198

ساعتونه د کتابونو ترمنځ

ساعات بين الكتب

ژانرونه

تلك أمثلة من الملاحظات التي جعلت طائفة من كتاب التاريخ يشكون ذلك الشك الغريب في وجود المسيح، بل جعلت بعضهم يجزم بإنكاره، ويقول: إنه خيال لا حقيقة له تعلقت به الشعائر والنبوءات القديمة وحيكت حوله الأقاويل ممن لم يعاصروه فآمن به الناس، وهي ملاحظات نردها في المقال التالي إلى مكانها من الصواب.

2

لما شاعت فتنة الإنكار في القرن الماضي أصبح الإنكار شهوة وأصبح بعض الناس كأنما يبحثون عن شيء لينكروه إشباعا لتلك الشهوة، فظهر المنكرون لوجود المسيح والمنكرون لوجود شكسبير، وجاءوا بأدلة لا تصلح للبت بالإنكار، وإن صلحت للبحث وإعادة النظر في حقائق التاريخ، وكنت أقول لمن أخذوا بتلك الفتنة عندنا إن هذه الأدلة وأمثالها يمكن أن تقام على إنكار وجودكم أنتم وأنتم تجيئون بيننا وتذهبون ونراكم بالعين ونسمعكم بالأذن، فلو عهد أحدكم إلى خمسة من أصحابه أن يكتبوا ترجمته وأن يصفه كل منهم على ما يعلمه ويظنه لجاز أن يقعوا في تناقض أو خطأ أو قلب للحقيقة يسيغ للمنكر أن ينكر وللمرتاب أن يرتاب، فكيف بالتواريخ الماضية وهي عرضة للوهم والمغالاة، والامتزاج عن قصد أو غير قصد بغيرها من التواريخ؟ وكيف بالترجمة لإنسان يختلف الاعتقاد في شأنه من أقصى القطب إلى أقصى القطب، ويجيء في عصر من تبلبل الأفكار واضطراب الأحوال بين الشرق والغرب والإسرائيلية واليونانية والماضي والحاضر لا يسهل أن تتفق فيه الآراء والروايات؟

أنا آخر من يحتفل بامتزاج الرموز والشعائر، ويجعله دليلا قاطعا على إنكار وجود المسيح أو إنكار أي شيء؛ لأنني نشأت في إقليم لا تزال شعائر الديانة المصرية القديمة وعادات المصريين القدماء تغلب فيه على شعائر هذا الجيل وعاداته، فكرامات الأولياء اليوم هي كرامات الأرباب قبل أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة، وعادات القوم في المواسم وأيام الفيضان والمآتم والأفراح هي العادات التي قرأنا عنها في عصور الفراعنة. بل يذهب إلى اليوم النساء المسلمات والمسيحيات إلى تماثيل آلهة النسل الفرعونية يداوين العقم ويتعوذن بالتعاويذ، وكثيرا ما وقفت وأنا صبي على ضريح ولي من أولياء الجبانة المشهورة، فقيل لي اسمه وتاريخه وكراماته على وجه يختلط بالأرباب الأقدمين تارة، وبالأولياء الآخرين تارة أخرى؛ فلو أردت أن أشك في وجوده لشككت، وكانت حجتي في ذلك أقوى من حجج الشاكين في وجود المسيح؛ ولكني أبحث عن أصله فأعرف اسمه ومولده وسبب خروجه من وطنه وقدومه إلى هذه الجهة، فإذا هي «حقيقة» لا خرافة وسيرة صحيحة لا اختراع ملفق. وطالما تداويت من الحمى بماء النيل في ساعة معلومة من مطلع النجم، وبقراءة آيات من القرآن حلت في أيامنا محل الرقية في أيام الفراعنة، وطالما ذهبت بإخوتي الصغار إلى ضريح ولي على ساعة بالقطار لحلق أول خصلة من شعورهم؛ لأنه صاحب نذور الأطفال كما كان للأطفال أصحاب نذور في العهد القديم.

فإذا شككت في شكوك الناقدين والمؤرخين التي أوردوها على وجود المسيح؛ فذلك لأنني خبرت بنفسي قيمة هذه الشكوك في إنكار «الموجودين» الذين ثبت وجودهم على الرغم من الخطأ والتغيير في أسمائهم، وعلى الرغم من الخلط بينهم وبين الأرباب الغابرين والأولياء الآخرين، فعلمت أن أناسا كثيرين قد يوجدون وجودا لا لبس فيه، وحولهم من تلك المناقضات والأقاويل أضعاف ما يقوم الآن حول وجود المسيح.

