يستطيع أن ينام في المساء بدون أن يمسي علينا ... كان رقيقا جدا.
وزارنا مرة أخرى اللورد منون، حاكم مالطة، العام بلباسه العسكري مع أركان حربه، فتفقد غرفنا وسأل عن التدابير التي اتخذت لإراحتنا وتسهيل سبل إقامتنا ومعيشتنا، ثم أقبل علينا يسألنا بكل احترام وإكرام هل نحن في حاجة إلى شيء نرغب فيه فيقضيه، فشكرنا له عنايته وسألناه عن موعد أوبتنا إلى مصر، فقال إنه لا يعلم شيئا في هذا الصدد.
وبينما كنا جالسين ذات يوم نتجاذب أطراف الحديث، دخل علينا ضابط كبير وقال لنا: «استعدوا للسفر غدا؛ فسيطلق سراحكم ويسمح لكم بالسفر إلى باريس.» وما لبث الخبر أن ذاع بين إخواننا المصريين المعتقلين في مالطة، فأقاموا لنا حفلة شاي كبيرة حضرها الألمان الذين كانوا معتقلين معهم أيضا. وبعدما خطب كثيرون من إخواننا المصريين، نهض سعد باشا ورد عليهم بخطاب بليغ يفيض حماسا ووطنية، فقوبل بالتصفيق الشديد والهتاف المتواصل لمصر للوطن المفدى.
وفي اليوم التالي قادنا الجند إلى المرفأ، وظلوا يحرسوننا ويمنعوننا عن الاختلاط بالأهلين والتكلم معهم إلى أن وصلت الباخرة التي كان مقررا أن تقلنا إلى فرنسا، ولما صعدنا إليها دنا منا كبير الضباط وقال لنا: «أنتم أحرار الآن يا سادة»، ثم أقبل على كل منا وصافحه مودعا برقة وبشاشة.
وكم كانت دهشتنا عظيمة حين ظهر لنا أن هذه الباخرة هي الباخرة «كاليدونيا» التي نقلتنا من بورسعيد إلى مالطة (بل كم كانت دهشتنا أعظم حين اجتمعنا فيها بسائر إخواننا من أعضاء الوفد المصري!) فذرفنا الدمع من شدة اغتباطنا وابتهاجنا، وشكرنا الله على هذا اللقاء الفجائي الذي أدخل السرور إلى قلوبنا وبعث روح الأمل في نفوسنا.
ثم استأنفنا السفر إلى فرنسا ونحن نعلق آمالا واسعة على نبي آخر الزمان الدكتور ولسن، صاحب المبادئ الأربعة عشر الخاصة بمصير الشعوب الصغيرة، المهضومة الحقوق، المسلوبة الحرية والاستقلال، ولكن في اليوم التالي لوصولنا إلى باريس فاجأنا ولسن بقراره الذي وافق فيه على حماية بريطانيا العظمى على مصر.
وإني لا أصف لكم مبلغ ما استحوذ علينا من الاندهاش والاستغراب لما اطلعنا على هذا القرار، ولكن حسبي أن أقول لكم أن عزيمة سعد كانت أقوى من أن يؤثر فيها ولسن أو غير ولسن، فجاهر بأن الوفد المصري سيمضي في جهاده حتى الرمق الأخير من حياة أعضائه.
أجل! لقد ثبت الوفد المصري ونحن اليوم كما كنا بالأمس ثابتون على مبادئ سعد، ثابتون على حب سعد.» (6) سعد بين عدن وسيشل
كان الأستاذ مكرم عبيد قد دون مذكرات ضافية عن حياة سعد وصحبه في منفاهم في ميناء «عدن» أولا، ثم في جزائر «سيشل» النائية، ولكن السلطات البريطانية عثرت على هذه المذكرات التاريخية عند تفتيشها لداره في بعض الظروف السياسية، فأخذتها ولم ترجعها، ففقدت الأمة بمصادرتها صفحة مجيدة من أسطع الصفحات وأغرها في سيرة سعد القومية، ولكن ذاكرة وزير الشباب متوقدة نيرة، ولئن كنا قد حرمنا المذكرات التي خطتها يده، فإنا لم نحرم بعض ما وعته حافظته، فانتهزنا فرصة اجتماعنا به عقب عودته من أوروبا واقتبسنا من حديث أفضى به إلينا المعلومات التاريخية الطريفة التي نسردها للقراء فيما يلي:
في صباح اليوم الذي أذيع فيه تصريح 28 فبراير في مصر، كان الفقيد العظيم وصحبه جالسين في القلعة التي اعتقلوا فيها في عدن يتناولون طعام الفطور، فدخل عليهم ضابط برتبة كولونل كان يقوم بأعمال وكيل الحاكم وقال لهم إنه تلقى أمرا بوجوب إبلاغ سعد باشا أنه سينقل من عدن إلى جهة أخرى غير معلومة، وأن لدى دولته ساعة ونصف ساعة لكي يعد أمتعته توطئة لانتقاله إلى السفينة الحربية التي ستقله إلى منفاه الجديد، فقابل سعد باشا النبأ الفجائي برباطة جأش عظيمة، وقابله صحبه بهياج شديد، فسألوا الكولونل عن الحكمة في فصل الزعيم عنهم، فأجابهم أنه لا يعلم عن ذلك شيئا، وأنه إنما ينفذ التعليمات التي صدرت إليه من رؤسائه، فسألوه هل يستطيعون مرافقة دولته ليسهروا على صحته وإراحته في خلال سفره، فكان جوابه أنه لا يملك سلطة نقض التعليمات التي يعمل بها أو سلطة تحويرها وتعديلها، فقرروا أن يرفعوا احتجاجا على هذه المعاملة إلى المقامات العليا، فحاول سعد باشا أن يثنيهم عن عزمهم لئلا يؤخر هذا الاحتجاج في عودتهم هم إلى مصر، فلم يسلموا بوجهة نظره وأصروا على وجوب مرافقته إلى النهاية ، وفعلا عهدوا إلى الأستاذ مكرم في كتابة الاحتجاج باللغة الإنجليزية، وقد طلبوا فيه أن يسمح لهم بمرافقة الزعيم، أو إذا كان ذلك متعذرا لصغر السفينة، فلا أقل من أن يسمح لأحدهم بأن يكون في صحبته، وأرسلوا الاحتجاج مع رسول إلى سراي الحاكم.
وبعد ساعة ونصف ساعة توجه سعد باشا إلى المرفأ ليركب السفينة التي أعدت لسفره وسمح لصحبه بمرافقته إليها، فساروا حوله وهم يبكون ويتحسرون، بينما كان دولته يبذل جهده ليسكن من روعهم وهو رابط الجأش ثابت الخطى، ولما صعد إلى السفينة وأزفت ساعة الفراق رفع منديله ملوحا وأنشد بصوت مؤثر قائلا:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
ثم عاد صحب سعد إلى القلعة صامتين واجمين وقد ساورهم شعور أليم؛ وهو أن وداعهم للرئيس في ذلك اليوم قد يكون الوداع الأخير، ولكنهم ما كادوا يعودون إلى القلعة ويستقرون فيها حتى تلقوا نبأ من الحاكم بأن المراجع العليا أذنت في أن يرافق أحدهم سعدا إلى منفاه الجديد، فاغتبطوا بهذا النبأ بقدر ما كان الظرف يسمح به من اغتباط، وبعدما بحثوا في الأمر مليا ورجعوا إلى سعد باشا في قرارهم، اختير الأستاذ مكرم عبيد ليرافق دولته في سفره، فحزم أمتعته وانتقل إلى السفينة، وكانت ما تزال راسية في الميناء، وسمح لسائر صحب سعد بالصعود إليها لتوديعهما فيها، وبعد يومين أقلعت بهما وهما يجهلان وجهة سيرها، ولكنهما تذكرا أنهما سمعا وهما في عدن أن سعد باشا سينتقل إلى سيشل، فتوقعا أن يذهبا إليها، غير أنهما لم يتمكنا من تحقق ذلك؛ لأن رجال السفينة كانوا يمتنعون عن إجابتهما على كل سؤال في هذا الصدد، فإذا ما انقضى عليهما ثلاثة أيام في عرض البحر أقبل عليهما ربانها وأخبرهما أنهما ذاهبان إلى سيشل، وأمضى سعد باشا أيام السفر متعبا؛ لأن السفينة كانت صغيرة لا تزيد حمولتها على تسعمائة طن، وكان الأستاذ مكرم ينام على سرير صغير يقابل السرير الذي كان الرئيس ينام عليه في «القمرة» التي أفردت له.
ولما وصل سعد باشا والأستاذ مكرم إلى «ماهي» عاصمة جزائر سيشل، هرع سكانها لمشاهدتهما، وكانوا يحيون سعد باشا باحترام وإكبار لما سمعوه عن اسمه ومقامه بين قومه، فكان يرد لهم التحية باسما شاكرا، وبعدما قابلا الحاكم أبلغا أنهما سيقطنان في دار اختيرت لإقامتهما على ربوة تبعد عن البلد نفسها مسافة غير قصيرة، فأعرب سعد باشا عن رغبته في مشاهدتهما، فحملوه إليها بمركبة صغيرة يجرها رجل من الوطنيين بيديه، وحملوا الأستاذ مكرم بمركبة مثلها، فلما وصل الرئيس إلى الدار وتفقد نظامها، قال إنها تبعد عن قلب البلد مسافة عظيمة، وإنه لو احتاج إلى طبيب أو إلى دواء لفاضت روحه قبل أن يصل إليه الطبيب أو الدواء، وبعد أخذ ورد طويلين اقتنعوا بعدالة طلبه، فأسكنوه مع الأستاذ مكرم في دار قاض كان غائبا بالإجازة.
وبعد أيام نقلوهما إلى جزيرة «ليلونج»، وهي تقوم على مقربة من «ماهي»، فسر سعد باشا بهذا الانتقال؛ لأن المناظر الطبيعية فيها كانت تأخذ بمجامع القلوب، وقد أعد لسكنه دار فسيحة تحيط بها حدائق غناء. فلما استقر بهما المقام فيها، جعل سعد باشا يقول للأستاذ مكرم إن المرء يتمنى لو يتاح له أن يعيش مدة طويلة منعزلا عن الناس وعن ضوضاء المدن في مثل هذه الجنة الفيحاء، وكان دولته يعتقد وهو يقول هذا القول أنه لن يعود إلى مصر حيا، وإلا فما الغاية من نفيه في تلك الجزائر البعيدة النائية بعدما كان معتقلا في عدن، ثم يعود فيقول: «إن الأمر موقوف على ثبات الأمة، ولي فيها عظيم الثقة.»
وكان الرئيس الجليل يمضي أوقاته في سيشل بالتريض والتنزه تارة، ويتجاذب أطراف الحديث مع الأستاذ مكرم تارة أخرى، وكانت أحاديثهما تتناول جميع الموضوعات الفلسفية والاجتماعية والأدبية، علاوة على البحث في جميع المراحل السياسية التي اجتازتها القضية الوطنية، وقد قص سعد باشا على الأستاذ مكرم في أثنائها علاقته بالثورة العرابية وببعض الحوادث التي حدثت عند إنشاء الجمعية التشريعية، ولما اكتشف دولته أن الله حبا الأستاذ مكرم بصوت شجي، كان يلح عليه بأن يسليه بإنشاد بعض القصائد المشهورة، ويقول الأستاذ مكرم إنه كان للفقيد ولع خاص بأشعار سامي البارودي باشا.
