144

ساعتونه د کتابونو ترمنځ

ساعات بين الكتب

ژانرونه

هذه هي الفلسفة التي يتعلمها مترلنك من الأزهار - كلمات الربيع - أو كلمات الحياة مذ كان الربيع هو أظهر مظاهر الحياة، ولم يكن مترلنك أول من تلقن هذه الفلسفة الموحاة من عقول تلك الخلائق الجميلة «وليدة الأرض والضياء»، فلقد علم الشاعر العربي قبله «أن الله ليس له شريك» حين ننظر إلى العيون اللجينية على الذهب السبيك، وفطن وردزورث إلى الأسرار التي تضمنتها كئوس الرياحين، وقال هوراس سميث: إنه ليجد القساوسة والمحاريب والعظات في أفواه الزهر لو قذفت به الهجرة إلى حيث لا تبلغ الدعوة ولا تدق النواقيس، وقال تنيسون: إنه يقبض على سر كل شيء حين يضم يده على الزهرة الصغيرة، فالأزهار قديمات العهد بإيحاء الفلسفة وجلاء الغوامض والتبشير بما في الطبيعة من مسرة وجمال، ولكن مترلنك لم يقصد ما ذكرناه حين وصف هذه الفلسفة أو هذه الوعاظ بالعقل والحكمة والذكاء، ولا هو أراد الوحي الذي نوحيه لمن يستمعون إلى رسالة الطبيعة في غيبوبة التصوف والإلهام، وإنما أراد الذكاء الذي يفتق الحيلة، والعقل الذي يدبر المعيشة، والدهاء الذي يسوس مصاعب الأيام، والفطنة التي تتغلب على ضرورة القيد والاحتباس في مكان واحد، واستشهد بالأمثلة الكثيرة من الأزهار التي تحتال على التشرق والإطلال على منافذ الضياء، والأزهار التي تحتال على العصافير والحشرات لتنقل بذورها ولقاحها إلى حيث يقدر لها النماء والإنتاج، وأخبرنا بدهاء المديكاجو

Medicago

الصفراء التي كأنما علمت أن اللوالب التي تحفظ بذورها لا تضمن لها الانتشار ولا يسعها أن تعهد بتوزيعها إلى الريح؛ لأنها ملاصقة للتراب، فاحتالت على تلك البذور بشوكات دقاق تشتبك بالأحياء التي تأكلها فتنتقل إلى مكان بعيد، ويكون لها بذلك حظ في الذيوع والحياة لم تسعد به إخواتها اللواتي لم يوفقن لهذا الاختراع، وما بال اللوالب تلتف على بذور هذه الفصيلة من جميع الألوان؟ يقول مترلنك: إن هذه الفصيلة الماكرة تودع بذورها اللوالب لتطيل بقاءها فيها وتؤجل سقوطها ما استطاعت فيتسع الوقت لإطارتها مع الريح قبل ذهابها في التراب فقد سبقت أرخميدس إلى فلسفة اللوالب، وجاءت إحدى بنات الفصيلة - وهي الصفراء منهن - فسبقتهن باختراع الشوك الذي يغنيها ما ليست تغنيه الرياح.

هذه الحيل والأحاييل هي التي عناها الشاعر المتصوف بذكاء الأزاهير، ولمح علامة الذكاء الشامل الذي يتخلل كل شيء على حسب استعداده لإبراز ذلك الذكاء، والحق أننا إذا بحثنا في الحيل التي تحتالها الكائنات كلها لتخليد نوعها، ومكافحة العوادي على حياتها لم نجد بينها كبير فرق في أساسها وجوهرها؛ لأنها كلها تصدر عن عادات لدنية مسوقة بسلطان قاهر لا دخل فيه للإرادة والتفكير، فإذا دخل فيها التفكير كانت قد بلغت حدها، وأكملت غايتها، ولم يزدها التفكير إلا نافلة لا ضير من نقصها والاستغناء عنها، فإن لم يكن كل هذا عبثا وكان فيه ما فيه من إدراك وبصيرة، فنصيب الزهر لا يقل عن نصيب الحيوان بل عن نصيب الإنسان في ذلك الإدراك وتلك البصيرة، ولا خلاف في ارتقاء الذكاء الإنساني إلى مرتقاه الذي يعلو به على كل موجود معروف على الأرض - فتلك بديهية لا معنى للكلام فيها والتساؤل عنها - ولكن الخلاف يكثر جدا - ويجب أن يكثر - حين نريد أن نقول: إن الإنسان قد استأثر بالبصيرة الملهمة، وانفرد بالعقل الذي يشتمل على الفكرة والغريزة، فما كان تدبير الإنسان لتخليد نوعه بمختلف فتيلا عن تدبير الزهرة لتخليد نوعها، أو هو إذا اختلف بعض الشيء ففي العوارض التي تجيء بعد الأساس والجوهر، ويتفق كثيرا أن تعرقل أغراض الطبيعة الخفية لا أن تزيد عليها في تحري الإنجاز والإتقان.