ولو كان اختلاط الرموز والشعائر من موجبات الشك في ظهور الرسل، لوجب أن نشك في وجود النبي عليه السلام؛ لما في الإسلام من شعائر الحج التي أحياها عن سنن العرب قبله، ولوجب أن نشك في وجود علي بن أبي طالب؛ لما أحاط به من أساطير بعض المذاهب الغالية وفي مقدمتها انتظار «الإمام»، و«المهدي»، أو «المسيح» وهي عقيدة تتشابه فيها تلك المذاهب المسيحية والإسرائيلية ووثنية المجوس.

ولست أشك ولا يستطيع أحد أن يشك في أن اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر هو يوم الشمس لا يوم مولد المسيح، ولكن ينبغي أن نذكر أن الكنيسة كانت تعلم ذلك حين نقلته مما وضع له إلى وضعه الجديد؛ لأنها رأت الاحتفال بهذا اليوم شائعا بين المسيحيين بحكم الوراثة والتقليد، فخشيت أن يتفاقم الأمر ويؤدي الاشتراك بين الوثنيين والمسيحيين في إحياء المواسم القديمة إلى النكسة والارتداد، فاجتهدت في صبغ تلك المواسم بالصبغة المسيحية لتفصل بينها وبين العقائد الوثنية، وهكذا كان في أعياد الميلاد وفي أعياد بعض القديسين والقديسات. قال العلامة فريزر في كتابه الغصن الذهبي: «إن البواعث على اختيار هذا اليوم مذكورة بصراحة عظيمة في كلام كاتب سرياني مسيحي يقول: إن السبب الذي دعا الآباء إلى اختيار اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر دون اليوم السادس من شهر يناير هو أن الوثنيين قد جرت عادتهم بإحياء عيد الشمس في اليوم الأول، وإشعال الأنوار احتفاء بذلك العيد، وكان المسيحيون يشتركون في العيد وشعائره ورموزه، فرأى أئمة الكنيسة أنهم - أي المسيحيين - يميلون إلى إحيائه فتشاوروا بينهم وقرروا أن يحتفلوا فيه بيوم الميلاد، وأن يجعلوا اليوم السادس من شهر يناير لعيد التجلي، وعلى هذه العادة مضوا في إشعال النار إلى اليوم السادس، وقد جاءت الإشارة إلى الأصل الوثني ضمنا - وإن لم تجئ تصريحا - في كلام أوغطسين لإخوانه المسيحيين إذ يوصيهم ألا يحتفلوا بذلك اليوم كما يحتفل به الوثنيون إحياء لعيد الشمس، بل إحياء له هو الذي خلق الشمس، وعلى هذا النحو أنكر ليون الكبير قول من قال، إن الميلاد يحتفل به إكراما لمولد الشمس الجديدة كما يسمونه، وليس إكراما لمولد المسيح.» انتهى كلام فريزر.

ويحسن بنا هنا أن نلاحظ الفرق بين رأينا نحن الآن في الوثنية، ورأي المؤمنين الأولين فيها قبل ألف سنة، بل قبل مئات قليلة من السنين؛ فالوثنية عندنا هي أوهام وأساطير، وآلهتها شخوص مجسمة لقوى الطبيعة، أو أسماء محرفة عن أسماء بعض الملوك الأبطال الذين عبدهم آباء الوثنيين فيما مضى. هذا هو رأينا في الوثنية، أما رأي المؤمنين الأولين فلم يكن كذلك، وإنما كانوا يرون أن الأرباب والأوثان شياطين موجودة تنتحل لنفسها صفات الله وأعماله، وتحاول أن تخدع عباده لتأخذ منهم قرابينه وصلواته ؛ فكل معجزة أو صفة يدعيها الوثني لربه هي معجزة أو صفة إلهية يختلسها ذلك «الرب» بالمكر والخديعة، ويجب أن ترد إلى «الله» صاحبها وصاحب الحق في العبادة والقربان لأجلها؛ فآباء الكنيسة مخلصون جد الإخلاص في نسبة الخوارق الوثنية والشعائر القديمة إلى «الإله» الذي يعبدونه؛ لأنهم يعتقدون أنها خوارق وشعائر مغتصبة بغير الحق، ولا وجه لبقائها في حوزة الأوثان والشياطين، ويخطئ من يتهم أولئك الآباء بالتزوير والاحتيال في هذا الصدد؛ لأنهم ما كانوا ليستطيعوا أن يتركوا «للشيطان» خارقة أو كرامة هم يوقنون أنها خارقة الله وكرامته قبل أن يدعيها الشيطان لنفسه. •••