ثم خطر لسعد باشا أن يتعلم اللغة الإنجليزية على يد الأستاذ مكرم، فعكف على تلقينه أصولها ومبادئها بأسهل الطرق وأقربها إلى الفهم، فأظهر (رحمه الله) عبقرية مدهشة في تفهم عباراتها واستيعاب ألفاظها، ومما تحسن الإشارة إليه هنا أنه كان يدرس الإنجليزية في الكتاب الذي وضعه المستر مكدونلد رئيس الوزارة البريطانية الحالية عن «الاشتراكية». وكان من عادته إذا قرأ كلمة إنجليزية تشابه بنطقها كلمة فرنسية يعرفها، يطلب من الأستاذ مكرم أن يفسرها له، فإذا جاء تفسيرها مخالفا لتفسير الكلمة الفرنسية يقول له: «أنت مخطئ»، ثم يكب على مناقشته فيها بما اشتهر به من حب الجدل والمناقشة، وأخيرا فكر الأستاذ مكرم في حل لطيف لهذه الحالة، فطلب من الرئيس الجليل أن يدونا الكلمات المختلف عليها على ورقة مستقلة، ويحتكما في تفسيرها إلى شخص يعرف اللغة الإنجليزية غيرهما.
وبعد أيام أبلغ سعد باشا أن صحبه الذين تركهم في عدن سيلحقون به، وفي اليوم المحدد لوصولهم انتقل دولته مع الأستاذ مكرم إلى جزيرة «ماهي» لاستقبالهم، ولما رآهم نازلين من الباخرة التي أقلتهم إليها، انهمرت الدموع من عينيه وقال: «إن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن أفارق هذه الحياة وأنا بعيد عن أولادي»، فدعوا له بطول العمر، وكان سرور الجميع باجتماع الشمل يفوق الوصف.
وكان أول ما فعله سعد باشا بعد ذلك أن سأل عاطف بركات باشا عن الكلمات التي اختلف مع الأستاذ مكرم على تفسيرها، فجاء شرح عاطف باشا مطابقا لشرح الأستاذ مكرم فضحك سعد باشا واقتنع.
وكانت السلطات المحلية قد استعدت لإيواء النزلاء الجدد، فأعدت لسعد باشا وللأستاذ مكرم دارا تسعهما مع خدمهما، وأعدت للنحاس باشا وفتح الله بركات باشا وعاطف بركات باشا وسينوت حنا بك دارا أخرى على مقربة من الدار الأولى، ولكن الجميع كانوا يتناولون طعام الغداء والعشاء على مائدة سعد باشا ليتسلى بوجودهم حوله، ثم انتقل دولته والنحاس باشا والأستاذ مكرم وسينوت بك إلى دار فخمة تقع فوق ربوة جميلة قدمها لهم وجيه مسلم عاد إلى الجزيرة بعد غياب طويل عنها، وظل فتح الله باشا وعاطف باشا يقيمان في الدار الأصلية، ولكنهما كانا يصعدان إلى قمة الربوة عند حلول ساعة الأكل لينضما إلى إخوانهما حول مائدة سعد باشا، ولما استقر قرار ولاة الأمور البريطانيين على نقل الرئيس الجليل من سيشل إلى جبل طارق، أخذ معه صورتهم الفوتوغرافية، وتروي أم المصريين أنها لما لحقت به هناك كانت تراه كل يوم يضم تلك الصورة إلى قلبه وهو يقول: «هؤلاء هم أولادي، فليحرسهم الله بعنايته.» (7) سعد وحياته في سيشل وجبل طارق
5
كان الرئيس يستيقظ من نومه مبكرا جدا، حوالي الساعة الخامسة والنصف أو السادسة، وبعد أن يغسل وجهه ويرتدي ثيابه، يجلس خارج غرفته بالبلكون يطالع درسه الإنجليزي، وكان يهتم به كثيرا جدا، حتى بلغ الأمر منه أنه كان يجلس الساعات الطوال يطالع تلك اللغة بمساعدة مكرم بك، وبلغ من مغالاته في الانهماك بها أن كان يقرؤها حتى في فراشه وإبان ساعات نومه، ولم تقل ساعات مذاكرته يوما عن ست ساعات على أقل تقدير، حتى إن أصحابه كثيرا ما أظهروا عدم ارتياحهم إلى إنهاك قواه العقلية بهذا الشكل، وأنحوا باللائمة كثيرا على الأستاذ مكرم الذي كان يقوم بتدريسها له، وكان يدرسها في بعض الأحيان أيضا على عاطف بركات باشا، ولكنه كان يفضل درسها على الأستاذ مكرم، وكنت أساعده دائما في تفهم معانيها ومخاطبته بها وتمرينه عليها، وكان الأستاذ مكرم يدعوني لذلك أحيانا «مساعد معلم الرئيس» على سبيل المزاح.
قلت إنه كان يجلس كل يوم في الصباح بالبلكون بعد أن يرتدي ثيابه يطالع كتابا في الإنجليزية إلى أن يحين موعد الفطور، وفي كثير من الأحيان كان يستيقظ عاطف باشا مبكرا أيضا ويجلس بإزاء الرئيس لمطالعة الدرس الإنجليزي، وفي الساعة الثامنة يكون أول الداخلين إلى غرفة المائدة مع عاطف باشا، ثم يتبعهما بعد ذلك النحاس باشا وفتح الله باشا وسينوت بك، فالأستاذ مكرم الذي كثيرا ما يكون هو الأخير في الحضور إلى المائدة .
وفي أثناء الطعام يتجاذبون أطراف الحديث الذي يدير دفته الرئيس والأستاذ مكرم غالبا، وعند انتهاء الطعام يجلس الرئيس مع الأستاذ مكرم إلى درسه الإنجليزي، وينفرد عاطف باشا بركات بكتاب يطالعه أو بمذاكرة اللغة الفرنسية، التي كان مولعا بها ويساعده فيها أحيانا مصطفى النحاس باشا، ويجلس فتح الله باشا لتلاوة القرآن أحيانا، وأحيانا كان يجلس للحديث مع عاطف باشا وسينوت بك، وهكذا إلى أن يقرب وقت الغداء، فيقوم الرئيس لأخذ حمامه اليومي، ثم يخرج إلى غرفة المائدة؛ حيث تكون الساعة الأولى بعد الظهر، وبعد الانتهاء من الطعام يخرجون إلى النوم مباشرة ويستيقظون منه حوالي الساعة الثالثة والنصف لتناول الشاي، ويذهبون جميعا عدا الرئيس وأنا للنزهة اليومية خارج الحصن صحبة الضابط النوبتجي لمدة ساعة من الزمن، أو في المسافة الواقعة ما بين الحصن وحظيرة الأبقار القريبة منه، ويتبعهم عن بعد جندي من الأهالي.
وكان الباعث على عدم خروج الرئيس كل يوم للنزهة هو أنه كان يرى مشقة عظيمة في الصعود والهبوط من الوادي إلى البيت، وكان يكره منظر «الديدابانات» المنتشرة حولنا هنا وهناك لشدة حبه للحرية؛ الأمر الذي جعله ينفر من كل مظهر من مظاهر التقييد، وبهذه المناسبة أذكر أنه عندما صعدنا لأول مرة إلى سجننا وألقينا نظرة على الغرف وأثاثها البسيط ومحتوياتها القليلة، نظر معاليه مليا ثم قال: «هذا حسن ...» فأجبته وكنت بقربه قائلا: «وسنكون بمعزل عنهم لا يروننا ولا نراهم.» فقال: «أحسنت جدا، وهذا ما أردت أن أقوله.»
ثم التفت إلى فتح الله باشا وسينوت بك ومدح لهما دقة ملاحظتي تواضعا منه وتلطفا، وفي أثناء ذلك كنت أسير بصحبة الرئيس جيئة وذهابا في البهو ونتحادث بالإنجليزية لأجل تمرين معاليه، وعند عودتهم يجلس سعد باشا والأستاذ مكرم وعاطف باشا والضابط النوبتجي وسينوت بك للعب الورق، ويجلس فتح الله باشا والنحاس باشا للعب الدومينو، وقبل أن يحين ميعاد العشاء الذي كنا نتناوله عادة حوالي الساعة الثامنة، يقوم الرئيس وصحبه للسير في البهو مدة نصف ساعة، وأحيانا كنت أمارس ومصطفى النحاس باشا وفتح الله بركات باشا والأستاذ وليم مكرم بعض الحركات الرياضية من قفز أو ركض، وبعد تناول طعام العشاء الذي كانوا يدعون إليه في كثير من الأحيان الضابط الإنجليزي النوبتجي، يجلسون للحديث والسمر فيقص عليهم معالي الرئيس شيئا مما وقع ورآه إبان الحوادث العرابية وبعدها.
وكثيرا ما كنا نتفقد معالي الرئيس فلا نجده، فيذهب الأستاذ مكرم من جهة وأنا من جهة أخرى، فنعثر به سائرا حول الجزيرة على شاطئ البحر الرملي، وقد كان معاليه يحب السير على قدميه كثيرا جدا، وكان يسير بخطوات شاب بارز الصدر مرتفع القامة ثابت القدم.
وأحيانا كنا نذهب جميعا فنجلس على شاطئ البحر مفترشين الرمل الناعم النظيف، وكنت أبحث لهم عن ودع يلعبان به السيجة.
وفي بعض الليالي كان يجلس الرئيس والأستاذ مكرم ويبدأ الأستاذ مكرم بالغناء بصوت مطرب خلب ويصغي إليه الرئيس بسرور، وكان يساعده في ضبط نغمة الألحان أحيانا، فيوقع الرئيس الغناء وينشده الأستاذ مكرم بصوت مطرب للغاية.
وأحيانا يتناول الرئيس كتابا من الشعر ويتلو بعضا من القصائد بينا نصغي إليه، وكان يحب الشعر السلس غير المعقد ويقول: «إن الشعر الجيد على ما أرى هو ما يفهمه القارئ والسامع لأول وهلة، أما ذلك الذي يحتاج إلى إعمال الفكر في تفهم معناه فليس في نظري بشعر جيد.» وكان معاليه والأستاذ مكرم يميلان إلى شعر محمود سامي باشا البارودي، وخاصة ما قاله وهو في منفاه عن مصر، وكانا يتفاءلان خيرا به وكثيرا ما رددا أبياته بالغناء والترتيل.
في جبل طارق
علمنا عند قدومنا إلى جبل طارق أن للرئيس مطلق الحرية في الذهاب والإياب داخل حدود جبل طارق، على شرط ألا يتعدى الأرض الإنجليزية.
وقد استصدروا من معاليه قسما بعدم محاولة ترك جبل طارق بدون تصريح له منهم بذلك.
ورغم ذلك فإنهم وضعوا للرقابة رجالا من البوليس الملكي يسيرون وراء معاليه أينما سار، وكانوا ظاهرين، ولكن لما أظهر الرئيس عدم ارتياحه من هذه المراقبة الظاهرة إلى رئيس البوليس المستر كوكلان، تحولت المراقبة فصارت مستترة، وكان أولئك الرجال المراقبون من سكان البلاد وهم يجيدون الإنجليزية جدا ويتكلمون الإسبانية كذلك، وكثيرا ما كان معاليه يذهب إلى السوق على قدميه وهو يقع في أسفل الصخرة، ويبعد عن البيت نحو 45 دقيقة، فيبتاع شيئا من الجرائد وقليلا من الفاكهة.