فلنأذن لبنات الروض بعقول ترشدها إلى الخير والجمال، ولنحمد الله على أنها ليست بمجنونة يطيش بها الجنون فتهلك وتفنى، ولا بعاقلة ترصد حبائل العقل للآمنين، وتتخذ فتنتنا بجمالها مصائد للمطامع والآثام، ولنسعد بذكائها إن كان في الذكاء سعادة! ولتبشرنا بصدق رجائنا إن صح ما توسمه فيها الشاعر المستبشر، فإن لم يكن ذلك صحيحا، فأقل ما توحيه إلينا أن تبث في أبصارنا بشاشة الجمال والإقبال، وتنفث في ضمائرنا أريحية الجدة والنضارة، وأن نجعلها مقياسا لحياتنا نعرف به قسطنا من القوة والشعور والحرية، فقد كانت هذه الأمة أشغف الأمم بالزهر تنثره على موائدها، وتضفر به شعورها، وتتقرب به إلى أربابها يوم كانت تحيا وتقتدر وتعتز بسيادتها على الأمم، ثم ذبلت أزاهيرها يوم تولاها الذبول، فتبدلت ضعفا من قوة، وجمودا من شعور، وخنوعا من عزة، فإذا أزهرت رياضها فتلك نفوس تنضر بالحياة الكريمة، قبل أن ينضر التراب بالخمائل والأغصان.