كذلك لا نشك في خلو «يوسفيوس» من ذكر المسيح، وفي أن العبارة التي وردت فيه عن ظهور المسيح مدسوسة على النسخة الصحيحة؛ لأن هذه العبارة التي أنبأت بظهوره تقول: «حوالي هذا الوقت ظهر يسوع وهو رجل حكيم - إن صح أن يسمى رجلا - لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة، وكان يعلم الناس ويفرحون بتعليمه، وقد جذب إليه كثيرا من اليهود والوثنيين وكان هو المسيح المنتظر، ولما حكم عليه بيلاطس بالصلب كما طلب منه رؤساؤنا لم يتخل عنه محبوه؛ لأنه برز لهم حيا في اليوم الثالث مصداقا لنبوءة الأنبياء. هذه وعشرات الألوف من المعجزات الأخرى التي تتعلق به وبعشيرة المسيحيين الذين ينسبون إلى اسمه ولم تنقطع حتى اليوم» فكلام كهذا لا يعقل أن يكتبه يوسفيوس ولا يدخل في المسيحية، أو يظهر أثر إيمانه بالمسيح وأتباعه في سرد جميع وقائعه وأخباره، فهو كلام مدسوس بلا مراء، ويبقى أن يوسفيوس لم يكتب شيئا عن المسيح في تاريخه، ولكن علام يدل ذلك؟ إنه لا يدل على أن المسيح لم يوجد، ولكنه يدل على أنه لم يكن مستفيض الذكر في عصره، وأن المسيحيين لم يعظم شأنهم في أرضهم إلا بعد القرن الأول من ظهوره، وهذه حقيقة مسلمة لا يجادل فيها مؤرخ يعبأ بقوله.

ومن الأمور المقررة أن تواريخ حياة المسيح لم تعلم على وجه التحقيق، وأن أقدم الكتابات المسيحية لم تكتب قبل السنة الثانية والخمسين للميلاد، والذين كتبوها لم يروا المسيح رأى العين، ولم يعرفوا عنه شيئا إلا بالسماع، ولكننا لا نعلم على التحقيق تواريخ مئات من العظماء ولسنا نشك في وجودهم من أجل ذاك، وقد اشتملت الأناجيل على رسائل بطرس أحد الحواريين وهو شاهد عيان عاشر المسيح، وسمع منه، ووصفه كما رآه، وعرفه فجاء وصفه مطابقا لما يتخيله المتخيل من «شخصيته» التي صورتها لنا أقواله ووصاياه المتفق عليها في الأناجيل، والتي جلتها في الذهن أحوال البيئة وخلاصة الأخبار المصفاة من الخوارق والمبالغات، ولعل النقائص التي عرضت لتلك «الشخصية» في أقوال الحواريين هي أدعى إلى التصديق والدلالة على حقيقة وجودها من الأشياء المتفقة المتناسقة؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل التناسق التام بين وصايا المسيح وجميع أدوار حياته، ولا بد أن نتوقع شيئا من التطور في إيمانه بنفسه وتأدبه بأدبه، فمن أين اتفق للصيادين وتابعيهم العلم برسم «الشخصيات» حتى لا يفوتهم خلق التناقض في موضعه، وعلى حسب البواعث التي توحيه وتستدعيه؟ ومن أين لهم رسم شخصية متطورة في أدوار حياتها تتقدم في الإيمان بنفسها، والاهتداء إلى أسرار حكمتها وأدبها خطوة خطوة على حسب الشدائد والعوارض التي تفعل في النفس فعلها الخفي، وتنطق على اللسان بفيض ما يعتلج فيها من الثورات والشكوك وبوادر اليقين.

ناپیژندل شوی مخ