وكان في كل صباح يتنزه في حديقة المنزل نحو 20 دقيقة قبل الفطور، فيسير مسافة ميل ونصف ميل ثم يعود إلى قراءة المجلات والجرائد الإنجليزية (التي كنت أساعده على تفهم ما يجيء فيها بخصوص مصر) وغيرها.
وكان كذلك يقوم بهذه النزهة بعد ظهر كل يوم، أما في الليل فلا يخرج، وكان الناس أثناء مروره في الطريق يشيرون إليه بالبنان ويتهامسون باسمه.
وقد لاحظ معاليه بعد قليل من وجودنا هناك أن الطربوش يستلفت أنظار الناس، فاشترى قبعة كان يلبسها كلما خرج للتنزه.
وأحيانا كنا نستقل عربة تمر بنا حول الصخرة بين طلولها القديمة، وقد رأينا فيما رأينا برجا يقول الناس إن بانيه هو طارق بن زياد، ولم يبق منه إلا رسومه، وقد أحاطته الحكومة بسور من الحديد، وهو قائم وسط خلاء شاهد لما كان للعرب من مجد أثيل وعز تليد.
وكانت المراسلات من وإلى الرئيس في جبل طارق غير ما كانت عليه في سيشل، فإنها كانت حرة لا رقابة عليها؛ لذلك كنا نتلقى كل يوم وابلا من الرسائل التلغرافية، كما كان يأتينا البريد بكثير من الرسائل البريدية كل عشرة أيام تقريبا من مصر، وكل أسبوع من أوروبا.
ونشرت مرة جريدة إسبانية، تصدر هناك، مقالة مطولة شديدة اللهجة بإمضاء إنجليزي يقطن مصر اسمه «أميجو»
6
يدعو فيها أهل جبل طارق والإسبانيين إلى الاحتفاء بزغلول باشا زعيم مصر الكبير وإكرامه، بل يدعوهم أيضا إلى الاحتجاج على سجنه والسعي في الإفراج عنه، ويشرح نتفا من تاريخ حياته وأصله.
فكانت النتيجة أن أقفلت السلطة الإنجليزية تلك الجريدة يوما وبعض يوم حتى اعتذر أصحابها وقدموا الضمان على عدم العودة إلى مثل هذا العمل، وقالوا إنها رسالة وصلتهم من مصر وقد نشروها بحسن نية، فعادت جريدتهم إلى الصدور.
وقد أراد الرئيس الاستمرار في تعلم اللغة الإنكليزية التي كان يتلقاها في عدن وسيشل على الأستاذ مكرم، وكنت أساعده في التمرن على الكلام بها، فطلب من الدكتور لو كهد أن يبحث له عن معلم أو معلمة إنجليزية لتعطيه دروسا فيها، فأتى له الدكتور بشاب من صف الضباط بالجيش الإنجليزي يعطيه أربعة دروس في الأسبوع مقابل ثلاثة جنيهات شهريا.
سعد في مسجد الوصيف.
وقد تقدم معاليه تقدما محسوسا فيها، وإنما كان يحتاج إلى زمن طويل لإخراج العبارات لعنايته الزائدة بتركيبها النحوي.
أما صحته فأخذت في التقدم منذ وصولنا إلى جبل طارق، حتى تم شفاؤه من مرض البول السكري، فبشر بذلك حرمه تلغرافيا.
ولكنه سئم الوحدة، فكتب إلى حرمه بالحضور إلى جبل طارق، فوصلت إليه يوم 16 نوفمبر سنة 1922 مع المرحوم سعيد بك زغلول والسيدة فهيمة هانم التي جاءت بصفة ممرضة لحرم الرئيس وخادم وخادمة.
فاستقبلناهم بالميناء، وقد انتظر الرئيس في بناية للحكومة على البحر، ودخلت أنا إلى آخر الرصيف، فكان استقبالهم لي مؤثرا، وعانقني المرحوم سعيد زغلول بك شكرا على ما قمت به من التطوع لهذا النفي الطويل، فأخذتهم إلى حيث كان الرئيس، وهناك كان البكاء وصرير الأسنان، فقد بكى معاليه وبكت حرمه ولم يتمالك أحد من الحضور دموعه.
وعدنا جميعا إلى المنزل حيث لبس حلة من السرور والسعادة لم تك به من قبل، وظل الرئيس وحرمه في صحة جيدة إلى وقت أن تركت جبل طارق في نوفمبر سنة 1922.
سعد من جميع نواحيه
في الفصل التالي وصف واف للطريقة التي كان الفقيد العظيم يتبعها في العمل، ولما أظهره من قوة الشكيمة في تعلم اللغة الفرنسية، ثم طائفة من الحكايات والنوادر التي اتفقت له في عهده الأخير، وكلها تدل على ما حباه الله به من ذكاء خارق وقوة حافظة نادرة وعلم واسع غزير ووطنية خالصة صادقة، ويعقب ذلك بعض الملح المختارة من نكات دولته وملحه، فحديث لمعالي فتح الله بركات باشا عما كان يخالج فؤاد سعد من شعور الشفقة والشجاعة في وقت واحد. *** (1) سعد أمام مكتبه
كان من عادة الفقيد العظيم المغفور له سعد زغلول باشا أن يكتب تارة بيده، وأن يملي تارة أخرى ما يريد كتابته على سكرتيره، وكان يدون أفكاره وخواطره في معظم الأحيان بالقلم الرصاص ما لم يكن جالسا إلى مكتبه، فيكتب عندئذ بالحبر، وكان إذا فرغ من خط ما أراد تحبيره على قرطاسه، يدعو إليه سكرتيره الخاص ويملي عليه ما كتب، وكانت كتاباته تبحث عادة في الموضوعات الانتخابية والقانونية، أو تتناول مقالات حمل عليه بها خصومه السياسيون، فيفندها ويبعث برده إلى إحدى الصحف الوفدية لتنشره في صدر أعمدتها بإمضاء مستعار أو بدون إمضاء، وكان إذا أعوزه الوقت في بعض الأحيان وحالت كثرة مهامه دون تمكنه من الكتابة بنفسه، يدلي إلى سكرتيره بفكرة يبثه عناصرها ودعائمها، ويطلب إليه أن يصوغ بها مقالا يرسله إلى صحيفة من الصحف المناصرة للوفد؛ كي تنشره على قرائها؛ إظهارا للحقيقة وتنويرا للأذهان.
وكان، رحمه الله، لا يكتب مذكراته القيمة إلا بخط يده، وكان من عادته أن يدونها دائما بالحبر كي لا يزول أثر الكتابة بالقلم الرصاص على مر الأيام، وقد كاد دفتر يحتوي على جزء من هذه المذكرات التاريخية النفيسة يفقد عقب وفاته بأيام؛ إذ رمى به أحدهم مع طائفة من الأوراق المهملة في الكناسة التي كانت ستحمل من حجرة المكتبة، غير أن أحد نجلي الأستاذ أمين يوسف السكرتير العام المساعد لمجلس الشيوخ كان مارا في تلك اللحظة أمام حجرة المكتبة، فوقعت عيناه على ذلك الدفتر، فالتقطه وتصفحه، وسرعان ما تبين أهميته، فحمله إلى أم المصريين التي اهتمت للأمر اهتماما عظيما، ومن تلك اللحظة استقر القرار على جمع مذكرات سعد باشا كلها وحفظها في أحد المصارف التي كان، رحمه الله، يتعامل معها خوفا عليها من الضياع، ويقول الذين أسمعهم الفقيد العظيم أبوابا من تلك المذكرات، التي سيكون لها شأن عند حلول يوم نشرها، أنها لا تتناول تاريخ الحركة الوطنية من أولها فقط، ولكنها تحتوي على تاريخ دقيق لجميع الحوادث الهامة التي حدثت في حياة سعد باشا منذ أن كان في سلك القضاء.
وقد أطلعنا مرة معالي فتح الله بركات باشا على كتاب تلقاه من خاله سعد باشا، فألفينا خطه من الخطوط التي يصعب على المرء فكها ما لم يكن متمرنا على قراءتها، غير أنه، رحمه الله، كان يعنى دائما بتوقيع إمضائه بدقة، وكان من عادته أن يخط «سعد» في سطر ثم يخط «زغلول» في سطر آخر تحته. وكان، طيب الله ثراه، يعترف لأصدقائه وأعوانه برداءة خطه، وكان كلما أشار إلى الصعوبة التي يجدها مساعدوه في فك معالمه يغرق في الضحك ثم يقول: «ولكن الحمد لله أن خط الجزيري
1
أحسن من خطي قليلا.»
ومن المأثور عن سعد باشا أنه كان برغم تبحره في اللغة العربية ووقوفه على كنهها وأسرارها يهتم كثيرا بأن تجيء عباراته صحيحة الأسلوب فصيحة الكلمات؛ ولذلك كان لا يجلس للكتابة إلا ومعجم «أقرب الموارد» موضوع على مكتبه بالقرب منه، وكان إذا أراد إعداد مقال هام أو نداء خطير يكثر من تبديل عباراته وتحديد ألفاظه، حتى إنه كان لا يجد غضاضة في تغيير معظم جمله ثلاث مرات أو أربعا. وكان إذا أملى على سكرتيره مقالا أو خطابا يأخذه منه بعد فراغه من إملائه عليه ويراجع عباراته وألفاظه بترو عظيم وهو يحمل القلم بيده ليرمج ما يرى وجوب ترميجه، أو ليحور ما يحكم بوجوب تحويره، أو ليضيف إليه ما يدعو المعنى إلى الإفاضة في البسط والإيضاح. ومما كان يبعث سعد باشا على الإكثار من مراجعة كتاباته وتحويلها وتبديلها، أنه كان يعلق على وزن الجمل واختيار مقاطع العبارات أهمية كبيرة. وكان إذا خامره شك في انسجام جملة من جمله، قرأها بصوت مرتفع ليتذوق نغمها في سمعه. وكان، رحمه الله، يميل إلى اطلاع أعضاء الوفد ومن يكون حاضرا في مجلسه من أصدقائه المقربين على ما يكتبه قبل إعطائه للنشر ليبدوا فيه ما يعن لهم إبداؤه من الملاحظات التي كان يتقبلها بصدر رحب ولو صدرت عن سكرتيره، ما دام يقتنع بصوابها وصحتها، وكان برغم سعة اطلاعه (كما أشرنا إلى ذلك آنفا ) لا ينفك عن الرجوع إلى كتب اللغة القديمة، فيطالع أبوابها بإمعان واهتمام كأنه طالب علم في العشرين من عمره، وكان يجد لذة خاصة في مطالعة الكتب القديمة التي أعادت مطبعة دار الكتب المصرية طبعها بإتقان في السنوات الأخيرة؛ وهي: كتاب نهاية الأرب، وكتاب التاج، وكتاب الأغاني.