هنريك إبسن1

ولد هنريك إبسن الذي احتفل العالم الأدبي بانقضاء مائة سنة على مولده في العشرين من شهر مارس سنة 1828 بقرية «إسكاين» من بلاد النرويج، وكان أبوه على حالة من اليسر رضية، ولكنه فوجئ بالضيق والفاقة وإبسن في الثامنة من عمره، فتركوا منزلهم الأول الذي عاشوا فيه عيشة الرفاهة، وانتقلوا إلى بيت صغير في أرباض القرية، ولم يحرم الطفل في هذا البيت الجديد متعة صبيانية طابت لها نفسه المفطورة على العزلة، وهي حجرة علوية كان يخلو إليها ويعكف فيها على القراءة فيما يصادفه من الكتب، وكانت مسرته الأخرى غير القراءة معالجة التصوير الذي كان يرجو أن يتخذه صناعة لمستقبله، وهم بذلك حين خرج من المدرسة في الخامسة عشرة فثناه العوز الشديد عن متابعة هذه الأمنية، واضطر أن يقضي خمس سنوات في إحدى الصيدليات يكسب قوته من قليل ما يرزق، وينظم الشعر في أوقات فراغه، حتى ضاقت نفسه بتلك القرية وطمح بنظره إلى العاصمة عسى أن يصيب فيها شهرة في الأدب لا يتطلع إليها ملازم القرية الصغيرة، فهبط «كرستيانا» سنة 1850 ومعه قصة من الشعر المرسل نظمها في ثلاثة فصول، ونشرها هناك بإمضاء مستعار فلم يحفل بها أحد، واشتغل بالصحافة في عمل ضئيل قليل الجدوى، ثم تكفل له بعض الأصدقاء بوظيفة أدبية في مسرح برجن فلبث في هذه الوظيفة خمس سنوات ألف في أثنائها بعض الروايات ومثلتها الفرقة فلم يكن لها حظ النجاح، ولم يلبث أن انقلب إلى العاصمة حيث أسندت إليه وظيفة الإدارة الفنية في المسرح الجديد الذي أقيم لمنافسة مسرحها القديم، فما هي إلا فترة تزود منها بعض الخبرة في أعمال التمثيل حتى أفلس المسرح ولاحقته الخيبة التي ما تكاد تفارقه منذ ولد، فلجأ إلى التصوير يتبلغ بربحه القليل، واضطر إلى قبول الخدمة في المسرح القديم الذي كان ينافسه ويعاديه وطرق أبواب الحكومة يلتمس منها معاشا سنويا يعتمد عليه أسوة ببعض الأدباء والمؤلفين، فضنت عليه وردته مرة بعد أخرى لشدة وطأته فيما كان يكتبه عن الحكام والأساليب الحكومية، ثم ضاقت به بلاده فهجرها خمسا وعشرين سنة، لم يزرها في خلالها إلا زورتين قصيرتين، وخرج يضرب في الأرض بعد أن بنى بفتاة أحبها في بؤسه وشظفه، ولم يبال بعاقبة هذه التبعة الكبيرة، فقضى سنوات في إيطاليا، وقدم إلى مصر، وعاش في ألمانيا، ولم ينقطع عن تأليف الروايات في غربته يرسلها إلى بلاده لتمثيلها على مسارحها فيصادفها القبول حينا والسخط أحيانا، ويتلقاها الجمهور بنوبات من الثورة والحنق، أو نوبات من الإعجاب والغفران، وعلت شهرته بين أهل وطنه بروايتين من هذه الروايات نظمهما في إيطاليا، وحلق بهما في ذروة الشعر والبلاغة والقدرة الظاهرة على وصف الشخصيات وتدبير المواقف، وهما روايتا براند وبيرجنت، ثم عادت الحكومة فسمحت له بالمعاش الذي طالما ضنت به عليه، وصلحت الحال بينه وبين أهل وطنه في سنة 1891 فثاب إليه معززا محفوفا بالتبجيل والتقدير، وكانت شهرته قد سرت إلى أوربا، وعده النرويجيون من مفاخرهم القومية فاحتفلوا ببلوغه السبعين في حماسة وشمم، وأقاموا له تمثالا تجاه مسرحهم الكبير بعد ذلك بعام، ثم لزمه المرض ورانت على عقله غشاوة الداء والهرم ، فلم يخرج أثرا يذكر في سنواته الأخيرة ومات سنة 1906 وهو على أبواب الثمانين، فشيعته الأمة والحكومة في جنازة رسمية لم يسبق مثلها لأحد من أدباء النرويجيين.

هذه ترجمة إبسن موجزة اقتبسنا معظمها من مقدمة «فاركهارسون شارب» على روايته «بيت اللعبة»، وهي ترجمة تدل على صراع طويل بين الفقر واليسر، والإهمال والإقبال، والحظوة والنفور. •••

أما قيمة الرجل الأدبية فخلاصة القول فيها: إنه رائد المدرسة الاجتماعية بين كتاب المسرحيات، وأنه كغيره من الرواد يندفع إلى الغلو والشطط، ويستنفد الجهاد منه فوق ما يستنفده الخلق والإنشاء، وإذا ذكرنا الإهمال الذي أصاب الرجل في حياته، والعناد الذي قوبلت به جهوده، والغربة، والفاقة، ونكاية الخصوم، والجفوة التي فطر عليها لم نعجب أن نراه هادما قلما يبني، وصلبا قلما يلين، وعنيدا يقابل الإصرار بمثله ؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن دعواه أو يصدق أن أبناء وطنه ينصفون حين يرونه خلوا من كل ما يستحق الإصغاء، ولعله لم يكن يقصد كل ما قرءوه بين سطوره؛ لأنه طالما شكا تعسفهم في تفسير رواياته، وكتب مرة إلى ناشر أعماله على أثر ظهور رواية «بيرجنت» يقول:

علمت أن الكتاب أثار الخواطر في النرويج، وهذا لا يزعجني مقدار ذرة، ولكنهم في النرويج وفي الدانمرك كذلك قد وجدوا ثمة تعريضا لا أقصده، وهجوا لم أفكر فيه. فما بالهم لا يقرءون الكتاب كما يقرءون شعرا؟ إنني كتبته على هذه النية، ولم تكن أهاجيه إلا كلمات معزولة هنا وهناك، فإذا كان النرويجيون اليوم يبصرون أنفسهم في شخص بيرجنت، فذلك شأن الشعب الصالح الذي يعنيه.

ناپیژندل شوی مخ