وكان الرئيس الجليل يميل عادة إلى الكتابة بعد انتهائه من مطالعة الصحف المحلية، وكان يبدأ بمطالعة الصحف المعارضة منها، فيراجعها من أولها إلى آخرها منعما في كل خبر من أخبارها، وخصوصا الأخبار التي لها علاقة بالسياسة المصرية، ثم يتناول سائر الجرائد، فيقرأ أولا الأخبار الخاصة بالوفد المصري، ثم يطلع على الأخبار الأخرى، وإذا كان لديه متسع من الوقت قرأ الصفحات الأدبية والعلمية والمقالات السياسية عن أحوال البلدان الأجنبية. وكان، رحمه الله، يمضي أوقات فراغه بالمطالعة في الكتب الفرنسية التي تبحث في القانون والسياسة والتشريع، وهذا علاوة على ما كان يطالعه من الكتب الألمانية والإنجليزية على يد المدموازيل فريدا؛ وصيفته الألمانية. (2) سعد واللغة الفرنسية
كان سعد «بك» زغلول مستشارا في محكمة الاستئناف لما وقعت هذه الحكاية، وكان رئيس المحكمة يومئذ قاضيا يدعى بوند بك، وكان سعد بك لا يفقه حتى ذلك الحين من اللغة الفرنسية شيئا ما، لا كثيرا ولا يسيرا، فحدث مرة أن هيئة المحكمة خلت للمداولة في قضية هامة كانت تنظر، وكان بوند بك في تلك المرة رئيسا لهيئة المحكمة وكان سعد بك من أعضائها.
وفي سياق المناقشة والمداولة أدلى سعد بك برأي قانوني تشريعي على جانب عظيم من الأهمية والخطورة، فالتفت إليه بوند بك وقال له: «إن هذا الرأي خليق بأن يبدر عن قاسم أمين أو عن غيره من حملة الليسانس.»
فقاطعه سعد بك قائلا: «يعني ما ينفعش إلا حامل الليسانس؟»
فقال بوند بك: «طبعا.»
فسكت سعد.
ولم يخطر لأحد أن سعدا صمم في سكوته على تعلم الفرنسية ونيل شهادة الليسانس من عاصمة فرنسا نفسها.
ولكن قرار سعد كان قد استقر في تلك الآونة على درس اللغة الفرنسية والاستعداد لإحراز الليسانس من الحكومة الفرنسية ؛ لأنه رأى أن مقامه لا يسمح له بالتردد على مدرسة الحقوق المصرية.
وفعلا أكب سعد من تلك الساعة على تحصيل اللغة الفرنسية وعلم الحقوق في وقت واحد، وكان إذا حل فصل الصيف سافر إلى فرنسا بالإجازة وقدم الامتحان السنوي أمام لجان الحكومة الفرنسية، وهكذا ظل يواصل الدرس والتحصيل والسفر إلى باريس حتى فاز في آخر الأمر بإحراز شهادة الليسانس من الحكومة الفرنسية وأخرس «بوند بك».
ويروي الذين كانوا يسافرون يومئذ مع سعد «بك» إلى أوروبا أنه كان يقضي أيام السفر بمراجعة مواد الامتحان، وأنه كثيرا ما كانوا يفيقون من النوم بعد نصف الليل فيلفونه مكبا على كتبه وملفاته منهمكا بالاستعداد لامتحانه. (3) متى ولد سعد
تاريخ شهادة الليسانس
تعددت الآراء عقب وفاة الفقيد العظيم زغلول باشا في تعيين السنة التي رأى، رحمه الله، النور فيها؛ فقال بعضهم إنه ولد من سبعين سنة، وقال البعض الآخر إن سعدا مات عن سبع وستين سنة، وعارض غيرهم في هذين التقديرين قائلين إنه لما وافت المنية سعدا كان رضوان الله عليه قد تجاوز السبعين.
وقد كنا نزور «بيت الأمة» يوما، فعثرنا فيه على شهادة الليسانس التي نالها الفقيد العظيم من باريس، وقد كتبت باسم «سعد زغلول بك» المولود في «ديانا» بمصر في أول يونيو «سنة 1860».
فيكون سعد باشا إذن قد توفي عن سبع وستين سنة ميلادية؛ إذ مما لا ريب فيه أنه هو الذي مد وزارة المعارف الفرنسوية باسم البلدة التي ولد فيها، فقلبوه إلى «ديانا» ظنا منهم أن اسم البلدة التي نشأ فيها الفقيد العظيم منسوب إلى «ديانا» آلهة الجمال.
ويؤخذ من هذه الشهادة أن نتيجة الامتحان الذي تقدم له سعد باشا ونجح فيه أعلنت في 9 يوليو 1897، وكان رحمه الله في السابعة والثلاثين من عمره يومئذ.
وفي 15 نوفمبر سنة 1897 سلمت الشهادة لسعد باشا وهي ممضاة من المسيو رمبو وزير المعارف الفرنسوية في ذلك الحين. (4) سعد وتقديره للأشخاص
في أثناء تربع المغفور له سعد زغلول باشا في كرسي رئاسة مجلس الوزراء، خلت وظيفة النائب العمومي ببلوغ محمد إبراهيم باشا السن القانونية، وكان المغفور له محمد سعيد باشا يقوم يومئذ بمهام وزارة الحقانية، فزار الفقيد العظيم وعرض عليه أسماء حضرات المستشارين، ولما فرغ من مراجعتها وبحثها التفت سعيد باشا إلى سعد باشا وقال له: «عندي في وزارة الحقانية موظف قدير اسمه طاهر بك نور، هو الآن مدير الإدارة القضائية، فأرجو أن تدعوه إلى مقابلتك وتحادثه مليا، ثم تبت في اختيار الشخص الذي تقلده منصب النائب العمومي.» فعمل سعد باشا برأيه ودعا طاهر بك نور إلى مقابلته، ولم يكن قد اجتمع به قبلا، فلما مثل بين يديه قال له: «لقد خلا منصب النائب العمومي، ونحن نريد تعيين موظف كفء في هذه الوظيفة، وأنت بحكم وظيفتك تعرف أسماء المستشارين الذين يصلحون لهذا المنصب مع مؤهلات كل منهم لتقلده والنهوض بأعبائه.» فأخذ طاهر بك يسرد أسماء المستشارين الذين يعتقد أن فيهم من الكفاية ما يستطيعون به تحمل تبعاته ويردف اسم كل واحد من حضراتهم بتعداد مواهبه ومؤهلاته، ولما فرغ من بسط محتويات جعبته في الموضوع الذي نحن بصدده استطرد سعد باشا في حديثه معه إلى الكلام عن بعض أعمال وزارته، وسأله أن يبدي له رأيه في بعض منها بكل صراحة، فأجابه إلى طلبه دون أقل مواربة، ولما انتهى من حديثه صرفه سعد باشا شاكرا، فما كاد يغادر مكتبه حتى تناول رحمه الله التلفون وقال لدولة محمد سعيد باشا: «أرجو أن تعد مشروع مرسوم بتعيين طاهر بك نور نائبا عموميا.» وهكذا تم تعيين طاهر باشا نور في منصب النائب العمومي. (5) سعد وحجته القانونية
لما أحيل سلامة بك ميخائيل، عضو الوفد المصري، إلى مجلس تأديب لمحاكمته على الاشتغال في الشئون السياسية، مع أنه من موظفي الحكومة المصرية، طلب سعد باشا (وكان يومئذ ما يزال يلقب بمعالي) من الأستاذ مرقص حنا بك (والآن باشا) نقيب المحامين، أن يستشهد في دفاعه عنه بالنظرية القانونية الفلانية.
وفي مساء اليوم التالي كان سعد باشا جالسا في مكتبه بسلاملك بيت الأمة مع جماعة من صحبه وأعوانه حين دخل عليه مرقص باشا يقول: «إني لم أوفق يا معالي الباشا إلى العثور على النظرية الفلانية التي خاطبتموني أمس في شأنها.»
فالتفت سعد باشا إلى مصطفى بك (واليوم باشا) النحاس، وكان واقفا على مقربة منه، وقال له: «اذهب يا مصطفى إلى المكتبة
2
واجلب لي الكتاب الفلاني من الدولاب الفلاني.» فقصد مصطفى باشا إلى المكتبة ثم عاد بعد لحظة يحمل كتابا ضخما، فقال له سعد باشا: «افتحه في فصل كذا»، ففتحه مصطفى باشا في الفصل الذي أشار عليه به، فقال له: «والآن اقرأ بصوت عال ما جاء فيه»، فقرأ مصطفى باشا، فإذا بالنظرية القانونية التي كان سعد باشا قد خاطب مرقص حنا باشا في موضوعها مثبتة في ذلك الفصل من الكتاب بالحرف الواحد كما أوردها. (6) سعد وقوة ذاكرته
في الأيام الأخيرة من شهر يناير سنة 1926 زار بيت الأمة الأستاذ حسين والي، من كبار المحامين في الإسكندرية، ومعه فريق من زملائه فيها، وكان سعد باشا ساعة قدومهم في خارج بيت الأمة في رياضته العادية، وعند عودته استقبله هؤلاء المحامون في الدرج المؤدي إلى مكتبه، وتقدم الأستاذ حسين والي فصافح دولته وقدم إليه إخوانه المحامين، فصافحهم دولة الرئيس ثم دقق النظر في الأستاذ والي وسأله عن اسمه ثانيا فأجابه، ففكر الرئيس لحظة ثم أشار إليه بيده وهو يقول: «أتذكر أنك ترافعت أمامي ... في أي سنة؟ في سنة 1904 ... أعجبتني مرافعتك كثيرا ... ولا أتذكر هل هنأتك أو لا ...»
ثم شرع دولة الرئيس الجليل بسرد القضية وظروفها ووجهة إعجابه بالأستاذ حسين والي المحامي كأنه يقص شيئا من حوادث الأمس ...!
كل ذلك ودولته واقف على رأس السلم حيث استقبلوه ...
آخر صورة للفقيد العظيم. (7) سعد وحدة فطنته
كان النائب المحترم بشري بك حنا جالسا يوما في حضرة الفقيد العظيم حين دخل عليه معالي (واليوم دولة) محمد محمود باشا، فشغل رحمه الله بالحديث معه فتبادر إلى ذهن بشري بك أن دولته أعرض عنه استخفافا به أمام محمد محمود باشا، فانصرف من بيت الأمة في ذلك اليوم وقد عول على ألا تطأ قدماه عتبته مرة أخرى. وفعلا مر الأسبوع تلو الأسبوع بدون أن يعود إلى زيارة الرئيس كجاري عادته، فلم يخف الأمر على معالي فتح الله بركات باشا، فسأله عن الباعث له على إحجامه عن زيارة دولته، فقص عليه ما كان من معاملة الرئيس له، وأنه قرر عدم زيارة بيت الأمة في المستقبل مع احتفاظه بمبدئه السعدي، فتوجه معاليه في الحال إلى بيت الأمة وأبلغ الفقيد العظيم أن بشري بك عاتب عليه للسبب الذي بسطناه آنفا، فأطرق رحمه الله لحظة ثم قال: «ادعه إلى الغداء عندي وادع معه محمد محمود باشا.» فخاطب فتح الله باشا بشري بك بالتلفون وقال له: «إن الباشا يدعوك إلى الغداء عنده.» فقال بشري بك: «إني مرتبط اليوم بموعد آخر.» فقال له فتح الله باشا: «إن غداء الباشا موعده غدا لا اليوم.» فقبل بشري بك الدعوة، وفي ظهر اليوم التالي قصد إلى بيت الأمة فألفى دولة محمد محمود باشا في حضرة الرئيس، فلما رآه رحمه الله داخلا عليه نهض له هاشا باشا، وأقبل عليه طول مدة الغداء يتبادل وإياه النوادر والحكايات المستملحة، وقبل أن ينهضوا عن المائدة التفت (طيب الله ثراه) إلى محمد محمود باشا، وأعرب له بعبارات رقيقة عما لبشري بك من المنزلة الرفيعة في قلبه. (8) سعد ولباقته
في خلال سنة 1921 كتب بعض خصوم الوفد في بعض صحفنا اليومية يقولون إن المظاهرات التي تقام لسعد زغلول باشا ليست سوى مظاهر مفتعلة، وأن جميع أصوات الهتاف التي تكاد تبلغ الجوزاء لا تحركها إلا «الريالات».
وفي يوم من الأيام قصد أحد صحفيينا المعروفين إلى بيت الأمة ومعه نجله ليقدمه لدولة الرئيس، فلما دخلا عليه قال لدولته: «لقد جئت لأقدم لكم نجلي الذي كان يهتف أمس باسمكم في حفلة شاي أقامها لجمهور من زملائه.»
فالتفت سعد باشا إلى الشاب وقال له: «وكم دفع لك سعد باشا كي تهتف باسمه؟» فقال الشاب على الفور: «ولا مليم يا افندم.»
فقال رحمه الله عندئذ للصحفي المشار إليه آنفا : «إذا كان ابنك يسلك هذا المسلك ويقول هذا الكلام، فكيف ترضى أن تنشر في جريدتك كتابات يقول فيها خصومي عني أنني أدفع للهاتفين أجور الهتاف باسمي؟» ومن ذلك اليوم لم يعد الصحفي المذكور يرضى بنشر كلمة واحدة على صفحات الجريدة في هذا الموضوع. (9) سعد وشدة صراحته
ما كاد الوفد المصري يذيع في الانتخابات الأخيرة قائمة المرشحين الذين يؤيدهم ويعضدهم وما كاد ... بك ... يرى أن تلك القائمة جاءت خلوا من اسمه حتى زار بيت الأمة وتشرف بمقابلة سعد باشا، فكان أول ما قاله لدولته عند دخوله عليه في غرفته الخاصة: «لماذا لم ترشحوني في هذه الانتخابات؟» فنظر إليه سعد باشا شذرا وقال له: «لأنني لم أفكر فيك ولم أشأ أن أفكر فيك.» فانصرف ... بك من حضرة الرئيس وتقدم إلى الانتخابات من تلقاء نفسه على مبادئ الوفد المصري، فأصدر الوفد بلاغا قال فيه إنه لم تعد له أقل صلة به، وإن الوفد لا يؤيد ترشيحه على الإطلاق. (10) سعد وقوة وطنيته
بينما كان النحاس باشا والأستاذ مكرم وسينوت بك حنا جالسين ذات ليلة على شرفة الدار التي كان سعد باشا يقطنها في سيشل يتحدثون عن التعب الذي ألم بدولته من يومين، أقبل عليهم (رحمه الله) وهو يلوح بيديه بدون أن يقوى على الكلام، فنهضوا إليه مسرعين قائلين: «ما لك يا باشا؟ ... ما لك؟» فأشار إلى لسانه كمن يريد أن يفهمهم أنه معقود، ثم أشار إليهم بأن يجلسوه على كرسي طويل (شيزلونج) فأجلسوه عليه، فأخذ يتنفس بشدة وبعدما استراح قليلا ساعدوه على العودة إلى غرفته وجلسوا ملتفين حول فراشه، فلم يلبث أن نام نوما هادئا، فظلوا مقيمين في حجرته ليكونوا رهن إشارته وعلى استعداد لتلبية أوامره. وفي نحو الساعة الخامسة صباحا، فتح (رحمه الله) عينيه فأبصرهم جالسين على مقربة منه، فقال لهم: «ما تخافوش ... ما تخافوش.» وسكت قليلا ولما استرد قواه استأنف كلامه قائلا: «إن الحياة لا تستحق أن يحزن عليها المرء كثيرا ... ثم ما الفرق بين الموت هنا والموت هناك ... لقد كنت أتمنى أن تدركني الوفاة في المنفى فتذكي نار الحماسة والوطنية في نفوس المصريين؛ إذ أكون بموتي هنا قد ضربت لهم مثلا في كيفية بذل المهج والأرواح في سبيل الوطنية والنهضة القومية.» (11) سعد ونكاته
مزار الأكراد
لما كان الفقيد العظيم مقيما في بساتين بركات قبيل انتقاله إلى جوار ربه زاره يوما عبد العزيز رضوان بك، عضو مجلس الشيوخ، ومعه نجله الوحيد وهو في نحو العاشرة من عمره، فلما أقبل الفتى على دولته لثم يده، فقبله رحمه الله في جبينه وسأله عن اسمه، فأجاب: «محمد عبد العزيز رضوان الكردي»، فابتسم سعد وقال: «ومن أين أتى اسم الكردي هذا؟» فقال عبد العزيز رضوان بك: «بقيت يا دولة الباشا مدة طويلة بدون ولد، وفي سنة من السنوات قصدت إلى دمشق الشام، وفي ذات يوم زرت مزارا للأمراء الأكراد، وفيما أنا أجول فيه خطر لي أن أسأل المولى الكريم أن يمن علي بولد وعاهدته تعالى إذا أجابني إلى سؤالي أن أسمي ابني الكردي نسبة إلى السادة الأكراد، ثم لم ألبث أن رجعت إلى مصر، وبعد مدة غير طويلة رزقت ولدي هذا، فأسميته الكردي، ومن ذلك الحين لم أرزق غيره.»
فضحك سعد باشا وقال: «ولماذا لم تكرر الزيارة لمزار الأكراد؟»
لحية الدكتور
كان المغفور له سعد باشا في مقدمة المدعوين الذين دعاهم سعادة أمير الشعراء أحمد شوقي بك إلى حفلة الشاي التي أقامها في داره بالجيزة إكراما لشاعر الهند وفيلسوفها الكبير الدكتور تاغور.
ولاحظ الحاضرون في تلك الحفلة أن لحية الدكتور محجوب ثابت كانت يومئذ أقصر من المعتاد، والظاهر أنها كانت مقصوصة «طازة» بمناسبة تلك الحفلة.
ولما دخل الدكتور محجوب على دولة سعد باشا ليصافحه لأول مرة بعد تلك «الغيبة» الطويلة، التفت أحدهم إلى الدكتور محجوب وقال له: «لقد قصرت لحيتك يا دكتور؟»
فقال سعد باشا ضاحكا: «لقد استعاض بها المذكور.»
وكان رحمه الله يعني «بالمذكور» الدكتور تاغور ولحية تاغور فيها «البركة» كما يرى من صورته.
أمنيته
زار بيت الأمة في أثناء الانتخابات النيابية الأولى وفد من الأقاليم ليعلن ثقته بدولة الرئيس الجليل، وخطب أحد أعضاء الوفد بين يدي دولته، فكان بين عباراته العبارة الآتية: «لو نفيت الآن يا معالي الرئيس إلى أقصى المعمورة لسعت إليك قلوبنا لتعلن ثقتها بك.»
فضحك رحمه الله وقال: «بس وعلى إيه؟»
ميزان الصحة
يذكر القراء أن دولة الرئيس الجليل كان معتكفا حينما استقالت الوزارة العدلية الماضية، فلما ألفت الوزارة الثروتية وتقرر أن تتقدم إلى مجلس النواب أصر (طيب الله ثراه) على أن يرأس جلسة المجلس في ذلك اليوم بنفسه.
وعلى أثر ارفضاض جلسة المجلس عاد الرئيس إلى بيت الأمة، والتقى عند بابه الخارجي بمندوب إحدى جرائدنا اليومية، فقال له هذا بعد التحية: «ربنا يديك العافية يا دولة الباشا ... يظهر أن اللورد لويد كان مصيبا عندما قال إن الأزمات تنعش سعد باشا وترد إليه صحته ونشاطه.»
فابتسم سعد باشا وقال: «ربنا يمد في حياته.»
التماس حافظ
ربما كانت النادرة التالية خير ما قيل للدلالة على قوة حجة سعد باشا وبلاغة عبارته، فإن شاعر النيل حافظ بك إبراهيم كان مرة بين ضيوف الرئيس الجليل في مسجد وصيف، وقد عرف عنه أنه مولع جدا بالكمثرى ولا يميل كثيرا إلى التفاح.
وفي ذات يوم كانت مائدة سعد غاصة بالزائرين، والظاهر أن جلهم كان مولعا بالكمثرى مثل حافظ بك، فلما انتهوا من الطعام وجيء إليهم بالفاكهة أقبلوا كلهم على أطباق الكمثرى يلتهمونها التهاما نابذين أطباق التفاح، فأسقط في يد حافظ بك، وأخيرا لما بلغ منه اليأس أشده التفت إلى الفقيد العظيم وقال: «ما تخطب لهم يا باشا في مزايا التفاح.»
تمثال نهضة مصر
حدث لما زار الفقيد العظيم تمثال نهضة مصر أنه بينما كان دولته يتفرج على القاعدة، دنا منه أحد المصورين ورجاه أن يسمح له ولزملائه بتصويره واقفا لوحده أمام التمثال حتى يقال: «زعيم نهضة مصر واقفا بجانب تمثال نهضة مصر»، فأجابه دولته إلى رجائه وسار إلى حيث التمثال ووقف أمامه كمن يتفرج عليه، فقال له المصور: «نحن نرجو دولتكم أن تعطوا لنا وجهكم حتى يظهر مع التمثال.» فقال سعد باشا: «ولكني لا أظن أنه يليق أن أعطي ظهري لنهضة مصر.» وبعدما استشار سعد باشا الواقفين بجانبه رضي أن يذعن لهذا الحكم الفني.
وكان المغفور له حسين رشدي باشا يصحب سعد باشا في هذه الزيارة، وبينما هما يسيران جنبا إلى جنب، وصلا أمام باب ضيق لا يسع مرور أكثر من شخص واحد، فقال الرئيس الجليل لرشدي باشا: «تفضل يا باشا.» فتنحى رشدي باشا وقال: «لا ما يصحش، تفضل أنت يا باشا.» فدفعه سعد باشا أمامه وقال له وهو يبتسم: «أنت أكبر مني سنا، فادخل أولا.» فلم ير رشدي باشا عندئذ مندوحة عن المرور قبل الرئيس. (12) سعد بين الشجاعة والشفقة
حدثنا معالي فتح الله بركات باشا فقال: «في 23 ديسمبر سنة 1921 اعتقلت السلطة العسكرية صاحب الدولة سعد زغلول باشا، رئيس الوفد المصري، في داره ببيت الأمة، وأرسلته إلى السويس بسيارة اجتازت المسافة بين المدينتين في نحو ثماني ساعات، لم يشعر دولته في أثنائها بتعب ما رغم شيخوخته وانحراف صحته، كأن العناية الربانية نفخت فيه روحا جديدة ساعدته على تحمل ما تكبده في تلك الرحلة الطويلة من تعب ومشقة، مما كان لا يقوى على تحمله ساعة واحدة في الأحوال العادية، وخصوصا أن الفصل كان فصل شتاء ومطر.
ولم يمض علينا في عدن زمن طويل حتى أصيب رفيقنا الأستاذ مكرم عبيد بمرض شديد اقتضى نقله إلى المستشفى، فأصر المرحوم عاطف بركات باشا ومصطفى النحاس باشا على أن يكونا بصحبته وتطوعا للذهاب معه للسهر عليه وخدمته، وأخيرا اتفقنا معهما على أن يتناوبا العمل في العناية به؛ فيقضي عاطف باشا معه أربعا وعشرين ساعة، ثم يعود إلينا، ويحل مصطفى باشا محله أربعا وعشرين ساعة أخرى.
وكنت مصابا في تلك الأثناء برمد في إحدى عيني، فكان سعد باشا يعودني ليستفسر عن صحتي، فلا تكاد عينه تقع على عيني حتى يرثي لحالي وحال الأستاذ مكرم، فيجهش بالبكاء وتنهمر الدموع من عينيه الصافيتين على خديه وتتصاعد الزفرة من قلبه تلو الزفرة، فأتأثر لتأثره أكثر من تأثري لحالي وحال زميلي ... وكنت أعجب لمسلك سعد باشا وأقول في نفسي هل يجوز له أن يبكي، يا ترى، لمرض رفيق؟ وهو الذي ينبغي عليه أن يكون قدوة لشعب بأسره في التضحية والبذل والمثابرة والشجاعة والإقدام ...
في تلك الساعة تذكرت أنه كثيرا ما عرفت أناسا اتصفوا بالشجاعة مع أنهم لم يعملوا عملا تجلت فيه الشجاعة، وأنه كثيرا ما التقيت بأناس اشتهروا بالفصاحة والبلاغة مع أن كتاباتهم لم تكن من بنات أفكارهم ولا من ثمرات أقلامهم، وأنه كثيرا ما صادفت أناسا عرفوا بالتقوى والفضل مع أنهم ليسوا من التقوى والفضل بشيء؛ تذكرت ذلك كله ثم تساءلت قائلا هل سعد باشا من أولئك الناس، يا ترى؟ وهل ما عهدناه فيه وما كنا نظنه فيه يرجع إلى التفاف الأمة حوله وانضوائها تحت لوائه لا إلى أخلاقه وصفاته الشخصية؟ ...
جزعت لهذه الفكرة واضطربت أعصابي، ولم يعد يهدأ لي بال، غير أن ما انتابني من جزع وفزع لم يدم طويلا؛ فإنه بينما كنا جالسين ذات يوم نتناول طعام الإفطار، دخل علينا وكيل حاكم عدن، وهو إنجليزي، وحيانا وجلس معنا، فدعوناه إلى الأكل فاعتذر شاكرا، ثم التفت إلى سعد باشا وقال له إنه تلقى أمرا بوجوب ترحيله إلى جزائر سيشل، وأنه يجب على دولته أن يكون في البارجة الحربية التي أعدت خصيصا لنقله إلى تلك الجزائر في خلال ساعة ونصف ساعة؛ فصعقنا لهذا النبأ، وكيف لا نصعق له ونحن نرى أناسا يفصلون عنا أبانا وزعيمنا وأبا الأمة وزعيمها، فطلبنا إلى وكيل الحاكم أن يسمح لنا بالسفر مع سعد باشا، فأجابنا أن الأمر الذي بيده صريح وهو لا يذكر غير سعد باشا، فبكينا بكاء الأطفال وأخذنا نندب سوء مآلنا لافتراقنا عن الوالد الزعيم، ثم قلنا لوكيل الحاكم: «إذا كنتم لا تريدون أن تسمحوا لنا بصحبة سعد باشا، فلا أقل من أن تسمحوا لأحدنا بصحبته؛ رأفة بصحته وشفقة على شيخوخته»، فقال: «إني سأبلغ أمنيتكم هذه إلى المراجع العليا، ولكن لا بد الآن لسعد باشا من أن يتوجه وحده إلى البارجة التي اختيرت لنقله إلى سيشل.» وكان كل من الزملاء يتسابق عندئذ إلى أن يكون في ركاب سعد باشا، مع أن السائد على أفكارنا كان أنه ذاهب إلى الأبد، وأن من يبقى في عدن قد يعود إلى الوطن، غير أن التسابق والتزاحم إلى مرافقة سعد كانا عظيمين رغما من هذا الاعتقاد، وكان كل منا يشعر بأن السعيد هو من يفوز بهذه الأمنية الثمينة. ولما ألفينا وكيل الحاكم مصمما على رأيه شرعنا في كتابة كتاب شديد اللهجة وجهناه إلى السلطة البريطانية محتجين فيه بقوة على المعاملة التي عومل بها رئيسنا وزعيمنا، وطلبنا في ختامه أن يلحقونا به ويرسلونا في أثره أو أن يبقوه معنا.
ولما فرغنا من كتابة الاحتجاج، اتصل خبره بسعد باشا، فاستحلفنا بكل عزيز علينا ألا نرسله قائلا: «إنني أعلم أني لن أرجع إلى مصر وأن قبري لن يكون في مصر، وقد كاشفتكم برأيي في هذا الصدد من زمان طويل، فإنه لا يعقل أن أعود إلى مصر إلا في حال من حالتين لا ثالث لهما؛ فإما أن ترجع انجلترا عن خطتها وتعترف لمصر باستقلالها، وعندئذ يعود زعيم الاستقلال إلى بلاده ويقضي البقية الباقية من حياته بين قومه، أو يعدل زعيم الاستقلال عن خطته ويقلع عن سياسته، فيرجع إلى بلاده خاضعا للسلطة المحتلة؛ وحيث إني لا أنوي أن أسلك هذا المسلك، وحيث أنه لا يبدو لنا أن إنكلترا تنوي الاعتراف باستقلالنا، فإني سأقضي بقية حياتي خارج بلادي، فلماذا تصرون على إرسال هذا الاحتجاج الذي لا يغنينا فتيلا، وخصوصا أنه قد يزيد في بغضهم لكم فيعوقون رجوعكم إلى قومكم لخدمة بلادكم؟! فدعوني أذهب إلى سيشل وارجعوا أنتم إلى مصر، وأبلغوا أبناءها الأعزاء أن زغلولا يحييهم ويوصيهم بالاتحاد وتوحيد الجهود إلى ما فيه خير الوطن ... قولوا لهم ... أبلغوهم ...»
وهكذا استمر سعد باشا يسدي إلينا النصح والإرشاد ببلاغته المعهودة وحكمته المعروفة وثبات تام، إلى أن أزف موعد الرحيل، فرافقناه إلى الميناء ونحن نبكي ونولول كالأطفال، أما هو فكان رابط الجأش، ساكن الجنان، ثابت الخطى، جهوري الصوت، لم يذرف دمعة واحدة حتى آخر لحظة ...
وعندئذ عجبت كيف أن هذا الرجل الذي كان يبكي لأقل ألم يصاب به أحد صحبه يقوى في مثل هذا الموقف على التغلب على عواطفه وشعوره ويكفكف دموعنا ويهدئ من روعنا.
وعندئذ عرفت أن الرحمة والشفقة في قلب الزعيم شيء، وأن روح البذل والتضحية في سبيل الوطن شيء آخر، وأنه رجل لا يهاب المكاره مهما عظمت، ولا يحفل بالأخطار مهما كبرت، ما دام يعتقد أنه سائر في طريق الحق، يعمل لأجل الحق، وفي سبيل الحق.
ولما وطئت قدما سعد باشا الزورق الذي أقله إلى البارجة الحربية، التفت إلينا وأنشد ما أنشده الشاعر العربي:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
وبعد تسعة أيام سمحت لنا السلطة باللحاق بسعد باشا، فرقصنا للنبأ من شدة سرورنا وفرحنا، ولم ننم تلك الليلة البتة من عظم ابتهاجنا واغتباطنا، وكان كل منا يعتقد أن تلك الليلة أسعد ليالي حياته؛ لأنه سيجتمع عما قريب بالزعيم، وكنا نشعر أن العودة إلى مصر من دونه مصيبة عظيمة، كنا ندعو الله أن يقينا منها، وألا يعيدنا إلى مصر إلا بركاب سعد باشا؛ إذ كنا نحس أن في اللحاق به والعيش بالقرب منه السعادة، وأن في الرجوع إلى الوطن من غيره والعيش بعيدا عنه الشقاء، فأنقذنا الله من الشقاء بفضله ومنه تعالى.» •••
وقد كنا جالسين مرة مع أحد الوزراء السابقين، فدار الحديث على حنو قلب سعد باشا ورقة عواطفه، على الرغم مما كان يتجلى للناس من قوة شكيمته وشدة بأسه، فقص عليه معاليه أن الفقيد العظيم روى له مرة أنه لما تولى تأليف الوزارة الشعبية الأولى في سنة 1924، ذهب يوما لزيارة اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر إذ ذاك، فاستقبله فخامته في مكتبه بداره مرحبا بزيارته مبالغا في الاحتفاء به، قال سعد: «وكان باب المكتب ونافذته مفتوحين عند دخولي إليه، فتولد عن فتحهما تيار هوائي شديد لم يكن لي قبل بتحمله، فلم يخف ذلك على اللورد، وما لبث أن نهض فجأة وسار نحو النافذة أولا ثم نحو الباب وأغلقهما بنفسه، ولم يكتف بما صنعه، بل عاد إلي مسرعا ورجا مني أن أنهض قليلا، ففعلت وأنا لا أدري مرامه، فلم يكن منه إلا أن حمل بيديه الكرسي الذي كنت جالسا عليه ونقله إلى مكان منعزل في جانب من جوانب القاعة لا ينفذ إليه الهواء، فكان لمسلكه أعظم وقع في نفسي، حتى إنني كدت لا أصدق ما تراه عيناي؛ إذ هل كان يخطر لأحد أن ذلك الذي نفاني إلى سيشل، غير مبال بمرضي، يهتم الآن بصحتي كل هذا الاهتمام، ويتولى بنفسه نقل كرسي من مكان إلى آخر لئلا أصاب بلفحة برد قد تؤثر في حالتي؟ ... إنه سلك مسلكه الأول عملا بواجبه كمندوب سام، وسلك المسلك الثاني كرجل مدفوعا بدافع شعوره الإنساني، وأكبرت روح الرجل وشهامته ولعنت المصالح والظروف والأهواء السياسية التي تقضي على الرجال أحيانا بأن يظهروا بعكس ما تنطوي عليه حقيقة نفوسهم البشرية.» وهنا لاحظ الحاضرون أن دمعتين كبيرتين تتساقطان من عيني سعد الصافيتين.
وكنا موجودين في أحد أيام شهر أبريل سنة 1927 في مكتب الفقيد العظيم ببيت الأمة، وكان بين الحاضرين المغفور له رشدي باشا ومعالي أحمد خشبة باشا، وكان رشدي يزور بيت الأمة في ذلك اليوم لأول مرة بعد شفائه من مرض ألزمه الفراش بضعة أسابيع، فأخبرنا أنه لما قابل سعد باشا في حجرته بالطابق العلوي قبل اجتماعه بنا بنصف ساعة، قال رحمه الله: «لقد أخبروني يا رشدي باشا أنك نهضت من فراشك وأنت مريض وخاطبت بيت الأمة بالتلفون سائلا عن صحتي، فأنا أشكرك على حسن عنايتك ورقيق شعورك.» فرد عليه رشدي باشا بقوله: «ثق يا سعد باشا أنه لو كنت أنت في الإسكندرية وكنت أنا في القاهرة، وبلغني أنك مريض، ولم يكن بين المدينتين مواصلات حديدية ولا غيرها؛ لكنت أذهب إلى الإسكندرية مشيا لأستفسر عن صحتك وأطمئن على حالك؛ لأن الصداقة التي بيننا صداقة أبدية مهما اعتراها في بعض الأحيان من فتور.»
سعد في وسط الجماهير .
قال لنا رشدي باشا: «وهنا نظرت إلى سعد باشا فرأيت عينيه تترقرقان بالدموع، فدنوت منه لأمازحه وقلت له باسما: «ولكن لا تنس أنك تلميذي».» وكان دولته يشير بذلك إلى الدروس القانونية التي أخذها سعد باشا عنه لما بدأ يتعلم الحقوق باللغة الفرنسية، فافتر الفقيد العظيم باسما وسرى عنه. •••
ولما انتقل المغفور له عبد الخالق ثروت باشا إلى جوار ربه في الصيف الماضي، اهتممنا بمعرفة ما دار بينه وبين سعد باشا لما زاره لأول مرة في بيت الأمة في بدء عهد الائتلاف بعد الخلاف الكبير الذي قام بينهما، فلم يكن لنا مرجع نستقي منه هذه المعلومات خيرا من معالي فتح الله بركات باشا، الذي كان في مقدمة من سعى للائتلاف وعمل له، فسألناه عما كان من أمر سعد باشا لما دخل عليه ثروت باشا في تلك المقابلة الأولى فأجابنا: «لم ينبس ببنت شفة؛ لأن عبراته كانت أسبق من لسانه، فخنقت عباراته، فنهض وعانق ثروت باشا طويلا.»
وقد حدث مرتين أن تغلبت الدموع على المغفور له سعد باشا أمام جموع حافلة من الناس؛ أما المرة الأولى فكانت يوم الاحتفال بتأبين شقيقه المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا؛ فإنه لما نهض ليشكر المعزين والشعراء والخطباء على مؤاساتهم، حبست الدموع كلمات الشكر التي كان يريد ارتجالها في ذلك المقام، فاكتفى بأن قال: «سادتي، عسى أن يكون في دموعي هذه أعظم شكر لحضراتكم»، وصمت فكان بليغا في صمته كما كان بليغا في استرساله؛ أما المرة الثانية فكانت في أثناء الحركة الوطنية حين مرت جنازة إحدى ضحايا الحرية أمام بيت الأمة، فخف (رحمه الله) إلى السير في طليعة المشيعين وقد بللت دموعه وجهه الوضاح.
سعد في آخر أيامه
في الفصل التالي وصف شامل لما جرى في مسجد وصيف عند اشتداد وطأة المرض على الفقيد العظيم قبيل وفاته وعند نقله من مصيفه إلى العاصمة، وقد استقى المؤلف هذه المعلومات من النائب المحترم الأستاذ محمد صبري أبو علم، الذي كان له عند سعد مكانة معروفة، ويلي ذلك وصف للمؤلف لما جرى في بيت الأمة ساعة إعلان وفاة الزعيم الأكبر، وقد كان الصحفي الوحيد الموجود في دار سعد في تلك اللحظة. *** (1) آخر يوم للرئيس بمسجد وصيف
في منتصف الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الخميس 18 أغسطس سنة 1927، كان ضيوف الرئيس جالسين إلى المائدة بغرفة الطعام بمسجد وصيف؛ وهم: حضرات بهي الدين بك بركات، وفخري بك عبد النور، وفؤاد بك كمال، والأستاذ محمد صبري أبو علم. وكان قد حضر من القاهرة من نصف ساعة الدكتور عبد العزيز بك إسماعيل والدكتور سليم صابونجي بك، واشترك معهما الدكتور أحمد شفيق والدكتور حامد محمود في فحص حالة دولة الرئيس. وكان الضيوف من الصباح متفائلين خيرا؛ فالحرارة في هبوط والرئيس منشرح عن الأيام السابقة، حتى إن الأستاذ عباس محمود العقاد استأذن في العودة إلى القاهرة. (2) تقرير وجوب العودة إلى العاصمة
وصعد إلى الطابق العلوي بهي الدين بك وفؤاد بك كمال، وكان الضيوف ما يزالون جلوسا حول المائدة، ثم نزل بهي الدين بك وأبلغهم في شيء من الاضطراب أن الأطباء بالرغم من ملاحظتهم اطراد التحسن في صحة الرئيس وعدم وجود ما يدعو للقلق، فإنهم يرون ضرورة عودت دولته إلى القاهرة، فاضطربوا لهذه المفاجأة، وحاولوا أن يعارضوا في تنفيذ هذا القرار، وتمثلوا مقدار ما يستولي على نفوس الشعب من فزع حين يعلم هذه العودة الفجائية، وأخيرا علموا أن عبد العزيز بك وصابونجي بك قد عادا إلى القاهرة بعد أن أعلنا أنهما مصممان على رأيهما، فضعفت معارضتهم وأضعفها أكثر ما علموا من أن دولة الرئيس أذعن لإرادة أطبائه، فقرر العودة فورا بالرغم مما كان يشعر به من تحسن الحالة وعدم وضوح ما يجعل السفر ضروريا.
ولما رأوا أنفسهم إزاء الأمر الواقع، أخذوا يتداولون في ترتيب السفر وكيفية إبلاغه إلى الأمة، وكانت الباخرة «محاسن» قد وصلت من يومين ورست أمام مسجد وصيف لتكون تحت طلب دولة الرئيس، فأرسلوا في طلب مهندسها ورئيسها وعلموا منهما أن العودة للقاهرة تستغرق نحو إحدى عشرة ساعة، وعلموا أن المركب لو تحركت الساعة الخامسة (كما كان دولة الرئيس يريد) فستضطر إلى المبيت بالمنيل، فرأوا أن الأوفق أن يبكر في صباح الجمعة، وعلم دولة الرئيس بذلك فوافق عليه.
ثم أبلغوا الخبر إلى معالي وزير الأشغال ليصدر الأوامر بفتح الكباري، ورجوا منه أن يتكتم الخبر حتى لا يتسرب إلى الجمهور؛ مبالغة في المحافظة على راحة دولة الرئيس أثناء السفر. (3) الرئيس ومضايقته من مرضه
وذهب كل منهم إلى إعداد حقائب السفر، وبينما كان الأستاذ صبري أبو علم مشتغلا بذلك، إذ علم أن الرئيس أرسل يدعوه إليه، فنزل من دار الضيافة، فإذا بالمدموازيل فريدا توصيه بألا يدع لدولته فرصة للإكثار من الكلام، وأن يتولى ذلك عنه حتى لا تعود الحرارة فترتفع، فصعد لدولته ولم يكن قد حظي برؤيته في اليوم السابق، فوجده جالسا في سريره والرباط يحيط برأسه، فأخذ يسأله عن إخوانه، فحدثه عنهم طويلا، ثم أخذ دولته يتكلم عن ذلك المرض الذي جاء على غير انتظار، فنغص عليه راحته وضايقه وقال: «إني لأعجب لهذه «الإكزيما»
1
وسرعة تنقلها كل يوم من جهة لأخرى، لقد جاءت في وقت بدأت أشعر فيه بطعم الحياة من جديد، فصحتي كانت قد بدأت تتحسن، وكنت فرحا يمن يحيطون بي بين قادم وزائم ومقيم ومسافر على أن يعود بعد قليل، ودار الضيافة عامرة بهم، ونفسي مرتاحة إلى أحاديثهم، ولكن جاء هذا المرض فضايقني ... وماذا تقول البلد عندما تراني في هذه السن أعود للقاهرة فجأة؟!» فحاول الأستاذ أبو علم أن يسلي دولته ويسري عنه داعيا الله أن يعود ثانية إلى مسجد وصيف في هذا الصيف، وأخبر دولته أنهم قد أعدوا بلاغا ضمنوه ما لاحظه الأطباء من التحسن في صحته مما دعاه إلى تقرير العودة للقاهرة. وبينما الأستاذ أبو علم بحضرته، إذ طلب مرآة من «فريدا»؛ لأنه أحس بالمرض قد وصل إلى أنفه ... ثم خرج الأستاذ أبو علم ... فاستدعاه ثانية وطلب إليه البقاء فبقي ... ثم استأذن من دولته وهو في أشد حالات التأثر والانفعال. (4) نشاط سعد حتى يومه الأخير
وبعد بضع دقائق دعا دولة الرئيس جميع ضيوفه إلى حجرته، فلبوا الدعوة وأخذوا يتحدثون مع دولته حديثا كله فكاهة وترويح عن النفس ... ولبثوا معه نحو ربع ساعة ثم خرجوا مستأذنين. وسافر محمد بك بركات إلى بلبيس على أن يعود إليهم في الصباح.
ثم شرعوا في الإشراف على تمهيد الطريق بين العزبة والشاطئ ... وبعد العشاء خرج الأستاذ أبو علم مع النقراشي بك وبهي الدين بك يرتادون الطريق الذي ستجتازه عربة الرئيس في الصباح، ثم عادوا إلى دار الضيافة وقد أعدوا البلاغ الذي سيرسل إلى الصحف التي تصدر بعد ظهر الجمعة عن حالة دولته، وضمنوه إشارة إلى أن الرئيس قد قرر العودة، حتى إذا نشر الخبر يوم الجمعة وعلم الجمهور بعد ذلك أن دولته قد عاد مساء الجمعة، لا يفاجأ بهذه العودة.
تمثال سعد باشا.
ثم ذهبوا إلى مخادعهم، وفي منتصف الساعة الرابعة صباحا كان محمد بركات قد عاد من بلبيس، فأيقظهم فنهضوا وأرسلوا حقائبهم إلى الباخرة، ومكثوا ينتظرون نزول دولة الرئيس، وكان من المقرر أن ينزل دولته في منتصف الساعة الخامسة، وأخلوا الطريق إلى الباخرة من العابرين، ولما حانت ساعة القيام من مسجد وصيف، شعروا بحركة، فعلموا أن دولة الرئيس نازل، فجروا لاستقباله، وركب دولته عربة عمدة مسجد وصيف وإلى يساره الدكتور شفيق، وسارت العربة حتى الشاطئ وتقدمها صحب سعد في سكون مهيب، صامتين لا يتكلمون إلا همسا، واستحوذ عليهم شعور مبهم: خليط من القلق والاضطراب والحزن والوجوم، ولما وصل الرئيس إلى الشاطئ حاول من حوله أن يحملوه على «كرسي» أعد لذلك فأبى وقال: «دعوني»، وسار معتمدا على عصاه حتى وصل إلى الغرفة التي أعدت لدولته بالباخرة، وعلى أثر مجيء دولته جاءت حضرة صاحبة العصمة حرمه المصون ومن معها. (5) الوداع الأخير لمسجد وصيف
وقبل أن تتحرك الباخرة نادوا مأمون أفندي الريدي، سكرتير دولة الرئيس، وزودوه ببعض التعليمات؛ لأنه كان من المقرر أن يبقى بمسجد وصيف إلى الظهر؛ حتى لا يفهم الناس من غيابه أن الرئيس غادر مسجد وصيف. وفي الساعة السابعة كانت الباخرة تعلن بصفيرها إيذانها بالرحيل.
وكان هذا آخر عهد سعد بمسجد وصيف، بل آخر عهد مسجد وصيف بالرئيس الجليل! (6) إذعان الزعيم للأغلبية
ومما هو جدير بالذكر هنا أنه لما استقر قرار ثلاثة من الأطباء على نقل الرئيس من مسجد وصيف إلى العاصمة، وأيدتهم أم المصريين في قرارهم، صعد فخري عبد النور بك إلى حجرة الفقيد العظيم ورجا منه ألا يمتثل لهذا القرار، وأن يصر على البقاء في مسجد وصيف.
فكان جواب سعد باشا: «إني لا أشعر بما يستوجب نقلي إلى العاصمة، ولكن الأغلبية قررت وجوب هذا الانتقال؛ فالنظام يقضي بأن أذعن لقرار الأغلبية متكلا على الله.» (7) سعد وخوفه من الساعة الواحدة
وفي الساعة الواحدة من ليل الاثنين في 22 أغسطس اشتدت وطأة المرض على المغفور له سعد زغلول باشا اشتدادا عظيما فزع له الأطباء وجزعوا ...
ولما أزفت الساعة الثامنة من مساء اليوم التالي (الاثنين) التفت سعد باشا إلى حرمه المصون وقال لها: «أنا خائف من الساعة الواحدة أيضا»، فقالت له: «دع عنك مثل هذه الأوهام يا سعد، فإنه إذا كان المرض قد اشتد عليك أمس الساعة الواحدة فهذا ليس معناه أنه سيشتد عليك الساعة الواحدة من هذا الليل أيضا.» فأخذ رحمه الله ساعته ووضعها على وسادته، وجعل ينظر إليها كل نصف ساعة ويسجل الوقت بصوت مرتفع قائلا: «ثمانية ونصف ... تسعة ... تسعة ونصف ... عشرة.»
ولما قربت الساعة الثانية عشرة خشيت أم المصريين إذا أزفت الساعة الواحدة واشتد المرض على سعد أن يؤثر وهمه في مرضه تأثيرا سيئا قد يضر بصحته، فتناولت ساعته خفية وأدارتها وجعلتها الثانية بدلا من الثانية عشر.
وفي الساعة الواحدة تماما اشتد المرض على الفقيد العظيم وارتفعت الحرارة فجأة إلى 41، فمد يده وتناول ساعته وحدق فيها قليلا ثم مر على وجهه بكفه وقال على الأثر: «أنا لا أزال أملك حواسي ... فمن المحال أن تكون الساعة الثالثة الآن.»
وكانت صفية هانم تمسك بيدها الساعة الحقيقية، فنظرت إليها فألفتها تسجل الواحدة، فأدارت وجهها لتستر ما اعتراها من اندهاش وذهول.
وأدرك سعد الحقيقة وأخذ يتمتم: «أنا رايح، أنا رايح.»
فقالت له صفية هانم: «وهل تحب أن أجيء معك؟»
فتطلع إليها وقد أمسك بيدها وقال: «خليك أنت.»
وهنا دخل عليه الطبيب بناء على طلبه، ولكن الداء أعيا الأطباء، وفي اليوم التالي توفي سعد. (8) ساعة الوفاة
23 أغسطس سنة 1927!
يا له من يوم مشئوم! ...
كانت الساعة تقرب من السابعة مساء حين توجهت إلى بيت الأمة للاستفسار عن حالة الزعيم الأكبر، فما كدت أصل إلى شارع الفلكي حتى رأيت رجال البوليس منتشرين في جميع الطرق المؤدية إلى شارع سعد زغلول ليحولوا دون وصول السيارات والمركبات إلى بيت الأمة كي لا تقلق جلبتها سعدا في نومه، كان السائر كلما أمعن في السير واقترب من بيت الأمة يشعر بسكينة ووحشة لم تعهدهما تلك البقعة من العاصمة منذ أن رفع سعد علم الجهاد عاليا.
وما هي إلا دقائق قلائل حتى ألفيت نفسي في داخل بيت الأمة، فأجلت طرفي في الواقفين على شرفة السلاملك، فأبصرت بالأستاذ الجزيري، سكرتير الرئيس الأمين، مسندا ظهره على أحد الأعمدة التي تقوم عليها الشرفة، وقد ارتسمت على وجهه علائم القنوط والحزن، فتابعت سيري إليه وسألته: «هل هناك جديد في حالة الرئيس؟» فأجابني بصوت خافت وعبارات متقطعة: «الحالة سيئة جدا ... والباشا غائب عن الصواب منذ الصباح ... وسيعوده الأطباء مرة أخرى الساعة التاسعة، وهم يقولون إنه إذا لم تنزل حرارته قبل ذلك فمن الصعب أن يعيش حتى منتصف الليل ... أرجوك ألا تخبر أحدا من الحاضرين؛ لأن كل ضجة قد تضر بحالة الباشا.»
ونظرت في تلك اللحظة في ساعتي، فإذا بالساعة السابعة تكاد تنتصف، فدخلت مكتب الرئيس وجلست على أحد مقاعده بجوار عبد العزيز بك رضوان، وكان في مكتب ساعتئذ حضرات أصحاب المعالي والسعادة والعزة: فتح الله بركات باشا، وأحمد خشبة باشا، ومحمود فهمي النقراشي بك، وعبد الحميد البنان بك، والدكتور محجوب ثابت، والأستاذ صبري أبو علم، وفخري عبد النور بك، وغيرهم من الشيوخ والنواب، ورأيت من موظفي وزارة الداخلية محمود حسن بك وكيل الوزارة وأحمد بك كامل وكيل إدارة الأمن العام ، وكان يقوم يومئذ مقام مديرها، ومحمود غزالي بك المفتش بالداخلية؛ وكانوا كلهم صامتين واجمين يرقبون حلول الساعة التاسعة، مضطربين وجلين، وكانت هناك أصوات في الخارج ترتفع من آن إلى آخر بالقول: «اللهم ارأف بمصر، اللهم ارأف بنا وبمصير بلادنا»، فكنت تسمع صدى هذا الدعاء زفرات تتصاعد متقطعة من قلوب الحاضرين المتوجعة.
وفي الساعة التاسعة اجتمع الأطباء للتشاور في حالة الرئيس الجليل، وفي أثناء اجتماعهم هبط نبض دولته فجأة، وكان حتى تلك الساعة يسير سيرا عاديا طبيعيا، فأسرع إليه الدكتور شفيق فألفاه في دور النزع الأخير، فأرسل من وافى فتح الله باشا في مكتب الرئيس حيث كنا جالسين، ودعاه إلى جانب سرير خاله العظيم، فنهض معاليه وغادرنا ممتقعا امتقاعا شديدا، وتبعه نجله الأكبر بهي الدين بك بركات وقد اصطبغ وجهه بصفرة الأموات، ومكثنا نحن في المكتب ننتظر وقد توجسنا شرا من استدعاء فتح الله باشا إلى جوار المريض، ولكن ما من واحد منا تجرأ في تلك اللحظة على الاستفسار عما آلت إليه حالة سعد، كأن كل واحد من الحاضرين كان يتوقع النبأ الأليم ويحاول إبعاده عن سمعه، أو على الأقل يحاول أن يكون آخر من ينطق به لسانه.
وفي نحو الساعة العاشرة أسلم الفقيد العظيم روحه الطاهرة إلى خالقها، ولكننا لبثنا نجهل النبأ المشئوم دقائق برمتها، وفي تمام الساعة العاشرة عاد فتح الله باشا إلى مكتب الرئيس وقد ازداد امتقاع وجهه ولكنه لم ينبس ببنت شفة، بل سار إلى وسط القاعة، ثم وقف هناك لا يتفوه بكلمة ولا يأتي حركة كأنه صعق في مكانه، فتطلع إليها الحاضرون متسائلين حيارى، فلم يتحرك، وفي تلك اللحظة سمعنا صوت بكاء آتيا من الشرفة الخارجية، فضرب فتح الله باشا ركبتيه بيديه، فوجم الحاضرون وأدركوا في الحال ما كانوا يتساءلون عنه؛ فاغرورقت العيون بالدموع، وارتفعت أصوات البكاء والنحيب من كل حدب وصوب، وفي أقل من لحظة تحول ذلك السكون الشامل إلى مناحة، وانقلب ذلك المجلس الهادئ إلى مأتم ... مأتم سعد! مأتم الوطن!
وخشيت على فخري بك عبد النور من شدة بكائه ونحيبه؛ نظرا لبدانة جسمه، وكنت كلما أبصرت به يتقلب على مقعده وهو ينتحب وقد صعد الدم إلى وجهه، أحاول عبثا أن أهدئ من روعه، وفي وسط هذا العويل والنحيب أقبل علينا الدكتور شفيق مسرعا كالبرق الخاطف وصاح في الحاضرين قائلا: «رأفة يا رجال بحرم سعد ... خففوا من نحيبكم رأفة بصحتها وشدة حزنها ... لا تسمعوها أصوات بكائكم، بل ساعدوها على تحمل مصابها بصبركم وتجلدكم ... كونوا رجالا ولا تبكوا ... إن البكاء لا ينفع الرجال بل ضعوا ذكرى سعد نصب أعينكم ... اتخذوها مثالا لكم فتكون خير معز للوطن في هذه المحنة ... لا تبكوا سعدا ... إن سعدا لا يريد منكم أن تبكوا عليه، بل يريد أن تقتفوا خطواته في الدفاع عن قضية البلاد.» وانصرف حضرته عائدا إلى الطابق العلوي ليكون في خدمة أم المصريين.
وكانت شرفات بيت الأمة ومداخله غاصة بجموع المحتشدين، فسرى بينهم النبأ المشئوم كأنه تيار كهربائي أهاج عواطفهم وشعورهم، فكان بكاء وكان نحيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهنا أخذ الصحفيون يقبلون تباعا، فأخبرهم الأستاذ النقراشي أن عبارة «أنا انتهيت» كانت آخر ما تلفظ به الرئيس الجليل قبل غيابه عن الصواب في صباح ذلك اليوم. •••
وكلف معالي فتح الله بركات باشا الأستاذ الجزيري أن ينعى الفقيد العظيم إلى دولة توفيق نسيم باشا رئيس الديوان العالي، فخاطبه حضرته في داره بالتلفون الموضوع على مكتب الرئيس في القاعة التي كنا مجتمعين فيها، فرد عليه دولته بنفسه، فقال له الأستاذ الجزيري: «أنا الجزيري يا افندم ...» وهنا خنقته العبرات فسكت قليلا ثم قال: «البقية في حياتكم يا باشا.» فلم يكد الحاضرون يسمعون هذه العبارة حتى ارتفعت الصيحات المتقطعة من أفئدتهم المتصدعة المكلومة، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أقبل توفيق نسيم باشا مرتديا ثوبا قاتما وتقدم بالعزاء إلى فتح الله بركات باشا وإلى زميله أحمد خشبة باشا.
وكان معالي جعفر ولي باشا يقوم يومئذ مقام وزير الداخلية، فلما بلغه وهو في الإسكندرية خبر تفاقم حالة الرئيس الجليل ، غادرها بالقطار الذي يبرحها الساعة السابعة مساء، فوصل إلى العاصمة الساعة العاشرة والثلث، فركب سيارته وتوجه من المحطة إلى بيت الأمة مباشرة ليستفسر عن صحة الزعيم الأكبر، فما كاد يبلغه حتى سمع أصوات البكاء والنحيب، فأدرك أن المنية أنشبت أظفارها في رمز أماني الأمة وموضع ثقتها ورجائها، فتقدم بدوره معزيا فتح الله باشا، وانضم إلى زملائه في إعداد برنامج تشييع جنازة الفقيد العظيم بعدما خاطب معالي أحمد زكي أبو السعود باشا بالتلفون في الإسكندرية وطلب منه أن ينعى الراحل الكريم إلى ثروت باشا تلغرافيا، وأن يحضر هو إلى العاصمة بقطار نصف الليل.
23 أغسطس سنة 1927!
يا له من يوم مشئوم! ...
ناپیژندل شوی مخ